يرى السيّد محمّد حسين فضل الله (رض) أنّ هذه الآية بمثابة الإرشاد إلى الطرق التي يواجه بها الدّاعية المسلم ردّ فعل المخاطَب على الدّعوة نفسها.ويؤكّد السيّد أنّ القرآن الكريم قد أخذ بعين الاعتبار الكفّار وأصحاب العقائد اللاإسلاميّة، وعرف أنّ الداعية سيصطدم بهم، نتيجة اختلاف أفكارهم مع دعوته، واتجاه الدّعوة إلى تحطيم معتقداتهم. لقد أخذ القرآن الكريم كلّ ذلك بعين الاعتبار، وهو يعلم ما سينتهي إليه الداعية ـ لو ترك وطبيعته ـ في هذه الأجواء، من ميلٍ إلى الثّأر لعقيدته، حيث لا يمكن أن تربح الدعوة إلا مزيداً من المشاكل، ومزيداً من عوامل الإثارة العاطفيّة التي هي في غنى عنها.
لذا ـ يضيف السيّد ـ توجّه القرآن إلى هذه الناحية، وحاول أن يروّض نفس الداعية ويوسِّع آفاقه، فيخرجه من نطاق ذاته إلى نطاق الحقيقة الواسع، ويبعد عنه الكبرياء الكاذبة التي تعتريه عندما تهاجم ذاته، ليأخذ بيده إلى التّسامح ومراعاة ظروف الآخرين، وملاحظة واقعهم النفسي والعقلي.
وهو يحاول أن يلقيَ في روح الداعية تقبّل مهاجمة دعوته من قبل خصومها، كأمرٍ طبيعي جداً ينبغي تقبّله، كما الأمور الطبيعية التي نعيشها في حياتنا، وأنّ من وظيفته كداعية ـ كما يرى السيّد ـ أن يكسب هؤلاء الخصوم إلى صفّ الدّعوة، ويقرّبهم إلى عقيدتها، ويربح فكرهم وإيمانهم، لا أن يحطّمهم ويقتلهم ويغلبهم، فليست مهمّة الدّاعية هي مهمّة من ينشد الغلبة على خصمه لإشباع نزوعه إلى التفوّق وإحساسه بالعظمة، بل هي مهمّة الإنسان الذي يمارس إنسانيّته بإعانة خصمه على التحرّر من رواسب كفره، والأخذ بيده نحو هذا السبيل، ليصبح صديقاً له ورفيقاً في رحلة الدعوة إلى الله.
وبهذا ـ يضيف السيّد ـ كان الجدل بالتي هي أحسن هو الطريقة المثلى للوصول إلى ذلك الهدف، وبلوغ تلكم الغاية، فإنّنا نلاحظ أنَّ طرق الجدل التي تعتمد التماس نقاط ضعف الآخر واستغلالها في توجيه الضربات المتلاحقة إليه، بأسلوب عنيف لا يحترم ذات الآخر وفكره، لا تملك أن تقدّم للعقيدة ـ أيّ عقيدة كانت ـ مؤمناً يعيش الإيمان بروحه وعقله، وذلك لأنّ هذه الطرق تطعن كبرياء الإنسان وكرامته في الصميم، وتوحي إليه بأنّه يقف موقف المغلوب في فكره وعقيدته، وموقف المهزوم في ميدان الصراع الذي يشعر بأنّه لا يستطيع ربح المعركة، ولكنّه لا يعتقد أنّ الحقّ في جانب خصمه، ومن الطبيعي جدّاً أن يتغلّب كبرياء الإنسان وعناده في كثير من الأحيان، على رغبته في الوصول إلى الحقّ، وهنا لا يمكن للموقف أن يقدّم لنا سوى مزيد من المناقشات اللفظية والهامشية التي لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً في الموضوع.
