تفسير
25/01/2024

s-2-a-125-126-127-128-129

s-2-a-125-126-127-128-129

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{ الْبيْت } : يشمل كلّ بيت، ولكنّه أصبح علمًا على الكعبة المشرّفة. ‏

{ مثابةً } : المثابة: الموضع الّذي يُثاب إليه، أي: يُرجع إليه مرّةً بعد أخرى، ومنه: ثاب إليه عقله، أي: رجع بعد ذهابه. وإنّما قيل للمنزل: مثابة، لأنّ أهله يتصرّفون في أمورهم ثمّ يثوبون إليه. فالكعبة هي المرجع والقاعدة الرُّوحيّة الّتي يقصدها المسلمون ويرجعون إليها في كلِّ أنحاء العالم. وقيل‏‏1‏: مكانًا للثّواب يثيبُ الله فيه عباده على حجِّهم وعبادتهم له. والجمع: مثاب. ‏

{مقامِ إِبْراهِيم} : نقل الرّازي في (تفسيره) أقوالاً في المراد من مقام إبراهيم عليه السلام: ‏

‏الأول: إنّه موضع الحجر الّذي قام عليه عليه السلام. ‏

‏الثّاني: إنّه الحرم كلُّه. ‏

‏الثّالث: إنّه عرفة والمزدلفة والجِمار. ‏

‏الرابع: إنّ الحجّ كلّه مقام ابراهيم عليه السلام ‏2‏. ‏

{لِلطّائِفِين} : من الطّواف، الّذي هو الدّوران حول الشّي‏ء. والطّواف حول البيت يرمز إلى الطّواف حول كلمات الله وتعاليمه، بحيث تدور حياة الإنسان في نطاقها، فلا يبتعد عنها إلى غيره. ‏

{و الْعاكِفِين} : العكوف: الإقبال على الشّي‏ء والملازمة له. والعاكف هو المقيم على الشّي‏ء اللاّزم له. وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {يعْكُفُون على‏ أصْنامٍ لهُمْ} [الأعراف: 138]، وقوله تعالى: {فنظلُّ لها عاكِفِين} [الشُّعراء: 71]. ‏

{ أضْطرُّهُ } : الاضطرار هو الفعل في الغير على وجهٍ لا يمكن الانفكاك عنه إذا كان من جنس مقدورهم، ولذلك لا يُقال: فلانٌ مضطرٌّ إلى لونه، وإن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه، لمّا لم يكن اللّون من جنس مقدوره. ويُقال: هو مضطرٌّ إلى حركة الفالج وحركة العروق، لمّا كانت من جنس مقدوره. ‏

{ الْمصِيرُ } : الحال الّتي يؤدِّي إليها أو لها. ‏

{ الْقواعِد } : جمع قاعدة، وهي الأُسس والأركان. وأصل القعود في اللُّغة: الثُّبوت والاستقرار، فمن ذلك: قاعدة الجبل: أصله، وقاعدة البناء: أساسه الّذي بُني عليه. ‏

{ مُسْلِميْنِ } : الإسلام هو الانقياد لأمر الله عزّ وجلّ بالخضوع والإقرار بجميع ما أوجب الله، والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكمٍ تكوينيٍّ أو تشريعيٍّ، من أمرٍ أو نهيٍ. وهو في الشّرع على نحوين: الأول: الاعتراف باللِّسان من دون شرط الاعتقاد، الثّاني: الاعتقاد بالقلب والرِّضا بالفعل لكلِّ ما قضى وقدّر. ‏

{ مناسِكنا } : «المناسك: المتعبّدات. قال الزّجّاج: كلُّ متعبّدٍ منسك. والنُّسك في اللُّغة: العبادة. ورجلٌ ناسك: عابد... قال سبحانه: {لِكُلِّ أُمّةٍ جعلْنا منْسكاً} [الحجّ: 67]»‏3‏ ، وقد غلب على أعمال الحجِّ. وإراءةُ المناسك: معرفةُ حقيقتها وأصولها وإشاراتها ورموزها وأحكامها. ‏

{ و تُبْ } : التّوبة: الرُّجوع من الذّنب. وتاب الله عليه، أي: عاد عليه بالمغفرة، أو وفّقه للتّوبة. ‏

{و الْحِكْمة} : الحكمة: العدل في القضاء، كالحكم. والحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها؛ ولهذا انقسمت إلى علميّة وعمليّة. وقيل: إنّ أصل الحكمة: الإتقان‏‏4‏ . ‏

{ الْعزِيزُ } : القدير الّذي لا يُغلب. وقيل: «القادر الّذي لا يمتنع عليه شي‏ءٌ أراد فعله»‏5‏ . ‏

{ الْحكِيمُ } : المدبِّر الّذي يُحكم الصُّنع ويُحسن التّدبير، فيضع كلّ شي‏ءٍ في موضعه. ‏

‏ ‏

‏ الكعبة القاعدة والمنطلق ‏

‏ويتابع القرآن حديث إبراهيم عليه السلام في قصّةٍ جديدةٍ تتّصل بالتّاريخ الدِّينيِّ في قصّة النُّبوّات من جهةٍ، وترتبط بعلاقة الإسلام بالامتداد الرّحب لشخصيّة إبراهيم في تطلُّعاتها المستقبليّة من جهةٍ أخرى. وتلك هي قصّة بناء البيت -الكعبة الحرام - الّذي أراده الله مرجعًا للنّاس يرجعون إليه ويثوبون، كقاعدةٍ روحيّةٍ يعيشون فيها الشُّعور بالوحدة الرُّوحيّة الّتي تربط بعضهم ببعض بين يدي الله، ويطوفون به في إحساسٍ عميقٍ بعبوديّتهم لله، وفي استيحاء الفكرة الإيمانيّة المتحرِّكة حيث يستلهمون منه أن يكون طوافهم في الحياة حول كلمات الله وتعاليمه ومفاهيمه، ويشعرون في ظلاله بالأمن الّذي أراده الله طابعًا مميّزًا لهذا البيت في ما أوحى به إلى الأنبياء في شرائعهم، من حرمة الاعتداء على النّاس والإساءة إليهم حتّى في الحالات المشروعة في ذاتها. فقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الحدّ لا يُقام على الجاني في مكّة إلاّ إذا كانت جنايته في مكّة بالذّات‏‏6‏. وكأنّ الله أراد أن يجعل من هذا البيت قاعدة سلامٍ يجتمع إليها النّاس من دون إحساسٍ بالخوف وبالمشاعر المضادّة الّتي تمنعهم من اللِّقاء. ‏

‏ثمّ أراد الله أن يكرِّم جهد نبيِّه إبراهيم في بناء البيت وفي إخلاصه العميق له، فطلب من النّاس أن يتّخذوا من مقام إبراهيم موضعًا للصّلاة؛ تخليدًا لإيمانه، وتحيّةً لإخلاصه لله في سرِّه وعلانيّته، ولاستجابته لله في ما يريده منه. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى ليعيش النّاس في أجواء إبراهيم كقدوةٍ في كلِّ المعاني الرُّوحيّة الكبيرة، فتمتزج صلاتُهم بصلاتِه، ودعواتُهم بدعواتِه وابتهالاتُهم بابتهالاتِه في تفاعلٍ روحيٍّ عظيم. ‏

‏ثمّ عهد إليه وإلى ولده إسماعيل، أن يجعلا هذا البيت طاهرًا من كلِّ دنسٍ، سواءً كان ذلك من مظاهر الشِّرك والوثنيّة، أو من عناصر القذارة والنّجاسة، أو من الأشخاص الّذين يدخلون فيه من حيث نظافتهم من القذارات المادِّيّة والمعنويّة؛ ليعيش النّاس الّذين يطوفون به، أو يقيمون فيه للاعتكاف، أو يصلُّون فيه فيركعون ويسجدون، في أجواء روحيّةٍ طاهرةٍ مادِّيّةٍ ومعنويّةٍ. ‏

‏وربّما استفاد الإنسان من الأمر بتطهير بيت الله من كلِّ رجسٍ، أن يكون البناء على هذا الأساس، وذلك بتشييده على هذه الصِّفة، لا بتطهيره بعد بنائه، كما قد يُتوهم؛ لأنّ ظاهر الآيات هو أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما اللّذان قاما ببناء البيت. ‏

‏ويثير القرآن أمامنا تطلُّعات إبراهيم المستقبليّة، فهو لا يريد لعمله هذا أن يظلّ في نطاق هذا البناء المتمثِّل بالكعبة، بل يريد له أن يتحوّل إلى بلدٍ واسعٍ كقاعدةٍ بشريّةٍ للسّلام، ولهذا نجده يدعو الله أن يجعله بلدًا آمنًا، يجتمع فيه المؤمنون بالله حول هذا البيت، فيلتقون على طاعة الله وعبادته، وتمتدُّ بهم الحياة في مجتمعٍ إنسانيٍّ آمن. ويفكِّر فيهم كيف يعيشون في هذا الجوِّ الّذي لا يُنبتُ الزّرع، ولا يقدِّم للإنسان أيّ شرطٍ من شروط الحياة الكريمة، فيلجأ إلى الله لكي يرزق أهله من المؤمنين الثّمرات، أمّا الكافرون فلم يلتفت إليهم ولم يشعر بضرورة الاهتمام بهم؛ لأنّه لا يريد لهم أن يعيشوا في أجواء هذا البيت؛ خوفًا من أن يشوِّهوا روحيّته ويعطِّلوا دوره، ولأنّه لا يجد أيّ أساسٍ للاهتمام بالكافرين الّذين يكفرون بنعمة الله ويجحدونها ويفسدون في الأرض، فتركهم لله؛ فهو الّذي خلقهم، وهو أعلم بما تقتضيه الحكمة في ذلك كلِّه. ‏

‏ويستجيب الله دعاءه - كما توحي هذه الآيات -، فقد تحدّث الله عن الكافرين الّذين لم يذكرهم إبراهيم في دعائه، فأراد الله أن يكمِّل الصُّورة، فأوحى إليه أنّه لا يستثني الكافرين من متع الحياة الدُّنيا؛ لأنّ عطاءه لا يختصُّ بأحدٍ دون أحدٍ في الدُّنيا، فهو يعطي الكافرين كما يعطي المؤمنين، لأنّ العطاء في الدُّنيا لا ينطلق من فكرة الثّواب والتّكريم، بل ينطلق من الإمداد للكافرين، والبلاء للمؤمنين، ولكنّ الدّار الآخرة هي الّتي يختصُّ فيها المؤمنون برحمة الله ولطفه ورضوانه، بينما يقف الكافرون هناك ليضطرّهم إلى عذاب النّار، وبئس المصير، جزاءً لكفرهم وجحودهم. ولم يتحدّث عن المؤمنين إيذانًا بأنّ دعاء إبراهيم قد صادف موقعه. ‏

‏ الدُّعاء في مواقع العمل والمسؤوليّة ‏

‏وتتجسّد الصُّورة أمامنا، ويبرز المشهد واضحًا في قوّةٍ وحياةٍ، كما لو كُنّا ننظر ونستمع، فهذا هو إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام يقفان ليرفعا قواعد البيت، في عملٍ يستغرق كلّ جهدهما واهتمامهما، ويشعران في هذا الجوِّ بعباديّة العمل، تمامًا كأيّة فريضةٍ عباديّةٍ. ونستمع إليهما كما لو كان الصّوت يهزُّ أسماعنا في لهاث العاملين الخاشعين المجاهدين، ونصغي بقلوبنا إلى ذلك الدُّعاء الخاشع الّذي ينساب من أعماق الأعماق في روحيّةٍ طاهرةٍ، كأنّها هينمات الفجر عندما يتنفّس في الفضاء، فتتصاعد أنفاسه نورًا وسلامًا وحياةً وروحانيّةً وبركةً. إنّها الرُّوح المؤمنة الصّافية، تعبِّر عن نفسها في ابتهالاتٍ حبيبةٍ خاشعةٍ، فتحتضن في تطلُّعاتها كلّ انطلاقات الحياة الوديعة السّابحة في بحيرات الصّفاء. ‏

‏وهو - بعد ذلك - دعاء العاملين الّذين يتحرّك الدُّعاء لديهم من مواقع العمل لا من حالات الاسترخاء، فتحسُّ - مع الدُّعاء - كما لو كانا يقدِّمان تقريرًا لربِّهما يحمل معه شظايا الرُّوح وخفقات القلب وهدهدات الشُّعور في أحلام المستقبل. إنّهما يتطلّعان إلى أن يعرفا في خطوات عملهما رضا الله وقبوله، فليس المهمُّ أن ينجحا في عيون الآخرين، أو يكونا مقبولين لدى المجتمع الّذي يعيشان فيه، بل المهمُّ أن يعيشا الشُّعور بالرِّضا والقبول من الله، فهو الغاية في كلِّ عمل... إنّهما يطلبان من الله أن يتقبّل منهما هذا العمل؛ فهو السّميع الّذي يسمع طلبات عباده، ويعلم ما في قلوبهم في ما يعملون ويتركون. ‏