يقول السيّد: من هنا، وبوحي من شعورنا بعقم الطريقة السابقة، نجد أنّه لا بدّ من طريقة تشعر المخاطب بأنّه رفيق في رحلة الوصول إلى الحقّ، وأنّه محترم في ذاته وتفكيره، حينئذٍ لا تقف الكبرياء عقبةً في الطريق، لأنَّ الإنسان لا يشعر في هذا الجوّ بالاضطهاد، وإنَّما يشعر ـ بدلاً من ذلك ـ بالعزَّة والكرامة، لأنّه على طريق كشف الحقيقة والوصول إلى سبيل أفضل، دون أن يكون في البين مهزوم ومنتصر، أو غالب ومغلوب، وإنّما هو الهدف المشترك والسّبيل الواحد.
ويأتي الجدال بالّتي هي أحسن، ليعبِّر ـ كما يشير السيّد ـ عن حركة الصّراع في الدعوة بين فكرها والفكر المضادّ، لتنطلق بالطريقة الفضلى، والمنهج الأحسن، والجوّ الأفضل، فلا تثير الحساسيّات التي تحوّل الموقف إلى انفعال لا عقل له، وإلى كلامٍ لا معنى له، وإلى حديثٍ لا فكر له، ولا يحرّك التعقيدات التي تغلق نافذة العقل عن الحقيقة من خلال العصبية العمياء، وتبتعد بالفكر عن التّركيز من خلال الفوضى، وتثير المشاكل على أساس نوازع الشرِّ في الذّات، بل تتّجه إلى العقل لتفتحه، وإلى القلب لتجتذبه، وإلى الواقع لتحتويه، فلا تكون ساحة الصّراع مفتوحةً على الحقد والخصام، بل على التكامل والتفاهم للوصول إلى الحقيقة هنا وهناك.
ويخلص السيّد إلى القول بأنّ ثمَّة حقيقةً حيويةً في الإسلام، وهي أنّه رسالة الله إلى الإنسان، والتي أراد للرّسول أن يجعل منها نوراً يخرج بها هذا الإنسان من كهوف الظلمات إلى ساحة الشَّمس المشرقة الواسعة، وهدى ينقذه من الضياع، وذكرى ليتذكَّر حقائق الحياة والغيب والإنسان والدنيا والآخرة، ونافذةً على العقل والفكر من أجل وعي الذّات والله والحياة. ولذلك، فإنّه يتحرَّك من أجل تحويل الإنسان بالفكر، ليكون طاقةً حيّةً منتجةً ومبدعةً، الأمر الذي يفرض عليه أن يعرف كيف يجتذبه إليه، ليرتبط به على قاعدة القناعة التي ترتكز على الفكر والإحساس، وينطلق منه نحو الآفاق الرحبة التي تطلُّ على الله وعلى الحياة والإنسان من خلاله، وهذا هو الذي يجعل من الخطاب الإسلامي عنصر حركة وتغيير، لا عنصر جمود وسكون.
في مقابل ما سبق ذكره عن وجوب الدعوة إلى الله، باعتبارها دعوةً إلى الخير الذي يعمّ البشرية، ويخرجها من ظلمة الشرّ والضلال إلى نور الهداية والصلاح، سعى البعض إلى التشكيك بمبدأ الدعوة، معتبراً أنّ الالتزام بالدين هو مسؤولية فردية وحسب. واستند هذا البعض، على نحو خاطئ ومضلّل، إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(المائدة: 105).
يفنّد السيّد هذا الرّأي المنطوي على الذّات والأنا، ويؤكّد أنَّ الآية الكريمة تمثِّل نداءً للمؤمنين يحدّد مسؤوليّتهم الإيمانيّة في الحياة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فلكلّ منهم مسؤوليّته عن نفسه في تهيئة سبل الهداية الفكريّة والعقيديّة والمنهجيّة، عن طريق إنجاز البرامج والخطط والأهداف والخبرة المتعلّقة بها. فإذا تمّ له ذلك على النهج الَّذي يرضاه الله ورسوله، فقد أخذ ـ يضيف السيّد ـ بأسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولن يضرّه بعد ذلك كفر الكافرين وضلال الضالّين، لأنَّ المسألة لا تتعدّى صاحبها في ما يؤكّده الإسلام من فردية التبعيّة، فلا يتحمّل إنسان ذنب غيره، ولا يؤخذ المهتدي بضلال الضالّ، مهما كانت درجة قرابته به وعلاقته معه.