‏ثمّ يتجاوزان هذا العمل، فيمتدّان إلى كلِّ مجالات حياتهما العمليّة في حاضرها ومستقبلها، ويبتهلان إليه أن يجعلهما يعيشان إسلام القلب والفكر والجوارح واللِّسان لله، لتكون حياتهما صورةً متجسِّدةً لإرادة الله وأمره. ‏

‏وينتقلان في تطلُّعاتهما وتمنِّياتهما إلى ذرِّيّتهما، فلا يريدان لهذه الذُّرِّيّة أن تنحرف عن الله سبحانه، بل يتطلّعان إلى أن تعيش الإسلام لله؛ فتولد منها الأُمّة المسلمة الممتدّة الّتي تحوِّل الحياة كلّها إلى إسلامٍ يتحرّك في كلِّ اتِّجاهٍ، لتتجسّد عبوديّة الإنسان لله في صدقٍ وإخلاصٍ. ويختمان هذه التّطلُّعات بالرّغبة إلى الله أن يعرِّفهما أصول مناسكهما أو مواضعها، وأن يتوب عليهما؛ لأنّ التّوبة تجسِّد المعنى الّذي يوحي برضا الله وثوابه ورحمته، وليس من الضّروريِّ أن تكون مسبوقةً بالذّنب في أيِّ حالٍ من الأحوال. ‏

‏ التّخطيط للإسلام الحركيِّ‏

‏ثمّ يتّجه الدُّعاء اتِّجاهًا آخر، فقد لا يكفي أن يُسلم الفرد وجهه لله، أو يسلم المجتمع حياته لله، إذا لم يكن هناك مضمونٌ فكريٌّ وعمليٌّ يحقِّق للإسلام المعنى الحيّ المتحرِّك الّذي يحقِّق للحياة أن تكون صورةً لإرادة الله في ما يفعله الإنسان أو يتركه، وذلك من خلال الرِّسالات الّتي تضع للإنسان الخطوط التّفصيليّة الواضحة المحدّدة لحركته في الحياة، وتشير إلى الأهداف الكبيرة الّتي تحكم مسيرته في الكون، لتكون الصِّلة بالله عميقةً، منفتحةً في نطاق الوسيلة والهدف، فلا لبس هناك ولا غموض ولا انحراف، بل هو الوضوح في الرُّؤية، والاستقامة في الخطِّ، والانفتاح الواعي على الله في كلِّ إرادته... فكان الدُّعاء الأخير أن يبعث الله في أفراد هذه الأُمّة الّتي تعيش في هذا البلد رسولاً منهم، فيعرف كلّ نوازعهم وأوضاعهم وتطلُّعاتهم وعقليّاتهم... فيتلو عليهم آياته بالأسلوب الّذي يتناسب مع عقليّاتهم وأفكارهم، ويعلِّمهم الكتاب الّذي أنزله الله عليهم، والحكمة الّتي يتضمّنها ذلك الكتاب، ويزكِّيهم بمواعظه ونصائحه وسيرته، لتتحوّل الأُمّة إلى خطِّ الوعي والرِّيادة الّتي تعيش المسؤوليّة في حمل الرِّسالة بعيدًا عن كلِّ النّوازع الذّاتيّة والآفاق الضّيِّقة. ‏

‏ الكعبة مثابةٌ وأمنٌ ‏

{و إِذْ جعلْنا الْبيْت} الكعبة الحرام، {مثابةً لِلنّاسِ} ، مرجعًا ومآبًا يثوبون إليه ويقصدونه من كلِّ مكانٍ، فيكون موقعًا لحركتهم العباديّة، ومناسبةً لاجتماعهم، من خلال قدومهم إليه ورجوعهم منه، أو مكانًا يثيبهم الله فيه على حجِّهم وعبادتهم له، على ما هو الاحتمال الثّاني في معنى: { مثابةً } . { و أمْناً } يأمن فيه النّاس على أنفسهم من الظُّلم والاضطهاد والقتل؛ لأنّ الله جعله ساحةً للسّلام، فلم يرخِّص لأحدٍ في الاعتداء على أحدٍ، ليعيش النّاس هذه التّجربة الرُّوحيّة الّتي يتمرّدون فيها على غرائزهم ونوازع الانتقام في ذواتهم، وينمُّون عناصر الخير والعفو والتّسامح في أخلاقهم من موقع الجهاد النّفسيِّ الّذي يفرض فيه الإنسان على نفسه الصّبر على المشاعر الانتقاميّة. ‏

‏وقيل: إنّ هذا التّشريع تحوّل إلى واقعٍ حيٍّ في حياة النّاس الّذين يعظِّمون البيت الحرام ويقدِّسونه؛ حتّى كان الرّجل يلقى قاتل أبيه فلا يتعرّض له‏‏7‏ . وقد تحدّث الله عن ذلك في آيةٍ أخرى في قوله تعالى: {أ و لمْ يروْا أنّا جعلْنا حرماً آمِناً و يُتخطّفُ النّاسُ مِنْ حوْلِهِمْ أ فبِالْباطِلِ يُؤْمِنُون و بِنِعْمةِ اللّهِ يكْفُرُون} [العنكبوت: 67]. ولا يخفى ما في ذلك من النِّعم والبركات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة. ‏

‏ هويّة مقام إبراهيم ‏

{و اِتّخِذُوا مِنْ مقامِ إِبْراهِيم مُصلًّى} أي: مكانًا يصلُّون فيه. وقد أشرنا في معاني المفردات إلى أنّ ثمّة أقوالاً في المراد من مقام إبراهيم عليه السلام : ‏

‏ الأول: إنّه موضع الحجر الّذي قام عليه عليه السلام . ‏

‏ الثّاني: إنّه الحرم كلُّه. ‏

‏ الثّالث: إنّه عرفة والمزدلفة والجِمار. ‏

‏ الرابع: إنّ الحجّ كلّه مقام إبراهيم عليه السلام . ‏

‏ولعلّه لا يخفى أنّ الأوّل من هذه المعاني هو المتعيِّن، وذلك لعدّة وجوه: ‏

‏ 1 - إنّه هو المعروف عند إطلاق الكلمة، ولا سيّما أنّ معْلمه لا يزال قائمًا. ‏

‏ 2 - إنّ الرِّوايات الواردة في فقه الحجِّ، والّتي تناولت مكان الصّلاة بعد الطّواف تؤكِّد ذلك، كما ورد في حديثٍ عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام : «...حتّى إذا أتى المسجد الحرام طاف طواف الفريضة، ثمّ عدل إلى مقام إبراهيم عليه السّلام فصلّى ركعتين...»‏8‏ ، وغيره كثير. ‏

‏ 3 - إنّ قوله تعالى: {إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة مُباركاً و هُدىً لِلْعالمِين*`فِيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إِبْراهِيم} [آل عمران: 96 - 97] ظاهرٌ في أنّ المقام جُزءٌ من المسجد الحرام، ما ينافي كلّ قولٍ بعموم المقام للمسجد كما لا يخفى. وفي بعض الرِّوايات، في تفسير الآيات البيِّنات أنّه «مقام إبراهيم، حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل عليه السلام »‏9‏. ‏

‏ موضع مقام إبراهيم تاريخيًّا ‏

‏يظهر من بعض الرِّوايات أنّ موضع مقام إبراهيم عليه السلام قد اختلف، فقد كان أوّل ما كان ملاصقًا للكعبة الشّريفة، ثمّ أُخِّر عنها إلى الموضع الّذي هو فيه اليوم في زمن الجاهليّة، ثمّ تذكر الرِّوايات أنّ رسول‏‎ ‎‏‏الله صلى الله عليه وآله وسلم أعاده إلى الموضع الّذي كان فيه زمان إبراهيم عليه السلام ، وبقي كذلك في عهد أبي بكر، إلى فترةٍ من ولاية عمر، وأُخِّر فيها إلى المكان الّذي كان فيه زمان الجاهليّة. ‏

‏والّذي يظهر من تلك الرِّوايات أنّ التّأخير كان بسبب الزِّحام حول المقام، ما كان يؤدِّي إلى إرباك حالة الطّواف بالبيت، فأُخِّر حتّى إذا ازدحم النّاس حوله لم يؤثِّر ذلك في حركة الطّواف. ‏

‏روى ابن بابويه، عن زرارة بن أعين، أنّه قال لأبي جعفر الباقر عليه السلام: «قد أدركت الحسين عليه السلام؟ قال: نعم، أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السّيل، والنّاس يقومون على المقام، يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السّيل، ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه. قال: فقال لي: يا فلان، ما صنع هؤلاء؟ فقلت: أصلحك الله، يخافون أن يكون السّيل قد ذهب بالمقام. قال: نادِ أنّ الله تعالى قد جعله علمًا، لم يكن ليذهب به، فاستقرُّوا. وكان موضع المقام الّذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهليّة إلى المكان الّذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مكّة ردّه إلى الموضع الّذي وضعه إبراهيم عليه السلام ، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب، فسأل النّاس: من منكم يعرف المكان الّذي كان فيه المقام؟ فقال رجلٌ: أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع، فهو عندي، فقال: ائتني به، فأتاه به، فقاسه، ثمّ ردّه إلى ذلك المكان»‏10‏. ‏

‏وفي رواية عن الإمام الصّادق عليه السلام : «لما أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن أذِّن في النّاس بالحجِّ، أخذ الحجر الّذي فيه أثر قدميه، وهو المقام، فوضعه بحذاء البيت، لاصقًا بالبيت، بحيال الموضع الّذي هو فيه اليوم، ثمّ قام عليه فنادى بأعلى صوته بما أمره الله تعالى به، فلما تكلّم بالكلام لم يحتمله الحجر فغرقت رجلاه فيه، فقلع إبراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعًا، فلمّا كثر النّاس وصاروا إلى الشّرِّ والبلاء ازدحموا عليه، فرأوا أن يضعوه في هذا الموضع الّذي هو فيه اليوم، ليُخلوا المطاف لمن يطوف بالبيت. فلما بعث الله تعالى محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم ردّه إلى الموضع الّذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام ، فما زال فيه حتّى قُبض رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي زمن أبي بكر وأوّل ولاية عمر، ثمّ قال عمر: قد ازدحم النّاس على هذا المقام، فأيُّكم يعرف موضعه في الجاهلي‏ًة؟ فقال له رجلٌ: أنا أخذت قدره بقدر، قال: والقدر عندك؟ قال: نعم، قال: فائت به، فجاء به فأمر بالمقام فحمل، وردّ إلى الموضع الّذي هو فيه السّاعة»‏11‏. ‏

‏على أنّه يُقال بأنّه ليس من أثرٍ شرعيٍّ لموضع المقام إذا بنينا على أنّ الصّلاة إنّما هي في الجهة الّتي فيها المقام؛ فإنّ الصّلاة في تلك الجهة تتحقّق ما دام لم يُحوّل المقام إلى جهةٍ أخرى، كجهة الرُّكن اليمانيِّ مثلاً. والله العالم بأحكامه. ‏

‏ معنى اتِّخاذ المقام مصلًّى ‏

‏الآية الكريمة واضحةٌ في اتِّخاذ مقام إبراهيم مصلّى، أي: مكانًا للصّلاة. وقد فرضت الشّريعة المقدّسة على الحجّاج والمعتمرين الإتيان بركعتي الطّواف خلف مقام إبراهيم، وذلك في الجهة الّتي فيها المقام، مراعيًا فيها المصلِّي الأقرب فالأقرب إلى المقام، حيثما يُمكن، والبحث فيه موكولٌ إلى محلِّه في الفقه. ‏

‏ثمّ إنّه يُستفاد من بعض الرِّوايات أفضليّة الصّلاة مطلقًا عند مقام إبراهيم، سواءً أكانت نافلةً أم فرضًا؛ فقد سُئل الإمام عليٌّ الرِّضا عليه السلام عن أفضل موضع في المسجد يُصلّى فيه، قال: «الحطيم، ما بين الحجر وباب البيت. قُلت: والّذي يلي ذلك في الفضل؟ فذكر أنّه عند مقام إبراهيم عليه السلام . قلت: ثمّ الّذي يليه في الفضل؟ قال: في الحِجر...»‏12‏. والله العالم. ‏