وهكذا يُريد القرآن ـ وفق ما يشرح السيّد ـ الإيحاء للإنسان بالاستغراق في هذا الاتجاه، من أجل أن يحمل مسؤوليّته عن نفسه كاملةً غير منقوصةٍ، فيعمّق لها مفاهيمها عن الكون والحياة، طبقاً لما أوحاه الله إلى رسوله، ولما بلَّغه الرسول (ص) إلى النَّاس، حتَّى لا تشتبه عليه الأمور، فيضلّ عن الهدى من غير علم، وينحرف عن الحقّ من دون وعي، وحتى يمتدّ في خطّ العمل على الصّراط المستقيم، فيضبط خطواته عن الانحراف، ويمنعها من الزّلل، بالسّير في حياته على هدي شريعة الله في ما تأمره به وتنهاه عنه، ليتأكّد لديه الفكر والالتزام، فيصوغ على ذلك شخصيّته صياغةً إسلاميّةً لا مجال فيها للاهتزاز والارتباك. ويتابع بعد ذلك ـ يضيف السيّد ـ عمليّة المراقبة والمحاسبة والرَّصد لكلّ حركةٍ في داخل النفس من أفكاره ومشاعره، وفي خارجها من أقواله وأفعاله، ليستقيم له دورها وفاعليتها بانضباطٍ دقيقٍ وبشكلٍ مستمرّ، من دون التفاتٍ إلى ما حولها من حالات الانحراف والضلال، لأنَّ ذلك ليس مسؤوليته في ما يحمِّله الله من ذلك.
ولكن، ماذا عن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ يتساءل السيّد، ويضيف:
لقد حمَّل الله المؤمنين مسؤوليّة هذه الأمور، واعتبر الالتزام بها استقامةً على الدرب، وإهمالها انحرافاً عنه، وتوعَّد التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما لم يتوعَّد به على أيّ معصيةٍ أخرى. فكيف نوفّق بين ذلك، وبين ما توحي به هذه الآية، من وقوف المسؤوليّة عند حدود النفس، فلا تتعدّاها إلى غيرها؟ يتساءل السيّد مرّة أخرى، ويضيف متسائلاً:
هل هناك ناسخٌ ومنسوخٌ بين هذه الآية وبقيّة الآيات الأخرى، كما يتصوّره البعض؟ وهل هناك تحديدٌ للآية في نطاقٍ معيّن، كما في حالات التقيّة، أو في حالات الكفَّار كما في بعض الرِّوايات، أو أنَّ القضيّة تتجه اتجاهاً آخر؟!
يجيب السيّد بالقول: إنَّ الآية لا تأخذ وجهة الإهمال لدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنَّ مدلولها يتضمّن مسؤوليّة الإنسان عن نفسه في القيام بها على أساس الخطّ المستقيم الَّذي رسمه الله، وذلك في مختلف دوائر حياته الإيمانيّة والعمليّة والالتزاميّة وشؤونها، سواءٌ تلك المتّصلة بشؤونه الخاصّة أو العامّة. فقد كلّفه الله بأن يُمارس نشاطه العملي في هداية النَّاس وإرشادهم، وحفظ خطواتهم من الزّلل، ورعاية أمورهم، وتدبير قضاياهم، قدر إمكاناته الماديّة والمعنوية. وعلى ضوء هذا، فإنَّ مسؤوليّته عن النَّاس ـ يضيف السيّد ـ هي جزء من مسؤوليته عن نفسه، باعتبار أنَّ ذلك من واجبات الإيمان. وليس في الآية ما يدلّ على خلاف ذلك، بل هي ـ كما يرى السيّد ـ واردة لتأكيد الفصل بين النتائج الإيجابيّة الّتي ينتهي إليها الإنسان من خلال القيام بالتزاماته الشرعيّة، والنتائج السلبيّة الّتي تتمثَّل في سلوك النَّاس مع أنفسهم، سواء كان ذلك من جهة عدم استجابتهم له في ما يدعوهم أو يهديهم إليه، أو عدم انضباطهم في واجباتهم بشكلٍ ذاتي، فلا علاقة له بالنتائج السلبيّة المنطلقة من تمرّدهم وضلالهم، ولأنَّه قد قام بواجبه كاملاً في هداية نفسه وهداية غيره، فلا يضرّه من ضلَّ إذا اهتدى.