‏ الأمر بتطهير البيت ‏

{و عهِدْنا إِلى‏ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل} ، اللّذين أوكل الله إليهما مهمّة بناء البيت، {أنْ طهِّرا بيْتِي} الّذي أردته مكانًا للطّواف والاعتكاف والصّلاة، ولغير ذلك من ألوان العبادة لله؛ فكان لا بُدّ من أن يكون طاهرًا من الأصنام الّتي تمثِّل الشِّرك الّذي ينافي التّوحيد، ومن كلِّ القذارات المادِّيّة‏13‏ والمعنويّة والقوليّة الّتي تتنافى مع أجواء العبادة. والمقصود من هذا العهد الإلهيِّ لهما أن يؤسِّساه على الطّهارة الكاملة؛ لأنّ ظاهر القرآن أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما اللّذان قاما ببناء البيت، كما في قوله تعالى الآتي: {و إِذْ يرْفعُ إِبْراهِيمُ الْقواعِد مِن الْبيْتِ و إِسْماعِيلُ}، وليس المراد تطهيره بعد بنائه، ممّا بيّنّاه سابقًا. ‏

{لِلطّائِفِين} الّذين يطوفون بالبيت، {و الْعاكِفِين} ، وهم الّذين يعتكفون في المسجد ويلازمونه ويجاورون فيه للعبادة، وقد ورد في الشّريعة التّرغيب بالاعتكاف. وعن الامام الصّادق عليه السلام أنّه قال: «كان رسول‏‏ ‏‏‏الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان العشر الأواخر - يعني من رمضان - اعتكف في المسجد، وضُربت له قبّةٌ من شعر، وشمّر المئزر، وطوى فراشه»‏14‏. وقد ذكر الفقهاء للاعتكاف أحكامًا، منها: أنّه لا يكون إلاّ في مسجدٍ جامعٍ، وأنّه لا يكون إلاّ مع الصّوم، وغير ذلك ممّا هو مسطورٌ في كتب الفقه. {و الرُّكّعِ السُّجُودِ} الّذين يركعون ويسجدون لله في صلاتهم. ‏

‏ الدُّعاء بالأمن والغذاء ‏

{و إِذْ قال إِبْراهِيمُ} ، الّذي أراد للبيت أن يكون مركزًا لبلدٍ يسكنه النّاس ويجتمعون فيه للحصول على ضروراتهم العامّة والخاصّة: {ربِّ اِجْعلْ هذا} المكان الّذي يضمُّ البيت الحرام {بلداً آمِناً} ، يعيش النّاس فيه الأمن والطُّمأنينة، {و اُرْزُقْ أهْلهُ} المقيمين فيه {مِن الثّمراتِ} الّتي يحتاجون إليها في غذائهم، {منْ آمن مِنْهُمْ بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ} ، هؤلاء الّذين أخلصوا لله إيمانهم وانفتحوا عليه وعاشوا الاستعداد للِّقاء به في اليوم الآخر الّذي يخضعون فيه للحساب؛ لأنّ الكافرين لا يستحقُّون الخير الإلهيّ. ولكنّ الله الّذي استجاب له دعاءه، أعلن له أنّ الرِّزق الّذي يمثِّل متاع الحياة الدُّنيا لا يختصُّ بالمؤمنين فقط، بل يشمل الكافرين، {قال و منْ كفر فأُمتِّعُهُ قلِيلاً} ممّا أرزقه من متاع الحياة الدُّنيا في حاجاته المادِّيّة والمعنويّة؛ لأنِّي أعطي النّاس جميعًا ما يحتاجونه في وجودهم الدُّنيويِّ، سواءٌ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي؛ لأنّ الدُّنيا ليست هي الأساس في قرب النّاس وبُعدهم في قضايا العطاء والمنع، بل هي الدّار الآخرة الّتي تمثِّل المكان الفصل في اليوم الفاصل الّذي تتحدّد فيه المواقع ونتائج المصير بين المؤمن والكافر، فيلقى المؤمن جزاء إيمانه. أمّا الكافر فإنِّي أترك له الفرصة في الدُّنيا، {ثُمّ أضْطرُّهُ إِلى‏ عذابِ النّارِ و بِئْس الْمصِيرُ} ، في الخلود في العذاب من خلال سخط الله وغضبه. ‏

‏ بناء البيت ‏

{و إِذْ يرْفعُ إِبْراهِيمُ الْقواعِد مِن الْبيْتِ و إِسْماعِيلُ} ، ويقيمان الأُسس الّتي يرتكز عليها البناء، في روحيّةٍ خاشعةٍ منفتحةٍ على رضا اللّه في مواقع القرب إليه، من بناء بيته وتهيئة الأجواء الّتي تقرِّب النّاس منه وتبعدهم عن مجالات سخطه؛ لأنّ المسجد هو المكان الّذي يهيِّئ للنّاس الفرصة للاجتماع في العبادة والاندماج في روحيّة الدُّعاء وخشوع الابتهال، فكانا يبنيان البيت كما لو كانا في حالة صلاةٍ أو موقف طاعةٍ يبتهلان إلى الله فيها أن يتقبّل منهما ذلك: {ربّنا تقبّلْ مِنّا} قُرُباتنا وابتهالاتنا وأعمالنا، {إِنّك أنْت السّمِيعُ الْعلِيمُ} ، الّذي يسمع نجوانا ويعلم ما في خفايا ضمائرنا ونيّاتنا من المحبّة لك وإخلاص القرب إليك. ‏

‏ الدُّعاء لنيل الإسلام ‏

{ربّنا و اِجْعلْنا مُسْلِميْنِ لك} ، لنُسلم لك في كلِّ أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وأفكارنا ومشاعرنا، لنذوب في عمق رضاك ومحبّتك، فلا يكون لنا شي‏ءٌ إلاّ ما يرضيك في ذلك كلِّه، ليكون إسلامنا حركةً في وجودنا كلِّه في الباطن والظّاهر. وإذا كان الإسلام هو ما نتطلّع إليه في منهج حياتنا، فإنّنا ننطلق به من خلال إيماننا بأنّه هو الصِّراط المستقيم الّذي ينتهي إليك في مواقع رحمتك ورضاك، ولذلك فإنّنا نريد له أن يمتدّ في ذرِّيّتنا، {و مِنْ ذُرِّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لك} تتحرّك في كلِّ حركتها في الحياة في خطِّ الإسلام لك، {و أرِنا مناسِكنا} من شرائع عباداتنا أو حجِّنا. والنُّسك هو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحجِّ وأعماله. ‏

{و تُبْ عليْنا} من موقع الإخلاص لك والاندماج في الإحساس بعظمتك، حتّى يخيّل إلينا أنّنا لم ننسجم مع كلِّ ما يرضيك في الوقت الّذي لم يصدر منّا شي‏ءٌ من شؤون سخطك، {إِنّك أنْت التّوّابُ الرّحِيمُ} الّذي يتعهّد عباده بالمحبّة والعفو والرِّضوان، فيغفر للعاصين منهم، ويزيد الطّائعين من رضاه، انطلاقًا من رحمته الّتي وسعت كلّ شي‏ءٍ. ‏

‏وربّما يرد سؤالٌ: إنّ إبراهيم وإسماعيل كانا مسلمين عند بناء البيت، فما معنى الدُّعاء بأن يجعلهما الله مسلمين؟ وأجاب الطّبرسيُّ في (مجمع البيان) بأنّ المقصود: «واجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا، كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا، بأن توفِّقنا وتفعل بنا الألطاف الّتي تدعونا إلى الثّبات على الإسلام»‏15‏. وذلك تمامًا كما هي الحال في قوله تعالى: {ربِّ اِجْعلْنِي مُقِيم الصّلاةِ و مِنْ ذُرِّيّتِي ربّنا و تقبّلْ دُعاءِ} [إبراهيم: 40]، وقوله تعالى: {فتبسّم ضاحِكاً مِنْ قوْلِها و قال ربِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُر نِعْمتك الّتِي أنْعمْت عليّ و على‏ والِديّ و أنْ أعْمل صالِحاً ترْضاهُ و أدْخِلْنِي بِرحْمتِك فِي عِبادِك الصّالِحِين} [النّمل: 19]. والله العالم. ‏

‏ وقفةٌ مع (الميزان) في معنى الإسلام ‏

‏وقد حاول العلاّمة الطّباطبائيُّ رحمه الله في تفسير (الميزان) أن يفرِّق بين الإسلام المتداول عندنا، وبين الإسلام المسؤول في الآية، فاعتبر أنّ المتداول منه ممّا يتبادر إلى الأذهان، هو «أوّل مراتب العبوديّة، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدِّينيّة، أعمّ من الإيمان والنِّفاق. وإبراهيم عليه السلام، وهو النّبيُّ الرّسول، أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملّة الحنيفيّة، أجلُّ من أن يُتصوّر في حقِّه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه إسماعيل رسول الله وذبيحه، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزُّلفى». ويضيف إلى ذلك قوله: «على أنّ هذا الإسلام من الأمور الاختياريّة الّتي يتعلّق بها الأمر والنّهي، كما قال تعالى: {إِذْ قال لهُ ربُّهُ أسْلِمْ قال أسْلمْتُ لِربِّ الْعالمِين} [البقرة: 131]، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه، أو مسألة ما هو فعلٌ اختياريٌّ للإنسان من حيث هو كذلك من غير عنايةٍ يصحُّ معها ذلك». ‏

‏أمّا الإسلام المسؤول في الدُّعاء، فهو «تمام العبوديّة وتسليم العبد كلّ ما له إلى ربِّه، وهو، وإن كان معنًى اختياريًّا للإنسان من طريق مقدِّماته، إلاّ أنّه إذا أُضيف إلى الإنسان العاديِّ وحاله القلبيِّ المتعارف كان غير اختياريٍّ، بمعنى كونه غير ممكن النّيل له، وحاله حاله، كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسِّط الحال بواسطة مقدِّماته الشّاقّة. ولهذا يمكن أن يُعدّ أمرًا إلهيًّا خارجًا عن اختيار الإنسان، ويسأل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الإنسان متّصفًا به. على أنّ هنا نظرًا أدقّ من ذلك، وهو أنّ الّذي يُنسب إلى الإنسان، ويُعدُّ اختياريًّا له، هو الأفعال، وأمّا الصِّفات والملكات الحاصلة من تكرُّر صدورها فليست اختياريّةً بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، وخاصّةً إذا كانت من الحسنات والخيرات الّتي نِسبتُها إليه تعالى أولى من نِسبتها إلى الإنسان»‏16‏. ‏

‏ونلاحظ على كلام العلاّمة الطّباطبائيِّ رحمه الله: أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا في ذلك الحين مُسلمين بالمعنى الشّامل للإسلام، المنطلق من المعرفة العميقة الواسعة بالله، وهو ممّا نستوحيه من حوار إبراهيم مع نفسه ومع قومه ومع أبيه، وانفتاحه على الله في كلِّ شؤونه وتسليمه له في كلِّ أموره. بل إنّ إبراهيم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبيًّا، كما نستوحيه من الموقف الإيمانيِّ الرّائع الّذي وقفه مع ولده إسماعيل عندما أمره الله أن يذبح ولده، والّذي يعني أمر إسماعيل بتسليم نفسه لأبيه؛ فإنّ الظّاهر أنّ هذه الحادثة كانت قبل بناء البيت، كما هو ظاهر القرآن الّذي يوحي بأنّ التّجربة الصّعبة كانت عندما بلغ معه السّعي الّذي يمثِّل أوائل مشيه؛ وذلك هو قوله تعالى: {فلمّا بلغ معهُ السّعْي قال يا بُنيّ إِنِّي أرى‏ فِي الْمنامِ أنِّي أذْبحُك فانْظُرْ ما ذا ترى‏ قال يا أبتِ اِفْعلْ ما تُؤْمرُ ستجِدُنِي إِنْ شاء اللّهُ مِن الصّابِرِين} [الصّافات: 102]. كما أنّ بناءهما للبيت الحرام يدلُّ على أنّهما يواجهان مسألة الإسلام من موقع شعورهما بالمسؤوليّة في بناء بيت الله، الّذي أراد الله له أن يكون البيت العالميّ، على أساس التّقوى والطّهارة، ما يوحي بأنّهما كان يعيشان الإسلام بالمستوى العميق الممتدِّ في الذّات. ‏

‏وممّا يعزِّز ذلك، دعاؤهما أن يبعث الله رسولاً يتحمّل مسؤوليّة امتداد الرِّسالة في المستقبل، ما يوحي بأنّهما يتحرّكان في عمق الشُّعور بالمسؤوليّة الرِّساليّة لا في الحاضر أو في نطاق فرديّة الذّات فحسب، بل على مستوى الأُمّة كلِّها في مدى الزّمن. ‏

‏وفي ضوء ذلك يبدو أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا يعيشان الإسلام بالمستوى العالي، في التّسليم المطلق لله تعالى، في أقصى مراتب العبوديّة، وإنّما كانا يسألان الله أن يستمرّا عليه في المستقبل، فقولهما: {و اِجْعلْنا} لا يُراد به الإيجاد بعد العدم، ليدلّ على أنّ المسؤول عنه لم يكن موجودًا، بل المراد به الإيجاد الاستمراريُّ الّذي يتّفق مع الوجود. ‏

‏وعلى هذا، لا حاجة لما تكلّفه العلاّمة الطّباطبائيُّ رحمه الله من التّفرقة بين الإسلامين؛ فإنّ هذا ينطلق من التّفسير الحرفيِّ لكلمة {و اِجْعلْنا} الّتي تعني الإيجاد بعد العدم. ‏

‏وتبقى هناك ملاحظتان على هامش ما ذكره في استدلاله: ‏

‏ الأولى: إنّ الاختياريّة في الفعل مشتركةٌ بين نوعي الإسلام؛ فإنّ الإسلام الّذي يمثِّل تمام العبوديّة، أمرٌ ممكنٌ للإنسان العاديِّ الّذي يعيش عمق المعرفة بالله، ولولاه لما كُلِّف الإنسان به. ‏

‏ الثّانية: إنّ الحديث عن أنّ الصِّفات والملكات الحاصلة من تكرُّر صدورها ليست اختياريّةً بحسب الحقيقة، ليس دقيقًا؛ لأنّ الله عندما ربط الملكات والصِّفات بأسبابها، كانت اختياريّةً، تمامًا كما هي اختياريّة الأفعال، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ تلك كانت بالواسطة، أمّا الأفعال فهي من دون واسطة. ‏

‏ الرّسول جزءُ مجتمعِه ‏

{ربّنا و اِبْعثْ فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُمْ} داخل مجتمعهم، يعيش كلّ أوضاعهم، ويطّلع على كلِّ مشاكلهم، ويعرف كلّ حاجاتهم الرُّوحيّة والفكريّة والعمليّة؛ فإنّ قضيّة أن يكون الرّسول من داخل الأُمّة الّتي يتحرّك منها نحو العالم، هي قضيّة الرّسول الّذي يعي كلّ الواقع، وكلّ الآفاق الواسعة الّتي ينطلق بأُمّته فيها، يحاكي شجونها وقضاياها قبل أن يصل إلى مرتبة النُّبوّة والرِّسالة. ‏

‏وقد وردت مسألة كون النّبيِّ جزءًا من مجتمعه، ومن الأُمّة، في أكثر من آيةٍ في القرآن، فقال تعالى: {لقدْ منّ اللّهُ على الْمُؤْمِنِين إِذْ بعث فِيهِمْ رسُولاً مِنْ أنْفُسِهِمْ يتْلُوا عليْهِمْ آياتِهِ و يُزكِّيهِمْ و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب و الْحِكْمة و إِنْ كانُوا مِنْ قبْلُ لفِي ضلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {فأرْسلْنا فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُمْ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ما لكُمْ مِنْ إِلهٍ غيْرُهُ أ فلا تتّقُون} [المؤمنون: 32]، وقال: {هُو الّذِي بعث فِي الْأُمِّيِّين رسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عليْهِمْ آياتِهِ و يُزكِّيهِمْ و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب و الْحِكْمة و إِنْ كانُوا مِنْ قبْلُ لفِي ضلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقال -وهو يصوِّر عمق الاندماج بين النّبيِّ وأُمّته -: {لقدْ جاءكُمْ رسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عزِيزٌ عليْهِ ما عنِتُّمْ حرِيصٌ عليْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين رؤُفٌ رحِيمٌ} [التّوبة: 128]. ‏

‏وليس معنى أنّ الله يبعث الرّسول من قومه أنّه يختصُّ بهم، بل من حيث إنّ الرِّسالة تحتاج إلى قاعدةٍ ينطلق بها الرّسول إلى العالم، وهو عندما يكون جزءًا من المجتمع الّذي يُبعث فيه، فهذا يجعله أقدر على التّأثير فيهم. ‏

{يتْلُوا عليْهِمْ آياتِك} ، الّتي توحي إليهم بكلِّ الشّرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأساليب والأهداف، الّتي تمثِّل إرادتك في حياة خلقك، لتكون طوع رضاك، {و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب} ، الّذي يمثِّل خطّ النّظريّة العامّ في المنهج الرِّساليِّ للإنسان والحياة، {و الْحِكْمة} ، الّتي تمثِّل حركة التّطبيق العمليِّ للنّظريّة فيضعون الأشياء في مواضعها، ويتحرّكون بها في مسارها الطّبيعيِّ، {و يُزكِّيهِمْ} ، فيطهِّر نفوسهم من الشِّرك، ومن كلِّ القذارات الرُّوحيّة الأخلاقيّة الّتي تشوِّه إنسانيّتهم، وتُربِك خطواتهم، وتبتعد بهم عن نظافة التّصوُّر والسُّلوك؛ {إِنّك أنْت الْعزِيزُ الْحكِيمُ} ، الّذي لا ينتقص أحدٌ من عزّته، الّذي جعل لكلِّ شي‏ءٍ قدرًا ووضع كلّ شي‏ءٍ في موضعه، انطلاقًا ممّا يُصلِح الحياة والإنسان ويجنِّبهما المفاسد في كلِّ حركة الواقع. ‏

‏ الدُّروس والإيحاءات ‏

‏أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور: ‏

‏1 -الجو الروحي في بناء المؤسّسات: ‏

‏الجوُّ الرُّوحيُّ الّذي ينبغي للعاملين الإسلاميِّين أن يعيشوه، وهم يعملون في بناء المؤسّسات، فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادِّيّة الّتي تفرضها طبيعة هذا النّوع من العمل، عن البقاء في الخطِّ الرُّوحيِّ الواعي الّذي ينفتح فيه الإنسان على الله الّذي كان العمل من أجله، ليبقى للعمل جوُّ العبادة والواجب والمسؤوليّة، فلا يتحوّل إلى غايةٍ بعد أن كان وسيلةً، كما نشاهده في كثيرٍ من المؤسّسات الدِّينيّة الّتي انطلق أصحابها من موقع الفكرة الرِّساليّة في البداية، حتّى إذا اندمجوا فيها وعاشوا في الأجواء المادِّيّة الّتي تفرضها العلاقات والالتزامات، تحوّلوا إلى أشخاصٍ جامدين لا يملكون أيّة حيويّةٍ روحيّةٍ في هذا المجال، بل ربّما تبدأ العقليّة الفرديّة الضّيِّقة في التّحكُّم بطبيعة المؤسّسات وخطواتها العمليّة، فتتحوّل إلى شي‏ءٍ يخصُّ الشّخص أو الجهة، في ما يفرضه المزاج أو تدعو إليه المصلحة الخاصّة. ‏

‏وقد يحدث - في هذا الجوِّ - أن يبدأ الصِّراع بين مؤسّسةٍ وأخرى، من خلال تعارض المصالح الفرديّة للقائمين عليها، أو لتصادم الخطوط الّتي يسير عليها هذا أو ذاك، وبذلك تصبح المؤسّسات الدِّينيّة خطرًا على العمل الدِّينيِّ بما تثيره من أجواء الحقد والبغضاء والتّنافس الفرديِّ على الأطماع والامتيازات، وبما تتحرّك فيه من أساليب وشعارات تستخدم القيم الدِّينيّة للمحافظة على أطماع الدُّنيا وشهواتها. ‏

‏وربّما كان السِّرُّ في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن الله واستغراقها في ظلمات الذّات، خلافًا لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في روحيّتهما الفيّاضة الدّافقة في بناء البيت الحرام. ‏

‏2- التّفكير بإيمان الأجيال: ‏

‏نستوحي ممّا قصّه الله تعالى من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يعيش العاملون بالله الحُلُم الكبير في ما يحلمون به لمستقبل أولادهم، وذلك بالتّركيز على أن يكونوا مؤمنين بالله، عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصّلبة للمجتمع المسلم والأُمّة المسلمة، فتتحوّل التّربية، في هذا الجوِّ، إلى التّخطيط العمليِّ، الأمر الّذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطًا رساليًّا يتحرّك في نطاق الحركة الرِّساليّة، لا في موقع العاطفة الذّاتيّة الّتي تحلم وتفكِّر لهم بالنّجاح المادِّيِّ في الدُّنيا بعيدًا عن النّجاح الرُّوحيِّ في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏وهذا ما نلمح مظاهره وخطواته في سلوك بعض الدُّعاة إلى الله الّذين يفصلون بين أولادهم وبين الآخرين، فيعملون على أن يضمنوا لأبنائهم المزيد من الأمن والبُعد عن الأخطار الّتي يفرضها العمل على السّائرين في الطّريق، ولكنّهم لا يعيشون هذا الاهتمام بالآخرين من النّاس وأولادهم، فيدفعونهم إلى اقتحام الخطر في سبيل الله ويحشدون في سبيل ذلك كلّ ما يملكونه من أساليب الإثارة والانفعال. ‏

‏إنّها الازدواجيّة في الفكر والعاطفة والعمل، الّتي تجعل للعاملين شخصيّتين مختلفتين، تتحرّك إحداهما في النِّطاق الذّاتيِّ بعيدًا عن الرِّسالة، وتنطلق الأخرى في نطاق الآخرين لتثير كلّ الأجواء من خلال شعارات الرِّسالة، خلافًا لما توحيه الآية من وحدة الشّخصيّة الّتي يحلم بها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لأولادهما، بما يحلمان به للذّات ولأولاد الآخرين؛ لأنّ المسؤوليّة تتحرّك في داخلهما من موقعٍ واحدٍ نحو هدفٍ واحد. ‏

‏3 - بين الرسالة والقيادة: ‏

‏يستوحي المتأمِّلُ من هذه الآيات، أن يفكِّر المسؤولون عن العمل الإسلاميِّ في مسؤوليّتهم الرِّساليّة في تهيئة الأجواء الإسلاميّة للنّاس، من خلال وجود مسؤولين دينيِّين في حياة المجتمع، باعتبارهم الأشخاص الّذين يملكون قدرة قيادة النّاس في خطوات الفكرة على أساسٍ تفصيليٍّ واضحٍ، فلا يغرقون في الشُّموليّات الّتي تُفقدهم الرُّؤية الواضحة للطّريق، ولا يضيعون في الطّريق بين العلامات المتنوِّعة أو الرِّمال المتحرِّكة. ‏

‏إنّ هذا الدُّعاء الأخير الّذي يطلب من الله إرسال الرّسول، يوحي لنا بالحاجة إلى الرِّسالة والرّسول في كلِّ عملٍ تغييريٍّ يستهدف تغيير المجتمع من الجذور، فلا قيمة للقيادة من دون رسالة، ولا قيمة للرِّسالة من دون قيادةٍ تدلُّ النّاس على مواضع الطّريق. ‏

‏وقد يجدر بنا أن نشير، في ختام هذا الفصل، إلى الحديث المأثور عن النّبيِّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يعلِّق على هذه الآية: «أنا دعوة أبي إبراهيم»‏17‏. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏انظر: الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ج 1، ص 84. ‏

‏2.‏‏الفخر الرّازي، مفاتيح الغيب، م. س، ج 4، ص 53 - 54.‏

‏3.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 391.‏

‏4.‏‏انظر: الجوهري، الصِّحاح، م. س، ج 5، ص 1901. وفيه: «الحكيم: المتقن للأمور».‏

‏5.‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، م. ن، ص 393.‏

‏6.‏‏منها: صحيحة معاوية بن عمار، «قال: سألت أبا عبد‏‎ ‎‏الله عليه السلام عن رجلٍ قتل رجلاً في الحلِّ ثمّ دخل الحرم، فقال: لا يُقتل ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُبايع ولا يُؤوى، حتّى يخرج من الحرم، فيُقام عليه الحدُّ، قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال: يُقام عليه الحدُّ في الحرم صاغرًا؛ إنّه لم ير للحرم حرمةً». انظر: الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 227 - 228، ح 4.‏

‏7.‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 3، ص 424.‏

‏8.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 257، ح 23.‏

‏9.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 223، ح 1.‏

‏10.‏‏م. ن، ح 2.‏

‏11.‏‏الشّيخ الصّدوق، علل الشّرائع، منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النّجف الأشرف - العراق، 1386هـ- - 1966 م، ج 2، ص 423، ح 1.‏

‏12.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 525، ح 1.‏

‏13.‏‏في: م. ن، ص 400، ح 3، عن الصّادق عليه السلام «قال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {طهِّرا بيْتِي...} فينبغي للعبد أن لا يدخل مكّة إلاّ وهو طاهرٌ قد غسل عرقه والأذى وتطهّر». والظّاهر أنّ هذا من باب الاستيحاء. وقد وردت الرِّوايات في استحباب الغسل لدخول مكّة والمسجد والكعبة.‏

‏14.‏‏م. ن، ص 175، ح 1.‏

‏15.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 392.‏

‏16.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 283 - 284.‏

‏17.‏‏الشّيخ الصّدوق، من لا يحضره الفقيه، ط 2، منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، قم - إيران، 1404 هـ-، ص 369، ح 5762.‏