وبذلك، تكون المسألة مرتبطةً بحركة الواقع في حياة الضالين والمهتدين، بعد استكمال كلّ الشروط الموضوعيّة الّتي تقوم بها الحُجّة على الضالّين، وتتحرّك بها المسؤوليّة من خلال المهتدين، ولا بُدَّ ـ يضيف السيّد ـ من التركيز على كلمة {لاَ يَضُرُّكُمْ}، فإنَّها توحي بما تمَّت الإشارة إليه، فيكون مساقها مساق الآيات الّتي تتحدّث عن إبلاغ الدعوة إلى الناس، باعتبار أنَّ ذلك هو ما يستطيع الداعية أن يتحمّل مسؤوليّته، لأنَّ هناك شروطاً في حركة الفكر والإرادة للإنسان، كما أنَّ هناك شروطاً في الأجواء المحيطة به.
وليس على الداعية إلى الله، نبيّاً كان أو غير نبيّ، إلاَّ أن يبلِّغ بأفضل أساليب التبليغ، وليس من مسؤوليّته ماذا يحصل بعد ذلك سلباً أو إيجاباً.
* من موسوعة الفكرالإسلامي – المجلّد الثّامن.
يرى السيّد محمّد حسين فضل الله (رض) أنّ هذه الآية بمثابة الإرشاد إلى الطرق التي يواجه بها الدّاعية المسلم ردّ فعل المخاطَب على الدّعوة نفسها.ويؤكّد السيّد أنّ القرآن الكريم قد أخذ بعين الاعتبار الكفّار وأصحاب العقائد اللاإسلاميّة، وعرف أنّ الداعية سيصطدم بهم، نتيجة اختلاف أفكارهم مع دعوته، واتجاه الدّعوة إلى تحطيم معتقداتهم. لقد أخذ القرآن الكريم كلّ ذلك بعين الاعتبار، وهو يعلم ما سينتهي إليه الداعية ـ لو ترك وطبيعته ـ في هذه الأجواء، من ميلٍ إلى الثّأر لعقيدته، حيث لا يمكن أن تربح الدعوة إلا مزيداً من المشاكل، ومزيداً من عوامل الإثارة العاطفيّة التي هي في غنى عنها.
لذا ـ يضيف السيّد ـ توجّه القرآن إلى هذه الناحية، وحاول أن يروّض نفس الداعية ويوسِّع آفاقه، فيخرجه من نطاق ذاته إلى نطاق الحقيقة الواسع، ويبعد عنه الكبرياء الكاذبة التي تعتريه عندما تهاجم ذاته، ليأخذ بيده إلى التّسامح ومراعاة ظروف الآخرين، وملاحظة واقعهم النفسي والعقلي.