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{ الْبيْت } : يشمل كلّ بيت، ولكنّه أصبح علمًا على الكعبة المشرّفة. ‏

{ مثابةً } : المثابة: الموضع الّذي يُثاب إليه، أي: يُرجع إليه مرّةً بعد أخرى، ومنه: ثاب إليه عقله، أي: رجع بعد ذهابه. وإنّما قيل للمنزل: مثابة، لأنّ أهله يتصرّفون في أمورهم ثمّ يثوبون إليه. فالكعبة هي المرجع والقاعدة الرُّوحيّة الّتي يقصدها المسلمون ويرجعون إليها في كلِّ أنحاء العالم. وقيل‏‏1‏: مكانًا للثّواب يثيبُ الله فيه عباده على حجِّهم وعبادتهم له. والجمع: مثاب. ‏

{مقامِ إِبْراهِيم} : نقل الرّازي في (تفسيره) أقوالاً في المراد من مقام إبراهيم عليه السلام: ‏

‏الأول: إنّه موضع الحجر الّذي قام عليه عليه السلام. ‏

‏الثّاني: إنّه الحرم كلُّه. ‏

‏الثّالث: إنّه عرفة والمزدلفة والجِمار. ‏

‏الرابع: إنّ الحجّ كلّه مقام ابراهيم عليه السلام ‏2‏. ‏

{لِلطّائِفِين} : من الطّواف، الّذي هو الدّوران حول الشّي‏ء. والطّواف حول البيت يرمز إلى الطّواف حول كلمات الله وتعاليمه، بحيث تدور حياة الإنسان في نطاقها، فلا يبتعد عنها إلى غيره. ‏

{و الْعاكِفِين} : العكوف: الإقبال على الشّي‏ء والملازمة له. والعاكف هو المقيم على الشّي‏ء اللاّزم له. وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {يعْكُفُون على‏ أصْنامٍ لهُمْ} [الأعراف: 138]، وقوله تعالى: {فنظلُّ لها عاكِفِين} [الشُّعراء: 71]. ‏

{ أضْطرُّهُ } : الاضطرار هو الفعل في الغير على وجهٍ لا يمكن الانفكاك عنه إذا كان من جنس مقدورهم، ولذلك لا يُقال: فلانٌ مضطرٌّ إلى لونه، وإن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه، لمّا لم يكن اللّون من جنس مقدوره. ويُقال: هو مضطرٌّ إلى حركة الفالج وحركة العروق، لمّا كانت من جنس مقدوره. ‏

{ الْمصِيرُ } : الحال الّتي يؤدِّي إليها أو لها. ‏

{ الْقواعِد } : جمع قاعدة، وهي الأُسس والأركان. وأصل القعود في اللُّغة: الثُّبوت والاستقرار، فمن ذلك: قاعدة الجبل: أصله، وقاعدة البناء: أساسه الّذي بُني عليه. ‏

{ مُسْلِميْنِ } : الإسلام هو الانقياد لأمر الله عزّ وجلّ بالخضوع والإقرار بجميع ما أوجب الله، والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكمٍ تكوينيٍّ أو تشريعيٍّ، من أمرٍ أو نهيٍ. وهو في الشّرع على نحوين: الأول: الاعتراف باللِّسان من دون شرط الاعتقاد، الثّاني: الاعتقاد بالقلب والرِّضا بالفعل لكلِّ ما قضى وقدّر. ‏

{ مناسِكنا } : «المناسك: المتعبّدات. قال الزّجّاج: كلُّ متعبّدٍ منسك. والنُّسك في اللُّغة: العبادة. ورجلٌ ناسك: عابد... قال سبحانه: {لِكُلِّ أُمّةٍ جعلْنا منْسكاً} [الحجّ: 67]»‏3‏ ، وقد غلب على أعمال الحجِّ. وإراءةُ المناسك: معرفةُ حقيقتها وأصولها وإشاراتها ورموزها وأحكامها. ‏

{ و تُبْ } : التّوبة: الرُّجوع من الذّنب. وتاب الله عليه، أي: عاد عليه بالمغفرة، أو وفّقه للتّوبة. ‏

{و الْحِكْمة} : الحكمة: العدل في القضاء، كالحكم. والحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها؛ ولهذا انقسمت إلى علميّة وعمليّة. وقيل: إنّ أصل الحكمة: الإتقان‏‏4‏ . ‏

{ الْعزِيزُ } : القدير الّذي لا يُغلب. وقيل: «القادر الّذي لا يمتنع عليه شي‏ءٌ أراد فعله»‏5‏ . ‏

{ الْحكِيمُ } : المدبِّر الّذي يُحكم الصُّنع ويُحسن التّدبير، فيضع كلّ شي‏ءٍ في موضعه. ‏

‏ ‏

‏ الكعبة القاعدة والمنطلق ‏

‏ويتابع القرآن حديث إبراهيم عليه السلام في قصّةٍ جديدةٍ تتّصل بالتّاريخ الدِّينيِّ في قصّة النُّبوّات من جهةٍ، وترتبط بعلاقة الإسلام بالامتداد الرّحب لشخصيّة إبراهيم في تطلُّعاتها المستقبليّة من جهةٍ أخرى. وتلك هي قصّة بناء البيت -الكعبة الحرام - الّذي أراده الله مرجعًا للنّاس يرجعون إليه ويثوبون، كقاعدةٍ روحيّةٍ يعيشون فيها الشُّعور بالوحدة الرُّوحيّة الّتي تربط بعضهم ببعض بين يدي الله، ويطوفون به في إحساسٍ عميقٍ بعبوديّتهم لله، وفي استيحاء الفكرة الإيمانيّة المتحرِّكة حيث يستلهمون منه أن يكون طوافهم في الحياة حول كلمات الله وتعاليمه ومفاهيمه، ويشعرون في ظلاله بالأمن الّذي أراده الله طابعًا مميّزًا لهذا البيت في ما أوحى به إلى الأنبياء في شرائعهم، من حرمة الاعتداء على النّاس والإساءة إليهم حتّى في الحالات المشروعة في ذاتها. فقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الحدّ لا يُقام على الجاني في مكّة إلاّ إذا كانت جنايته في مكّة بالذّات‏‏6‏. وكأنّ الله أراد أن يجعل من هذا البيت قاعدة سلامٍ يجتمع إليها النّاس من دون إحساسٍ بالخوف وبالمشاعر المضادّة الّتي تمنعهم من اللِّقاء. ‏

‏ثمّ أراد الله أن يكرِّم جهد نبيِّه إبراهيم في بناء البيت وفي إخلاصه العميق له، فطلب من النّاس أن يتّخذوا من مقام إبراهيم موضعًا للصّلاة؛ تخليدًا لإيمانه، وتحيّةً لإخلاصه لله في سرِّه وعلانيّته، ولاستجابته لله في ما يريده منه. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى ليعيش النّاس في أجواء إبراهيم كقدوةٍ في كلِّ المعاني الرُّوحيّة الكبيرة، فتمتزج صلاتُهم بصلاتِه، ودعواتُهم بدعواتِه وابتهالاتُهم بابتهالاتِه في تفاعلٍ روحيٍّ عظيم. ‏

‏ثمّ عهد إليه وإلى ولده إسماعيل، أن يجعلا هذا البيت طاهرًا من كلِّ دنسٍ، سواءً كان ذلك من مظاهر الشِّرك والوثنيّة، أو من عناصر القذارة والنّجاسة، أو من الأشخاص الّذين يدخلون فيه من حيث نظافتهم من القذارات المادِّيّة والمعنويّة؛ ليعيش النّاس الّذين يطوفون به، أو يقيمون فيه للاعتكاف، أو يصلُّون فيه فيركعون ويسجدون، في أجواء روحيّةٍ طاهرةٍ مادِّيّةٍ ومعنويّةٍ. ‏

‏وربّما استفاد الإنسان من الأمر بتطهير بيت الله من كلِّ رجسٍ، أن يكون البناء على هذا الأساس، وذلك بتشييده على هذه الصِّفة، لا بتطهيره بعد بنائه، كما قد يُتوهم؛ لأنّ ظاهر الآيات هو أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما اللّذان قاما ببناء البيت. ‏

‏ويثير القرآن أمامنا تطلُّعات إبراهيم المستقبليّة، فهو لا يريد لعمله هذا أن يظلّ في نطاق هذا البناء المتمثِّل بالكعبة، بل يريد له أن يتحوّل إلى بلدٍ واسعٍ كقاعدةٍ بشريّةٍ للسّلام، ولهذا نجده يدعو الله أن يجعله بلدًا آمنًا، يجتمع فيه المؤمنون بالله حول هذا البيت، فيلتقون على طاعة الله وعبادته، وتمتدُّ بهم الحياة في مجتمعٍ إنسانيٍّ آمن. ويفكِّر فيهم كيف يعيشون في هذا الجوِّ الّذي لا يُنبتُ الزّرع، ولا يقدِّم للإنسان أيّ شرطٍ من شروط الحياة الكريمة، فيلجأ إلى الله لكي يرزق أهله من المؤمنين الثّمرات، أمّا الكافرون فلم يلتفت إليهم ولم يشعر بضرورة الاهتمام بهم؛ لأنّه لا يريد لهم أن يعيشوا في أجواء هذا البيت؛ خوفًا من أن يشوِّهوا روحيّته ويعطِّلوا دوره، ولأنّه لا يجد أيّ أساسٍ للاهتمام بالكافرين الّذين يكفرون بنعمة الله ويجحدونها ويفسدون في الأرض، فتركهم لله؛ فهو الّذي خلقهم، وهو أعلم بما تقتضيه الحكمة في ذلك كلِّه. ‏

‏ويستجيب الله دعاءه - كما توحي هذه الآيات -، فقد تحدّث الله عن الكافرين الّذين لم يذكرهم إبراهيم في دعائه، فأراد الله أن يكمِّل الصُّورة، فأوحى إليه أنّه لا يستثني الكافرين من متع الحياة الدُّنيا؛ لأنّ عطاءه لا يختصُّ بأحدٍ دون أحدٍ في الدُّنيا، فهو يعطي الكافرين كما يعطي المؤمنين، لأنّ العطاء في الدُّنيا لا ينطلق من فكرة الثّواب والتّكريم، بل ينطلق من الإمداد للكافرين، والبلاء للمؤمنين، ولكنّ الدّار الآخرة هي الّتي يختصُّ فيها المؤمنون برحمة الله ولطفه ورضوانه، بينما يقف الكافرون هناك ليضطرّهم إلى عذاب النّار، وبئس المصير، جزاءً لكفرهم وجحودهم. ولم يتحدّث عن المؤمنين إيذانًا بأنّ دعاء إبراهيم قد صادف موقعه. ‏

‏ الدُّعاء في مواقع العمل والمسؤوليّة ‏

‏وتتجسّد الصُّورة أمامنا، ويبرز المشهد واضحًا في قوّةٍ وحياةٍ، كما لو كُنّا ننظر ونستمع، فهذا هو إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام يقفان ليرفعا قواعد البيت، في عملٍ يستغرق كلّ جهدهما واهتمامهما، ويشعران في هذا الجوِّ بعباديّة العمل، تمامًا كأيّة فريضةٍ عباديّةٍ. ونستمع إليهما كما لو كان الصّوت يهزُّ أسماعنا في لهاث العاملين الخاشعين المجاهدين، ونصغي بقلوبنا إلى ذلك الدُّعاء الخاشع الّذي ينساب من أعماق الأعماق في روحيّةٍ طاهرةٍ، كأنّها هينمات الفجر عندما يتنفّس في الفضاء، فتتصاعد أنفاسه نورًا وسلامًا وحياةً وروحانيّةً وبركةً. إنّها الرُّوح المؤمنة الصّافية، تعبِّر عن نفسها في ابتهالاتٍ حبيبةٍ خاشعةٍ، فتحتضن في تطلُّعاتها كلّ انطلاقات الحياة الوديعة السّابحة في بحيرات الصّفاء. ‏

‏وهو - بعد ذلك - دعاء العاملين الّذين يتحرّك الدُّعاء لديهم من مواقع العمل لا من حالات الاسترخاء، فتحسُّ - مع الدُّعاء - كما لو كانا يقدِّمان تقريرًا لربِّهما يحمل معه شظايا الرُّوح وخفقات القلب وهدهدات الشُّعور في أحلام المستقبل. إنّهما يتطلّعان إلى أن يعرفا في خطوات عملهما رضا الله وقبوله، فليس المهمُّ أن ينجحا في عيون الآخرين، أو يكونا مقبولين لدى المجتمع الّذي يعيشان فيه، بل المهمُّ أن يعيشا الشُّعور بالرِّضا والقبول من الله، فهو الغاية في كلِّ عمل... إنّهما يطلبان من الله أن يتقبّل منهما هذا العمل؛ فهو السّميع الّذي يسمع طلبات عباده، ويعلم ما في قلوبهم في ما يعملون ويتركون. ‏