وهو يحاول أن يلقيَ في روح الداعية تقبّل مهاجمة دعوته من قبل خصومها، كأمرٍ طبيعي جداً ينبغي تقبّله، كما الأمور الطبيعية التي نعيشها في حياتنا، وأنّ من وظيفته كداعية ـ كما يرى السيّد ـ أن يكسب هؤلاء الخصوم إلى صفّ الدّعوة، ويقرّبهم إلى عقيدتها، ويربح فكرهم وإيمانهم، لا أن يحطّمهم ويقتلهم ويغلبهم، فليست مهمّة الدّاعية هي مهمّة من ينشد الغلبة على خصمه لإشباع نزوعه إلى التفوّق وإحساسه بالعظمة، بل هي مهمّة الإنسان الذي يمارس إنسانيّته بإعانة خصمه على التحرّر من رواسب كفره، والأخذ بيده نحو هذا السبيل، ليصبح صديقاً له ورفيقاً في رحلة الدعوة إلى الله.
وبهذا ـ يضيف السيّد ـ كان الجدل بالتي هي أحسن هو الطريقة المثلى للوصول إلى ذلك الهدف، وبلوغ تلكم الغاية، فإنّنا نلاحظ أنَّ طرق الجدل التي تعتمد التماس نقاط ضعف الآخر واستغلالها في توجيه الضربات المتلاحقة إليه، بأسلوب عنيف لا يحترم ذات الآخر وفكره، لا تملك أن تقدّم للعقيدة ـ أيّ عقيدة كانت ـ مؤمناً يعيش الإيمان بروحه وعقله، وذلك لأنّ هذه الطرق تطعن كبرياء الإنسان وكرامته في الصميم، وتوحي إليه بأنّه يقف موقف المغلوب في فكره وعقيدته، وموقف المهزوم في ميدان الصراع الذي يشعر بأنّه لا يستطيع ربح المعركة، ولكنّه لا يعتقد أنّ الحقّ في جانب خصمه، ومن الطبيعي جدّاً أن يتغلّب كبرياء الإنسان وعناده في كثير من الأحيان، على رغبته في الوصول إلى الحقّ، وهنا لا يمكن للموقف أن يقدّم لنا سوى مزيد من المناقشات اللفظية والهامشية التي لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً في الموضوع.
يقول السيّد: من هنا، وبوحي من شعورنا بعقم الطريقة السابقة، نجد أنّه لا بدّ من طريقة تشعر المخاطب بأنّه رفيق في رحلة الوصول إلى الحقّ، وأنّه محترم في ذاته وتفكيره، حينئذٍ لا تقف الكبرياء عقبةً في الطريق، لأنَّ الإنسان لا يشعر في هذا الجوّ بالاضطهاد، وإنَّما يشعر ـ بدلاً من ذلك ـ بالعزَّة والكرامة، لأنّه على طريق كشف الحقيقة والوصول إلى سبيل أفضل، دون أن يكون في البين مهزوم ومنتصر، أو غالب ومغلوب، وإنّما هو الهدف المشترك والسّبيل الواحد.
ويأتي الجدال بالّتي هي أحسن، ليعبِّر ـ كما يشير السيّد ـ عن حركة الصّراع في الدعوة بين فكرها والفكر المضادّ، لتنطلق بالطريقة الفضلى، والمنهج الأحسن، والجوّ الأفضل، فلا تثير الحساسيّات التي تحوّل الموقف إلى انفعال لا عقل له، وإلى كلامٍ لا معنى له، وإلى حديثٍ لا فكر له، ولا يحرّك التعقيدات التي تغلق نافذة العقل عن الحقيقة من خلال العصبية العمياء، وتبتعد بالفكر عن التّركيز من خلال الفوضى، وتثير المشاكل على أساس نوازع الشرِّ في الذّات، بل تتّجه إلى العقل لتفتحه، وإلى القلب لتجتذبه، وإلى الواقع لتحتويه، فلا تكون ساحة الصّراع مفتوحةً على الحقد والخصام، بل على التكامل والتفاهم للوصول إلى الحقيقة هنا وهناك.