‏ثمّ يتجاوزان هذا العمل، فيمتدّان إلى كلِّ مجالات حياتهما العمليّة في حاضرها ومستقبلها، ويبتهلان إليه أن يجعلهما يعيشان إسلام القلب والفكر والجوارح واللِّسان لله، لتكون حياتهما صورةً متجسِّدةً لإرادة الله وأمره. ‏

‏وينتقلان في تطلُّعاتهما وتمنِّياتهما إلى ذرِّيّتهما، فلا يريدان لهذه الذُّرِّيّة أن تنحرف عن الله سبحانه، بل يتطلّعان إلى أن تعيش الإسلام لله؛ فتولد منها الأُمّة المسلمة الممتدّة الّتي تحوِّل الحياة كلّها إلى إسلامٍ يتحرّك في كلِّ اتِّجاهٍ، لتتجسّد عبوديّة الإنسان لله في صدقٍ وإخلاصٍ. ويختمان هذه التّطلُّعات بالرّغبة إلى الله أن يعرِّفهما أصول مناسكهما أو مواضعها، وأن يتوب عليهما؛ لأنّ التّوبة تجسِّد المعنى الّذي يوحي برضا الله وثوابه ورحمته، وليس من الضّروريِّ أن تكون مسبوقةً بالذّنب في أيِّ حالٍ من الأحوال. ‏

‏ التّخطيط للإسلام الحركيِّ‏

‏ثمّ يتّجه الدُّعاء اتِّجاهًا آخر، فقد لا يكفي أن يُسلم الفرد وجهه لله، أو يسلم المجتمع حياته لله، إذا لم يكن هناك مضمونٌ فكريٌّ وعمليٌّ يحقِّق للإسلام المعنى الحيّ المتحرِّك الّذي يحقِّق للحياة أن تكون صورةً لإرادة الله في ما يفعله الإنسان أو يتركه، وذلك من خلال الرِّسالات الّتي تضع للإنسان الخطوط التّفصيليّة الواضحة المحدّدة لحركته في الحياة، وتشير إلى الأهداف الكبيرة الّتي تحكم مسيرته في الكون، لتكون الصِّلة بالله عميقةً، منفتحةً في نطاق الوسيلة والهدف، فلا لبس هناك ولا غموض ولا انحراف، بل هو الوضوح في الرُّؤية، والاستقامة في الخطِّ، والانفتاح الواعي على الله في كلِّ إرادته... فكان الدُّعاء الأخير أن يبعث الله في أفراد هذه الأُمّة الّتي تعيش في هذا البلد رسولاً منهم، فيعرف كلّ نوازعهم وأوضاعهم وتطلُّعاتهم وعقليّاتهم... فيتلو عليهم آياته بالأسلوب الّذي يتناسب مع عقليّاتهم وأفكارهم، ويعلِّمهم الكتاب الّذي أنزله الله عليهم، والحكمة الّتي يتضمّنها ذلك الكتاب، ويزكِّيهم بمواعظه ونصائحه وسيرته، لتتحوّل الأُمّة إلى خطِّ الوعي والرِّيادة الّتي تعيش المسؤوليّة في حمل الرِّسالة بعيدًا عن كلِّ النّوازع الذّاتيّة والآفاق الضّيِّقة. ‏

‏ الكعبة مثابةٌ وأمنٌ ‏

{و إِذْ جعلْنا الْبيْت} الكعبة الحرام، {مثابةً لِلنّاسِ} ، مرجعًا ومآبًا يثوبون إليه ويقصدونه من كلِّ مكانٍ، فيكون موقعًا لحركتهم العباديّة، ومناسبةً لاجتماعهم، من خلال قدومهم إليه ورجوعهم منه، أو مكانًا يثيبهم الله فيه على حجِّهم وعبادتهم له، على ما هو الاحتمال الثّاني في معنى: { مثابةً } . { و أمْناً } يأمن فيه النّاس على أنفسهم من الظُّلم والاضطهاد والقتل؛ لأنّ الله جعله ساحةً للسّلام، فلم يرخِّص لأحدٍ في الاعتداء على أحدٍ، ليعيش النّاس هذه التّجربة الرُّوحيّة الّتي يتمرّدون فيها على غرائزهم ونوازع الانتقام في ذواتهم، وينمُّون عناصر الخير والعفو والتّسامح في أخلاقهم من موقع الجهاد النّفسيِّ الّذي يفرض فيه الإنسان على نفسه الصّبر على المشاعر الانتقاميّة. ‏

‏وقيل: إنّ هذا التّشريع تحوّل إلى واقعٍ حيٍّ في حياة النّاس الّذين يعظِّمون البيت الحرام ويقدِّسونه؛ حتّى كان الرّجل يلقى قاتل أبيه فلا يتعرّض له‏‏7‏ . وقد تحدّث الله عن ذلك في آيةٍ أخرى في قوله تعالى: {أ و لمْ يروْا أنّا جعلْنا حرماً آمِناً و يُتخطّفُ النّاسُ مِنْ حوْلِهِمْ أ فبِالْباطِلِ يُؤْمِنُون و بِنِعْمةِ اللّهِ يكْفُرُون} [العنكبوت: 67]. ولا يخفى ما في ذلك من النِّعم والبركات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة. ‏

‏ هويّة مقام إبراهيم ‏

{و اِتّخِذُوا مِنْ مقامِ إِبْراهِيم مُصلًّى} أي: مكانًا يصلُّون فيه. وقد أشرنا في معاني المفردات إلى أنّ ثمّة أقوالاً في المراد من مقام إبراهيم عليه السلام : ‏

‏ الأول: إنّه موضع الحجر الّذي قام عليه عليه السلام . ‏

‏ الثّاني: إنّه الحرم كلُّه. ‏

‏ الثّالث: إنّه عرفة والمزدلفة والجِمار. ‏

‏ الرابع: إنّ الحجّ كلّه مقام إبراهيم عليه السلام . ‏

‏ولعلّه لا يخفى أنّ الأوّل من هذه المعاني هو المتعيِّن، وذلك لعدّة وجوه: ‏

‏ 1 - إنّه هو المعروف عند إطلاق الكلمة، ولا سيّما أنّ معْلمه لا يزال قائمًا. ‏

‏ 2 - إنّ الرِّوايات الواردة في فقه الحجِّ، والّتي تناولت مكان الصّلاة بعد الطّواف تؤكِّد ذلك، كما ورد في حديثٍ عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام : «...حتّى إذا أتى المسجد الحرام طاف طواف الفريضة، ثمّ عدل إلى مقام إبراهيم عليه السّلام فصلّى ركعتين...»‏8‏ ، وغيره كثير. ‏

‏ 3 - إنّ قوله تعالى: {إِنّ أوّل بيْتٍ وُضِع لِلنّاسِ للّذِي بِبكّة مُباركاً و هُدىً لِلْعالمِين*`فِيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إِبْراهِيم} [آل عمران: 96 - 97] ظاهرٌ في أنّ المقام جُزءٌ من المسجد الحرام، ما ينافي كلّ قولٍ بعموم المقام للمسجد كما لا يخفى. وفي بعض الرِّوايات، في تفسير الآيات البيِّنات أنّه «مقام إبراهيم، حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل عليه السلام »‏9‏. ‏

‏ موضع مقام إبراهيم تاريخيًّا ‏

‏يظهر من بعض الرِّوايات أنّ موضع مقام إبراهيم عليه السلام قد اختلف، فقد كان أوّل ما كان ملاصقًا للكعبة الشّريفة، ثمّ أُخِّر عنها إلى الموضع الّذي هو فيه اليوم في زمن الجاهليّة، ثمّ تذكر الرِّوايات أنّ رسول‏‎ ‎‏‏الله صلى الله عليه وآله وسلم أعاده إلى الموضع الّذي كان فيه زمان إبراهيم عليه السلام ، وبقي كذلك في عهد أبي بكر، إلى فترةٍ من ولاية عمر، وأُخِّر فيها إلى المكان الّذي كان فيه زمان الجاهليّة. ‏

‏والّذي يظهر من تلك الرِّوايات أنّ التّأخير كان بسبب الزِّحام حول المقام، ما كان يؤدِّي إلى إرباك حالة الطّواف بالبيت، فأُخِّر حتّى إذا ازدحم النّاس حوله لم يؤثِّر ذلك في حركة الطّواف. ‏

‏روى ابن بابويه، عن زرارة بن أعين، أنّه قال لأبي جعفر الباقر عليه السلام: «قد أدركت الحسين عليه السلام؟ قال: نعم، أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السّيل، والنّاس يقومون على المقام، يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السّيل، ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه. قال: فقال لي: يا فلان، ما صنع هؤلاء؟ فقلت: أصلحك الله، يخافون أن يكون السّيل قد ذهب بالمقام. قال: نادِ أنّ الله تعالى قد جعله علمًا، لم يكن ليذهب به، فاستقرُّوا. وكان موضع المقام الّذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهليّة إلى المكان الّذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مكّة ردّه إلى الموضع الّذي وضعه إبراهيم عليه السلام ، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب، فسأل النّاس: من منكم يعرف المكان الّذي كان فيه المقام؟ فقال رجلٌ: أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع، فهو عندي، فقال: ائتني به، فأتاه به، فقاسه، ثمّ ردّه إلى ذلك المكان»‏10‏. ‏

‏وفي رواية عن الإمام الصّادق عليه السلام : «لما أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن أذِّن في النّاس بالحجِّ، أخذ الحجر الّذي فيه أثر قدميه، وهو المقام، فوضعه بحذاء البيت، لاصقًا بالبيت، بحيال الموضع الّذي هو فيه اليوم، ثمّ قام عليه فنادى بأعلى صوته بما أمره الله تعالى به، فلما تكلّم بالكلام لم يحتمله الحجر فغرقت رجلاه فيه، فقلع إبراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعًا، فلمّا كثر النّاس وصاروا إلى الشّرِّ والبلاء ازدحموا عليه، فرأوا أن يضعوه في هذا الموضع الّذي هو فيه اليوم، ليُخلوا المطاف لمن يطوف بالبيت. فلما بعث الله تعالى محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم ردّه إلى الموضع الّذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام ، فما زال فيه حتّى قُبض رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي زمن أبي بكر وأوّل ولاية عمر، ثمّ قال عمر: قد ازدحم النّاس على هذا المقام، فأيُّكم يعرف موضعه في الجاهلي‏ًة؟ فقال له رجلٌ: أنا أخذت قدره بقدر، قال: والقدر عندك؟ قال: نعم، قال: فائت به، فجاء به فأمر بالمقام فحمل، وردّ إلى الموضع الّذي هو فيه السّاعة»‏11‏. ‏

‏على أنّه يُقال بأنّه ليس من أثرٍ شرعيٍّ لموضع المقام إذا بنينا على أنّ الصّلاة إنّما هي في الجهة الّتي فيها المقام؛ فإنّ الصّلاة في تلك الجهة تتحقّق ما دام لم يُحوّل المقام إلى جهةٍ أخرى، كجهة الرُّكن اليمانيِّ مثلاً. والله العالم بأحكامه. ‏

‏ معنى اتِّخاذ المقام مصلًّى ‏

‏الآية الكريمة واضحةٌ في اتِّخاذ مقام إبراهيم مصلّى، أي: مكانًا للصّلاة. وقد فرضت الشّريعة المقدّسة على الحجّاج والمعتمرين الإتيان بركعتي الطّواف خلف مقام إبراهيم، وذلك في الجهة الّتي فيها المقام، مراعيًا فيها المصلِّي الأقرب فالأقرب إلى المقام، حيثما يُمكن، والبحث فيه موكولٌ إلى محلِّه في الفقه. ‏

‏ثمّ إنّه يُستفاد من بعض الرِّوايات أفضليّة الصّلاة مطلقًا عند مقام إبراهيم، سواءً أكانت نافلةً أم فرضًا؛ فقد سُئل الإمام عليٌّ الرِّضا عليه السلام عن أفضل موضع في المسجد يُصلّى فيه، قال: «الحطيم، ما بين الحجر وباب البيت. قُلت: والّذي يلي ذلك في الفضل؟ فذكر أنّه عند مقام إبراهيم عليه السلام . قلت: ثمّ الّذي يليه في الفضل؟ قال: في الحِجر...»‏12‏. والله العالم. ‏