ويخلص السيّد إلى القول بأنّ ثمَّة حقيقةً حيويةً في الإسلام، وهي أنّه رسالة الله إلى الإنسان، والتي أراد للرّسول أن يجعل منها نوراً يخرج بها هذا الإنسان من كهوف الظلمات إلى ساحة الشَّمس المشرقة الواسعة، وهدى ينقذه من الضياع، وذكرى ليتذكَّر حقائق الحياة والغيب والإنسان والدنيا والآخرة، ونافذةً على العقل والفكر من أجل وعي الذّات والله والحياة. ولذلك، فإنّه يتحرَّك من أجل تحويل الإنسان بالفكر، ليكون طاقةً حيّةً منتجةً ومبدعةً، الأمر الذي يفرض عليه أن يعرف كيف يجتذبه إليه، ليرتبط به على قاعدة القناعة التي ترتكز على الفكر والإحساس، وينطلق منه نحو الآفاق الرحبة التي تطلُّ على الله وعلى الحياة والإنسان من خلاله، وهذا هو الذي يجعل من الخطاب الإسلامي عنصر حركة وتغيير، لا عنصر جمود وسكون.
في مقابل ما سبق ذكره عن وجوب الدعوة إلى الله، باعتبارها دعوةً إلى الخير الذي يعمّ البشرية، ويخرجها من ظلمة الشرّ والضلال إلى نور الهداية والصلاح، سعى البعض إلى التشكيك بمبدأ الدعوة، معتبراً أنّ الالتزام بالدين هو مسؤولية فردية وحسب. واستند هذا البعض، على نحو خاطئ ومضلّل، إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(المائدة: 105).
يفنّد السيّد هذا الرّأي المنطوي على الذّات والأنا، ويؤكّد أنَّ الآية الكريمة تمثِّل نداءً للمؤمنين يحدّد مسؤوليّتهم الإيمانيّة في الحياة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فلكلّ منهم مسؤوليّته عن نفسه في تهيئة سبل الهداية الفكريّة والعقيديّة والمنهجيّة، عن طريق إنجاز البرامج والخطط والأهداف والخبرة المتعلّقة بها. فإذا تمّ له ذلك على النهج الَّذي يرضاه الله ورسوله، فقد أخذ ـ يضيف السيّد ـ بأسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولن يضرّه بعد ذلك كفر الكافرين وضلال الضالّين، لأنَّ المسألة لا تتعدّى صاحبها في ما يؤكّده الإسلام من فردية التبعيّة، فلا يتحمّل إنسان ذنب غيره، ولا يؤخذ المهتدي بضلال الضالّ، مهما كانت درجة قرابته به وعلاقته معه.
وهكذا يُريد القرآن ـ وفق ما يشرح السيّد ـ الإيحاء للإنسان بالاستغراق في هذا الاتجاه، من أجل أن يحمل مسؤوليّته عن نفسه كاملةً غير منقوصةٍ، فيعمّق لها مفاهيمها عن الكون والحياة، طبقاً لما أوحاه الله إلى رسوله، ولما بلَّغه الرسول (ص) إلى النَّاس، حتَّى لا تشتبه عليه الأمور، فيضلّ عن الهدى من غير علم، وينحرف عن الحقّ من دون وعي، وحتى يمتدّ في خطّ العمل على الصّراط المستقيم، فيضبط خطواته عن الانحراف، ويمنعها من الزّلل، بالسّير في حياته على هدي شريعة الله في ما تأمره به وتنهاه عنه، ليتأكّد لديه الفكر والالتزام، فيصوغ على ذلك شخصيّته صياغةً إسلاميّةً لا مجال فيها للاهتزاز والارتباك. ويتابع بعد ذلك ـ يضيف السيّد ـ عمليّة المراقبة والمحاسبة والرَّصد لكلّ حركةٍ في داخل النفس من أفكاره ومشاعره، وفي خارجها من أقواله وأفعاله، ليستقيم له دورها وفاعليتها بانضباطٍ دقيقٍ وبشكلٍ مستمرّ، من دون التفاتٍ إلى ما حولها من حالات الانحراف والضلال، لأنَّ ذلك ليس مسؤوليته في ما يحمِّله الله من ذلك.
ولكن، ماذا عن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ يتساءل السيّد، ويضيف:
لقد حمَّل الله المؤمنين مسؤوليّة هذه الأمور، واعتبر الالتزام بها استقامةً على الدرب، وإهمالها انحرافاً عنه، وتوعَّد التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما لم يتوعَّد به على أيّ معصيةٍ أخرى. فكيف نوفّق بين ذلك، وبين ما توحي به هذه الآية، من وقوف المسؤوليّة عند حدود النفس، فلا تتعدّاها إلى غيرها؟ يتساءل السيّد مرّة أخرى، ويضيف متسائلاً:
هل هناك ناسخٌ ومنسوخٌ بين هذه الآية وبقيّة الآيات الأخرى، كما يتصوّره البعض؟ وهل هناك تحديدٌ للآية في نطاقٍ معيّن، كما في حالات التقيّة، أو في حالات الكفَّار كما في بعض الرِّوايات، أو أنَّ القضيّة تتجه اتجاهاً آخر؟!
يجيب السيّد بالقول: إنَّ الآية لا تأخذ وجهة الإهمال لدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنَّ مدلولها يتضمّن مسؤوليّة الإنسان عن نفسه في القيام بها على أساس الخطّ المستقيم الَّذي رسمه الله، وذلك في مختلف دوائر حياته الإيمانيّة والعمليّة والالتزاميّة وشؤونها، سواءٌ تلك المتّصلة بشؤونه الخاصّة أو العامّة. فقد كلّفه الله بأن يُمارس نشاطه العملي في هداية النَّاس وإرشادهم، وحفظ خطواتهم من الزّلل، ورعاية أمورهم، وتدبير قضاياهم، قدر إمكاناته الماديّة والمعنوية. وعلى ضوء هذا، فإنَّ مسؤوليّته عن النَّاس ـ يضيف السيّد ـ هي جزء من مسؤوليته عن نفسه، باعتبار أنَّ ذلك من واجبات الإيمان. وليس في الآية ما يدلّ على خلاف ذلك، بل هي ـ كما يرى السيّد ـ واردة لتأكيد الفصل بين النتائج الإيجابيّة الّتي ينتهي إليها الإنسان من خلال القيام بالتزاماته الشرعيّة، والنتائج السلبيّة الّتي تتمثَّل في سلوك النَّاس مع أنفسهم، سواء كان ذلك من جهة عدم استجابتهم له في ما يدعوهم أو يهديهم إليه، أو عدم انضباطهم في واجباتهم بشكلٍ ذاتي، فلا علاقة له بالنتائج السلبيّة المنطلقة من تمرّدهم وضلالهم، ولأنَّه قد قام بواجبه كاملاً في هداية نفسه وهداية غيره، فلا يضرّه من ضلَّ إذا اهتدى.
وبذلك، تكون المسألة مرتبطةً بحركة الواقع في حياة الضالين والمهتدين، بعد استكمال كلّ الشروط الموضوعيّة الّتي تقوم بها الحُجّة على الضالّين، وتتحرّك بها المسؤوليّة من خلال المهتدين، ولا بُدَّ ـ يضيف السيّد ـ من التركيز على كلمة {لاَ يَضُرُّكُمْ}، فإنَّها توحي بما تمَّت الإشارة إليه، فيكون مساقها مساق الآيات الّتي تتحدّث عن إبلاغ الدعوة إلى الناس، باعتبار أنَّ ذلك هو ما يستطيع الداعية أن يتحمّل مسؤوليّته، لأنَّ هناك شروطاً في حركة الفكر والإرادة للإنسان، كما أنَّ هناك شروطاً في الأجواء المحيطة به.
وليس على الداعية إلى الله، نبيّاً كان أو غير نبيّ، إلاَّ أن يبلِّغ بأفضل أساليب التبليغ، وليس من مسؤوليّته ماذا يحصل بعد ذلك سلباً أو إيجاباً.
* من موسوعة الفكرالإسلامي – المجلّد الثّامن.