‏ الأمر بتطهير البيت ‏

{و عهِدْنا إِلى‏ إِبْراهِيم و إِسْماعِيل} ، اللّذين أوكل الله إليهما مهمّة بناء البيت، {أنْ طهِّرا بيْتِي} الّذي أردته مكانًا للطّواف والاعتكاف والصّلاة، ولغير ذلك من ألوان العبادة لله؛ فكان لا بُدّ من أن يكون طاهرًا من الأصنام الّتي تمثِّل الشِّرك الّذي ينافي التّوحيد، ومن كلِّ القذارات المادِّيّة‏13‏ والمعنويّة والقوليّة الّتي تتنافى مع أجواء العبادة. والمقصود من هذا العهد الإلهيِّ لهما أن يؤسِّساه على الطّهارة الكاملة؛ لأنّ ظاهر القرآن أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما اللّذان قاما ببناء البيت، كما في قوله تعالى الآتي: {و إِذْ يرْفعُ إِبْراهِيمُ الْقواعِد مِن الْبيْتِ و إِسْماعِيلُ}، وليس المراد تطهيره بعد بنائه، ممّا بيّنّاه سابقًا. ‏

{لِلطّائِفِين} الّذين يطوفون بالبيت، {و الْعاكِفِين} ، وهم الّذين يعتكفون في المسجد ويلازمونه ويجاورون فيه للعبادة، وقد ورد في الشّريعة التّرغيب بالاعتكاف. وعن الامام الصّادق عليه السلام أنّه قال: «كان رسول‏‏ ‏‏‏الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان العشر الأواخر - يعني من رمضان - اعتكف في المسجد، وضُربت له قبّةٌ من شعر، وشمّر المئزر، وطوى فراشه»‏14‏. وقد ذكر الفقهاء للاعتكاف أحكامًا، منها: أنّه لا يكون إلاّ في مسجدٍ جامعٍ، وأنّه لا يكون إلاّ مع الصّوم، وغير ذلك ممّا هو مسطورٌ في كتب الفقه. {و الرُّكّعِ السُّجُودِ} الّذين يركعون ويسجدون لله في صلاتهم. ‏

‏ الدُّعاء بالأمن والغذاء ‏

{و إِذْ قال إِبْراهِيمُ} ، الّذي أراد للبيت أن يكون مركزًا لبلدٍ يسكنه النّاس ويجتمعون فيه للحصول على ضروراتهم العامّة والخاصّة: {ربِّ اِجْعلْ هذا} المكان الّذي يضمُّ البيت الحرام {بلداً آمِناً} ، يعيش النّاس فيه الأمن والطُّمأنينة، {و اُرْزُقْ أهْلهُ} المقيمين فيه {مِن الثّمراتِ} الّتي يحتاجون إليها في غذائهم، {منْ آمن مِنْهُمْ بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ} ، هؤلاء الّذين أخلصوا لله إيمانهم وانفتحوا عليه وعاشوا الاستعداد للِّقاء به في اليوم الآخر الّذي يخضعون فيه للحساب؛ لأنّ الكافرين لا يستحقُّون الخير الإلهيّ. ولكنّ الله الّذي استجاب له دعاءه، أعلن له أنّ الرِّزق الّذي يمثِّل متاع الحياة الدُّنيا لا يختصُّ بالمؤمنين فقط، بل يشمل الكافرين، {قال و منْ كفر فأُمتِّعُهُ قلِيلاً} ممّا أرزقه من متاع الحياة الدُّنيا في حاجاته المادِّيّة والمعنويّة؛ لأنِّي أعطي النّاس جميعًا ما يحتاجونه في وجودهم الدُّنيويِّ، سواءٌ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي؛ لأنّ الدُّنيا ليست هي الأساس في قرب النّاس وبُعدهم في قضايا العطاء والمنع، بل هي الدّار الآخرة الّتي تمثِّل المكان الفصل في اليوم الفاصل الّذي تتحدّد فيه المواقع ونتائج المصير بين المؤمن والكافر، فيلقى المؤمن جزاء إيمانه. أمّا الكافر فإنِّي أترك له الفرصة في الدُّنيا، {ثُمّ أضْطرُّهُ إِلى‏ عذابِ النّارِ و بِئْس الْمصِيرُ} ، في الخلود في العذاب من خلال سخط الله وغضبه. ‏

‏ بناء البيت ‏

{و إِذْ يرْفعُ إِبْراهِيمُ الْقواعِد مِن الْبيْتِ و إِسْماعِيلُ} ، ويقيمان الأُسس الّتي يرتكز عليها البناء، في روحيّةٍ خاشعةٍ منفتحةٍ على رضا اللّه في مواقع القرب إليه، من بناء بيته وتهيئة الأجواء الّتي تقرِّب النّاس منه وتبعدهم عن مجالات سخطه؛ لأنّ المسجد هو المكان الّذي يهيِّئ للنّاس الفرصة للاجتماع في العبادة والاندماج في روحيّة الدُّعاء وخشوع الابتهال، فكانا يبنيان البيت كما لو كانا في حالة صلاةٍ أو موقف طاعةٍ يبتهلان إلى الله فيها أن يتقبّل منهما ذلك: {ربّنا تقبّلْ مِنّا} قُرُباتنا وابتهالاتنا وأعمالنا، {إِنّك أنْت السّمِيعُ الْعلِيمُ} ، الّذي يسمع نجوانا ويعلم ما في خفايا ضمائرنا ونيّاتنا من المحبّة لك وإخلاص القرب إليك. ‏

‏ الدُّعاء لنيل الإسلام ‏

{ربّنا و اِجْعلْنا مُسْلِميْنِ لك} ، لنُسلم لك في كلِّ أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وأفكارنا ومشاعرنا، لنذوب في عمق رضاك ومحبّتك، فلا يكون لنا شي‏ءٌ إلاّ ما يرضيك في ذلك كلِّه، ليكون إسلامنا حركةً في وجودنا كلِّه في الباطن والظّاهر. وإذا كان الإسلام هو ما نتطلّع إليه في منهج حياتنا، فإنّنا ننطلق به من خلال إيماننا بأنّه هو الصِّراط المستقيم الّذي ينتهي إليك في مواقع رحمتك ورضاك، ولذلك فإنّنا نريد له أن يمتدّ في ذرِّيّتنا، {و مِنْ ذُرِّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لك} تتحرّك في كلِّ حركتها في الحياة في خطِّ الإسلام لك، {و أرِنا مناسِكنا} من شرائع عباداتنا أو حجِّنا. والنُّسك هو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحجِّ وأعماله. ‏

{و تُبْ عليْنا} من موقع الإخلاص لك والاندماج في الإحساس بعظمتك، حتّى يخيّل إلينا أنّنا لم ننسجم مع كلِّ ما يرضيك في الوقت الّذي لم يصدر منّا شي‏ءٌ من شؤون سخطك، {إِنّك أنْت التّوّابُ الرّحِيمُ} الّذي يتعهّد عباده بالمحبّة والعفو والرِّضوان، فيغفر للعاصين منهم، ويزيد الطّائعين من رضاه، انطلاقًا من رحمته الّتي وسعت كلّ شي‏ءٍ. ‏

‏وربّما يرد سؤالٌ: إنّ إبراهيم وإسماعيل كانا مسلمين عند بناء البيت، فما معنى الدُّعاء بأن يجعلهما الله مسلمين؟ وأجاب الطّبرسيُّ في (مجمع البيان) بأنّ المقصود: «واجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا، كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا، بأن توفِّقنا وتفعل بنا الألطاف الّتي تدعونا إلى الثّبات على الإسلام»‏15‏. وذلك تمامًا كما هي الحال في قوله تعالى: {ربِّ اِجْعلْنِي مُقِيم الصّلاةِ و مِنْ ذُرِّيّتِي ربّنا و تقبّلْ دُعاءِ} [إبراهيم: 40]، وقوله تعالى: {فتبسّم ضاحِكاً مِنْ قوْلِها و قال ربِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُر نِعْمتك الّتِي أنْعمْت عليّ و على‏ والِديّ و أنْ أعْمل صالِحاً ترْضاهُ و أدْخِلْنِي بِرحْمتِك فِي عِبادِك الصّالِحِين} [النّمل: 19]. والله العالم. ‏

‏ وقفةٌ مع (الميزان) في معنى الإسلام ‏

‏وقد حاول العلاّمة الطّباطبائيُّ رحمه الله في تفسير (الميزان) أن يفرِّق بين الإسلام المتداول عندنا، وبين الإسلام المسؤول في الآية، فاعتبر أنّ المتداول منه ممّا يتبادر إلى الأذهان، هو «أوّل مراتب العبوديّة، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدِّينيّة، أعمّ من الإيمان والنِّفاق. وإبراهيم عليه السلام، وهو النّبيُّ الرّسول، أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملّة الحنيفيّة، أجلُّ من أن يُتصوّر في حقِّه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه إسماعيل رسول الله وذبيحه، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزُّلفى». ويضيف إلى ذلك قوله: «على أنّ هذا الإسلام من الأمور الاختياريّة الّتي يتعلّق بها الأمر والنّهي، كما قال تعالى: {إِذْ قال لهُ ربُّهُ أسْلِمْ قال أسْلمْتُ لِربِّ الْعالمِين} [البقرة: 131]، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه، أو مسألة ما هو فعلٌ اختياريٌّ للإنسان من حيث هو كذلك من غير عنايةٍ يصحُّ معها ذلك». ‏

‏أمّا الإسلام المسؤول في الدُّعاء، فهو «تمام العبوديّة وتسليم العبد كلّ ما له إلى ربِّه، وهو، وإن كان معنًى اختياريًّا للإنسان من طريق مقدِّماته، إلاّ أنّه إذا أُضيف إلى الإنسان العاديِّ وحاله القلبيِّ المتعارف كان غير اختياريٍّ، بمعنى كونه غير ممكن النّيل له، وحاله حاله، كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسِّط الحال بواسطة مقدِّماته الشّاقّة. ولهذا يمكن أن يُعدّ أمرًا إلهيًّا خارجًا عن اختيار الإنسان، ويسأل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الإنسان متّصفًا به. على أنّ هنا نظرًا أدقّ من ذلك، وهو أنّ الّذي يُنسب إلى الإنسان، ويُعدُّ اختياريًّا له، هو الأفعال، وأمّا الصِّفات والملكات الحاصلة من تكرُّر صدورها فليست اختياريّةً بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، وخاصّةً إذا كانت من الحسنات والخيرات الّتي نِسبتُها إليه تعالى أولى من نِسبتها إلى الإنسان»‏16‏. ‏

‏ونلاحظ على كلام العلاّمة الطّباطبائيِّ رحمه الله: أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا في ذلك الحين مُسلمين بالمعنى الشّامل للإسلام، المنطلق من المعرفة العميقة الواسعة بالله، وهو ممّا نستوحيه من حوار إبراهيم مع نفسه ومع قومه ومع أبيه، وانفتاحه على الله في كلِّ شؤونه وتسليمه له في كلِّ أموره. بل إنّ إبراهيم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبيًّا، كما نستوحيه من الموقف الإيمانيِّ الرّائع الّذي وقفه مع ولده إسماعيل عندما أمره الله أن يذبح ولده، والّذي يعني أمر إسماعيل بتسليم نفسه لأبيه؛ فإنّ الظّاهر أنّ هذه الحادثة كانت قبل بناء البيت، كما هو ظاهر القرآن الّذي يوحي بأنّ التّجربة الصّعبة كانت عندما بلغ معه السّعي الّذي يمثِّل أوائل مشيه؛ وذلك هو قوله تعالى: {فلمّا بلغ معهُ السّعْي قال يا بُنيّ إِنِّي أرى‏ فِي الْمنامِ أنِّي أذْبحُك فانْظُرْ ما ذا ترى‏ قال يا أبتِ اِفْعلْ ما تُؤْمرُ ستجِدُنِي إِنْ شاء اللّهُ مِن الصّابِرِين} [الصّافات: 102]. كما أنّ بناءهما للبيت الحرام يدلُّ على أنّهما يواجهان مسألة الإسلام من موقع شعورهما بالمسؤوليّة في بناء بيت الله، الّذي أراد الله له أن يكون البيت العالميّ، على أساس التّقوى والطّهارة، ما يوحي بأنّهما كان يعيشان الإسلام بالمستوى العميق الممتدِّ في الذّات. ‏

‏وممّا يعزِّز ذلك، دعاؤهما أن يبعث الله رسولاً يتحمّل مسؤوليّة امتداد الرِّسالة في المستقبل، ما يوحي بأنّهما يتحرّكان في عمق الشُّعور بالمسؤوليّة الرِّساليّة لا في الحاضر أو في نطاق فرديّة الذّات فحسب، بل على مستوى الأُمّة كلِّها في مدى الزّمن. ‏

‏وفي ضوء ذلك يبدو أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا يعيشان الإسلام بالمستوى العالي، في التّسليم المطلق لله تعالى، في أقصى مراتب العبوديّة، وإنّما كانا يسألان الله أن يستمرّا عليه في المستقبل، فقولهما: {و اِجْعلْنا} لا يُراد به الإيجاد بعد العدم، ليدلّ على أنّ المسؤول عنه لم يكن موجودًا، بل المراد به الإيجاد الاستمراريُّ الّذي يتّفق مع الوجود. ‏

‏وعلى هذا، لا حاجة لما تكلّفه العلاّمة الطّباطبائيُّ رحمه الله من التّفرقة بين الإسلامين؛ فإنّ هذا ينطلق من التّفسير الحرفيِّ لكلمة {و اِجْعلْنا} الّتي تعني الإيجاد بعد العدم. ‏

‏وتبقى هناك ملاحظتان على هامش ما ذكره في استدلاله: ‏

‏ الأولى: إنّ الاختياريّة في الفعل مشتركةٌ بين نوعي الإسلام؛ فإنّ الإسلام الّذي يمثِّل تمام العبوديّة، أمرٌ ممكنٌ للإنسان العاديِّ الّذي يعيش عمق المعرفة بالله، ولولاه لما كُلِّف الإنسان به. ‏

‏ الثّانية: إنّ الحديث عن أنّ الصِّفات والملكات الحاصلة من تكرُّر صدورها ليست اختياريّةً بحسب الحقيقة، ليس دقيقًا؛ لأنّ الله عندما ربط الملكات والصِّفات بأسبابها، كانت اختياريّةً، تمامًا كما هي اختياريّة الأفعال، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ تلك كانت بالواسطة، أمّا الأفعال فهي من دون واسطة. ‏

‏ الرّسول جزءُ مجتمعِه ‏

{ربّنا و اِبْعثْ فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُمْ} داخل مجتمعهم، يعيش كلّ أوضاعهم، ويطّلع على كلِّ مشاكلهم، ويعرف كلّ حاجاتهم الرُّوحيّة والفكريّة والعمليّة؛ فإنّ قضيّة أن يكون الرّسول من داخل الأُمّة الّتي يتحرّك منها نحو العالم، هي قضيّة الرّسول الّذي يعي كلّ الواقع، وكلّ الآفاق الواسعة الّتي ينطلق بأُمّته فيها، يحاكي شجونها وقضاياها قبل أن يصل إلى مرتبة النُّبوّة والرِّسالة. ‏

‏وقد وردت مسألة كون النّبيِّ جزءًا من مجتمعه، ومن الأُمّة، في أكثر من آيةٍ في القرآن، فقال تعالى: {لقدْ منّ اللّهُ على الْمُؤْمِنِين إِذْ بعث فِيهِمْ رسُولاً مِنْ أنْفُسِهِمْ يتْلُوا عليْهِمْ آياتِهِ و يُزكِّيهِمْ و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب و الْحِكْمة و إِنْ كانُوا مِنْ قبْلُ لفِي ضلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {فأرْسلْنا فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُمْ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ما لكُمْ مِنْ إِلهٍ غيْرُهُ أ فلا تتّقُون} [المؤمنون: 32]، وقال: {هُو الّذِي بعث فِي الْأُمِّيِّين رسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عليْهِمْ آياتِهِ و يُزكِّيهِمْ و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب و الْحِكْمة و إِنْ كانُوا مِنْ قبْلُ لفِي ضلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقال -وهو يصوِّر عمق الاندماج بين النّبيِّ وأُمّته -: {لقدْ جاءكُمْ رسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عزِيزٌ عليْهِ ما عنِتُّمْ حرِيصٌ عليْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين رؤُفٌ رحِيمٌ} [التّوبة: 128]. ‏

‏وليس معنى أنّ الله يبعث الرّسول من قومه أنّه يختصُّ بهم، بل من حيث إنّ الرِّسالة تحتاج إلى قاعدةٍ ينطلق بها الرّسول إلى العالم، وهو عندما يكون جزءًا من المجتمع الّذي يُبعث فيه، فهذا يجعله أقدر على التّأثير فيهم. ‏

{يتْلُوا عليْهِمْ آياتِك} ، الّتي توحي إليهم بكلِّ الشّرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأساليب والأهداف، الّتي تمثِّل إرادتك في حياة خلقك، لتكون طوع رضاك، {و يُعلِّمُهُمُ الْكِتاب} ، الّذي يمثِّل خطّ النّظريّة العامّ في المنهج الرِّساليِّ للإنسان والحياة، {و الْحِكْمة} ، الّتي تمثِّل حركة التّطبيق العمليِّ للنّظريّة فيضعون الأشياء في مواضعها، ويتحرّكون بها في مسارها الطّبيعيِّ، {و يُزكِّيهِمْ} ، فيطهِّر نفوسهم من الشِّرك، ومن كلِّ القذارات الرُّوحيّة الأخلاقيّة الّتي تشوِّه إنسانيّتهم، وتُربِك خطواتهم، وتبتعد بهم عن نظافة التّصوُّر والسُّلوك؛ {إِنّك أنْت الْعزِيزُ الْحكِيمُ} ، الّذي لا ينتقص أحدٌ من عزّته، الّذي جعل لكلِّ شي‏ءٍ قدرًا ووضع كلّ شي‏ءٍ في موضعه، انطلاقًا ممّا يُصلِح الحياة والإنسان ويجنِّبهما المفاسد في كلِّ حركة الواقع. ‏

‏ الدُّروس والإيحاءات ‏

‏أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور: ‏

‏1 -الجو الروحي في بناء المؤسّسات: ‏

‏الجوُّ الرُّوحيُّ الّذي ينبغي للعاملين الإسلاميِّين أن يعيشوه، وهم يعملون في بناء المؤسّسات، فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادِّيّة الّتي تفرضها طبيعة هذا النّوع من العمل، عن البقاء في الخطِّ الرُّوحيِّ الواعي الّذي ينفتح فيه الإنسان على الله الّذي كان العمل من أجله، ليبقى للعمل جوُّ العبادة والواجب والمسؤوليّة، فلا يتحوّل إلى غايةٍ بعد أن كان وسيلةً، كما نشاهده في كثيرٍ من المؤسّسات الدِّينيّة الّتي انطلق أصحابها من موقع الفكرة الرِّساليّة في البداية، حتّى إذا اندمجوا فيها وعاشوا في الأجواء المادِّيّة الّتي تفرضها العلاقات والالتزامات، تحوّلوا إلى أشخاصٍ جامدين لا يملكون أيّة حيويّةٍ روحيّةٍ في هذا المجال، بل ربّما تبدأ العقليّة الفرديّة الضّيِّقة في التّحكُّم بطبيعة المؤسّسات وخطواتها العمليّة، فتتحوّل إلى شي‏ءٍ يخصُّ الشّخص أو الجهة، في ما يفرضه المزاج أو تدعو إليه المصلحة الخاصّة. ‏

‏وقد يحدث - في هذا الجوِّ - أن يبدأ الصِّراع بين مؤسّسةٍ وأخرى، من خلال تعارض المصالح الفرديّة للقائمين عليها، أو لتصادم الخطوط الّتي يسير عليها هذا أو ذاك، وبذلك تصبح المؤسّسات الدِّينيّة خطرًا على العمل الدِّينيِّ بما تثيره من أجواء الحقد والبغضاء والتّنافس الفرديِّ على الأطماع والامتيازات، وبما تتحرّك فيه من أساليب وشعارات تستخدم القيم الدِّينيّة للمحافظة على أطماع الدُّنيا وشهواتها. ‏

‏وربّما كان السِّرُّ في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن الله واستغراقها في ظلمات الذّات، خلافًا لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في روحيّتهما الفيّاضة الدّافقة في بناء البيت الحرام. ‏

‏2- التّفكير بإيمان الأجيال: ‏

‏نستوحي ممّا قصّه الله تعالى من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يعيش العاملون بالله الحُلُم الكبير في ما يحلمون به لمستقبل أولادهم، وذلك بالتّركيز على أن يكونوا مؤمنين بالله، عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصّلبة للمجتمع المسلم والأُمّة المسلمة، فتتحوّل التّربية، في هذا الجوِّ، إلى التّخطيط العمليِّ، الأمر الّذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطًا رساليًّا يتحرّك في نطاق الحركة الرِّساليّة، لا في موقع العاطفة الذّاتيّة الّتي تحلم وتفكِّر لهم بالنّجاح المادِّيِّ في الدُّنيا بعيدًا عن النّجاح الرُّوحيِّ في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏وهذا ما نلمح مظاهره وخطواته في سلوك بعض الدُّعاة إلى الله الّذين يفصلون بين أولادهم وبين الآخرين، فيعملون على أن يضمنوا لأبنائهم المزيد من الأمن والبُعد عن الأخطار الّتي يفرضها العمل على السّائرين في الطّريق، ولكنّهم لا يعيشون هذا الاهتمام بالآخرين من النّاس وأولادهم، فيدفعونهم إلى اقتحام الخطر في سبيل الله ويحشدون في سبيل ذلك كلّ ما يملكونه من أساليب الإثارة والانفعال. ‏

‏إنّها الازدواجيّة في الفكر والعاطفة والعمل، الّتي تجعل للعاملين شخصيّتين مختلفتين، تتحرّك إحداهما في النِّطاق الذّاتيِّ بعيدًا عن الرِّسالة، وتنطلق الأخرى في نطاق الآخرين لتثير كلّ الأجواء من خلال شعارات الرِّسالة، خلافًا لما توحيه الآية من وحدة الشّخصيّة الّتي يحلم بها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لأولادهما، بما يحلمان به للذّات ولأولاد الآخرين؛ لأنّ المسؤوليّة تتحرّك في داخلهما من موقعٍ واحدٍ نحو هدفٍ واحد. ‏

‏3 - بين الرسالة والقيادة: ‏

‏يستوحي المتأمِّلُ من هذه الآيات، أن يفكِّر المسؤولون عن العمل الإسلاميِّ في مسؤوليّتهم الرِّساليّة في تهيئة الأجواء الإسلاميّة للنّاس، من خلال وجود مسؤولين دينيِّين في حياة المجتمع، باعتبارهم الأشخاص الّذين يملكون قدرة قيادة النّاس في خطوات الفكرة على أساسٍ تفصيليٍّ واضحٍ، فلا يغرقون في الشُّموليّات الّتي تُفقدهم الرُّؤية الواضحة للطّريق، ولا يضيعون في الطّريق بين العلامات المتنوِّعة أو الرِّمال المتحرِّكة. ‏

‏إنّ هذا الدُّعاء الأخير الّذي يطلب من الله إرسال الرّسول، يوحي لنا بالحاجة إلى الرِّسالة والرّسول في كلِّ عملٍ تغييريٍّ يستهدف تغيير المجتمع من الجذور، فلا قيمة للقيادة من دون رسالة، ولا قيمة للرِّسالة من دون قيادةٍ تدلُّ النّاس على مواضع الطّريق. ‏

‏وقد يجدر بنا أن نشير، في ختام هذا الفصل، إلى الحديث المأثور عن النّبيِّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يعلِّق على هذه الآية: «أنا دعوة أبي إبراهيم»‏17‏. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏انظر: الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ج 1، ص 84. ‏

‏2.‏‏الفخر الرّازي، مفاتيح الغيب، م. س، ج 4، ص 53 - 54.‏

‏3.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 391.‏

‏4.‏‏انظر: الجوهري، الصِّحاح، م. س، ج 5، ص 1901. وفيه: «الحكيم: المتقن للأمور».‏

‏5.‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، م. ن، ص 393.‏

‏6.‏‏منها: صحيحة معاوية بن عمار، «قال: سألت أبا عبد‏‎ ‎‏الله عليه السلام عن رجلٍ قتل رجلاً في الحلِّ ثمّ دخل الحرم، فقال: لا يُقتل ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُبايع ولا يُؤوى، حتّى يخرج من الحرم، فيُقام عليه الحدُّ، قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال: يُقام عليه الحدُّ في الحرم صاغرًا؛ إنّه لم ير للحرم حرمةً». انظر: الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 227 - 228، ح 4.‏

‏7.‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 3، ص 424.‏

‏8.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 257، ح 23.‏

‏9.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 223، ح 1.‏

‏10.‏‏م. ن، ح 2.‏

‏11.‏‏الشّيخ الصّدوق، علل الشّرائع، منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النّجف الأشرف - العراق، 1386هـ- - 1966 م، ج 2، ص 423، ح 1.‏

‏12.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 525، ح 1.‏

‏13.‏‏في: م. ن، ص 400، ح 3، عن الصّادق عليه السلام «قال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {طهِّرا بيْتِي...} فينبغي للعبد أن لا يدخل مكّة إلاّ وهو طاهرٌ قد غسل عرقه والأذى وتطهّر». والظّاهر أنّ هذا من باب الاستيحاء. وقد وردت الرِّوايات في استحباب الغسل لدخول مكّة والمسجد والكعبة.‏

‏14.‏‏م. ن، ص 175، ح 1.‏

‏15.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 392.‏

‏16.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 283 - 284.‏

‏17.‏‏الشّيخ الصّدوق، من لا يحضره الفقيه، ط 2، منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، قم - إيران، 1404 هـ-، ص 369، ح 5762.‏

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية