تفسير
25/01/2024

s-2-a-142-143-444-145-146-147-148-149-150-151-152

s-2-a-142-143-444-145-146-147-148-149-150-151-152

‏ ‏

‏معاني المفردات ‏

{ السُّفهاءُ } : النّاقصو العقول، الحمقى الّذين يفتقدون الميزان الصّحيح في النّظرة إلى الأمور والأحداث، وقال ابن عربي في التّفسير المنسوب إليه: «سمّاهم سفهاء خفاف العقول؛ لعدم وفاء عقولهم بإدراك حقيقة دين الإسلام»‏1‏ . ‏

{ ولاّهُمْ } : ولاّه عنه: صرفه وفتله. وولّي عنه خلاف ولّي إليه، مثل قولك: عدل عنه وعدل إليه، وانصرف عنه وانصرف إليه. فإذا كان الّذي يليه متوجِّهًا إليه فهو متولٍّ إليه، وإذا كان متوجِّهًا إلى خلاف جهته فهو متولٍّ عنه. ‏

{ وسطاً } : الوسط: السّواء والعدل والنّصفة، لأنّ الوسط عدلٌ بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض. وقيل: الخيار‏2‏ . قال صاحب (العين): «الوسط من النّاس، وكلِّ شي‏ءٍ: أعدله وأفضله»‏3‏ . فكون الأُمّة وسطًا - بناءً على هذا - لما تملكه من موقعٍ أصيلٍ يجعلها مرجعًا وميزانًا يؤهِّلها لممارسة دور الشّهادة والقيادة. وقيل في صفة النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم : «كان من أوسط قومه، أي: من خيارهم»‏4‏. ‏

{ شُهداء } : من الشّهادة الّتي هي الحضور مع المشاهدة، إمّا بالبصر أو بالبصيرة. والشُّهداء إمّا من شهادة الأعمال أو من الحجّة والبيِّنة. قال العلاّمة الطّباطبائيُّ في (الميزان): «معنى الشّهادة غايةٌ متفرِّعةٌ في الآية على جعل الأُمّة وسطًا، فلا محالة تكون الوسطيّة معنًى يستتبع الشّهادة والشُّهداء»‏5‏ . ‏

{ الْقِبْلة } : مأخوذةٌ من الاستقبال، وهي كلُّ جهةٍ يستقبلها الإنسان فيقابل غيره عليها، ثمّ صارت علمًا على الجهة الّتي تُستقبل في الصّلاة. ‏

{ عقِبيْهِ } : العقب: مؤخّر القدم. والانقلاب على العقبين كنايةٌ عن الإعراض؛ فإنّ الإنسان - وهو منتصبٌ على عقبيه - إذا انقلب من جهةٍ إلى جهةٍ انقلب على عقبيه، وقد استُعير - هنا - لمن يكفر بالله ورسوله؛ لأنّ المنقلب على عقبيه يترك ما بين يديه ويُدْبِرُ عنه؛ وحيث إنّ تارك الإيمان هو بمنزلة المُدْبِر عمّا بين يديه، وُصف بذلك. ‏

{ لكبِيرةً } : ثقيلةً وشاقةً. قال الرّاغب: «تُستعمل الكبيرةُ في ما يشُقُّ ويصعُب»‏6‏. ‏

{ لرؤُفٌ } : لشديد الرّحمة، والرّأفة: أشدُّ الرّحمة. رأف به: أشفق عليه من مكروهٍ يحلُّ به. ‏

{ تقلُّب } : التّحرُّك في الجهات. قال الزّمخشريُّ: « {تقلُّب وجْهِك} تردُّد وجهك وتصرُّف نظرك في جهة السّماء»‏7‏ . ‏

{فلنُولِّينّك قِبْلةً} أي: صيّرناك تستقبلها بوجهك. ‏

{ شطْر } : جهة، ونحو، وشطر المسجد الحرام يعني: نحوه وتلقاءه. قال صاحب (العين): «شطر كلِّ شي‏ءٍ: قصده، وشطر كلِّ شي‏ءٍ: نصفه»‏8‏ . ‏

{الْمُمْترِين} : الشّاكِّين المتردِّدين. قال الرّاغب: «المِرية: التّردُّد في الأمر وهو أخصُّ من الشّكِّ... والامتراء والمماراة: المحاجّة في ما فيه مِرية... وأصله من مريت النّاقة: إذا مسحت ضرعها للحلب»‏9‏ . قال صاحب (العين): «المري، بالتّخفيف: مسحك ضرع النّاقة تمريها بيدك لحين تسكن للحلب»‏10‏ . ‏

{ حُجّةٌ } : الحجّة: الدّلالة المبيِّنة للمحجّة، أي: المقصد المستقيم؛ { قُلْ فلِلّهِ‏‏ ‏‏الْحُجّةُ الْبالِغةُ فلوْ شاء لهداكُمْ أجْمعِين} [الأنعام: 149]. قال الرّاغب: «يجوز أنّه سمّى ما يحتجُّون به حجّةً»‏11‏ . ولهذا فقد يُراد من الحجّة البيِّنة الواضحة أو ما يُحتجُّ به ولو كان غير مبين، أو المحاجّة والمنازعة. ‏

{ تخْشوْهُمْ } : الخشية: خوفٌ يشوبه تعظيم. وقيل في الفرق بين الخوف والخشية، «أنّ الخوف يتعلّق بالمكروه وبترك المكروه... والخشية تتعلّق بمُنزل المكروه، ولا يُسمّى الخوف من نفس المكروه خشيةً، ولهذا قال: {و يخْشوْن ربّهُمْ و يخافُون سُوء الْحِسابِ} [الرّعد: 21]»‏12‏ . ‏

{و يُزكِّيهِمْ} : ينمِّيكم ويطهِّركم، قال الرّاغب: «أصل الزّكاة: النُّموُّ الحاصل عن بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدُّنيويّة والأخرويّة. يقال: زكا الزّرع يزكو: إذا حصل منه نموٌّ وبركةٌ»‏13‏ ، ولهذا تشمل التّزكية إزالة العقائد الفاسدة كالشِّرك والكفر، والملكات الرّذيلة كالكِبْرِ والشُّحِّ، والأعمال الشّنيعة كالقتل والزِّنا وشرب الخمر. ‏

{و الْحِكْمة} : قال الرّاغب: «الحكمة: إصابة الحقِّ بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات. وهذا هو الّذي وُصف به لقمان في قوله عزّ وجلّ: {و لقدْ آتيْنا لُقْمان الْحِكْمة} [لقمان: 12]»‏14‏ . قال الطّبرسيُّ: «الحكمة هي العلم الّذي يمكن به الأفعال المستقيمة»‏15‏ . وربّما كانت الحكمة توحي بانسجام التّطبيق العمليِّ في حركة الإنسان مع النّظريّة الّتي تمثِّل الخطّ الفكريّ الّذي يؤمن به. ويلتقي هذا بتفسير الحكمة بأنّها وضع الشّي‏ء في موضعه. ‏

‏ ‏

{ أذْكُرْكُمْ } : قال الرّاغب: «الذِّكر ذكران: ذكرٌ بالقلب وذكرٌ باللِّسان، وكلُّ واحدٍ منهما ضربان: ذكرٌ عن نسيان، وذكرٌ لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ»‏16‏. فذكر الله للنّاس هو أن يذكرهم بتسديده وتوفيقه وعفوه وغفرانه بعدما يذكرونه في الألسن والقلوب والمواقف. ‏

{ و اُشْكُرُوا } : الشُّكر ثلاثة أضرب: شكر القلب، وهو تصوُّر النِّعمة، وشكر اللِّسان، وهو الثّناء على المنعم، وشكر سائر الجوارح، وهو مكافأة المنعِم بقدر استحقاقه. والشُّكر تصوُّر النِّعمة وإظهارها، ويضاده الكفر، وهو نسيان النِّعمة وسترها. ‏

‏ تغيير القبلة ومواجهة حملات التّشكيك ‏

‏في هذا الفصل، يريد الله سبحانه أن يربِّي المسلمين في المجتمع الجديد الّذي يعيشون فيه في المدينة، على مواجهة التّحدِّيات الآتية من الآخرين حول بعض التّشريعات الإسلاميّة الصّادرة من رسول‏‏ ‏‏‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بعض الأوضاع العامّة الّتي كانت تواجه المسلمين آنذاك، وتثير بعض التّساؤل والحيرة واللّغط، ما قد يؤثِّر على تماسك الجماعة المسلمة ويفسح في المجال لمزيدٍ من الارتباك والاهتزاز. ‏

‏وقد تبرز أهمِّيّة هذا الاتِّجاه في الملاحظة التّالية، وهي أنّ التّحدِّيات الكافرة قد تحدث في المراحل الّتي يعيش فيها المسلمون البساطة في الوعي والثّقافة، والسّذاجة الرُّوحيّة والفكريّة في مواجهة المشاكل المستجدّة، ولا سيّما إذا كانت نظرتهم إلى تلك الفئات المتحدِّية نظرةً تتّسم بالاحترام الدّاخليِّ لمعلوماتهم العامّة، من خلال الاعتقاد بأنّهم يملكون المعرفة الشّاملة بالكتاب المتضمِّن لأحكام الله وآياته، باعتبارهم أهل الكتاب؛ فقد يترك ذلك تأثيرًا كبيرًا على نظرتهم إلى القضايا المثارة أو المشاكل المطروحة، عندما يواجهون ذلك كلّه من خلال العجز الفكريِّ عن المناقشة والتّحليل. ‏

‏أمّا القضيّة الّتي انطلقت هذه الآيات لمعالجتها، فقد شغلت المجتمع الإسلاميّ والمجتمع الكافر المضادّ؛ لأنّها كانت صدمةً لهم جميعًا، وذلك لأنّ المسلمين كانوا يتّجهون في عباداتهم، منذ بداية الدّعوة، إلى بيت المقدس الّذي يتّجه إليه اليهود والنّصارى من أهل الكتاب، فجاء التّشريع الجديد لينسخ ذلك ويحوِّل القبلة إلى الكعبة، فأدّى ذلك إلى إثارة أهل الكتاب؛ لأنّهم كانوا يجدون في صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نوعًا من أنواع التّبعيّة العمليّة لهم، وسبيلاً من سُبل إضلال البسطاء من المسلمين، بالإيحاء إليهم بأنّ ذلك يدلُّ على أنّ الحقّ معهم؛ كما أنّهم اعتبروه خسارةً لأحد مواقعهم العمليّة الّتي تؤكِّد أصالتهم ومواقعهم المتقدِّمة من الكتاب والنُّبوّات. ‏

‏أمّا المسلمون فقد عاشوا صدمةً ذاتيّةً؛ لاشتمال ذلك على أسلوبٍ جديدٍ غير مألوفٍ لديهم في التّعامل مع التّشريع الّذي ساروا عليه مدّةً طويلةً، بإلزامهم بالوقوف منه موقف الرّفض العمليِّ الّذي يستبدل موقفًا بموقف، فيعتبر السّير على التّشريع -على أساس ذلك - انحرافًا عن الخطِّ الصّحيح، ممّا لم يكن لهم سابق معرفةٍ به، ولم يكونوا في إعدادٍ نفسيٍّ له، بل جاء مفاجأةً كبيرةً لهم، وصدمةً نفسيّةً إيحائيّةً من خلال أساليب اليهود الّذين حاولوا أن يثيروا أمامهم المشكلة الفكريّة في النّسخ، فإذا كان حكم الله هو التّوجُّه إلى بيت المقدس، فمعنى ذلك أنّه الحقُّ وأنّ غيره هو الباطل، فكيف يتغيّر حكم الله إلى شي‏ءٍ آخر، لتنقلب النّظرة إليه، في النّظرة إلى الحقِّ والباطل، في القضيّة نفسها؟ وكيف يمكن أن يُنسب ذلك إلى الله الحكيم في كلِّ ما يفعله من أفعال وما يشرِّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمةً للأشياء، وما دام الحكم تابعًا للمصلحة الّتي تمليه؟ ‏

‏ولم يكن لدى المسلمين من المعرفة بأُسس التّشريع وطبيعة مساره ما يمكِّنهم من الدُّخول في جدلٍ أو مناقشةٍ حول ذلك مع هؤلاء. وهكذا عاش المسلمون جوًّا من الرّيب والحيرة، وبدؤوا يواجهون حالةً متوتِّرةً من الضّوضاء والقيل والقال، بالمستوى الّذي تحوّل الموقف فيه إلى عُقدةٍ كبيرةٍ تهدِّد المسيرة الإسلاميّة في ذلك المجتمع. ‏

‏وكان القرآن بالمرصاد لذلك، فقد خاض المعركة بكلِّ الأساليب الضّروريّة الّتي يحتاجها الموقف، سواءٌ في ذلك الأساليب الفكريّة الّتي تواجه طبيعة التّشريع، أو الأساليب العاطفيّة الّتي تخاطب مشاعر المسلمين وعواطفهم، أو الأساليب العمليّة الّتي تواجه المسلمين بالواقع الدّاخليِّ لأهل الكتاب في ما يمارسونه من أساليب اللّفِّ والدّوران والتّضليل ضدّ المسلمين، وتعرِّفهم الموقع الّذي يريد الله للأُمّة أن تقفه في الكون في قيادة العالم إلى الشّاطئ الأمين، ما يجعل من القضيّة مدخلاً قرآنيًّا لتربية المجتمع المسلم على مواجهة التّحدِّيات بالفكر والعاطفة والواقعيّة، ولتأكيد الخطِّ القرآنيِّ الّذي لا يترك المسلمين في حيرةٍ أمام علامات الاستفهام الّتي تثور في وجدانهم حول قضايا العقيدة والتّشريع، بل يعمل على أن يجد لهم الأجوبة الّتي ترضي قناعاتهم الفكريّة، وتمنحهم الشُّعور بالرِّضا والاطمئنان والثِّقة بما يعتقدون ويعملون؛ من أجل تركيز هذا التّشريع في وعي النّاس، وتربية المجتمع المسلم على الانطلاق إلى الحياة من خلال القواعد الثّابتة المنطلقة من أمر الله ونهيه في كلِّ ما يريد الله أن يغيِّره أو يبدِّله من تشريعٍ أو غيره؛ ليعي المجتمع من خلال ذلك طبيعة علاقته بالله وحدودها، ويعرف أنّ المسلم لا يملك أمام كلمة الله أيّة إرادةٍ تقوده إلى الرّفض ‏

‏أو التّشكيك، بل هو التّسليم المطلق في كلِّ شي‏ءٍ، كما توحي به الآية الكريمة: {و ما كان لِمُؤْمِنٍ و لا مُؤْمِنةٍ إِذا قضى اللّهُ و رسُولُهُ أمْراً أنْ يكُون لهُمُ الْخِيرةُ مِنْ أمْرِهِمْ و منْ يعْصِ اللّه و رسُولهُ فقدْ ضلّ ضلالاً مُبِيناً} [الأحزاب: 36]. ‏

‏وقد حدّثنا الله في هذا الفصل عن الكلمات الّتي يمكن أن تُقال، وعن التّصوُّرات الّتي ينبغي للمسلم أن يعيشها أمام تلك الكلمات، وعن طبيعة هذا التّبدُّل في التّشريع، في حكمة الله، وفي نتائجه العمليّة على سير الدّعوة، وعن التّصوُّرات والاهتمامات النّفسيّة الّتي كانت تشغل بال النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك، وعن الدّور الكبير الّذي أعدّه الله لهذه الأُمّة في حملها للرِّسالة وشهادتها على النّاس وشهادة الرّسول عليها أمام الله. ‏

‏وفي هذا الجوِّ المتنوِّع، ينطلق القرآن ليربط المسلمين بالخطِّ الأصيل الّذي يسيرون عليه، فلا يتزحزحون ولا ينحرفون عن الخطِّ الإسلاميِّ الحقِّ إلى خطوط الآخرين، بحجّة أن يجلبوا الآخرين إلى صفوفهم، مهما كانت نسبة الانحراف ضئيلةً، وذلك بالعمل على الانطلاق بعيدًا في تحليل واقع المجتمع المضادِّ بالمقارنة مع الواقع الّذي يعيشه النّبيُّ والمسلمون إزاء عقيدتهم، وتحليل طبيعة العلاقة الّتي تشدُّهم إلى الله وتربطهم به؛ فهو الّذي يجب أن يخشوه ويلجؤوا إليه ويطلبوا رضاه. ‏

‏ثمّ يتابع التّأكيد، في تكرارٍ ملحوظٍ، على المسلمين بالالتزام بهذا التّشريع، ليكون ذلك رمزًا لوحدتهم في الموقف والشُّعور؛ لأنّه يمثِّل القاعدة الرُّوحيّة الّتي يرتبطون بها ويتّجهون إليها، وهي هذا البيت الّذي انطلق بالتّاريخ الدِّينيِّ الرِّساليِّ الأوّل من أجل أن تبدأ الرِّسالة منه من جديدٍ في عهدها المحمّدي الجديد. ‏

‏وفي ما يلي نعرض للمراحل الّتي قطعها هذا التّشريع الجديد في نفوس المؤمنين، وفي الإثارات الّتي كانت تتحرّك من قبل الكافرين. ‏

‏ السُّفهاء يثيرون المشكلة‏

‏تُصوِّر الآية الأولى الحالة النّفسيّة والذِّهنيّة الّتي كان يعيشها فريقٌ من النّاس، من أهل الكتاب، إزاء هذا التّشريع الجديد، ما يدفعهم إلى أن يطرحوا مثل هذا التّساؤل في مرارةٍ وإنكار. وفي ذلك إيحاءٌ بانخفاض المستوى الثّقافيِّ الّذي يمكنهم من خلاله مواجهة الأمور التّشريعيّة من جانبها الفكريِّ على أساس الرّكائز الثّابتة الّتي تقوم عليها قضايا التّشريع. ‏

‏وقد صاغت الآية الفكرة المضادّة بصيغة التّساؤل الّذي يشوبه الاعتراض والإنكار، كأسلوبٍ من أساليب إثارة الجوِّ ضدّ التّشريع بشكلٍ بري‏ءٍ؛ فهي لا تطرح الفكرة بصورة الرّفض المطلق لتوحي للآخرين بالموقف المضادِّ الّذي تستثيره حالة المعارضة، بل تطرحها بصورة السُّؤال لتستطيع إثارة الشّكِّ والبلبلة في أذهان المسلمين، تمامًا كأيّة قضيّةٍ من القضايا الّتي يدور فيها الجدل، من أجل الوصول إلى نتيجةٍ حاسمةٍ، في أسلوبٍ إيحائيٍّ بإخراج الموضوع من جوِّ القداسة الّتي تفرض الالتزام والتّسليم المطلق. ‏

‏وهذا ما نواجهه في كثيرٍ من الأساليب الّتي يستعملها الأعداء ضدّ الأحكام الشّرعيّة، من أجل وضعها في مواقع الشّكِّ والرّيب، وذلك بإثارة الجوانب السّطحيّة الّتي تبتعد بالإنسان عن التّعمُّق في خلفيّات التّشريع البعيدة المدى، ليكون ذلك بدايةً للانفتاح على حالات الشّكِّ الّتي تُبعد المسلم تدريجيًّا عن روحيّة التّسليم المطلق لله. وقد لا يظهر الجانب السّلبيُّ في هذا العرض الاستفهاميِّ؛ باعتبار أنّ الإسلام لم يتنكّر للشّكِّ كأساسٍ للوصول إلى الحقيقة، ولم يواجه التّساؤلات الّتي كان المسلمون يثيرونها أمام بعض الأحكام الشّرعيّة بالرّدِّ والرّفض العنيف، بل عمل على أن يواجه الإنسانُ، كافرًا أو مؤمنًا، الفكرة العقيديّة والفرعيّة، من موقع التّساؤل البري‏ء، لتتكوّن القناعة الفكريّة في العقيدة والتّشريع على أساسٍ متين. ‏

{سيقُولُ السُّفهاءُ مِن النّاسِ} ، الّذين لا يفكِّرون في الأمور بطريقةٍ متوازنةٍ، ولا يميِّزون بين الوحي الإلهيِّ، في تشريعه المنطلق من المصلحة الّتي تتغيّر حسب تغيُّر الأزمان والأحوال، ما يجعل الشّي‏ء ذا مصلحةٍ اليوم بلحاظ عنوانٍ أو ظرفٍ معيّن، ولا يكون ذا مصلحةٍ في يومٍ آخر بلحاظ عنوانٍ جديدٍ أو ظرفٍ طارئٍ؛ وبين الرّغبة الذّاتيّة الّتي تتحرّك من موقع الأهواء الّتي لا تخضع لقاعدةٍ. ‏

{ما ولاّهُمْ عنْ قِبْلتِهِمُ الّتِي كانُوا عليْها} في صلاتهم؟ فكيف تتغيّر القبلة بين وقتٍ وآخر، وكيف يتبدّل التّشريع الإلهيُّ إذا كانوا ينسبون القبلة إلى وحي الله، وهل يمكن أن يبدِّل الله شريعته وهو العالم بحقائق الأشياء بعيدًا عن كلِّ الحالات الطّارئة؟ وإذا كان في التّوجه إلى الكعبة مصلحةٌ، فكيف كان بيت المقدس قبلةً في التّشريع الأوّل؟ ‏

‏ولكنّنا لو دقّقنا في هذا الموقف، لاكتشفنا الاتِّجاه السّلبيّ الّذي يتحرّك من خلاله السُّؤال، ولرأينا أنّ السّلبيّة تكمن في إعطاء الموقف جوًّا من الإثارة الّتي تدفع للاعتراض، بالإضافة إلى أنّه يسي‏ء إلى الجانب التّربويِّ الّذي ترتكز عليه الشّخصيّة الإسلاميّة الّتي تعتبر تكوين الأساس العقيديِّ منطلقًا للالتزام الفكريِّ والعمليِّ بالتّشريع؛ باعتباره صادرًا من خالق الإنسان الّذي يعرف ما يصلحه وما يفسده أكثر من الإنسان نفسه. وبذلك كانت الفكرة المطروحة إسلاميًّا لمن يحاول فهم الأحكام الشّرعيّة: التزم واعمل، ثمّ ناقش واسأل. ‏

‏إنّهم يتساءلون عن الأساس الّذي صرف المسلمين عن قبلتهم، ويثيرون أمام هذا التّساؤل نقطتين: ‏

‏الأولى: إنّهم يوجِّهون الحديث إلى المسلمين كما لو كانت القضيّة تعني سلوكًا شخصيًّا لهم. ‏

‏ الثّانية: إنّهم لا يحاولون التّدبُّر في طبيعة التّشريع الأوّل والثّاني، ليجدوا أنّهما ينطلقان من الله في تعيين أيّة جهةٍ من الجهات ليتوجّه النّاس إليها في عبادتهم، وليسا منطلقين من خصوصيّةٍ ذاتيّةٍ لهذه الجهة أو تلك ليمتنع الانتقال من جهةٍ إلى جهةٍ على أساس ذلك. ‏

‏وعلى ضوء ذلك، فلا مجال لأيِّ اعتراضٍ؛ فإنّ الله يملك المشرق والمغرب معًا وليس له اختصاصٌ بجهةٍ دون جهةٍ، فله أن يعيِّن المشرق لنتوجّه إليه، وله أن يعيِّن المغرب لنتوجّه إليه، وذلك ضمن الخطّة الّتي يضعها للإنسان في تنظيم عباداته ومعاملاته، ممّا يمكن أن يختلف فيه وجه الحكمة والمصلحة حسب اختلاف الخطّة الموضوعة، فقد يكون في الاتِّجاه إلى جهةٍ ما مصلحةٌ في داخل خطّةٍ معيّنةٍ، وقد لا يكون فيه مصلحةٌ بلحاظ خطّةٍ أخرى. ‏

{قُلْ لِلّهِ الْمشْرِقُ و الْمغْرِبُ} ، فهو الّذي يوجِّه عباده إلى هذه الجهة أو تلك، ليمنحها القداسة من خلال ذلك، فلا قداسة لجهةٍ دون جهةٍ بعيدًا عنه. وهو الّذي يعلم صلاح عباده في كلِّ مرحلةٍ من المراحل، فيوجب عليهم شيئًا في وقت ليبدِّله بشي‏ءٍ آخر في وقتٍ آخر، تبعًا للمصالح الّتي تتبدّل مع التّغيُّرات الظّرفيّة المتنوِّعة. وإذا كان بيت المقدس متميِّزًا بأنّه موطن الأنبياء، فإنّ الكعبة هي أوّل بيتٍ وُضع للنّاس بأمر الله نبيّه إبراهيم عليه السلام ببنائه وبدعوة النّاس إليه للحجِّ. فقد تتعلّق حكمته بإبقاء بيت المقدس قبلةً للمسلمين كما كان قبلةً لغيرهم في الماضي؛ للتّدليل على اعتراف الدِّين الجديد بأهمِّيّة هذا المكان المقدّس في وعي المسلمين، ليؤكِّد هذا التّعبير في خطِّهم الفكريِّ، ثمّ يأتي التّشريع الجديد ليجعل الكعبة قبلةً جديدةً من أجل تأكيد الخصائص العباديّة الّتي تختزنها في وجودها القدسيِّ، بالأمر الإلهيِّ المباشر الصّادر إلى خليله إبراهيم، ممّا لا تملكه القبلة القديمة. ‏

‏وخلاصة القضيّة أنّ على الإنسان أن يعرف أنّ الله لا يريد له إلاّ الخير، ولا يأمره إلاّ بالسّير على الخطِّ المستقيم، في ما يهديه إليه من تشريعاتٍ وأحكام، ما يقتضيه التّسليم والإذعان المطلق لله؛ فإنّ الله الّذي يملك المشرق والمغرب هو الّذي يختار لعباده ما يصلحهم، و {يهْدِي منْ يشاءُ} منهم {إِلى‏ صِراطٍ مُسْتقِيمٍ} ، وهو الدِّين الحقُّ الّذي يؤدِّي بالنّاس إلى مواقع رضاه، وإلى الجنّة الموعودة لديه. ‏

‏ الوصف بالسّفه والحياد الفكريُّ ‏

‏وقد قدّم القرآن أمام عرض الفكرة - سؤالاً وجوابًا - صورةً عن طبيعة تكوينهم الدّاخليِّ، ما يوحي بأنّ الفكرة لم تنطلق من أساس مشكلةٍ فكريّةٍ لتبعث على الاحترام، بل انطلقت من واقعٍ ذاتيٍّ منحرفٍ يواجه فيه هؤلاء كلّ القضايا من موقع السّفه الّذي يعني فقدان الميزان الصّحيح، الّذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يزِن الأمور ويحاكمها في جانب الفكرة والممارسة معًا، ما يبعث على النّظر إلى الفكرة بعيدًا عن الاحترام. ‏

‏وقد يثور أمامنا سؤالٌ: وهو أنّ استباق المناقشة بإعطاء مثل هذه الصِّفة يُبعد الموقف عن الحياد الفكريِّ الّذي يفرضه الأسلوب العلميُّ في الحوار والمناقشة؛ لأنّه يخلق جوًّا نفسيًّا مثيرًا ضدّ أصحاب الفكرة، في ما يشبه أسلوب القهر على طريقة حرب الأعصاب. ‏

‏والجواب عن ذلك: أنّ الموقف ليس موقف مواجهة المشكلة من موقعٍ فكريٍّ فحسب، بل الموقف هو موقف إبعاد هؤلاء عن التّدخُّل في حياة المجتمع المسلم، من خلال الخطّة المرسومة لديهم في زلزلة المسلمين وإبعادهم عن الخطِّ المستقيم، ما يستدعي العمل على إبعاد المسلمين عنهم نفسيًّا قبل إبعادهم عنهم فكريًّا؛ ليواجهوا الموقف في المستقبل من موقع النّظرة غير المحترمة عندهم، ليبتعد الجوُّ بذلك عن الاهتزاز والارتباك. وقد لاحظنا في هذا النِّطاق الأسلوب الأمثل الّذي يركِّز على تصوير طبيعة هؤلاء الّذين يثيرون السُّؤال بصورةٍ غير محترمةٍ، ليبعد الفكرة عن جانب التّأثير الشّخصيِّ بالجماعة، إلى مواجهة الفكرة في نطاقها الفكريِّ. ‏

‏أمّا كيف وصفهم القرآن بالسُّفهاء؛ فلأنّ شخصيّة السّفيه تتمثّل في عدم استقامة العقل وعدم توازن الرّأي، ما يجعل التّصرُّفات العمليّة في الفكر والعلاقة والمعاملة بعيدةً عن الاستقامة والاتِّزان، ولا شكّ في أنّ الانحراف عن خطِّ الله الّذي يؤدِّي إلى سلامة المصير في الدُّنيا والآخرة، لا يمثِّل الاستقامة في أيِّ خطٍّ من خطوطها، بل هو - على العكس من ذلك - يمثِّل اختيار الخطِّ الملتوي الّذي يضرُّ بالإنسان في كلِّ مجالاته. ‏

‏ الأسلوب القرآنيُّ في إدارة الصِّراع ‏

‏وقد نشعر بالحاجة إلى اعتماد هذا الأسلوب في الواقع العمليِّ الّذي يخوض فيه الإسلام صراع التّحدِّيات الفكريّة والعمليّة مع التّيّارات الكافرة والمنحرفة، عندما تلجأ إلى مواجهة الإسلام بأساليب الإثارة الّتي تعمل على خداع المسلمين وإضلالهم وإبعادهم عن الخطِّ المستقيم، فنحاول أن نواجه الموقف كما واجهه القرآن، بالتّركيز على الصِّفات الواقعيّة الّتي تكشف حقيقتهم، وتُبعِد المسلمين عن التّأثُّر بهم والخضوع لأساليبهم، ثمّ مواجهة القضيّة من جانبها الفكريِّ بعيدًا عن التّأثيرات الذّاتيّة الضّاغطة. ‏

‏ولا بُدّ لنا - ونحن نثير هذا اللّون من الأسلوب - من التّدقيق جيِّدًا في طبيعة الواقع الموضوعيِّ الّذي تنطلق فيه المشكلة وتتحرّك فيه عمليّات الإثارة؛ لئلاّ نخطئ في استعماله في ما لا ينسجم مع المصلحة الإسلاميّة العليا في الدّعوة والعمل. ‏

‏ الأمّة الوسط آفاقٌ ومعطياتٌ ‏

{و كذلِك جعلْناكُمْ أُمّةً وسطاً} تقف في الموقع المميّز بين سائر الأُمم، من خلال الموقع القياديِّ للرِّسالة القائدة والدّور القائد في الدّعوة والحركة، كما كان الرّسول كذلك بالنِّسبة إليهم في تبليغه وهدايته وقيادته؛ {لِتكُونُوا شُهداء على النّاسِ} ، بفعل المهمّة الموكولة إليكم في حركتكم القياديّة في اتِّجاه النّاس، ما يستدعي المواكبة والمراقبة والمتابعة بالمستوى الّذي يؤهِّلكم للشّهادة عليهم من موقع الإشراف على حركتهم في الخطِّ الفكريِّ والعمليِّ، {و يكُون الرّسُولُ عليْكُمْ شهِيداً} ؛ لأنّه هو الّذي صنع الأُمّة في وجودكم عندما أطلق الرِّسالة لتكون عنوانًا لكم، وحمّلكم مسؤوليّتها لتحدِّد لكم الدّور القياديّ، ليشهد عليكم أمام الله كيف كانت مواقعكم ومواقفكم وأوضاعكم ودعوتكم إلى دينه. ‏

‏في هذه الآية حديثٌ عن الأُمّة المسلمة بأنّها «وسط»، في ما جعله الله للمسلمين من موقعٍ قياديٍّ في الحياة، وأنّها شاهدةٌ على النّاس، وحديثٌ عن الرّسول بأنّه شاهدٌ على الأُمّة، فكيف نفهم هذه الوسطيّة وهذه الشّهادة؟ ‏

‏جاء في (مجمع البيان): «الوسط: العدل. وقيل: الخيار. ومعناهما واحدٌ؛ لأنّ العدل خيرٌ والخير عدلٌ. وقيل: أُخذ من المكان الّذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه. وقيل: بل أُخذ من التّوسُّط بين المقصِّر والغالي، فالحقُّ معه. قال مؤرج: أي: وسطًا بين النّاس وبين أنبيائهم. قال زهير: ‏

‏هُمُ وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم#إذا طرقت إحدى اللّيالي بمُعظم‏ ‏

‏قال صاحب العين: الوسط من كلِّ شي‏ءٍ: أعدله وأفضله»‏17‏ . ‏

‏وقد جرى بعض المفسِّرين‏18‏ في تفسير هذه الآية مجرى التّفسير اللُّغويِّ البحت، فأخذوا منه معنى العدل والتّوازن، على أساس ما تمثِّله الشّريعة الإسلاميّة من الوسطيّة بين الاتِّجاه الرُّوحيِّ المتطرِّف الّذي يمثِّله النّصارى، وبين الاتِّجاه المادِّيِّ المتطرِّف الّذي يمثِّله المشركون واليهود؛ لأنّ الإسلام يأخذ من الرُّوح جانبًا ومن المادّة جانبًا، لتكون الحياة - كما خلقها الله - نتيجة التّزاوج بين الرُّوح والمادّة. وتتمثّل الوسطيّة في التّوازن بين الاتِّجاه الجماعيِّ المتطرِّف الّذي يُلغي دور الفرد، والاتِّجاه الفرديِّ المطلق الّذي يُلغي دور المجتمع في الحياة، فأعطى للفرد دوره في ما يحقِّق ذاته من دون أن يغمط‏19‏حقّ الجماعة في نطاق قضاياها العامّة، وأعطى للجماعة دورها في ما لا يُلغي للفرد نوازعه الذّاتيّة الطّبيعيّة. ‏

‏ويمتدُّ الخطُّ الوسطيُّ إلى التّوازن بين الدُّنيا والآخرة، فللمسلم أن يُقبل على الدُّنيا ويستمتع بطيِّباتها من دون أن يسي‏ء إلى خطِّ الآخرة في السّير مع شريعة الله، في ما يفعل وفي ما يترك، وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأُسس الّتي يريدها الله. ‏

‏ويمضي الكثيرون في استيحاء الكلمة من خلال ما في الإسلام من توازن في مختلف جوانب الحياة، من حيث العاطفة والعقل، ومن حيث التّفكيرُ العقليُّ والطُّرق التّجريبيّة، ومن حيث الزّمان والمكان... وهكذا. ‏

‏وفي ضوء ذلك، يمكن للأُمّة أن تؤدِّي دور الشّهادة على النّاس؛ باعتبارها تقف في نقطة التّوازن الّتي ترجع إليها بقيّة الأطراف، كما يكون النّبيُّ شهيدًا على الأُمّة؛ لأنّه المثال الأكمل الّذي يوزن به حال الآحاد من الأُمّة. ‏

‏ويعلِّق صاحب تفسير (الميزان) على هذا التّفسير للآية بأنّ هذا المعنى «هو في نفسه معنًى صحيحٌ لا يخلو من دقّة، إلاّ أنّه غير منطبقٍ على لفظ الآية؛ فإنّ كون الأُمّة وسطًا إنّما يُصحِّح كونها مرجعًا يرجع إليه الطّرفان، وميزانًا يُوزنُ به الجانبان، لا كونها شاهدةً تشهد على الطّرفين أو تشاهد الطّرفين، فلا تناسب بين الوسطيّة بذاك المعنى والشّهادة، وهو ظاهرٌ. على أنّه لا وجه حينئذ للتّعرُّض بكون رسول الله شهيدًا على الأُمّة؛ إذ لا يترتّب شهادة الرّسول على الأُمّة على جعل الأُمّة وسطًا، كما يترتب الغاية على المغيّا‏20‏ ، والغرض على ذِيه»‏21‏ . ‏

‏وإنّنا نتّفق مع صاحب (الميزان) في هذه الملاحظة؛ لأنّ قضيّة التّفسير هي أن يدرس المفسِّر الكلمة من خلال الجوِّ الّذي تعيش فيه، ليتحقّق التّرابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها. ونحن نرى أنّ هذه الآيات تتحرّك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة، من خلال الدّور الّذي أعدّه الله لهم في قيادة البشريّة إلى الأهداف الكبيرة الّتي تتمثّل بالإسلام، الأمر الّذي يجعلهم يتحرّكون في الحياة، من هذا الموقع، ليكونوا شهداء على النّاس في أفكارهم وأعمالهم؛ باعتبار أنّهم يدخلون في ضمن مسؤوليّتهم، كما كان الرّسول شهيدًا على المسلمين من خلال مسؤوليّته الرِّساليّة عنهم في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه. ‏

‏وفي هذا الجوِّ لا نجد للوسطيّة معنًى في ما حاوله هؤلاء المفسِّرون من الحديث عن التّوازن الفكريِّ والتّشريعيِّ في المواجهة الإسلاميّة للحياة؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة المضمون الإسلاميِّ في صياغة الشّخصيّة للإنسان المسلم، بل هي قضيّة الإيحاء للمسلمين بأنّ عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثِّقة بالتّشريع وبالمسار العمليِّ؛ لأنّهم لا يمثِّلون التّبعيّة للآخرين في مواقعهم، بل القضيّة هي أنّ الآخرين يدخلون في نطاق مسؤوليّتهم؛ باعتبار أنّهم يحملون الرِّسالة القائدة، والدّور القائد في التّبليغ والتّنفيذ، كما كان الرّسول بالنِّسبة إليهم في ما يبلِّغه وفي ما يهدي إليه. ‏

‏إنّنا نتصوّر الآية في هذا الموقع؛ من خلال الأجواء العامّة الّتي وردت فيها، ما يجعل من ذكر كلمة «الوسط» مقدِّمةً لتقرير فكرة الشّهادة، ويوحي بأنّ معناها يدخل في معنى العدل والفضل، انطلاقًا ممّا ذكره صاحب كتاب (العين): «إنّ الوسط من النّاس وكلِّ شي‏ءٍ أعدله وأفضله»‏22 ‏؛ فكأنّ هذه الكلمة استُعيرت للأُمّة المسلمة من أجل تأكيد الثِّقة في نفوس المسلمين، على أساس ما حباهم الله من هدايةٍ إلى سبيله؛ لئلاّ ينهاروا أمام تضليل المضلِّلين وتشكيك المشكِّكين. ‏

‏وقد يوحي بذلك وقوع هذه الصِّفة بعد الحديث عن هداية الله لمن يشاء إلى صراطٍ مستقيم، للتّدليل على أنّ الله أراد لهم هذه الهداية الّتي جعلتهم في هذا الموقع. ولعلّ طبيعة الشّهادة على الآخرين أمام الله تقتضي أن يكون الشّاهد في الموقع الأفضل، من حيث الدّور الّذي أُوكِل إليه، ومن حيث السُّلوك الّذي سار فيه، كما هي حال الأنبياء بالنِّسبة إلى أُممهم. وهذا ما يؤكِّد المعنى الّذي ألمحنا إليه. ‏

‏وربّما يؤكِّد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة: {و جاهِدُوا فِي اللّهِ حقّ جِهادِهِ هُو اِجْتباكُمْ و ما جعل عليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرجٍ مِلّة أبِيكُمْ إِبْراهِيم هُو سمّاكُمُ الْمُسْلِمِين مِنْ قبْلُ و فِي هذا لِيكُون الرّسُولُ شهِيداً عليْكُمْ و تكُونُوا شُهداء على النّاسِ فأقِيمُوا الصّلاة و آتُوا الزّكاة و اِعْتصِمُوا بِاللّهِ هُو موْلاكُمْ فنِعْم الْموْلى‏ و نِعْم النّصِيرُ} [الحجّ: 78]؛ فإنّنا نلاحظ: أنّ تفريع شهادة الرّسول عليهم وشهادتهم على النّاس إنّما هي على أساس اجتباء الله لهم، وانضباطهم على الخطِّ، وقيامهم بالدّور الموكل إليهم في العمل لأنفسهم وللآخرين. ‏

‏أمّا الحديث عن التّوازن في الإسلام، فهو حقٌّ، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الآية تسير في هذا الاتِّجاه في مضمونها الفكريِّ. ‏

‏وقد ذكر صاحب تفسير (الميزان) في معنى «الوسط»: «أنّ كون الأُمّة وسطًا إنّما هو بتخلُّلِها بين الرّسول وبين النّاس»‏23‏ . ولكنّنا قدّمنا أنّ الوسطيّة -هنا - لا يُراد بها ذلك، بل يُراد بها - في ما نفهمه - الموقع الأفضل الّذي وضع الله فيه الأُمّة بالنِّسبة إلى النّاس. والله العالم بحقائق آياته. ‏

‏ الشّهادة على النّاس ‏

‏أمّا الشّهادة، فقد ذُكر لها عدّة معانٍ: ‏

‏ الأول: «إنّ المعنى: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم الّتي خالفوا فيها الحقّ في الدُّنيا وفي الآخرة؛ كما قال: {و جِي‏ء بِالنّبِيِّين و الشُّهداءِ} [الزُّمر: 69]، وقال: {و يوْم يقُومُ الْأشْهادُ} [غافر: 51]. وقال ابن زيد: الأشهاد أربعة: الملائكة والأنبياء وأُمّة محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم والجوارح، كما قال: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ و أيْدِيهِمْ و أرْجُلُهُمْ} [النُّور: 24]. ‏

‏ والثّاني: إنّ المعنى: لتكونوا حجّةً على النّاس، فتُبيِّنوا لهم الحقّ والدِّين، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا مؤدِّيًا للدِّين إليكم. وسُمِّي الشّاهد شاهدًا لأنّه يبيِّن؛ ولذلك يقال للشّهادة: بيِّنة. ‏

‏ والثّالث: إنّهم يشهدون للأنبياء على أُممهم المكذِّبين لهم بأنّهم قد بلّغوا، وجاز ذلك لإعلام النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إيّاهم بذلك»‏24‏ . ‏

‏وإنّنا نستقرب من هذه المعاني المعنى الأوّل؛ لأنّ الاتِّجاه العامّ في آيات الشّهادة هو الإيحاء للنّاس بأنّهم مطوّقون في يوم القيامة بالشّهادة على ما فعلوه في الدُّنيا من جميع الجهات، وذلك من الجهات المألوفة لديهم في الشّهادة في ما يشهد به الأنبياء والمبلِّغون، أو من الجهات غير المألوفة لديهم وهي شهادة الله والملائكة والجوارح؛ ليشعروا في الدُّنيا بالحاجة إلى الانضباط في كلِّ ما يعملونه أو يتركونه، وليتعمّق إحساسهم الدّاخليُّ بالرّقابة الموجّهة إليهم من جميع الجهات. ‏

‏وقد جاءت آيات الشّهادة في سياقٍ واحدٍ، حتّى لا يشعر الإنسان بوجود فارقٍ بين واحدةٍ وأخرى مع اختلاف شخصيّة الشُّهود، كما نلاحظه في الآيات التّالية: ‏

{فكيْف إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشهِيدٍ و جِئْنا بِك على‏ هؤُلاءِ شهِيداً} [النِّساء: 41]. ‏

{و يوْم نبْعثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شهِيداً ثُمّ لا يُؤْذنُ لِلّذِين كفرُوا و لا هُمْ يُسْتعْتبُون} [النّحل: 84]. ‏

{و أشْرقتِ الْأرْضُ بِنُورِ ربِّها و وُضِع الْكِتابُ و جِي‏ء بِالنّبِيِّين و الشُّهداءِ و قُضِي بيْنهُمْ بِالْحقِّ و هُمْ لا يُظْلمُون} [الزُّمر: 69]. ‏

{ما قُلْتُ لهُمْ إِلاّ ما أمرْتنِي بِهِ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ و كُنْتُ عليْهِمْ شهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنْت أنْت الرّقِيب عليْهِمْ و أنْت على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ شهِيدٌ} [المائدة: 117]. ‏

‏وهكذا نلاحظ: أنّ القضيّة - في هذه الآيات - تتّجه إلى يوم القيامة بين يدي الله؛ للإيحاء بالإحاطة الكاملة بالإنسان من جميع الجهات الّتي يتصوّر حضورها لديه من خلال المعاينة أو من خلال الإيمان، وذلك على أساس أنّ الشّهادة، في تجربة الشُّهداء، تتحرّك في الدُّنيا في الموقع القياديِّ الّذي يتمثّل فيه الشّاهد الواقع كلّه في حركة النّاس في الحياة، ومدى التزامهم بالوحي الإلهيِّ في خطِّ الرِّسالات في دائرة السّلب والإيجاب، ليقدِّموها بين يدي الله في موقف الحساب، فلا تنافي بين مفهوم الشّهادة في واقع الدُّنيا الّتي يتحرّك فيها الشُّهداء بين النّاس، وبين حركتها الفعليّة الأدائيّة في موقف القيامة أمام الله. ‏

‏وفي ضوء ذلك نفهم أنّ المعنيين الآخرين لا ينسجمان مع الأجواء العامّة للآيات، ولا سيّما المعنى الثّالث الّذي يركِّز على حاجة النّبيِّ للشّهادة على الأُمم بأنّه بلّغهم، إذا أنكرت الأُمم ذلك؛ إذ لا معنى لحاجة النّبيِّ لذلك مع اعتباره شاهدًا أساسيًّا تُطلب شهادته بشكلٍ أصيل، ما يعني اعتبار شهادته قاعدةً للحكم على الأُمم من خلال دخولهم ضمن مسؤوليّته الّتي منحه الله الثِّقة في القيام بها بكلِّ أمانةٍ وصدق. ‏

‏ إعتراضٌ وجوابٌ ‏

‏وقد أثار المفسِّرون اعتراضًا في هذا المجال، وخلاصته: أنّ الشّهادة تفرض الموقع المتميِّز للشّاهد على المشهود عليه، ونحن نعلم أنّ الأُمّة تضمُّ في جماعتها المطيع والعاصي، والجاهل والعالم، فكيف يمكن أن يكون الجميع شهودًا في موقع الشّهادة؟ ‏

‏والجواب: إنّ الأسلوب القرآنيّ قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكلِّ، باعتبار اشتمال الكلِّ عليه، تمامًا كما حدّثنا عن بني إسرائيل، مع أنّ الصِّفات الّتي ذكرها كانت صفات البعض منهم. وعلى هذا، فإنّ كون الأُمّة شاهدةً يتحرّك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممّن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير، وهم الطّليعة الواعية المؤمنة التّقيّة المنضبطة الّتي تفهم الإسلام حقّ الفهم، وتعيه حقّ الوعي، وتمارسه حقّ الممارسة، وتحمله بروحٍ رسوليّةٍ رائدةٍ. إنّها النُّخبة الواعية الموجودة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، الّتي يقف في طليعتها الأئمّة الطّاهرون، والعلماء الواعون، والأولياء الطّيِّبون، والمجاهدون العاملون، الّذين يحملون هذه الشّهادة إلى الله؛ لأنّهم يعيشون روح الرِّسالة، ويعيشون من خلالها الوعي لكلِّ حياة النّاس، كما هو الرّسول في رسالته وفي وعيه لأُمّته. ‏

‏ تشريع القبلة امتحانٌ لطاعة الأمّة ‏

‏ويستمرُّ الحديث عن هذا التّشريع الجديد، وهو تشريع القبلة نحو الكعبة، من خلال التّركيز على الطّبيعة التّربويّة الّتي تحكم هذا التّنوُّع في التّشريع من موقعٍ للقبلة في بداية الدّعوة، إلى موقعٍ جديدٍ في امتدادها الطّويل. ويتّجه الخطاب إلى النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ‏

‏باعتبار أنّه رسول الله إلى الأُمّة، المكلّف بتوضيح الصُّورة لهم: {و ما جعلْنا الْقِبْلة الّتِي كُنْت عليْها} ، وهي بيت المقدس، {إِلاّ لِنعْلم منْ يتّبِعُ الرّسُول} ؛ فقد أراد الله أن يختبر المسلمين، ليربِّيهم على الطّاعة المطلقة له، الّتي تتمثّل في التّسليم لأحكامه من دون أيِّ ريبٍ واعتراضٍ، فأمرهم في البداية بالتّوجُّه إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلهم عنها، ليبرز الأشخاص الّذين يعيشون الإسلام فكرًا وشعورًا وممارسةً وطاعةً مطلقةً، وليتميّزوا عن الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ويواجهون الرِّسالة كأيّة فكرةٍ بشريّةٍ قابلةٍ للأخذ والرّدِّ، ويفهمون الإيمان ارتباطًا شكليًّا بالله وبالرّسول، حتّى إذا وقفوا في مواقع البلاء، تحوّلوا عن مواقفهم ومواقعهم الإيمانيّة إلى مواقع الكفر والنِّفاق. ‏

‏وقيل: إنّ المراد بـ- {الْقِبْلة الّتِي كُنْت عليْها} هو الكعبة؛ «لأنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بمكّة إلى الكعبة، ثمّ أُمر بالصّلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألُّفًا لليهود، ثمّ حوِّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة الّتي يجب أن تستقبلها، الجهة الّتي كنت عليها أوّلاً بمكّة، يعني: وما رددناك إليها إلاّ امتحانًا للنّاس وابتلاءً؛ لنعلم الثّابت على الإسلام الصّادق فيه، ممّن هو على حرف، ينكص على عقبيه لقلقِه فيرتدّ»‏25 ‏. ‏

‏وفي ضوء هذا، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان مأمورًا بالتّوجُّه إلى الكعبة، ثمّ حُوِّل إلى بيت المقدس، ثمّ أُعيد إلى الكعبة. فكان الابتلاء موجّهًا إلى العرب، أو إلى قريش الّذين كانوا متعلِّقين بالكعبة، ما يجعل من تحويلهم إلى بيت المقدس اختبارًا لهم؛ باعتبار أنّ ذلك يصطدم بمشاعرهم الحميمة تجاه الكعبة. ‏

‏ولازم هذا الرّأي أنّ الله جعل الكعبة قبلةً مرّتين. ‏

‏ونلاحظ على ذلك: ‏

‏ أولاً: إنّه لا دليل على تشريع الصّلاة إلى الكعبة في البداية، ولا ظهور في الآية على ذلك. ‏

‏ ثانيًا: إنّ الظّاهر من قوله تعالى في الآية التّالية: {قدْ نرى‏ تقلُّب وجْهِك فِي السّماءِ فلنُولِّينّك قِبْلةً ترْضاها} أنّ الكعبة كانت تمثِّل رغبة النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في أن يوجِّهه الله إليها، لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم، ما يوحي بأنّه لم يسبق لها أن كانت قبلةً سابقًا. ‏

‏ثالثًا: إنّ عمليّة التّشريع أوّلاً، ثمّ النّسخ، ثمّ التّشريع ثانيًّا لا يتناسب مع طبيعة استقامة التّشريع. ‏

‏ رابعًا: إنّ تشريع الكعبة كقبلةٍ كان مقدّرًا له أن يستقرّ في نهاية التّشريع، ولكنّ الله أخّر ذلك للحكمة المذكورة في هذه الآية، وهي أن تكون المسألة مادّة اختبارٍ وامتحانٍ للمسلمين، من دون أن تكون هناك أيّة سلبيّةٍ في طبيعة الصّلوات الّتي صلُّوها إلى بيت المقدس؛ لأنّها كانت القبلة الشّرعيّة قبل النّسخ، ما يجعل الحكم مطابقًا للواقع؛ لأنّ النّسخ لا يرفع الحكم من أصله، بل يرفعه من وقته. ‏

‏ خامسًا: إنّ الظّاهر من الآية، أنّ التّجربة كانت تتحرّك نحو المنافقين الخاضعين لليهود، في إثارتهم للمشاكل الفكريّة ضدّ الإسلام وأهله، وليست متحرِّكةً في الواقع العربيِّ أو القرشيِّ الّذي كان لا يمثِّل مشكلةً كبرى في الواقع الإسلاميِّ. ولذلك لم نجد هناك أيّ حديثٍ تاريخيٍّ عن مسألة العلاقة الحميمة بالكعبة الّتي كانت تمثِّل الخطّ الفاصل بين الثّبات على الإيمان والانحراف عنه على أساس تشريع القبلة. ‏

‏ سادسًا: روى في (مجمع البيان) «عن عليِّ بن إبراهيم، بإسناده عن الصّادق عليه السلام ، قال: تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر. قال: ثمّ وجّهه الله إلى الكعبة؛ وذلك أنّ اليهود كانوا يعيِّرون رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقولون له: أنت تابعٌ لنا تصلِّي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك غمًّا شديدًا، وخرج في جوف اللّيل ينظر إلى آفاق السّماء، ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرًا، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظُّهر، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظُّهر ركعتين، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام ، فأخذ ‏

‏بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: {قدْ نرى‏ تقلُّب وجْهِك فِي السّماءِ فلنُولِّينّك قِبْلةً ترْضاها فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسُّفهاء: ما ولاّهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها»‏26‏ . ‏

‏ولا نريد أن نخوض طويلاً في ما خاض فيه المفسِّرون من إثارة التّساؤل حول كلمة {إِلاّ لِنعْلم منْ يتّبِعُ الرّسُول} في الآية؛ حيث إنّ الله لا يحتاج إلى أيّة وسيلةٍ عمليّةٍ لمعرفة طبيعة الأشخاص؛ لأنّ هذا التّعبير جارٍ على الأسلوب القرآنيِّ الّذي يتحدّث عن الوسائل الّتي توضح الأشياء الخفيّة وتُظهرها، باعتبارها أساسًا للعلم الّذي يريد الله أن يحصل عليه من خلال ذلك، وذلك على سبيل الاستعارة لقيام الحجّة على الإنسان بذلك؛ للتّدليل على أنّ الله لا يعاقب النّاس ولا يحاسبهم إلاّ على أساس ما يظهر له من أفعالهم وأقوالهم. وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: {الم*`أ حسِب النّاسُ أنْ يُتْركُوا أنْ يقُولُوا آمنّا و هُمْ لا يُفْتنُون*`و لقدْ فتنّا الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ فليعْلمنّ اللّهُ الّذِين صدقُوا و ليعْلمنّ الْكاذِبِين} [العنكبوت: 1- 3]. ‏

‏وهكذا كانت القبلة الجديدة اختبارًا للإيمان المستقرِّ في قلوب المؤمنين الّذين يسلمون أمرهم لله، فلا يعترضون على ما يأتيهم الرّسول به من تشريعات؛ لأنّهم يؤمنون بأنّه كما قال تعالى عنه: {و ما ينْطِقُ عنِ الْهوى‏*`إِنْ هُو إِلاّ وحْيٌ يُوحى‏} [النّجم: 3 - 4]؛ ليتميّز هؤلاء عن غيرهم. ‏

{مِمّنْ ينْقلِبُ على‏ عقِبيْهِ} . هذا كنايةٌ عن الّذين يتراجعون عن خطِّ الإيمان، ويسقطون أمام التّجربة، وتثيرهم الشُّكوك وتنحرف بهم عن الخطِّ؛ لأنّهم لا يعيشون الإسلام تسليمًا فكريًّا وروحيًّا وعمليًّا، ولا ينفتحون على الرّسول التزامًا وطاعةً. ‏

{و إِنْ كانتْ لكبِيرةً إِلاّ على الّذِين هدى اللّهُ} . الظّاهر أنّها إشارةٌ إلى هذه الحادثة الّتي تتمثّل في تحويل القبلة إلى الكعبة؛ باعتبار أنّها هزّت المجتمع المسلم من ناحيةٍ فكريّةٍ وعمليّةٍ، فأثارت في داخله الشُّعور باهتزاز التّشريع وعدم ارتكازه على أساسٍ متين من المصلحة والحكمة الثّابتة الّتي لا تغيِّرها الظُّروف والأحوال، في ما كان يوحيه اليهود للمسلمين من نظريّتهم حول النّسخ، كما كانوا يوسوسون لهم بأنّ صلاتهم الّتي كانوا يتوجّهون بها إلى بيت المقدس قد ضاعت عليهم؛ لأنّها كانت إلى غير القبلة الحقيقيّة، فأشبهت حالُهم حال الّذين لا يتوجّهون في صلاتهم إلى الكعبة الآن. ولكنّ الّذين هداهم الله وعرّفهم حقيقة شريعته، وطبيعة ارتباط التّشريع، وهو الّذي يعرف وجه الحكمة في ما يحرِّم وفي ما يحلِّل؛ انطلاقًا من اختلاف المصلحة في بعض الأشياء حسب اختلاف الظُّروف والأحوال، هؤلاء انطلقوا في الموضوع انطلاق تسليمٍ وانقيادٍ وطاعةٍ مطلقةٍ، ووعيٍ منفتحٍ على خلفيّات التّشريع الحكيمة. ‏

‏أمّا قضيّة ضياع إيمان المؤمنين، في ما تمثِّله الصّلاة من روح الإيمان، فليس واردًا في حساب الله. {و ما كان اللّهُ لِيُضِيع إِيمانكُمْ} ؛ لأنّهم قاموا بالصّلاة على أكمل وجه؛ فإنّ العبرة بحصول الشُّروط في حال القيام بالصّلاة، فلا يتبدّل الحال من هذه الجهة إذا تبدّلت الشُّروط؛ لأنّ الشّرط الجديد لا يترك أثرًا رجعيًّا على الأعمال السّابقة، بل يقتصر تأثيره على الصّلوات المقبلة. وهذا ما ينسجم مع رأفة الله ورحمته بعباده، حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدةً لشروطها الكاملة. {إِنّ اللّه بِالنّاسِ لرؤُفٌ رحِيمٌ} . ‏

‏ الامتحان وسلامة المسيرة ‏

‏وقد نستوحي من هذه الآية أنّ اختبار القاعدة الإسلاميّة في حركتها في الواقع مع القيادة، من حيث صدق انتمائها وجدِّيّة إيمانها وصلابة التزامها، قد يكون حاجةً مهمّةً لسلامة المسيرة الإسلاميّة ونجاح الخطط المرسومة؛ باعتبار أنّ ذلك يتكفّل بمعرفة القوى المنحرفة الّتي قد تدخل في الحركة الإسلاميّة، أو في جهاز المرجعيّة، أو في المواقع الاجتماعيّة الحسّاسة، ليرصد الإنسان كلّ خطواتها ويعرِّيها ويفضحها؛ حتّى لا تكيد للمسيرة، ولا تربك الواقع، ولا تعبث بالطّيِّبين السّاذجين من النّاس المؤمنين لتوظِّفهم بطريقةٍ سلبيّةٍ ضدّ الأهداف الإسلاميّة، ولا تعيث في الأرض فسادًا، وذلك بالطّريقة الّتي جرى عليها التّشريع في القبلة، بأن تتحرّك التّعليمات الحركيّة بالأسلوب الّذي يثير الارتباك والتّعقيدات، ولكن مع الحذر في اختيار المضمون والأسلوب والمرحلة، بالمستوى الّذي لا يؤدِّي إلى النّتائج السّلبيّة على الحركة في الوقت الّذي تتحرّك فيه للحصول على إيجابيِّات الواقع. ‏

‏ النّبيُّ في انتظار التّغيير ‏

‏كان النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم - في ما توحي به الآية الكريمة وفي ما تتحدّث به الرِّوايات - يعاني ضيقًا نفسيًّا في موضوع القبلة، فقد كان يواجه التّحدِّي اليهوديّ للمسلمين، الّذي يتمثّل في تعييرهم لهم بتبعيّة قبلتهم، وفي تفاخرهم بذلك عليهم، ما كان يترك تأثيرًا سلبيًّا على نفسيّة المسلمين. ولم تكن القضيّة قضيّة انفعالٍ مضادٍّ ضدّ التّشريع بالتّوجُّه إلى بيت المقدس، بل كان تطلُّعًا روحيًّا إلى قبلةٍ جديدةٍ تنسجم مع أجواء الرِّسالة الإسلاميّة الّتي انطلقت من البلد الحرام والمسجد الحرام، واعتُبرت امتدادًا للخطِّ الإسلاميِّ الّذي بدأه إبراهيم عليه السلام في مُنطلقِه الرُّوحيِّ من الكعبة. ‏

‏وكانت مشاعر محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم تتصاعد في ابتهالٍ داخليٍّ، كمثل الدُّعاء الصّامت الّذي يعبِّر عن نفسه بالنّظرات الخاشعة الّتي توحي وكأنّها تنتظر شيئًا كمثل الهاجس الدّاخليِّ الّذي يشبه الوحي. {قدْ نرى‏ تقلُّب وجْهِك فِي السّماءِ} ، في تطلُّعٍ ابتهاليٍّ ينفتح في روحيّةٍ دعائيّةٍ على ربِّه، في تعبيرٍ عن الرّغبة العقليّة الّتي تنطلق من حساباتٍ دقيقةٍ لمصلحة الرِّسالة، ومن إيحاءاتٍ شعوريّةٍ في وعي التّحدِّي اليهوديِّ ضدّ الإسلام، وذلك في دعاءٍ هادئٍ يرتفع إلى الله، من دون اعتراضٍ على تشريعه للقبلة الأولى، وتوسُّلٍ إليه أن يبدِّلها إلى القبلة الجديدة - وهي الكعبة - الّتي تنسجم مع موقع الرِّسالة الّذي يتجذّر في حركة الأُمّة، من خلال الإحساس بأنّ الدِّين الجديد بحاجةٍ إلى قبلةٍ جديدةٍ تمثِّل رمز الوحدة الحركيّة للأُمّة؛ فإنّ الله الّذي أراد لإبراهيم عليه السلام أن يؤذِّن في النّاس بالحجِّ إلى الكعبة، أعطاها معنى الطّهارة والقداسة والخصوصيّة ‏

‏المميّزة في اعتبارها بيته المحرّم الّذي طهّره - من خلال إبراهيم - {لِلطّائِفِين و الْعاكِفِين و الرُّكّعِ السُّجُودِ} ، كما جعله {مثابةً لِلنّاسِ و أمْناً} ، وغير ذلك من الخصوصيّات الدّاخليّة والخارجيّة الّتي تميِّزه عن بيت المقدس؛ فقد صُنعت الكعبة على عين الله، ولم يكن ذلك لبيت المقدس. ‏

‏وهكذا تقبّل الله ابتهالاته ودعواته، وجاء الوحي ليقرِّر التّشريع للقبلة الجديدة الّتي يرضاها الله كما رضيها رسوله. {فلنُولِّينّك قِبْلةً ترْضاها فولِّ وجْهك} يا محمّد {شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، أي: حوِّل نفسك في توجُّهاتك العباديّة نحو المسجد الحرام الّذي يحتوي الكعبة - القبلة؛ باعتبارها جزءًا منه. ‏

{و حيْثُ ما كُنْتُمْ} أيُّها المسلمون، {فولُّوا وُجُوهكُمْ شطْرهُ} وتوجّهوا إليه؛ ليكون رمز وحدتكم في اتِّجاهكم نحو بيت الله الّذي هو المسجد العالميُّ، سواءً كنتم في البحر، أو في البرِّ، أو في السّهل، أو في الجبل، أو في الجوِّ، أو في الشّرق، أو في الغرب. ولا تنحرفوا عنه إلى غيره يمينًا أو شمالاً، ولا تستدبروه. ‏

‏وقد انطلق التّدقيق بالقبلة من خلال التّحديد الصّريح في ضرورة التّوجُّه إلى المسجد الحرام، حتّى أصبح هناك ما يقارب تأسيس علم القبلة. ‏

‏وهكذا كانت القبلة الجديدة في حركة التّشريع استجابةً للتّطلُّعات الرُّوحيّة النّبويّة، بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من المصالح الإلهيّة الّتي يريد الله للنّاس أن يحصلوا عليها من خلال ذلك. وهكذا وجّه الله نبيّه إلى جهة المسجد الحرام؛ لاشتماله على الكعبة، وهو قائمٌ يصلِّي في مسجد بني سالم - في ما تنقله روايات أسباب النُّزول - ودعا المسلمين إلى التّوجُّه إليه في أيِّ مكانٍ كانوا. ‏

‏وأثار الله بذلك أمامه قضيّة أهل الكتاب الّذين لا ينطلقون من الواقع في ما ينطلقون فيه من حديثٍ وإثارةٍ، بل ينطلقون من العناد والمكابرة والكذب. {و إِنّ الّذِين أُوتُوا الْكِتاب} ، ولا سيّما اليهود الّذين بادروا بالاعتراض، وأوحوا للمنافقين أن يرفعوا الصّوت عاليًا بذلك، بعد أن كانوا يتحدُّون النّبيّ ويستعلون عليه، لتوجُّهه إلى قبلتهم نحو بيت المقدس، {ليعْلمُون أنّهُ الْحقُّ مِنْ ربِّهِمْ} . قال في (مجمع البيان): «أي: يعلمون أنّ تحويل القبلة إلى الكعبة حقٌّ مأمورٌ به من ربِّهم، وإنّما علموا ذلك لأنّه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبيٌّ من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنّه يصلِّي إلى القبلتين. ورُوي أنّهم قالوا عند التّحويل: ما أُمِرت بهذا يا محمّد، وإنّما هو شي‏ءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك مرّةً إلى هنا، ومرّةً إلى هنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبيّن أنّهم يعلمون خلاف ما يقولون»‏27‏. ‏

‏وربّما كان وصفهم بتعبير: {أُوتُوا الْكِتاب} في الآية إيحاءً بأنّ تحويل القبلة موجودٌ في الكتاب؛ لأنّهم يعلمون أنّ الخطّ الّذي تسير عليه في العقيدة وفي التّشريع هو الحقُّ من ربِّهم، وذلك في ما تحدّثت به التّوراة، الّتي يعرفونها جيِّدًا ويخفونها عن النّاس، وهم يظنُّون أنّ الله يغفل عنهم في ما يدبِّرون من مكائد، {و ما اللّهُ بِغافِلٍ عمّا يعْملُون} من الخطط التّخريبيّة العدوانيّة الّتي يخطِّطونها في حركتهم المضادّة للنّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ من أجل أن يصدُّوا عن سبيل الله ويفتنوا النّاس عن دينهم الحقِّ، فالله تعالى لا يغفل عنهم وعن أعمالهم على أيِّ حال، فهو المطّلع على كلِّ شي‏ءٍ من أمور عباده. ‏

‏ موقف العناد والجهود الضّائعة ‏

{و لئِنْ أتيْت الّذِين أُوتُوا الْكِتاب بِكُلِّ آيةٍ ما تبِعُوا قِبْلتك} ؛ لأنّهم لا يريدون الانفتاح على رسالتك، فقد أغلقوا كلّ النّوافذ الرُّوحيّة والفكريّة الّتي تطلُّ على الحقِّ، ولذلك فإنّ الجهد الّذي تصرفه معهم من أجل أن تقنعهم بالحقِّ الّذي معك، هو جهدٌ ضائعٌ لا يؤدِّي إلى النّتيجة المطلوبة، فالقضيّة ليست قضيّة الدّلائل والبيِّنات الّتي تقدِّمها إليهم، كثرةً أو قلّةً، بل هي الباب المغلق الّذي يقفون خلفه ولا يريدون الخروج منه، فلو أنّك قدّمت لهم كلّ الآيات ما اتّبعوا قبلتك، {و ما أنْت بِتابِعٍ قِبْلتهُمْ} ؛ وذلك من خلال الحقِّ الّذي تؤمن به. ‏

‏ثمّ إنّ القضيّة لديهم ليست قضيّة العناد الّذي لا يلين للحقِّ معك، بل إنّ الموقف الّذي يحكم علاقة بعضهم ببعض يتّخذ الأسلوب نفسه؛ فإنّ اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، أمّا النّصارى فيستقبلون المشرق أينما كانوا، دون أن يتنازل أحدهم للآخر، {و ما بعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلة بعْضٍ} . ‏

‏وتنطلق الآية أخيرًا في مواجهة الموقف بأسلوب التّهديد لأيّة حالةٍ من حالات الاستسلام للضُّغوط المتنوِّعة الّتي يمكن أن يخضع لها المسلمون في مثل هذه المجالات. وتزداد المواجهة حدّةً وتأكيدًا بتوجيه الخطاب إلى النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، كأسلوبٍ من أساليب القرآن في الإيحاء للأُمّة بخطورة القضيّة؛ فإنّ القوم لا ينطلقون من موقفٍ فكريٍّ ‏

‏للحقِّ، بل يتحرّكون من خلال أهوائهم. فيأتي الخطاب: {و لئِنِ اِتّبعْت أهْواءهُمْ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ إِنّك إِذاً لمِن الظّالِمِين} ، الّذين يظلمون أنفسهم فيبتعدون بها عن الحقيقة الأصيلة الّتي انفتحوا عليها من خلال المعرفة العميقة الواسعة، ويظلمون العقل الّذي يمثِّل القاعدة لوجودهم الإنسانيِّ، والّذي يركِّز لهم كلّ خطواتهم في الحياة ويضعها على الدّرب المستقيم، ويظلمون مصيرهم الّذي يتحرّكون به إلى النّار بدلاً من الجنّة. فكيف يمكن لمن يملك وضوح الرُّؤية للموقف أن يستسلم لأهواء الآخرين؟! إنّ النتيجة ستكون استسلامًا لنوازع الظُّلم للذّات وللقضيّة وللأُمّة، ما يجعل المصير في اتِّجاه مصير الظّالمين. ‏

‏ معرفة أهل الكتاب للنّبيِّ ‏

‏ويؤكِّد القرآن من جديد أنّ أهل الكتاب لا يعيشون حالة جهلٍ للنّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ولرسالته؛ فقد عرّفتهم التّوراة صفاته جيِّدًا، فعرفوه في وضوحٍ من الرُّؤية كما عرفوا أبناءهم، ولكنّهم يكتمون الحقّ وهم يعلمونه؛ نتيجة عنادهم وتمرُّدهم وضلالهم. ‏

‏ويختم القرآن الموقف بأنّ الحقّ من الله، فلا مجال فيه للشّكِّ والرّيب والتّوقُّف أمام أيِّ موقفٍ من مواقف التّحدِّي الّذي يمارسه الباطل ضدّ الحقِّ. ‏

‏ثمّ يحدِّد القضيّة بشكلٍ حاسمٍ؛ فلكلِّ إنسانٍ وجهةٌ في حياته يصرف وجهه إليها ويتّجه نحوها، فأهل الباطل يتّجهون إلى رموز الباطل وعلاماته، وأهل الحقِّ يتّجهون إلى رموز الحقِّ وعلاماته، ولكلِّ واحدٍ منهم عملٌ، فأهل الخير يتحرّكون في اتِّجاه الخير ويتسابقون نحوه، وأهل الشّرِّ يتحرّكون في اتِّجاه الشّرِّ ويستبقون إليه. ‏

‏ثمّ يطرح القرآن النِّداء الحاسم للمؤمنين أن يستبقوا الخيرات في كلِّ موقفٍ وفي كلِّ منعطفٍ، ليعرفوها ويعيشوها فكرًا وشعورًا وعملاً، وستكون نهاية الجميع عند الله، فإنّ الله لا يفوته أحدٌ ولا يعجزه مطلوبٌ، مهما ابتعد ومهما نأى، فسيأتي به الله؛ لأنّه على كلِّ شي‏ءٍ قديرٌ. ‏

{الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب} وهم العلماء منهم، { يعْرِفُونهُ } أي: رسول الله في صدقه في نبوّته، {كما يعْرِفُون أبْناءهُمْ} في وضوح الرُّؤية وإشراقة اليقين؛ من خلال بشارة التّوراة والإنجيل به، وحديثهما عنه بأوصافه ودلائله الّتي تشير إليه. وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {الّذِين يتّبِعُون الرّسُول النّبِيّ الْأُمِّيّ الّذِي يجِدُونهُ مكْتُوباً عِنْدهُمْ فِي التّوْراةِ و الْإِنْجِيلِ يأْمُرُهُمْ بِالْمعْرُوفِ و ينْهاهُمْ عنِ الْمُنْكرِ و يُحِلُّ لهُمُ الطّيِّباتِ و يُحرِّمُ عليْهِمُ الْخبائِث و يضعُ عنْهُمْ إِصْرهُمْ‏‏ ‏‏و الْأغْلال الّتِي كانتْ عليْهِمْ فالّذِين آمنُوا بِهِ و عزّرُوهُ و نصرُوهُ و اِتّبعُوا النُّور الّذِي أُنْزِل معهُ أُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف: 157]، وقوله: {و إِذْ قال عِيسى اِبْنُ مرْيم يا بنِي إِسْرائِيل إِنِّي رسُولُ اللّهِ إِليْكُمْ مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و مُبشِّراً بِرسُولٍ يأْتِي مِنْ بعْدِي اِسْمُهُ أحْمدُ فلمّا جاءهُمْ بِالْبيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]. ‏

‏واحتمل بعضهم أن يكون الضّمير في: { يعْرِفُون } عائدًا إلى الكتاب‏‏28‏. ولكنّه غير ظاهرٍ؛ لأنّه لا مناسبة له في السِّياق العامِّ في موضوع الجدال الّذي يدور حول النّبيِّ والنُّبوّة أمام مفردات التّشكيك الّتي تُوجّه إليه، كما أنّ تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء قد يوحي بذلك؛ فإنّه يقال في الإنسان: إنّ فلانًا يعرفه كما يعرف ولده، ولا يُقال ذلك في الكتاب. ‏

{و إِنّ فرِيقاً مِنْهُمْ ليكْتُمُون الْحقّ} الّذي قامت الحجّة عليهم به بمعرفته اليقينيّة، {و هُمْ يعْلمُون} ؛ لأنّهم لا يملكون أساسًا لأيّة شبهةٍ في ذلك. ‏

{الْحقُّ مِنْ ربِّك} ، الّذي أنزله إليك وبيّنه لك في وضوح الوحي وإشراقته، {فلا تكُوننّ مِن الْمُمْترِين} : الشّاكِّين في أيِّ شأن من شؤونه. ‏

‏والظّاهر أنّ الخطاب - كما ذكرنا - موجّهٌ لرسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم {و الّذِي جاء بِالصِّدْقِ و صدّق بِهِ أُولئِك هُمُ الْمُتّقُون} [الزُّمر: 33]، وهو جارٍ على أسلوب خطاب الأُمّة من خلال خطاب الرّسول، ما يوحي بأنّ على الأُمّة أن لا تقع تحت تأثير عناصر الشّكِّ الّتي يحاول الكافرون من أعداء الإسلام إثارتها في وجدانهم الفكريِّ. ‏

{و لِكُلٍّ وِجْهةٌ هُو مُولِّيها} أي: أنّ لكلِّ قومٍ وجهةً يتّجهون إليها؛ من خلال القاعدة الفكريّة الإيمانيّة الّتي يرتكزون عليها في ما يأخذون به، أو يتركونه، أو ينطلقون به من مواقع ومواقف وعلاقات بالحياة وبالإنسان، بما في ذلك الأنبياء الّذين ينطلق كلُّ واحدٍ منهم بملّته ووجهته الّتي تختلف في خصوصيّاتها، فتتعدّد جهاتها، ولكنّها تلتقي في الإسلام الّذي يجمع الرِّسالات كلّها عند الانقياد لله في كلِّ شي‏ء. ‏

‏وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يتحرّكوا فيه في انفتاحهم على الكعبة الّتي أراد الله لهم أن يتوجّهوا إليها، بعيدًا عن كلِّ عناصر الشّكِّ الّتي يثيرها اليهود والمنافقون في عمليّة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ليعرفوا أنّه ليس من الضّروريِّ أن يتّبعوا القبلة الّتي شرّعها الأنبياء من قبلهم؛ لأنّه من الممكن أن يختلف اتِّجاه القبلة بين رسالةٍ وأخرى، وبين نبيٍّ وآخر. ‏

{فاسْتبِقُوا الْخيْراتِ} . فهذا هو الوجه الّذي أراد الله لكم أن تستقبلوه في كلِّ مواقع حياتكم، في رسالتكم الّتي حمّلكم الله إيّاها من خلال رسوله، بالمسارعة إلى الخيرات الّتي تمثِّل حركة الحياة في إيجابيّاتها الرُّوحيّة والأخلاقيّة، في الإنسان بعلاقته بالإنسان الآخر، وبالكون من حوله، عندما يقدِّم من عقله وقلبه وروحه وجهده الكثير من الأفكار والمشاعر والعواطف والأعمال الّتي تفتح آفاقه على عوالم جديدة، كما توجِّه خطواته إلى دروبٍ جديدة، وترتفع بحياته إلى الدّرجات العليا على مستوى تطوير طاقاته وتنميتها وتحويلها إلى عناصر حيّة في كلِّ اتِّجاهٍ من اتِّجاهات الحركة في الحياة. ‏

‏إنّها الخيرات، العنوان الكبير لاستقامة الحياة على الخطِّ الصّالح الّذي يربط بين الله والإنسان والحياة، في دائرة المسؤوليّات العامّة الّتي يريدها الله للحياة من خلال الإنسان، لتكون على الصُّورة الّتي أراد لها أن تتمثّل فيها على أساس الحقِّ الّذي أقام عليه الكون كلّه. وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يتنافسوا فيه ويلتقوا عليه، ليواجهوا مسؤوليّتهم أمام الله غدًا، فيحاسبهم على ما قدّموه من الخيرات الّتي أمرهم الله بالسّعي إليها والعمل بها، عندما يقوم النّاس لربِّ العالمين. ‏

{أيْن ما تكُونُوا} ، في أيِّ مكانٍ وموقع، {يأْتِ بِكُمُ اللّهُ جمِيعاً} ؛ حيث يبعثكم كما خلقكم، وأماتكم، {إِنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} ، فلا شي‏ء خارج قدرة الله تعالى، وليس البعث بأصعب من الخلق، وليس الجمع بأصعب من التّفريق. ‏

‏ لا مجال للتّراجع ‏

‏وتعود الآيات مع التّشريع الجديد في خطابٍ حاسمٍ للنّبيِّ، لتؤكِّد له أنّه الحقُّ من ربِّه، فلا مجال للتّراجع عنه مهما حشد اليهود من ضغوط، ومهما اتّبعوا من أساليب التّضليل؛ فإنّ الله لا يغفل عمّا يعمله عباده إزاء تكاليفه من طاعةٍ أو معصيةٍ. ويعود الخطاب من جديدٍ للنّبيِّ أوّلاً وللمسلمين ثانيًا بالقوّة الآمرة نفسها، وبتعليلٍ جديدٍ؛ فإنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية تتحدّث عن تعاليم واردةٍ في الكتب الدِّينيّة السّابقة الّتي تذكر أنّ النّبيّ سيصلِّي إلى الكعبة، ما يجعل من الانحراف عن ذلك حجّةً للآخرين على المسلمين؛ لأنّه يكشف أنّهم ليسوا الأُمّة الموعودة في الكتب السّماويّة. ‏

‏ثمّ استثنى من هؤلاء النّاس الظّالمين، الّذين لا يريدون أن يستسلموا للحقِّ الّذي يعرفونه في كتبهم، بل يسيرون في طريق العناد والظُّلم للحقيقة وللمؤمنين، فلا تخشوهم أيُّها المؤمنون؛ لأنّهم لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة ولا يملكون أن يضرُّوكم شيئًا، بل اجعلوا خشيتكم من الله الّذي يملك لكم كلّ شي‏ءٍ. ‏

‏وتلتقي الآية بالنِّعمة الّتي يريد الله أن يُتمّها على المسلمين، من جهة إكمال التّشريع الّذي يبني لهم حياتهم على أساسٍ من الاستقرار والطُّمأنينة والسّعادة الرُّوحيّة والمادِّيّة. وفي هذا دلالةٌ على أنّ تدرُّج التّشريع وتطوُّره يعتبر تدرُّجًا بالنِّعمة، فكأنّ الله لا يريد أن يعطي النِّعمة دفعةً واحدةً، بل يريد أن يجعل من كلِّ نعمةٍ ينزلها على الإنسان في تشريعه إعدادًا لنعمةٍ جديدةٍ، في الطّريق الأرحب نحو التّكامل. ‏

{و مِنْ حيْثُ خرجْت} ، من أيِّ موقعٍ من البلدان الّتي تبتعد بك عن المسجد الحرام أو عن مكّة، {فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، في صلاتك وفي كلِّ عملٍ مشروطٍ باستقبال القبلة. {و إِنّهُ للْحقُّ مِنْ ربِّك} ، فهو القبلة الّتي شرّعها الله، وجعلها القاعدة الّتي تتوحّدون فيها، وتتوجّهون إليها، في موقعٍ من مواقع الإلزام الشّرعيِّ الّذي لا مجال للانحراف عنه تحت تأثير أيّة حالةٍ ذاتيّةٍ أو أيِّ ضغطٍ خارجيٍّ، {و ما اللّهُ بِغافِلٍ عمّا تعْملُون} ، فلا تغفلوا عن الحقيقة الإيمانيّة في مراقبة الله لكم في كلِّ الأمور. ‏

{و مِنْ حيْثُ خرجْت فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، فهذا هو التّشريع المؤكّد الّذي يزداد تأكيدًا على مستوى الفريضة اليوميّة الّتي يجب عليكم أن تنفتحوا عليها في وعي الفكرة، وتلتزموا بها في وعي العمل، لتتحوّل لديكم إلى عادةٍ جديدةٍ تنسخ العادة السّابقة، لتشعروا بأنّ التّشريع الجديد قد تحوّل إلى واقعٍ جديدٍ. وتلك هي مهمّة التّشريع في حياة المسلمين، بأن يتحوّل إلى حالةٍ تغييريّةٍ في حياة الأُمّة، لتكون في حجم العادة التّاريخيّة المتجذِّرة في وجودها العمليِّ، لا مجرّد حالةٍ طارئةٍ في الواقع، ليلتقي الخطُّ في فريضة النّبيِّ الّذي لا بُدّ من أن يكون أوّل مسلمٍ في وعي التّشريع وحركته، وفي فريضة الأُمّة. {و حيْثُ ما كُنْتُمْ فولُّوا وُجُوهكُمْ شطْرهُ} ، في صلاتكم وعباداتكم الأخرى المشروطة بالتّوجه إلى القبلة، وعليكم أن تتابعوا ذلك وتلتزموه دائمًا. ‏

{لِئلاّ يكُون لِلنّاسِ عليْكُمْ حُجّةٌ} ، من خلال التّاريخ الّذي كان يتحدّث به اليهود - كما حُكي - أنّ النّبيّ الموعود يصلِّي إلى قبلتين، أو ما كان يتحدّث به المشركون -كما قيل - ويتساءلون كيف ترك محمّدٌ الكعبة وهو المؤهّل - كما يقول - لإحياء ملّة إبراهيم الّتي سار عليها‏29‏ ؟ فإذا التزمتم بالكعبة قبلةً أبطلتم حجّة هؤلاء المضادّة، ممّن ينفتح على الحوار ويقف أمام الحجّة. ‏

{إِلاّ الّذِين ظلمُوا مِنْهُمْ} ، ممّن يعيش في مواقفه المضادّة على أساس العناد الّذي لا ينطلق من حجّةٍ أو برهانٍ، بل من ذهنيّة العدوان الذّاتيِّ، من خلال العقدة المستحكمة في نفسه ضدّ الحقِّ وأهله. فليست المشكلة عند هؤلاء نوعيّة الاتِّجاه إلى بيت المقدس أو الكعبة، بل المشكلة هي التزامكم بالدّعوة الجديدة والدِّين الجديد الّذي يلغي امتيازاتهم النّاشئة من الفكر الباطل والخطِّ المنحرف، فهم الظّالمون في مواقفهم وفي كلِّ اتِّجاهاتهم الفكريّة والعمليّة، {فلا تخْشوْهُمْ} ؛ لأنّهم لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا، {و اِخْشوْنِي} ؛ لأنِّي ربُّكم الّذي يملك وجودكم ومصيركم كلّه، ما يفرض عليكم الالتزام بالدِّين الّذي أنزلتُه والرّسول الّذي أرسلتُه. ‏

{و لِأُتِمّ نِعْمتِي عليْكُمْ} ، في استقامة التّشريع على الخطِّ الّذي تتكامل فيه قضاياكم ومواقفكم وخطواتكم في الحياة؛ باعتبار أنّ الله يريد للنّاس أن يتابعوا نعمه في تشريعاته، كما يتابعونها في أوضاعهم العامّة والخاصّة. {و لعلّكُمْ تهْتدُون} ، بما يوفِّره الله لكم من وسائل الهداية في امتحانه لكم، واختباره لثباتكم على الإيمان، وذلك إذا أخذتم بأسباب الهدى في ما يشرِّعه الله لكم من أحكامه ويوضحه لكم من مفاهيمه. ‏

‏ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم النِّعمة الإلهيّة التّامّة ‏

‏ثمّ يعطي للمسلمين الصُّورة الكاملة المتجسِّدة للنِّعمة التّامّة الشّاملة في هذا الرّسول العظيم، الّذي جاء من أجل أن يرفع مستوى الإنسانيّة في ما يتلوه من آيات الله، ويزكِّي ضمائر النّاس وحياتهم، ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، وما لم يعلموه من حقائق الحياة في الدُّنيا والآخرة. وينتهي الفصل بأمرهم بأن يذكروا الله في وجدانهم، وفي ألسنتهم، وفي وعيهم لمسؤوليّتهم أمامه في الحياة؛ ليذكِّرهم بنعمه وعفوه وغفرانه. ودعاهم إلى أن يشكروا نعمته عليهم، ولا يكفروا بها ويجحدوها؛ لئلاّ يعاقبهم الله بإزالتها عنهم. ‏

{كما أرْسلْنا فِيكُمْ رسُولاً مِنْكُمْ} . فهذه هي النِّعمة الكبرى الّتي تتفرّع عنها كلُّ النِّعم الصّغيرة في تفاصيل التّشريع؛ لأنّه يفتح لكم الأُفُق الكبير الّذي يطلُّ بكم على كلِّ جمالات الحقِّ وروائع الإيمان، {يتْلُوا عليْكُمْ آياتِنا} الّتي توحي إليكم بكلِّ الحقيقة الصّافية، وترتفع بكم إلى الدّرجات العليا من المعرفة، وتمهِّد لكم سبل الحياة القويمة، وتعرِّفكم ما يصلح أمركم أو يفسده، وتقرِّبكم إلى الله وإلى الخطِّ المستقيم للسّعادة في الدُّنيا والآخرة. ‏

{و يُزكِّيكُمْ} وينمِّي أرواحكم بالخير، ويربِّي نفوسكم على الطُّهر والنّقاء، ويبتعد بكم عن كلِّ الرّذائل والنّقائص الأخلاقيّة. {و يُعلِّمُكُمُ الْكِتاب} ، الّذي أنزله الله على رسوله ليكون المنهج الّذي تأخذون به في كلِّ خطواتكم في الحياة، {و الْحِكْمة} الّتي تعرِّفكم كيف تركِّزون أقدامكم على الصِّراط المستقيم وتضعون كلّ شي‏ءٍ في موضعه، فلا تخطئون في موقع، ولا تنحرفون في طريق، {و يُعلِّمُكُمْ ما لمْ تكُونُوا تعْلمُون} ، من فنون المعرفة في عالم الغيب والشّهادة، ما لم يسبق لكم معرفته في تجاربكم الماضية. ‏

{فاذْكُرُونِي} في كلِّ ما يفتح عقولكم وقلوبكم على معنى الألوهيّة والرُّبوبيّة في ذات الله، ليدفعكم ذلك إلى الوعي العميق للحضور الشّامل لله في كلِّ حياتكم العقليّة في معنى الفكر، وفي حياتكم العمليّة في خطِّ الواقع، لتذكروا كلّ صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، ونعمه الوافرة، وآياته الكثيرة ولتتحرّكوا في اتِّجاهه في كلِّ موقعٍ وموقفٍ، فهو الذِّكر الّذي يخرجكم من الغفلة، ويفتح لكم أبواب المعرفة، لتعيشوا معه في عالم الشُّهود من خلال الوعي الرُّوحيِّ المنطلق من عالم الغيب، وهو الذِّكر الّذي يجعل الإنسان قريبًا إلى الله بروحه وجسده، ليكون الله معه في كلِّ حال، وليراه مع كلِّ شي‏ءٍ وخلف كلِّ شي‏ءٍ. { أذْكُرْكُمْ } بالرّحمة والنِّعمة والمغفرة والرِّضوان، ما يجعلكم تحت رعايتي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ. ‏

{و اُشْكُرُوا لِي} نعمتي الّتي أنعمت عليكم، بالكلمة والفعل والموقف، ليكون الشُّكر باللِّسان في الكلمة المعبِّرة، وبالفعل في الطّاعة لله وامتثال أوامره ونواهيه، وبالموقف في موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وإعزاز الحقِّ وإذلال الباطل، وفي غير ذلك ممّا يكون موقعًا لرضوان الله. {و لا تكْفُرُونِ} ، ولا تجحدوا النِّعمة بأساليب التّمرُّد والطُّغيان والمعصية؛ فإنّ ذلك يعرِّضكم للغضب الإلهيِّ والعذاب الشّديد، بينما يؤهِّلكم الشُّكر للزِّيادة في أعماركم وأرزاقكم وكلِّ أوضاعكم المتّصلة بكلِّ شؤونكم في الحياة. ‏

‏ الذِّكر والشُّكر بين الكلمة والموقف ‏

‏وقد جاءت الأحاديث المأثورة، إلى جانب المدلول الحيِّ للآية في الموقف القويِّ أمام الكافرين والمنافقين من خلال الموقف الخاضع لله، لتُخرج الذِّكر لله والشُّكر له من مدلوله اللّفظيِّ إلى موقفٍ عمليٍّ، يتمثّل فيه ذكره بالانضباط العمليِّ في حالات الاهتزاز النّفسيِّ الّتي يتعرّض فيها الإنسان لضغوط الانحراف الرُّوحيّة والعمليّة، فيكون الشُّعور العميق بحضور الله في نفسه، من خلال الإحساس بحضوره المهيمن على الكون كلِّه، دافعًا للإنسان إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، ومانعًا له عن الانسياق وراء تيّارات الضّلال والانحراف. وهذا ما عبّر عنه الحديث المرويُّ في (عدّة الدّاعي) عن رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه «خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذِّكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله تعالى يُنزل العبد حيث أنزل العبدُ الله من نفسه، واعلموا أنّ خير أعمالكم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشّمس ذكرُ الله سبحانه؛ فإنّه أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال سبحانه: {فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ} بنعمتي، واذكروني بالطّاعة والعبادة أذكركم بالنِّعم والإحسان والرّحمة والرِّضوان»‏30‏ . ‏

‏وعن الحسن البزّاز قال: «قال لي أبو عبدالله [جعفر الصّادق‏] عليه السلام : ألا أخبرك بأشدِّ ما فرض الله على خلقه؛ ثلاث؟ قلت: بلى، قال: إنصاف النّاس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر الله في كلِّ موطن، أما إنِّي لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلِّ موطنٍ إذا هجمت على طاعةٍ أو على معصية»‏31‏ . ‏

‏وليس معنى التّأكيد للجانب العمليِّ للذِّكر هو التّهوين من الجانب الآخر الّذي يتمثّل في الذِّكر باللِّسان، في كلمات التّسبيح والتّحميد والتّهليل والاستغفار، بل قد يكون هذا مقدِّمةً لذاك؛ لأنّ الاستمرار في ذكر آلاء الله ونعمائه وعظمته باللِّسان يخلق لدى الإنسان حالةً رائعةً منفتحةً على الله، حتّى ليحسّ به في كلِّ شؤون حياته، ما يؤدِّي به إلى الإحساس بضرورة طاعته في كلِّ شي‏ءٍ. ‏

‏وفي ضوء ذلك كلِّه، نفهم أنّ المقابلة بين ذكر الله لعبده، وبين ذكر العبد لله، تعطينا الفكرة الإسلاميّة الّتي توحي للعبد بأنّ استحقاقه لرعاية الله له بنعمه وألطافه، مشروطٌ بانضباطه العمليِّ أمام أوامره ونواهيه، كما هي الحال في ميثاق الله لعباده، وعهد العباد أمام ربِّهم في قوله تعالى: {يا بنِي إِسْرائِيل اُذْكُرُوا نِعْمتِي الّتِي أنْعمْتُ عليْكُمْ و أوْفُوا بِعهْدِي أُوفِ بِعهْدِكُمْ و إِيّاي فارْهبُونِ} [البقرة: 40]. ‏

‏وإنّنا نشعر في هذا التّأكيد على ذكر الله في الكلمة والموقف، بأنّ حركة الإيمان في داخل نفس المؤمن وحياته تحتاج إلى الارتباط العميق بالله، ليكون للإيمان أصالته في نفسه، فتتركّز القاعدة على أساسه، وتنطلق الأعماق من خلاله بعفويّةٍ وبساطةٍ ووعي. ‏

‏وقد نحتاج، في سبيل الوصول إلى هذا الهدف، إلى الإفساح في المجال للأساليب التّربويّة الّتي تريد صنع الشّخصيّة الإسلاميّة لدى الأطفال والشّباب والشُّيوخ، لنؤكِّد ذكر الله من خلال الكلمة في إطارٍ من الوعي لمعانيها، وذكره من خلال الموقف في تدريب الإنسان المسلم على أن يمارس التّجارب اليوميّة لأوضاع حياته في هذا الجوِّ المنفتح على ذكر الله، وذلك بإعطاء الدُّروس الفكريّة والعمليّة من خلال موجِّهين واعين يعرفون كيف يحرِّكون الكلمة في اتِّجاه الموقف، ويدفعون الموقف نحو الإحساس بالله. ‏

‏أمّا الشُّكر، فهو الدّعوة الثّانية الّتي يختم بها الله هذه الآيات، ليوجِّه النّاس إلى أن يشكروه ولا يكفروا به، وليست الدّعوة لكلمة الشُّكر، بل هي دعوةٌ إلى موقف الشُّكر، وذلك بأن يقوم بالطّاعة ويجتنب المعصية، ويعبد الله كما ينبغي له. وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عن رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام ، قال: «كان رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول‏الله لِم تُتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبدًا شكورًا؟ قال: وكان رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه: {طه*`ما أنْزلْنا عليْك الْقُرْآن لِتشْقى‏} [طه: 1 - 2]»‏32‏ . ‏

‏وقد رُوي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام أنّه قال: «شكر النِّعمة اجتناب المحارم، وتمام الشُّكر قول الرّجل: الحمد لله ربِّ العالمين»‏33‏ . ورُوي عنه، في ما رواه أبو بصير، قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام : هل للشُّكر حدٌّ إذا فعله العبد كان شاكرًا؟ قال: نعم، قلت: ما هو؟ قال: يحمد الله على كلِّ نعمةٍ عليه في أهل ومال، وإن كان في ما أنعم الله عليه في ماله حقٌّ أدّاه»‏34‏ . ‏

‏وهكذا يلتقي الشُّكر في الكلمة بالشُّكر في الممارسة، ليتأكّد الأسلوب الإسلاميُّ التّربويُّ الّذي لا يحوِّل العلاقة بالله إلى كلماتٍ تقليديّةٍ ربّما ينتهي الأمر فيها إلى الجمود، بل يبعث فيها الرُّوح الّذي يجعل منها تجسيدًا حيًّا للمبادئ الرُّوحيّة في خطوات الإنسان العمليّة في كلماته وأفعاله. ‏

‏ شكر الإنسان شكرٌ للّه ‏

‏وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أنّ شكر الله يمتدُّ حتّى يتمثّل في شكر الإنسان للنّاس على ما قدّموه له من خدماتٍ في حياته الخاصّة والعامّة، حتّى أنّ الإنسان الّذي لا يشكر النّاس لا يشكر الله؛ فقد جاء في الحديث عن الإمام عليِّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنّه قال: «إنّ الله يحبُّ كلّ قلبٍ حزين، ويحبُّ كلّ عبدٍ شكور. يقول الله تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانًا؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشْكرُكُمْ لله أشْكرُكُم للنّاس»‏35‏ . ‏

‏ولعلّ من المعروف لدينا أنّ هذا الاتِّجاه التّربويّ في اعتبار شكر الإنسان على عمله شكرًا لله، يتحرّك في الخطِّ الإسلاميِّ الّذي يدعو النّاس إلى تشجيع المحسنين على إحسانهم؛ لأنّ من طبيعة الإنسان العامل في الخير أنّه يحبُّ أن يجد صدى عمله في مواقف الآخرين منه، وإن لم يكن ذلك عن عقدةٍ ذاتيّةٍ، فإذا لم يحصلوا على ذلك، بل وجدوا إهمالاً وجحودًا، كان هذا موجبًا لتثبيطهم عن السّير بعيدًا في هذا الاتِّجاه، وقد ورد في وصيّة الإمام عليٍّ عليه السلام لمالك الأشتر: «ولا يكوننّ المحسنُ والمسي‏ء عندك بمنزلةٍ سواء؛ فإنّ في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان»‏36‏ . ‏

‏ولا يتنافى ذلك مع الرُّوح الإسلاميّة الّتي تدعو الإنسان إلى أن يعتبر الله هو السّبب الأعمق في الأشياء، فلا يملك العبد من أمره إلاّ ما ملّكه؛ لأنّ الله يريد - في الوقت نفسه - أن لا يغفل الإنسان دور الواسطة الّتي جعلها الله أداة لإيصال نعمه إليه، ولهذا أمر الإنسان بأن يشكر والديه كما يشكر ربّه في قوله تعالى: {و وصّيْنا الْإِنْسان بِوالِديْهِ حملتْهُ أُمُّهُ وهْناً على‏ وهْنٍ و فِصالُهُ فِي عاميْنِ أنِ اُشْكُرْ لِي و لِوالِديْك إِليّ الْمصِيرُ} [لقمان: 14]. ‏

‏وقد يكون من أسباب التّركيز على هذا الجانب، أنّ الإنسان عادةً يحسُّ بتأثير الأشياء المحسوسة لديه أو القريبة من إحساسه، فإذا لم يتأثّر أو ينفعل بالخدمات المباشرة المحسوسة لديه ممّن يعيش معهم، فإنّ ذلك يكشف عن فقدان حسِّ الشُّكر لديه، الأمر الّذي يؤدِّي إلى أن يفقد روح الشُّكر لله سبحانه في نهاية المطاف. ‏

‏ ‏‏تلخيصٌ وتأمُّلٌ ‏

‏وفي ختام هذا الفصل، نقف عدّة وقفات لنتأمّل الأفكار الأساسيّة فيه في عدّة نقاط: ‏

‏ 1 - إنّ أعداء الله في بداية الدّعوة كانوا يحاولون إثارة كلِّ نقاط الضّعف لدى المسلمين، من أجل أن يدفعوهم نحو الانحراف عن الإسلام. ‏

‏ 2 - إنّ الإسلام - في القرآن الكريم - قد واجه القضيّة المثارة أمام التّشريع الجديد مواجهةً حاسمةً، في ما حشده من الأساليب المتنوِّعة الّتي تكشف الخلفيّات الذّاتيّة والفكريّة المنحرفة الكامنة وراء ذلك كلِّه. ‏

‏ 3 - إنّ الفصل بأكمله وحدةٌ متكاملةٌ، نجد فيها القرآن يتحرّك في اتِّجاه تشويه صورة أعداء الله من جهةٍ، وتحليل طبيعة التّشريع من جهةٍ، ثمّ يدفع بالأُمّة إلى الواجهة، ليوحي لها بموقعها من بقيّة الأُمم، ومنهم اليهود، الّذين يستدعي منهم التّحرُّك من موقع الفعل لا الانفعال، من خلال ما كانوا يعلمونه من الحقِّ... وتتحرّك من جديد لتفلسف التّشريع ولتربطه بالجانب التّربويِّ للأُمّة وبالتّطلُّعات الرُّوحيّة للنّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم . وتتنوّع الأساليب الّتي تكشف للنّبيِّ الصُّورة الحقيقيّة للموقف اليهوديِّ بالمستوى الّذي لا يبقى معه مجالٌ للتّجربة. ويظلُّ الفصل مشدودًا للتّشريع في عمليّة إصرارٍ وتأكيدٍ، ليظلّ المسلمون معه بعيدًا عن كلِّ اهتزازٍ وارتباك. ‏

‏4 - إنّ المسيرة الإسلاميّة المعاصرة تلتقي بكثيرٍ من الأساليب المماثلة الّتي يثيرها خصوم الإسلام وأعداؤه ضدّ التّشريعات الإسلاميّة في بعض الحالات، وضدّ الأساليب العمليّة المتنوِّعة المتغيِّرة للعاملين في سبيل الله، حسب حاجة العمل إلى التّغيير والتّبديل، ما يشابه كثيرًا من هذه الأجواء الّتي كان يثيرها اليهود أمام النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم . ‏

‏ 5 - إنّ علينا التّوفُّر على دراسة هذا الفصل كنموذجٍ للأساليب الإسلاميّة العمليّة في مواجهة حالات التّشكيك والتّضليل والإثارة، واعتباره أسلوبًا رائدًا في هذا المجال، من خلال التّأكيد على ملاحظة الطّبيعة المشابهة للظُّروف الموضوعيّة هنا وهناك، بالمقارنة مع الظُّروف المختلفة في كلتا الحالتين. ‏

‏ 6 - إنّ دراستنا لأسلوب المعالجة للحالة الصّعبة الّتي عاشها المسلمون أمام هذا التّحدِّي الكبير، تؤدِّي بنا إلى التّركيز على حيويّة الأسلوب الإسلاميِّ للعمل ومرونته الحركيّة، فلا يقف أمام عنصرٍ واحدٍ من عناصر المواجهة، ولا يتجمّد عند حالةٍ عاطفيّةٍ أو عقلانيّةٍ واحدةٍ، بل يحاول أن ينتقل من جوٍّ إلى جوٍّ ومن عنصرٍ إلى عنصرٍ، لتتكامل كلُّ العناصر، وتتجمّع كلُّ الأجواء الّتي تساعد على حلِّ المشكلة ومواجهة التّحدِّي. ‏

‏وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نقرِّر خطأ الفكرة الّتي تعمل على إخضاع أسلوب الدّعوة أو أسلوب المواجهة للقواعد الفنِّيّة الموضوعة للأسلوب، من وحدة الموضوع ووحدة الجوِّ، وما إلى ذلك ممّا قد يتّفق مع الموضوعات الّتي تريد أن تعالج فكرةً واحدةً أو موضوعًا محدّدًا، ولكنّه لا يتّفق مع القضايا الّتي يُراد من خلالها التّأثير على الحالة الدّاخليّة المعقّدة للإنسان وعلى الأجواء الخارجيّة المحيطة به؛ فإنّ مسألة التّعامل مع الإنسان تختلف عن التّعامل مع الفكرة المجرّدة؛ لأنّ الإنسان كائنٌ متغيِّرٌ متنوِّعٌ في عواطفه وتأثُّراته، ما يقتضي منّا التّحرُّك معه في كلِّ الاتِّجاهات الّتي يمكن أن تهبّ منها الرِّيح، أو تتأثّر بها الأجواء. ‏

‏ 7 - إنّ الطّابع العامّ لكلِّ هذا الفصل هو التّذكير الدّائم بموقع الإنسان في كلِّ أعماله وأقواله من الله، في ثوابه وعقابه، ما يعطي الموقف جوًّا روحيًّا يتحرّك فيه الإنسان في مواجهة الحالة من موقع المسؤوليّة الإيمانيّة، لا من موقع التّفكير المجرّد الّذي يخاطب فيه الإنسان الحالة كقضيّةٍ موضوعيّةٍ مجرّدةٍ لا مجال فيها إلاّ للحسابات الفكريّة الجافّة. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏ابن عربي، تفسير ابن عربي، م. س، ج 1، ص 77.‏

‏2.‏‏الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 10.‏

‏3.‏‏الفراهيدي، أبو عبد الرّحمن الخليل بن أحمد (ت 175 هـ-)، كتاب العين، ط 2، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السّامرائي، مؤسسة دار الهجرة، 1401 هـ-، ج 7، ص 279.‏

‏4.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 416. ‏

‏5.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 322.‏

‏6.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 421.‏

‏7.‏‏الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 319.‏

‏8.‏‏الفراهيدي، العين، م. س، ج 6، ص 233.‏

‏9.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 467. ‏

‏10.‏‏الفراهيدي، م. ن، ج 8، ص 294.‏

‏11.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 108.‏

‏12.‏‏أبو هلال العسكري، الفروق اللُّغوية، م. س، 217 - 218.‏

‏13.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 213.‏

‏14.‏‏م. ن، ص 127. ‏

‏15.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 432.‏

‏16.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 179.‏

‏17.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 416.‏

‏18.‏‏رشيد رضا، المنار، م. س، ج 2، ص 4 - 5.‏

‏19.‏‏غمط الحقّ: جحده.‏

‏20.‏‏المغيّا: الموضوع له الغاية.‏

‏21.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 320.‏

‏22.‏‏الفراهيدي، العين، م. س، ج 7، ص 279.‏

‏23.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 323.‏

‏24.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 418.‏

‏25.‏‏الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 318.‏

‏26.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 414 - 415. والرِّواية موجودةٌ في: علي بن إبراهيم، تفسير القمِّي، م. س، ج 1، ص 63، لكن مع تقديمٍ وتأخيرٍ في عباراتها.‏

‏27.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 423.‏

‏28.‏‏انظر: السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 326؛ إذ ردّ عليه من دون أن يحكيه عن أحدٍ بعينه، ولم نجد قائلاً به، فلعلّه دفع توهمٍ منه رحمه الله .‏

‏29.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 431. وانظر: الشّيخ الشِّيرازي، الأمثل، م. س، ج 1، ص 426.‏

‏30.‏‏ابن فهد الحلِّي، أبو العبّاس أحمد بن محمد (ت 841 هـ-)، عدّة الدّاعي ونجاح السّاعي، مكتبة وجداني، قم - إيران، (د ت)، ص 238.‏‎ ‎

‏31.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 145، ح 8.‏

‏32.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 95، ح 6.‏

‏33.‏‏م. ن، ح 10.‏

‏34.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 95 - 96، ح 12.‏‎P‎‏ ‏

‏35.‏‏م. ن، ص 99، ح 30.‏

‏36.‏‏نهج البلاغة، م. س، ص 138، الكتاب 53.‏

‏ ‏

‏ ‏

‏معاني المفردات ‏

{ السُّفهاءُ } : النّاقصو العقول، الحمقى الّذين يفتقدون الميزان الصّحيح في النّظرة إلى الأمور والأحداث، وقال ابن عربي في التّفسير المنسوب إليه: «سمّاهم سفهاء خفاف العقول؛ لعدم وفاء عقولهم بإدراك حقيقة دين الإسلام»‏1‏ . ‏

{ ولاّهُمْ } : ولاّه عنه: صرفه وفتله. وولّي عنه خلاف ولّي إليه، مثل قولك: عدل عنه وعدل إليه، وانصرف عنه وانصرف إليه. فإذا كان الّذي يليه متوجِّهًا إليه فهو متولٍّ إليه، وإذا كان متوجِّهًا إلى خلاف جهته فهو متولٍّ عنه. ‏

{ وسطاً } : الوسط: السّواء والعدل والنّصفة، لأنّ الوسط عدلٌ بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض. وقيل: الخيار‏2‏ . قال صاحب (العين): «الوسط من النّاس، وكلِّ شي‏ءٍ: أعدله وأفضله»‏3‏ . فكون الأُمّة وسطًا - بناءً على هذا - لما تملكه من موقعٍ أصيلٍ يجعلها مرجعًا وميزانًا يؤهِّلها لممارسة دور الشّهادة والقيادة. وقيل في صفة النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم : «كان من أوسط قومه، أي: من خيارهم»‏4‏. ‏

{ شُهداء } : من الشّهادة الّتي هي الحضور مع المشاهدة، إمّا بالبصر أو بالبصيرة. والشُّهداء إمّا من شهادة الأعمال أو من الحجّة والبيِّنة. قال العلاّمة الطّباطبائيُّ في (الميزان): «معنى الشّهادة غايةٌ متفرِّعةٌ في الآية على جعل الأُمّة وسطًا، فلا محالة تكون الوسطيّة معنًى يستتبع الشّهادة والشُّهداء»‏5‏ . ‏

{ الْقِبْلة } : مأخوذةٌ من الاستقبال، وهي كلُّ جهةٍ يستقبلها الإنسان فيقابل غيره عليها، ثمّ صارت علمًا على الجهة الّتي تُستقبل في الصّلاة. ‏

{ عقِبيْهِ } : العقب: مؤخّر القدم. والانقلاب على العقبين كنايةٌ عن الإعراض؛ فإنّ الإنسان - وهو منتصبٌ على عقبيه - إذا انقلب من جهةٍ إلى جهةٍ انقلب على عقبيه، وقد استُعير - هنا - لمن يكفر بالله ورسوله؛ لأنّ المنقلب على عقبيه يترك ما بين يديه ويُدْبِرُ عنه؛ وحيث إنّ تارك الإيمان هو بمنزلة المُدْبِر عمّا بين يديه، وُصف بذلك. ‏

{ لكبِيرةً } : ثقيلةً وشاقةً. قال الرّاغب: «تُستعمل الكبيرةُ في ما يشُقُّ ويصعُب»‏6‏. ‏

{ لرؤُفٌ } : لشديد الرّحمة، والرّأفة: أشدُّ الرّحمة. رأف به: أشفق عليه من مكروهٍ يحلُّ به. ‏

{ تقلُّب } : التّحرُّك في الجهات. قال الزّمخشريُّ: « {تقلُّب وجْهِك} تردُّد وجهك وتصرُّف نظرك في جهة السّماء»‏7‏ . ‏

{فلنُولِّينّك قِبْلةً} أي: صيّرناك تستقبلها بوجهك. ‏

{ شطْر } : جهة، ونحو، وشطر المسجد الحرام يعني: نحوه وتلقاءه. قال صاحب (العين): «شطر كلِّ شي‏ءٍ: قصده، وشطر كلِّ شي‏ءٍ: نصفه»‏8‏ . ‏

{الْمُمْترِين} : الشّاكِّين المتردِّدين. قال الرّاغب: «المِرية: التّردُّد في الأمر وهو أخصُّ من الشّكِّ... والامتراء والمماراة: المحاجّة في ما فيه مِرية... وأصله من مريت النّاقة: إذا مسحت ضرعها للحلب»‏9‏ . قال صاحب (العين): «المري، بالتّخفيف: مسحك ضرع النّاقة تمريها بيدك لحين تسكن للحلب»‏10‏ . ‏

{ حُجّةٌ } : الحجّة: الدّلالة المبيِّنة للمحجّة، أي: المقصد المستقيم؛ { قُلْ فلِلّهِ‏‏ ‏‏الْحُجّةُ الْبالِغةُ فلوْ شاء لهداكُمْ أجْمعِين} [الأنعام: 149]. قال الرّاغب: «يجوز أنّه سمّى ما يحتجُّون به حجّةً»‏11‏ . ولهذا فقد يُراد من الحجّة البيِّنة الواضحة أو ما يُحتجُّ به ولو كان غير مبين، أو المحاجّة والمنازعة. ‏

{ تخْشوْهُمْ } : الخشية: خوفٌ يشوبه تعظيم. وقيل في الفرق بين الخوف والخشية، «أنّ الخوف يتعلّق بالمكروه وبترك المكروه... والخشية تتعلّق بمُنزل المكروه، ولا يُسمّى الخوف من نفس المكروه خشيةً، ولهذا قال: {و يخْشوْن ربّهُمْ و يخافُون سُوء الْحِسابِ} [الرّعد: 21]»‏12‏ . ‏

{و يُزكِّيهِمْ} : ينمِّيكم ويطهِّركم، قال الرّاغب: «أصل الزّكاة: النُّموُّ الحاصل عن بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدُّنيويّة والأخرويّة. يقال: زكا الزّرع يزكو: إذا حصل منه نموٌّ وبركةٌ»‏13‏ ، ولهذا تشمل التّزكية إزالة العقائد الفاسدة كالشِّرك والكفر، والملكات الرّذيلة كالكِبْرِ والشُّحِّ، والأعمال الشّنيعة كالقتل والزِّنا وشرب الخمر. ‏

{و الْحِكْمة} : قال الرّاغب: «الحكمة: إصابة الحقِّ بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات. وهذا هو الّذي وُصف به لقمان في قوله عزّ وجلّ: {و لقدْ آتيْنا لُقْمان الْحِكْمة} [لقمان: 12]»‏14‏ . قال الطّبرسيُّ: «الحكمة هي العلم الّذي يمكن به الأفعال المستقيمة»‏15‏ . وربّما كانت الحكمة توحي بانسجام التّطبيق العمليِّ في حركة الإنسان مع النّظريّة الّتي تمثِّل الخطّ الفكريّ الّذي يؤمن به. ويلتقي هذا بتفسير الحكمة بأنّها وضع الشّي‏ء في موضعه. ‏

‏ ‏

{ أذْكُرْكُمْ } : قال الرّاغب: «الذِّكر ذكران: ذكرٌ بالقلب وذكرٌ باللِّسان، وكلُّ واحدٍ منهما ضربان: ذكرٌ عن نسيان، وذكرٌ لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ»‏16‏. فذكر الله للنّاس هو أن يذكرهم بتسديده وتوفيقه وعفوه وغفرانه بعدما يذكرونه في الألسن والقلوب والمواقف. ‏

{ و اُشْكُرُوا } : الشُّكر ثلاثة أضرب: شكر القلب، وهو تصوُّر النِّعمة، وشكر اللِّسان، وهو الثّناء على المنعم، وشكر سائر الجوارح، وهو مكافأة المنعِم بقدر استحقاقه. والشُّكر تصوُّر النِّعمة وإظهارها، ويضاده الكفر، وهو نسيان النِّعمة وسترها. ‏

‏ تغيير القبلة ومواجهة حملات التّشكيك ‏

‏في هذا الفصل، يريد الله سبحانه أن يربِّي المسلمين في المجتمع الجديد الّذي يعيشون فيه في المدينة، على مواجهة التّحدِّيات الآتية من الآخرين حول بعض التّشريعات الإسلاميّة الصّادرة من رسول‏‏ ‏‏‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بعض الأوضاع العامّة الّتي كانت تواجه المسلمين آنذاك، وتثير بعض التّساؤل والحيرة واللّغط، ما قد يؤثِّر على تماسك الجماعة المسلمة ويفسح في المجال لمزيدٍ من الارتباك والاهتزاز. ‏

‏وقد تبرز أهمِّيّة هذا الاتِّجاه في الملاحظة التّالية، وهي أنّ التّحدِّيات الكافرة قد تحدث في المراحل الّتي يعيش فيها المسلمون البساطة في الوعي والثّقافة، والسّذاجة الرُّوحيّة والفكريّة في مواجهة المشاكل المستجدّة، ولا سيّما إذا كانت نظرتهم إلى تلك الفئات المتحدِّية نظرةً تتّسم بالاحترام الدّاخليِّ لمعلوماتهم العامّة، من خلال الاعتقاد بأنّهم يملكون المعرفة الشّاملة بالكتاب المتضمِّن لأحكام الله وآياته، باعتبارهم أهل الكتاب؛ فقد يترك ذلك تأثيرًا كبيرًا على نظرتهم إلى القضايا المثارة أو المشاكل المطروحة، عندما يواجهون ذلك كلّه من خلال العجز الفكريِّ عن المناقشة والتّحليل. ‏

‏أمّا القضيّة الّتي انطلقت هذه الآيات لمعالجتها، فقد شغلت المجتمع الإسلاميّ والمجتمع الكافر المضادّ؛ لأنّها كانت صدمةً لهم جميعًا، وذلك لأنّ المسلمين كانوا يتّجهون في عباداتهم، منذ بداية الدّعوة، إلى بيت المقدس الّذي يتّجه إليه اليهود والنّصارى من أهل الكتاب، فجاء التّشريع الجديد لينسخ ذلك ويحوِّل القبلة إلى الكعبة، فأدّى ذلك إلى إثارة أهل الكتاب؛ لأنّهم كانوا يجدون في صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نوعًا من أنواع التّبعيّة العمليّة لهم، وسبيلاً من سُبل إضلال البسطاء من المسلمين، بالإيحاء إليهم بأنّ ذلك يدلُّ على أنّ الحقّ معهم؛ كما أنّهم اعتبروه خسارةً لأحد مواقعهم العمليّة الّتي تؤكِّد أصالتهم ومواقعهم المتقدِّمة من الكتاب والنُّبوّات. ‏

‏أمّا المسلمون فقد عاشوا صدمةً ذاتيّةً؛ لاشتمال ذلك على أسلوبٍ جديدٍ غير مألوفٍ لديهم في التّعامل مع التّشريع الّذي ساروا عليه مدّةً طويلةً، بإلزامهم بالوقوف منه موقف الرّفض العمليِّ الّذي يستبدل موقفًا بموقف، فيعتبر السّير على التّشريع -على أساس ذلك - انحرافًا عن الخطِّ الصّحيح، ممّا لم يكن لهم سابق معرفةٍ به، ولم يكونوا في إعدادٍ نفسيٍّ له، بل جاء مفاجأةً كبيرةً لهم، وصدمةً نفسيّةً إيحائيّةً من خلال أساليب اليهود الّذين حاولوا أن يثيروا أمامهم المشكلة الفكريّة في النّسخ، فإذا كان حكم الله هو التّوجُّه إلى بيت المقدس، فمعنى ذلك أنّه الحقُّ وأنّ غيره هو الباطل، فكيف يتغيّر حكم الله إلى شي‏ءٍ آخر، لتنقلب النّظرة إليه، في النّظرة إلى الحقِّ والباطل، في القضيّة نفسها؟ وكيف يمكن أن يُنسب ذلك إلى الله الحكيم في كلِّ ما يفعله من أفعال وما يشرِّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمةً للأشياء، وما دام الحكم تابعًا للمصلحة الّتي تمليه؟ ‏

‏ولم يكن لدى المسلمين من المعرفة بأُسس التّشريع وطبيعة مساره ما يمكِّنهم من الدُّخول في جدلٍ أو مناقشةٍ حول ذلك مع هؤلاء. وهكذا عاش المسلمون جوًّا من الرّيب والحيرة، وبدؤوا يواجهون حالةً متوتِّرةً من الضّوضاء والقيل والقال، بالمستوى الّذي تحوّل الموقف فيه إلى عُقدةٍ كبيرةٍ تهدِّد المسيرة الإسلاميّة في ذلك المجتمع. ‏

‏وكان القرآن بالمرصاد لذلك، فقد خاض المعركة بكلِّ الأساليب الضّروريّة الّتي يحتاجها الموقف، سواءٌ في ذلك الأساليب الفكريّة الّتي تواجه طبيعة التّشريع، أو الأساليب العاطفيّة الّتي تخاطب مشاعر المسلمين وعواطفهم، أو الأساليب العمليّة الّتي تواجه المسلمين بالواقع الدّاخليِّ لأهل الكتاب في ما يمارسونه من أساليب اللّفِّ والدّوران والتّضليل ضدّ المسلمين، وتعرِّفهم الموقع الّذي يريد الله للأُمّة أن تقفه في الكون في قيادة العالم إلى الشّاطئ الأمين، ما يجعل من القضيّة مدخلاً قرآنيًّا لتربية المجتمع المسلم على مواجهة التّحدِّيات بالفكر والعاطفة والواقعيّة، ولتأكيد الخطِّ القرآنيِّ الّذي لا يترك المسلمين في حيرةٍ أمام علامات الاستفهام الّتي تثور في وجدانهم حول قضايا العقيدة والتّشريع، بل يعمل على أن يجد لهم الأجوبة الّتي ترضي قناعاتهم الفكريّة، وتمنحهم الشُّعور بالرِّضا والاطمئنان والثِّقة بما يعتقدون ويعملون؛ من أجل تركيز هذا التّشريع في وعي النّاس، وتربية المجتمع المسلم على الانطلاق إلى الحياة من خلال القواعد الثّابتة المنطلقة من أمر الله ونهيه في كلِّ ما يريد الله أن يغيِّره أو يبدِّله من تشريعٍ أو غيره؛ ليعي المجتمع من خلال ذلك طبيعة علاقته بالله وحدودها، ويعرف أنّ المسلم لا يملك أمام كلمة الله أيّة إرادةٍ تقوده إلى الرّفض ‏

‏أو التّشكيك، بل هو التّسليم المطلق في كلِّ شي‏ءٍ، كما توحي به الآية الكريمة: {و ما كان لِمُؤْمِنٍ و لا مُؤْمِنةٍ إِذا قضى اللّهُ و رسُولُهُ أمْراً أنْ يكُون لهُمُ الْخِيرةُ مِنْ أمْرِهِمْ و منْ يعْصِ اللّه و رسُولهُ فقدْ ضلّ ضلالاً مُبِيناً} [الأحزاب: 36]. ‏

‏وقد حدّثنا الله في هذا الفصل عن الكلمات الّتي يمكن أن تُقال، وعن التّصوُّرات الّتي ينبغي للمسلم أن يعيشها أمام تلك الكلمات، وعن طبيعة هذا التّبدُّل في التّشريع، في حكمة الله، وفي نتائجه العمليّة على سير الدّعوة، وعن التّصوُّرات والاهتمامات النّفسيّة الّتي كانت تشغل بال النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك، وعن الدّور الكبير الّذي أعدّه الله لهذه الأُمّة في حملها للرِّسالة وشهادتها على النّاس وشهادة الرّسول عليها أمام الله. ‏

‏وفي هذا الجوِّ المتنوِّع، ينطلق القرآن ليربط المسلمين بالخطِّ الأصيل الّذي يسيرون عليه، فلا يتزحزحون ولا ينحرفون عن الخطِّ الإسلاميِّ الحقِّ إلى خطوط الآخرين، بحجّة أن يجلبوا الآخرين إلى صفوفهم، مهما كانت نسبة الانحراف ضئيلةً، وذلك بالعمل على الانطلاق بعيدًا في تحليل واقع المجتمع المضادِّ بالمقارنة مع الواقع الّذي يعيشه النّبيُّ والمسلمون إزاء عقيدتهم، وتحليل طبيعة العلاقة الّتي تشدُّهم إلى الله وتربطهم به؛ فهو الّذي يجب أن يخشوه ويلجؤوا إليه ويطلبوا رضاه. ‏

‏ثمّ يتابع التّأكيد، في تكرارٍ ملحوظٍ، على المسلمين بالالتزام بهذا التّشريع، ليكون ذلك رمزًا لوحدتهم في الموقف والشُّعور؛ لأنّه يمثِّل القاعدة الرُّوحيّة الّتي يرتبطون بها ويتّجهون إليها، وهي هذا البيت الّذي انطلق بالتّاريخ الدِّينيِّ الرِّساليِّ الأوّل من أجل أن تبدأ الرِّسالة منه من جديدٍ في عهدها المحمّدي الجديد. ‏

‏وفي ما يلي نعرض للمراحل الّتي قطعها هذا التّشريع الجديد في نفوس المؤمنين، وفي الإثارات الّتي كانت تتحرّك من قبل الكافرين. ‏

‏ السُّفهاء يثيرون المشكلة‏

‏تُصوِّر الآية الأولى الحالة النّفسيّة والذِّهنيّة الّتي كان يعيشها فريقٌ من النّاس، من أهل الكتاب، إزاء هذا التّشريع الجديد، ما يدفعهم إلى أن يطرحوا مثل هذا التّساؤل في مرارةٍ وإنكار. وفي ذلك إيحاءٌ بانخفاض المستوى الثّقافيِّ الّذي يمكنهم من خلاله مواجهة الأمور التّشريعيّة من جانبها الفكريِّ على أساس الرّكائز الثّابتة الّتي تقوم عليها قضايا التّشريع. ‏

‏وقد صاغت الآية الفكرة المضادّة بصيغة التّساؤل الّذي يشوبه الاعتراض والإنكار، كأسلوبٍ من أساليب إثارة الجوِّ ضدّ التّشريع بشكلٍ بري‏ءٍ؛ فهي لا تطرح الفكرة بصورة الرّفض المطلق لتوحي للآخرين بالموقف المضادِّ الّذي تستثيره حالة المعارضة، بل تطرحها بصورة السُّؤال لتستطيع إثارة الشّكِّ والبلبلة في أذهان المسلمين، تمامًا كأيّة قضيّةٍ من القضايا الّتي يدور فيها الجدل، من أجل الوصول إلى نتيجةٍ حاسمةٍ، في أسلوبٍ إيحائيٍّ بإخراج الموضوع من جوِّ القداسة الّتي تفرض الالتزام والتّسليم المطلق. ‏

‏وهذا ما نواجهه في كثيرٍ من الأساليب الّتي يستعملها الأعداء ضدّ الأحكام الشّرعيّة، من أجل وضعها في مواقع الشّكِّ والرّيب، وذلك بإثارة الجوانب السّطحيّة الّتي تبتعد بالإنسان عن التّعمُّق في خلفيّات التّشريع البعيدة المدى، ليكون ذلك بدايةً للانفتاح على حالات الشّكِّ الّتي تُبعد المسلم تدريجيًّا عن روحيّة التّسليم المطلق لله. وقد لا يظهر الجانب السّلبيُّ في هذا العرض الاستفهاميِّ؛ باعتبار أنّ الإسلام لم يتنكّر للشّكِّ كأساسٍ للوصول إلى الحقيقة، ولم يواجه التّساؤلات الّتي كان المسلمون يثيرونها أمام بعض الأحكام الشّرعيّة بالرّدِّ والرّفض العنيف، بل عمل على أن يواجه الإنسانُ، كافرًا أو مؤمنًا، الفكرة العقيديّة والفرعيّة، من موقع التّساؤل البري‏ء، لتتكوّن القناعة الفكريّة في العقيدة والتّشريع على أساسٍ متين. ‏

{سيقُولُ السُّفهاءُ مِن النّاسِ} ، الّذين لا يفكِّرون في الأمور بطريقةٍ متوازنةٍ، ولا يميِّزون بين الوحي الإلهيِّ، في تشريعه المنطلق من المصلحة الّتي تتغيّر حسب تغيُّر الأزمان والأحوال، ما يجعل الشّي‏ء ذا مصلحةٍ اليوم بلحاظ عنوانٍ أو ظرفٍ معيّن، ولا يكون ذا مصلحةٍ في يومٍ آخر بلحاظ عنوانٍ جديدٍ أو ظرفٍ طارئٍ؛ وبين الرّغبة الذّاتيّة الّتي تتحرّك من موقع الأهواء الّتي لا تخضع لقاعدةٍ. ‏

{ما ولاّهُمْ عنْ قِبْلتِهِمُ الّتِي كانُوا عليْها} في صلاتهم؟ فكيف تتغيّر القبلة بين وقتٍ وآخر، وكيف يتبدّل التّشريع الإلهيُّ إذا كانوا ينسبون القبلة إلى وحي الله، وهل يمكن أن يبدِّل الله شريعته وهو العالم بحقائق الأشياء بعيدًا عن كلِّ الحالات الطّارئة؟ وإذا كان في التّوجه إلى الكعبة مصلحةٌ، فكيف كان بيت المقدس قبلةً في التّشريع الأوّل؟ ‏

‏ولكنّنا لو دقّقنا في هذا الموقف، لاكتشفنا الاتِّجاه السّلبيّ الّذي يتحرّك من خلاله السُّؤال، ولرأينا أنّ السّلبيّة تكمن في إعطاء الموقف جوًّا من الإثارة الّتي تدفع للاعتراض، بالإضافة إلى أنّه يسي‏ء إلى الجانب التّربويِّ الّذي ترتكز عليه الشّخصيّة الإسلاميّة الّتي تعتبر تكوين الأساس العقيديِّ منطلقًا للالتزام الفكريِّ والعمليِّ بالتّشريع؛ باعتباره صادرًا من خالق الإنسان الّذي يعرف ما يصلحه وما يفسده أكثر من الإنسان نفسه. وبذلك كانت الفكرة المطروحة إسلاميًّا لمن يحاول فهم الأحكام الشّرعيّة: التزم واعمل، ثمّ ناقش واسأل. ‏

‏إنّهم يتساءلون عن الأساس الّذي صرف المسلمين عن قبلتهم، ويثيرون أمام هذا التّساؤل نقطتين: ‏

‏الأولى: إنّهم يوجِّهون الحديث إلى المسلمين كما لو كانت القضيّة تعني سلوكًا شخصيًّا لهم. ‏

‏ الثّانية: إنّهم لا يحاولون التّدبُّر في طبيعة التّشريع الأوّل والثّاني، ليجدوا أنّهما ينطلقان من الله في تعيين أيّة جهةٍ من الجهات ليتوجّه النّاس إليها في عبادتهم، وليسا منطلقين من خصوصيّةٍ ذاتيّةٍ لهذه الجهة أو تلك ليمتنع الانتقال من جهةٍ إلى جهةٍ على أساس ذلك. ‏

‏وعلى ضوء ذلك، فلا مجال لأيِّ اعتراضٍ؛ فإنّ الله يملك المشرق والمغرب معًا وليس له اختصاصٌ بجهةٍ دون جهةٍ، فله أن يعيِّن المشرق لنتوجّه إليه، وله أن يعيِّن المغرب لنتوجّه إليه، وذلك ضمن الخطّة الّتي يضعها للإنسان في تنظيم عباداته ومعاملاته، ممّا يمكن أن يختلف فيه وجه الحكمة والمصلحة حسب اختلاف الخطّة الموضوعة، فقد يكون في الاتِّجاه إلى جهةٍ ما مصلحةٌ في داخل خطّةٍ معيّنةٍ، وقد لا يكون فيه مصلحةٌ بلحاظ خطّةٍ أخرى. ‏

{قُلْ لِلّهِ الْمشْرِقُ و الْمغْرِبُ} ، فهو الّذي يوجِّه عباده إلى هذه الجهة أو تلك، ليمنحها القداسة من خلال ذلك، فلا قداسة لجهةٍ دون جهةٍ بعيدًا عنه. وهو الّذي يعلم صلاح عباده في كلِّ مرحلةٍ من المراحل، فيوجب عليهم شيئًا في وقت ليبدِّله بشي‏ءٍ آخر في وقتٍ آخر، تبعًا للمصالح الّتي تتبدّل مع التّغيُّرات الظّرفيّة المتنوِّعة. وإذا كان بيت المقدس متميِّزًا بأنّه موطن الأنبياء، فإنّ الكعبة هي أوّل بيتٍ وُضع للنّاس بأمر الله نبيّه إبراهيم عليه السلام ببنائه وبدعوة النّاس إليه للحجِّ. فقد تتعلّق حكمته بإبقاء بيت المقدس قبلةً للمسلمين كما كان قبلةً لغيرهم في الماضي؛ للتّدليل على اعتراف الدِّين الجديد بأهمِّيّة هذا المكان المقدّس في وعي المسلمين، ليؤكِّد هذا التّعبير في خطِّهم الفكريِّ، ثمّ يأتي التّشريع الجديد ليجعل الكعبة قبلةً جديدةً من أجل تأكيد الخصائص العباديّة الّتي تختزنها في وجودها القدسيِّ، بالأمر الإلهيِّ المباشر الصّادر إلى خليله إبراهيم، ممّا لا تملكه القبلة القديمة. ‏

‏وخلاصة القضيّة أنّ على الإنسان أن يعرف أنّ الله لا يريد له إلاّ الخير، ولا يأمره إلاّ بالسّير على الخطِّ المستقيم، في ما يهديه إليه من تشريعاتٍ وأحكام، ما يقتضيه التّسليم والإذعان المطلق لله؛ فإنّ الله الّذي يملك المشرق والمغرب هو الّذي يختار لعباده ما يصلحهم، و {يهْدِي منْ يشاءُ} منهم {إِلى‏ صِراطٍ مُسْتقِيمٍ} ، وهو الدِّين الحقُّ الّذي يؤدِّي بالنّاس إلى مواقع رضاه، وإلى الجنّة الموعودة لديه. ‏

‏ الوصف بالسّفه والحياد الفكريُّ ‏

‏وقد قدّم القرآن أمام عرض الفكرة - سؤالاً وجوابًا - صورةً عن طبيعة تكوينهم الدّاخليِّ، ما يوحي بأنّ الفكرة لم تنطلق من أساس مشكلةٍ فكريّةٍ لتبعث على الاحترام، بل انطلقت من واقعٍ ذاتيٍّ منحرفٍ يواجه فيه هؤلاء كلّ القضايا من موقع السّفه الّذي يعني فقدان الميزان الصّحيح، الّذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يزِن الأمور ويحاكمها في جانب الفكرة والممارسة معًا، ما يبعث على النّظر إلى الفكرة بعيدًا عن الاحترام. ‏

‏وقد يثور أمامنا سؤالٌ: وهو أنّ استباق المناقشة بإعطاء مثل هذه الصِّفة يُبعد الموقف عن الحياد الفكريِّ الّذي يفرضه الأسلوب العلميُّ في الحوار والمناقشة؛ لأنّه يخلق جوًّا نفسيًّا مثيرًا ضدّ أصحاب الفكرة، في ما يشبه أسلوب القهر على طريقة حرب الأعصاب. ‏

‏والجواب عن ذلك: أنّ الموقف ليس موقف مواجهة المشكلة من موقعٍ فكريٍّ فحسب، بل الموقف هو موقف إبعاد هؤلاء عن التّدخُّل في حياة المجتمع المسلم، من خلال الخطّة المرسومة لديهم في زلزلة المسلمين وإبعادهم عن الخطِّ المستقيم، ما يستدعي العمل على إبعاد المسلمين عنهم نفسيًّا قبل إبعادهم عنهم فكريًّا؛ ليواجهوا الموقف في المستقبل من موقع النّظرة غير المحترمة عندهم، ليبتعد الجوُّ بذلك عن الاهتزاز والارتباك. وقد لاحظنا في هذا النِّطاق الأسلوب الأمثل الّذي يركِّز على تصوير طبيعة هؤلاء الّذين يثيرون السُّؤال بصورةٍ غير محترمةٍ، ليبعد الفكرة عن جانب التّأثير الشّخصيِّ بالجماعة، إلى مواجهة الفكرة في نطاقها الفكريِّ. ‏

‏أمّا كيف وصفهم القرآن بالسُّفهاء؛ فلأنّ شخصيّة السّفيه تتمثّل في عدم استقامة العقل وعدم توازن الرّأي، ما يجعل التّصرُّفات العمليّة في الفكر والعلاقة والمعاملة بعيدةً عن الاستقامة والاتِّزان، ولا شكّ في أنّ الانحراف عن خطِّ الله الّذي يؤدِّي إلى سلامة المصير في الدُّنيا والآخرة، لا يمثِّل الاستقامة في أيِّ خطٍّ من خطوطها، بل هو - على العكس من ذلك - يمثِّل اختيار الخطِّ الملتوي الّذي يضرُّ بالإنسان في كلِّ مجالاته. ‏

‏ الأسلوب القرآنيُّ في إدارة الصِّراع ‏

‏وقد نشعر بالحاجة إلى اعتماد هذا الأسلوب في الواقع العمليِّ الّذي يخوض فيه الإسلام صراع التّحدِّيات الفكريّة والعمليّة مع التّيّارات الكافرة والمنحرفة، عندما تلجأ إلى مواجهة الإسلام بأساليب الإثارة الّتي تعمل على خداع المسلمين وإضلالهم وإبعادهم عن الخطِّ المستقيم، فنحاول أن نواجه الموقف كما واجهه القرآن، بالتّركيز على الصِّفات الواقعيّة الّتي تكشف حقيقتهم، وتُبعِد المسلمين عن التّأثُّر بهم والخضوع لأساليبهم، ثمّ مواجهة القضيّة من جانبها الفكريِّ بعيدًا عن التّأثيرات الذّاتيّة الضّاغطة. ‏

‏ولا بُدّ لنا - ونحن نثير هذا اللّون من الأسلوب - من التّدقيق جيِّدًا في طبيعة الواقع الموضوعيِّ الّذي تنطلق فيه المشكلة وتتحرّك فيه عمليّات الإثارة؛ لئلاّ نخطئ في استعماله في ما لا ينسجم مع المصلحة الإسلاميّة العليا في الدّعوة والعمل. ‏

‏ الأمّة الوسط آفاقٌ ومعطياتٌ ‏

{و كذلِك جعلْناكُمْ أُمّةً وسطاً} تقف في الموقع المميّز بين سائر الأُمم، من خلال الموقع القياديِّ للرِّسالة القائدة والدّور القائد في الدّعوة والحركة، كما كان الرّسول كذلك بالنِّسبة إليهم في تبليغه وهدايته وقيادته؛ {لِتكُونُوا شُهداء على النّاسِ} ، بفعل المهمّة الموكولة إليكم في حركتكم القياديّة في اتِّجاه النّاس، ما يستدعي المواكبة والمراقبة والمتابعة بالمستوى الّذي يؤهِّلكم للشّهادة عليهم من موقع الإشراف على حركتهم في الخطِّ الفكريِّ والعمليِّ، {و يكُون الرّسُولُ عليْكُمْ شهِيداً} ؛ لأنّه هو الّذي صنع الأُمّة في وجودكم عندما أطلق الرِّسالة لتكون عنوانًا لكم، وحمّلكم مسؤوليّتها لتحدِّد لكم الدّور القياديّ، ليشهد عليكم أمام الله كيف كانت مواقعكم ومواقفكم وأوضاعكم ودعوتكم إلى دينه. ‏

‏في هذه الآية حديثٌ عن الأُمّة المسلمة بأنّها «وسط»، في ما جعله الله للمسلمين من موقعٍ قياديٍّ في الحياة، وأنّها شاهدةٌ على النّاس، وحديثٌ عن الرّسول بأنّه شاهدٌ على الأُمّة، فكيف نفهم هذه الوسطيّة وهذه الشّهادة؟ ‏

‏جاء في (مجمع البيان): «الوسط: العدل. وقيل: الخيار. ومعناهما واحدٌ؛ لأنّ العدل خيرٌ والخير عدلٌ. وقيل: أُخذ من المكان الّذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه. وقيل: بل أُخذ من التّوسُّط بين المقصِّر والغالي، فالحقُّ معه. قال مؤرج: أي: وسطًا بين النّاس وبين أنبيائهم. قال زهير: ‏

‏هُمُ وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم#إذا طرقت إحدى اللّيالي بمُعظم‏ ‏

‏قال صاحب العين: الوسط من كلِّ شي‏ءٍ: أعدله وأفضله»‏17‏ . ‏

‏وقد جرى بعض المفسِّرين‏18‏ في تفسير هذه الآية مجرى التّفسير اللُّغويِّ البحت، فأخذوا منه معنى العدل والتّوازن، على أساس ما تمثِّله الشّريعة الإسلاميّة من الوسطيّة بين الاتِّجاه الرُّوحيِّ المتطرِّف الّذي يمثِّله النّصارى، وبين الاتِّجاه المادِّيِّ المتطرِّف الّذي يمثِّله المشركون واليهود؛ لأنّ الإسلام يأخذ من الرُّوح جانبًا ومن المادّة جانبًا، لتكون الحياة - كما خلقها الله - نتيجة التّزاوج بين الرُّوح والمادّة. وتتمثّل الوسطيّة في التّوازن بين الاتِّجاه الجماعيِّ المتطرِّف الّذي يُلغي دور الفرد، والاتِّجاه الفرديِّ المطلق الّذي يُلغي دور المجتمع في الحياة، فأعطى للفرد دوره في ما يحقِّق ذاته من دون أن يغمط‏19‏حقّ الجماعة في نطاق قضاياها العامّة، وأعطى للجماعة دورها في ما لا يُلغي للفرد نوازعه الذّاتيّة الطّبيعيّة. ‏

‏ويمتدُّ الخطُّ الوسطيُّ إلى التّوازن بين الدُّنيا والآخرة، فللمسلم أن يُقبل على الدُّنيا ويستمتع بطيِّباتها من دون أن يسي‏ء إلى خطِّ الآخرة في السّير مع شريعة الله، في ما يفعل وفي ما يترك، وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأُسس الّتي يريدها الله. ‏

‏ويمضي الكثيرون في استيحاء الكلمة من خلال ما في الإسلام من توازن في مختلف جوانب الحياة، من حيث العاطفة والعقل، ومن حيث التّفكيرُ العقليُّ والطُّرق التّجريبيّة، ومن حيث الزّمان والمكان... وهكذا. ‏

‏وفي ضوء ذلك، يمكن للأُمّة أن تؤدِّي دور الشّهادة على النّاس؛ باعتبارها تقف في نقطة التّوازن الّتي ترجع إليها بقيّة الأطراف، كما يكون النّبيُّ شهيدًا على الأُمّة؛ لأنّه المثال الأكمل الّذي يوزن به حال الآحاد من الأُمّة. ‏

‏ويعلِّق صاحب تفسير (الميزان) على هذا التّفسير للآية بأنّ هذا المعنى «هو في نفسه معنًى صحيحٌ لا يخلو من دقّة، إلاّ أنّه غير منطبقٍ على لفظ الآية؛ فإنّ كون الأُمّة وسطًا إنّما يُصحِّح كونها مرجعًا يرجع إليه الطّرفان، وميزانًا يُوزنُ به الجانبان، لا كونها شاهدةً تشهد على الطّرفين أو تشاهد الطّرفين، فلا تناسب بين الوسطيّة بذاك المعنى والشّهادة، وهو ظاهرٌ. على أنّه لا وجه حينئذ للتّعرُّض بكون رسول الله شهيدًا على الأُمّة؛ إذ لا يترتّب شهادة الرّسول على الأُمّة على جعل الأُمّة وسطًا، كما يترتب الغاية على المغيّا‏20‏ ، والغرض على ذِيه»‏21‏ . ‏

‏وإنّنا نتّفق مع صاحب (الميزان) في هذه الملاحظة؛ لأنّ قضيّة التّفسير هي أن يدرس المفسِّر الكلمة من خلال الجوِّ الّذي تعيش فيه، ليتحقّق التّرابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها. ونحن نرى أنّ هذه الآيات تتحرّك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة، من خلال الدّور الّذي أعدّه الله لهم في قيادة البشريّة إلى الأهداف الكبيرة الّتي تتمثّل بالإسلام، الأمر الّذي يجعلهم يتحرّكون في الحياة، من هذا الموقع، ليكونوا شهداء على النّاس في أفكارهم وأعمالهم؛ باعتبار أنّهم يدخلون في ضمن مسؤوليّتهم، كما كان الرّسول شهيدًا على المسلمين من خلال مسؤوليّته الرِّساليّة عنهم في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه. ‏

‏وفي هذا الجوِّ لا نجد للوسطيّة معنًى في ما حاوله هؤلاء المفسِّرون من الحديث عن التّوازن الفكريِّ والتّشريعيِّ في المواجهة الإسلاميّة للحياة؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة المضمون الإسلاميِّ في صياغة الشّخصيّة للإنسان المسلم، بل هي قضيّة الإيحاء للمسلمين بأنّ عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثِّقة بالتّشريع وبالمسار العمليِّ؛ لأنّهم لا يمثِّلون التّبعيّة للآخرين في مواقعهم، بل القضيّة هي أنّ الآخرين يدخلون في نطاق مسؤوليّتهم؛ باعتبار أنّهم يحملون الرِّسالة القائدة، والدّور القائد في التّبليغ والتّنفيذ، كما كان الرّسول بالنِّسبة إليهم في ما يبلِّغه وفي ما يهدي إليه. ‏

‏إنّنا نتصوّر الآية في هذا الموقع؛ من خلال الأجواء العامّة الّتي وردت فيها، ما يجعل من ذكر كلمة «الوسط» مقدِّمةً لتقرير فكرة الشّهادة، ويوحي بأنّ معناها يدخل في معنى العدل والفضل، انطلاقًا ممّا ذكره صاحب كتاب (العين): «إنّ الوسط من النّاس وكلِّ شي‏ءٍ أعدله وأفضله»‏22 ‏؛ فكأنّ هذه الكلمة استُعيرت للأُمّة المسلمة من أجل تأكيد الثِّقة في نفوس المسلمين، على أساس ما حباهم الله من هدايةٍ إلى سبيله؛ لئلاّ ينهاروا أمام تضليل المضلِّلين وتشكيك المشكِّكين. ‏

‏وقد يوحي بذلك وقوع هذه الصِّفة بعد الحديث عن هداية الله لمن يشاء إلى صراطٍ مستقيم، للتّدليل على أنّ الله أراد لهم هذه الهداية الّتي جعلتهم في هذا الموقع. ولعلّ طبيعة الشّهادة على الآخرين أمام الله تقتضي أن يكون الشّاهد في الموقع الأفضل، من حيث الدّور الّذي أُوكِل إليه، ومن حيث السُّلوك الّذي سار فيه، كما هي حال الأنبياء بالنِّسبة إلى أُممهم. وهذا ما يؤكِّد المعنى الّذي ألمحنا إليه. ‏

‏وربّما يؤكِّد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة: {و جاهِدُوا فِي اللّهِ حقّ جِهادِهِ هُو اِجْتباكُمْ و ما جعل عليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرجٍ مِلّة أبِيكُمْ إِبْراهِيم هُو سمّاكُمُ الْمُسْلِمِين مِنْ قبْلُ و فِي هذا لِيكُون الرّسُولُ شهِيداً عليْكُمْ و تكُونُوا شُهداء على النّاسِ فأقِيمُوا الصّلاة و آتُوا الزّكاة و اِعْتصِمُوا بِاللّهِ هُو موْلاكُمْ فنِعْم الْموْلى‏ و نِعْم النّصِيرُ} [الحجّ: 78]؛ فإنّنا نلاحظ: أنّ تفريع شهادة الرّسول عليهم وشهادتهم على النّاس إنّما هي على أساس اجتباء الله لهم، وانضباطهم على الخطِّ، وقيامهم بالدّور الموكل إليهم في العمل لأنفسهم وللآخرين. ‏

‏أمّا الحديث عن التّوازن في الإسلام، فهو حقٌّ، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الآية تسير في هذا الاتِّجاه في مضمونها الفكريِّ. ‏

‏وقد ذكر صاحب تفسير (الميزان) في معنى «الوسط»: «أنّ كون الأُمّة وسطًا إنّما هو بتخلُّلِها بين الرّسول وبين النّاس»‏23‏ . ولكنّنا قدّمنا أنّ الوسطيّة -هنا - لا يُراد بها ذلك، بل يُراد بها - في ما نفهمه - الموقع الأفضل الّذي وضع الله فيه الأُمّة بالنِّسبة إلى النّاس. والله العالم بحقائق آياته. ‏

‏ الشّهادة على النّاس ‏

‏أمّا الشّهادة، فقد ذُكر لها عدّة معانٍ: ‏

‏ الأول: «إنّ المعنى: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم الّتي خالفوا فيها الحقّ في الدُّنيا وفي الآخرة؛ كما قال: {و جِي‏ء بِالنّبِيِّين و الشُّهداءِ} [الزُّمر: 69]، وقال: {و يوْم يقُومُ الْأشْهادُ} [غافر: 51]. وقال ابن زيد: الأشهاد أربعة: الملائكة والأنبياء وأُمّة محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم والجوارح، كما قال: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ و أيْدِيهِمْ و أرْجُلُهُمْ} [النُّور: 24]. ‏

‏ والثّاني: إنّ المعنى: لتكونوا حجّةً على النّاس، فتُبيِّنوا لهم الحقّ والدِّين، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا مؤدِّيًا للدِّين إليكم. وسُمِّي الشّاهد شاهدًا لأنّه يبيِّن؛ ولذلك يقال للشّهادة: بيِّنة. ‏

‏ والثّالث: إنّهم يشهدون للأنبياء على أُممهم المكذِّبين لهم بأنّهم قد بلّغوا، وجاز ذلك لإعلام النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إيّاهم بذلك»‏24‏ . ‏

‏وإنّنا نستقرب من هذه المعاني المعنى الأوّل؛ لأنّ الاتِّجاه العامّ في آيات الشّهادة هو الإيحاء للنّاس بأنّهم مطوّقون في يوم القيامة بالشّهادة على ما فعلوه في الدُّنيا من جميع الجهات، وذلك من الجهات المألوفة لديهم في الشّهادة في ما يشهد به الأنبياء والمبلِّغون، أو من الجهات غير المألوفة لديهم وهي شهادة الله والملائكة والجوارح؛ ليشعروا في الدُّنيا بالحاجة إلى الانضباط في كلِّ ما يعملونه أو يتركونه، وليتعمّق إحساسهم الدّاخليُّ بالرّقابة الموجّهة إليهم من جميع الجهات. ‏

‏وقد جاءت آيات الشّهادة في سياقٍ واحدٍ، حتّى لا يشعر الإنسان بوجود فارقٍ بين واحدةٍ وأخرى مع اختلاف شخصيّة الشُّهود، كما نلاحظه في الآيات التّالية: ‏

{فكيْف إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشهِيدٍ و جِئْنا بِك على‏ هؤُلاءِ شهِيداً} [النِّساء: 41]. ‏

{و يوْم نبْعثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شهِيداً ثُمّ لا يُؤْذنُ لِلّذِين كفرُوا و لا هُمْ يُسْتعْتبُون} [النّحل: 84]. ‏

{و أشْرقتِ الْأرْضُ بِنُورِ ربِّها و وُضِع الْكِتابُ و جِي‏ء بِالنّبِيِّين و الشُّهداءِ و قُضِي بيْنهُمْ بِالْحقِّ و هُمْ لا يُظْلمُون} [الزُّمر: 69]. ‏

{ما قُلْتُ لهُمْ إِلاّ ما أمرْتنِي بِهِ أنِ اُعْبُدُوا اللّه ربِّي و ربّكُمْ و كُنْتُ عليْهِمْ شهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنْت أنْت الرّقِيب عليْهِمْ و أنْت على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ شهِيدٌ} [المائدة: 117]. ‏

‏وهكذا نلاحظ: أنّ القضيّة - في هذه الآيات - تتّجه إلى يوم القيامة بين يدي الله؛ للإيحاء بالإحاطة الكاملة بالإنسان من جميع الجهات الّتي يتصوّر حضورها لديه من خلال المعاينة أو من خلال الإيمان، وذلك على أساس أنّ الشّهادة، في تجربة الشُّهداء، تتحرّك في الدُّنيا في الموقع القياديِّ الّذي يتمثّل فيه الشّاهد الواقع كلّه في حركة النّاس في الحياة، ومدى التزامهم بالوحي الإلهيِّ في خطِّ الرِّسالات في دائرة السّلب والإيجاب، ليقدِّموها بين يدي الله في موقف الحساب، فلا تنافي بين مفهوم الشّهادة في واقع الدُّنيا الّتي يتحرّك فيها الشُّهداء بين النّاس، وبين حركتها الفعليّة الأدائيّة في موقف القيامة أمام الله. ‏

‏وفي ضوء ذلك نفهم أنّ المعنيين الآخرين لا ينسجمان مع الأجواء العامّة للآيات، ولا سيّما المعنى الثّالث الّذي يركِّز على حاجة النّبيِّ للشّهادة على الأُمم بأنّه بلّغهم، إذا أنكرت الأُمم ذلك؛ إذ لا معنى لحاجة النّبيِّ لذلك مع اعتباره شاهدًا أساسيًّا تُطلب شهادته بشكلٍ أصيل، ما يعني اعتبار شهادته قاعدةً للحكم على الأُمم من خلال دخولهم ضمن مسؤوليّته الّتي منحه الله الثِّقة في القيام بها بكلِّ أمانةٍ وصدق. ‏

‏ إعتراضٌ وجوابٌ ‏

‏وقد أثار المفسِّرون اعتراضًا في هذا المجال، وخلاصته: أنّ الشّهادة تفرض الموقع المتميِّز للشّاهد على المشهود عليه، ونحن نعلم أنّ الأُمّة تضمُّ في جماعتها المطيع والعاصي، والجاهل والعالم، فكيف يمكن أن يكون الجميع شهودًا في موقع الشّهادة؟ ‏

‏والجواب: إنّ الأسلوب القرآنيّ قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكلِّ، باعتبار اشتمال الكلِّ عليه، تمامًا كما حدّثنا عن بني إسرائيل، مع أنّ الصِّفات الّتي ذكرها كانت صفات البعض منهم. وعلى هذا، فإنّ كون الأُمّة شاهدةً يتحرّك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممّن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير، وهم الطّليعة الواعية المؤمنة التّقيّة المنضبطة الّتي تفهم الإسلام حقّ الفهم، وتعيه حقّ الوعي، وتمارسه حقّ الممارسة، وتحمله بروحٍ رسوليّةٍ رائدةٍ. إنّها النُّخبة الواعية الموجودة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، الّتي يقف في طليعتها الأئمّة الطّاهرون، والعلماء الواعون، والأولياء الطّيِّبون، والمجاهدون العاملون، الّذين يحملون هذه الشّهادة إلى الله؛ لأنّهم يعيشون روح الرِّسالة، ويعيشون من خلالها الوعي لكلِّ حياة النّاس، كما هو الرّسول في رسالته وفي وعيه لأُمّته. ‏

‏ تشريع القبلة امتحانٌ لطاعة الأمّة ‏

‏ويستمرُّ الحديث عن هذا التّشريع الجديد، وهو تشريع القبلة نحو الكعبة، من خلال التّركيز على الطّبيعة التّربويّة الّتي تحكم هذا التّنوُّع في التّشريع من موقعٍ للقبلة في بداية الدّعوة، إلى موقعٍ جديدٍ في امتدادها الطّويل. ويتّجه الخطاب إلى النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ‏

‏باعتبار أنّه رسول الله إلى الأُمّة، المكلّف بتوضيح الصُّورة لهم: {و ما جعلْنا الْقِبْلة الّتِي كُنْت عليْها} ، وهي بيت المقدس، {إِلاّ لِنعْلم منْ يتّبِعُ الرّسُول} ؛ فقد أراد الله أن يختبر المسلمين، ليربِّيهم على الطّاعة المطلقة له، الّتي تتمثّل في التّسليم لأحكامه من دون أيِّ ريبٍ واعتراضٍ، فأمرهم في البداية بالتّوجُّه إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلهم عنها، ليبرز الأشخاص الّذين يعيشون الإسلام فكرًا وشعورًا وممارسةً وطاعةً مطلقةً، وليتميّزوا عن الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ويواجهون الرِّسالة كأيّة فكرةٍ بشريّةٍ قابلةٍ للأخذ والرّدِّ، ويفهمون الإيمان ارتباطًا شكليًّا بالله وبالرّسول، حتّى إذا وقفوا في مواقع البلاء، تحوّلوا عن مواقفهم ومواقعهم الإيمانيّة إلى مواقع الكفر والنِّفاق. ‏

‏وقيل: إنّ المراد بـ- {الْقِبْلة الّتِي كُنْت عليْها} هو الكعبة؛ «لأنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بمكّة إلى الكعبة، ثمّ أُمر بالصّلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألُّفًا لليهود، ثمّ حوِّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة الّتي يجب أن تستقبلها، الجهة الّتي كنت عليها أوّلاً بمكّة، يعني: وما رددناك إليها إلاّ امتحانًا للنّاس وابتلاءً؛ لنعلم الثّابت على الإسلام الصّادق فيه، ممّن هو على حرف، ينكص على عقبيه لقلقِه فيرتدّ»‏25 ‏. ‏

‏وفي ضوء هذا، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان مأمورًا بالتّوجُّه إلى الكعبة، ثمّ حُوِّل إلى بيت المقدس، ثمّ أُعيد إلى الكعبة. فكان الابتلاء موجّهًا إلى العرب، أو إلى قريش الّذين كانوا متعلِّقين بالكعبة، ما يجعل من تحويلهم إلى بيت المقدس اختبارًا لهم؛ باعتبار أنّ ذلك يصطدم بمشاعرهم الحميمة تجاه الكعبة. ‏

‏ولازم هذا الرّأي أنّ الله جعل الكعبة قبلةً مرّتين. ‏

‏ونلاحظ على ذلك: ‏

‏ أولاً: إنّه لا دليل على تشريع الصّلاة إلى الكعبة في البداية، ولا ظهور في الآية على ذلك. ‏

‏ ثانيًا: إنّ الظّاهر من قوله تعالى في الآية التّالية: {قدْ نرى‏ تقلُّب وجْهِك فِي السّماءِ فلنُولِّينّك قِبْلةً ترْضاها} أنّ الكعبة كانت تمثِّل رغبة النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في أن يوجِّهه الله إليها، لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم، ما يوحي بأنّه لم يسبق لها أن كانت قبلةً سابقًا. ‏

‏ثالثًا: إنّ عمليّة التّشريع أوّلاً، ثمّ النّسخ، ثمّ التّشريع ثانيًّا لا يتناسب مع طبيعة استقامة التّشريع. ‏

‏ رابعًا: إنّ تشريع الكعبة كقبلةٍ كان مقدّرًا له أن يستقرّ في نهاية التّشريع، ولكنّ الله أخّر ذلك للحكمة المذكورة في هذه الآية، وهي أن تكون المسألة مادّة اختبارٍ وامتحانٍ للمسلمين، من دون أن تكون هناك أيّة سلبيّةٍ في طبيعة الصّلوات الّتي صلُّوها إلى بيت المقدس؛ لأنّها كانت القبلة الشّرعيّة قبل النّسخ، ما يجعل الحكم مطابقًا للواقع؛ لأنّ النّسخ لا يرفع الحكم من أصله، بل يرفعه من وقته. ‏

‏ خامسًا: إنّ الظّاهر من الآية، أنّ التّجربة كانت تتحرّك نحو المنافقين الخاضعين لليهود، في إثارتهم للمشاكل الفكريّة ضدّ الإسلام وأهله، وليست متحرِّكةً في الواقع العربيِّ أو القرشيِّ الّذي كان لا يمثِّل مشكلةً كبرى في الواقع الإسلاميِّ. ولذلك لم نجد هناك أيّ حديثٍ تاريخيٍّ عن مسألة العلاقة الحميمة بالكعبة الّتي كانت تمثِّل الخطّ الفاصل بين الثّبات على الإيمان والانحراف عنه على أساس تشريع القبلة. ‏

‏ سادسًا: روى في (مجمع البيان) «عن عليِّ بن إبراهيم، بإسناده عن الصّادق عليه السلام ، قال: تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر. قال: ثمّ وجّهه الله إلى الكعبة؛ وذلك أنّ اليهود كانوا يعيِّرون رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقولون له: أنت تابعٌ لنا تصلِّي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك غمًّا شديدًا، وخرج في جوف اللّيل ينظر إلى آفاق السّماء، ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرًا، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظُّهر، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظُّهر ركعتين، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام ، فأخذ ‏

‏بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: {قدْ نرى‏ تقلُّب وجْهِك فِي السّماءِ فلنُولِّينّك قِبْلةً ترْضاها فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسُّفهاء: ما ولاّهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها»‏26‏ . ‏

‏ولا نريد أن نخوض طويلاً في ما خاض فيه المفسِّرون من إثارة التّساؤل حول كلمة {إِلاّ لِنعْلم منْ يتّبِعُ الرّسُول} في الآية؛ حيث إنّ الله لا يحتاج إلى أيّة وسيلةٍ عمليّةٍ لمعرفة طبيعة الأشخاص؛ لأنّ هذا التّعبير جارٍ على الأسلوب القرآنيِّ الّذي يتحدّث عن الوسائل الّتي توضح الأشياء الخفيّة وتُظهرها، باعتبارها أساسًا للعلم الّذي يريد الله أن يحصل عليه من خلال ذلك، وذلك على سبيل الاستعارة لقيام الحجّة على الإنسان بذلك؛ للتّدليل على أنّ الله لا يعاقب النّاس ولا يحاسبهم إلاّ على أساس ما يظهر له من أفعالهم وأقوالهم. وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: {الم*`أ حسِب النّاسُ أنْ يُتْركُوا أنْ يقُولُوا آمنّا و هُمْ لا يُفْتنُون*`و لقدْ فتنّا الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ فليعْلمنّ اللّهُ الّذِين صدقُوا و ليعْلمنّ الْكاذِبِين} [العنكبوت: 1- 3]. ‏

‏وهكذا كانت القبلة الجديدة اختبارًا للإيمان المستقرِّ في قلوب المؤمنين الّذين يسلمون أمرهم لله، فلا يعترضون على ما يأتيهم الرّسول به من تشريعات؛ لأنّهم يؤمنون بأنّه كما قال تعالى عنه: {و ما ينْطِقُ عنِ الْهوى‏*`إِنْ هُو إِلاّ وحْيٌ يُوحى‏} [النّجم: 3 - 4]؛ ليتميّز هؤلاء عن غيرهم. ‏

{مِمّنْ ينْقلِبُ على‏ عقِبيْهِ} . هذا كنايةٌ عن الّذين يتراجعون عن خطِّ الإيمان، ويسقطون أمام التّجربة، وتثيرهم الشُّكوك وتنحرف بهم عن الخطِّ؛ لأنّهم لا يعيشون الإسلام تسليمًا فكريًّا وروحيًّا وعمليًّا، ولا ينفتحون على الرّسول التزامًا وطاعةً. ‏

{و إِنْ كانتْ لكبِيرةً إِلاّ على الّذِين هدى اللّهُ} . الظّاهر أنّها إشارةٌ إلى هذه الحادثة الّتي تتمثّل في تحويل القبلة إلى الكعبة؛ باعتبار أنّها هزّت المجتمع المسلم من ناحيةٍ فكريّةٍ وعمليّةٍ، فأثارت في داخله الشُّعور باهتزاز التّشريع وعدم ارتكازه على أساسٍ متين من المصلحة والحكمة الثّابتة الّتي لا تغيِّرها الظُّروف والأحوال، في ما كان يوحيه اليهود للمسلمين من نظريّتهم حول النّسخ، كما كانوا يوسوسون لهم بأنّ صلاتهم الّتي كانوا يتوجّهون بها إلى بيت المقدس قد ضاعت عليهم؛ لأنّها كانت إلى غير القبلة الحقيقيّة، فأشبهت حالُهم حال الّذين لا يتوجّهون في صلاتهم إلى الكعبة الآن. ولكنّ الّذين هداهم الله وعرّفهم حقيقة شريعته، وطبيعة ارتباط التّشريع، وهو الّذي يعرف وجه الحكمة في ما يحرِّم وفي ما يحلِّل؛ انطلاقًا من اختلاف المصلحة في بعض الأشياء حسب اختلاف الظُّروف والأحوال، هؤلاء انطلقوا في الموضوع انطلاق تسليمٍ وانقيادٍ وطاعةٍ مطلقةٍ، ووعيٍ منفتحٍ على خلفيّات التّشريع الحكيمة. ‏

‏أمّا قضيّة ضياع إيمان المؤمنين، في ما تمثِّله الصّلاة من روح الإيمان، فليس واردًا في حساب الله. {و ما كان اللّهُ لِيُضِيع إِيمانكُمْ} ؛ لأنّهم قاموا بالصّلاة على أكمل وجه؛ فإنّ العبرة بحصول الشُّروط في حال القيام بالصّلاة، فلا يتبدّل الحال من هذه الجهة إذا تبدّلت الشُّروط؛ لأنّ الشّرط الجديد لا يترك أثرًا رجعيًّا على الأعمال السّابقة، بل يقتصر تأثيره على الصّلوات المقبلة. وهذا ما ينسجم مع رأفة الله ورحمته بعباده، حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدةً لشروطها الكاملة. {إِنّ اللّه بِالنّاسِ لرؤُفٌ رحِيمٌ} . ‏

‏ الامتحان وسلامة المسيرة ‏

‏وقد نستوحي من هذه الآية أنّ اختبار القاعدة الإسلاميّة في حركتها في الواقع مع القيادة، من حيث صدق انتمائها وجدِّيّة إيمانها وصلابة التزامها، قد يكون حاجةً مهمّةً لسلامة المسيرة الإسلاميّة ونجاح الخطط المرسومة؛ باعتبار أنّ ذلك يتكفّل بمعرفة القوى المنحرفة الّتي قد تدخل في الحركة الإسلاميّة، أو في جهاز المرجعيّة، أو في المواقع الاجتماعيّة الحسّاسة، ليرصد الإنسان كلّ خطواتها ويعرِّيها ويفضحها؛ حتّى لا تكيد للمسيرة، ولا تربك الواقع، ولا تعبث بالطّيِّبين السّاذجين من النّاس المؤمنين لتوظِّفهم بطريقةٍ سلبيّةٍ ضدّ الأهداف الإسلاميّة، ولا تعيث في الأرض فسادًا، وذلك بالطّريقة الّتي جرى عليها التّشريع في القبلة، بأن تتحرّك التّعليمات الحركيّة بالأسلوب الّذي يثير الارتباك والتّعقيدات، ولكن مع الحذر في اختيار المضمون والأسلوب والمرحلة، بالمستوى الّذي لا يؤدِّي إلى النّتائج السّلبيّة على الحركة في الوقت الّذي تتحرّك فيه للحصول على إيجابيِّات الواقع. ‏

‏ النّبيُّ في انتظار التّغيير ‏

‏كان النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم - في ما توحي به الآية الكريمة وفي ما تتحدّث به الرِّوايات - يعاني ضيقًا نفسيًّا في موضوع القبلة، فقد كان يواجه التّحدِّي اليهوديّ للمسلمين، الّذي يتمثّل في تعييرهم لهم بتبعيّة قبلتهم، وفي تفاخرهم بذلك عليهم، ما كان يترك تأثيرًا سلبيًّا على نفسيّة المسلمين. ولم تكن القضيّة قضيّة انفعالٍ مضادٍّ ضدّ التّشريع بالتّوجُّه إلى بيت المقدس، بل كان تطلُّعًا روحيًّا إلى قبلةٍ جديدةٍ تنسجم مع أجواء الرِّسالة الإسلاميّة الّتي انطلقت من البلد الحرام والمسجد الحرام، واعتُبرت امتدادًا للخطِّ الإسلاميِّ الّذي بدأه إبراهيم عليه السلام في مُنطلقِه الرُّوحيِّ من الكعبة. ‏

‏وكانت مشاعر محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم تتصاعد في ابتهالٍ داخليٍّ، كمثل الدُّعاء الصّامت الّذي يعبِّر عن نفسه بالنّظرات الخاشعة الّتي توحي وكأنّها تنتظر شيئًا كمثل الهاجس الدّاخليِّ الّذي يشبه الوحي. {قدْ نرى‏ تقلُّب وجْهِك فِي السّماءِ} ، في تطلُّعٍ ابتهاليٍّ ينفتح في روحيّةٍ دعائيّةٍ على ربِّه، في تعبيرٍ عن الرّغبة العقليّة الّتي تنطلق من حساباتٍ دقيقةٍ لمصلحة الرِّسالة، ومن إيحاءاتٍ شعوريّةٍ في وعي التّحدِّي اليهوديِّ ضدّ الإسلام، وذلك في دعاءٍ هادئٍ يرتفع إلى الله، من دون اعتراضٍ على تشريعه للقبلة الأولى، وتوسُّلٍ إليه أن يبدِّلها إلى القبلة الجديدة - وهي الكعبة - الّتي تنسجم مع موقع الرِّسالة الّذي يتجذّر في حركة الأُمّة، من خلال الإحساس بأنّ الدِّين الجديد بحاجةٍ إلى قبلةٍ جديدةٍ تمثِّل رمز الوحدة الحركيّة للأُمّة؛ فإنّ الله الّذي أراد لإبراهيم عليه السلام أن يؤذِّن في النّاس بالحجِّ إلى الكعبة، أعطاها معنى الطّهارة والقداسة والخصوصيّة ‏

‏المميّزة في اعتبارها بيته المحرّم الّذي طهّره - من خلال إبراهيم - {لِلطّائِفِين و الْعاكِفِين و الرُّكّعِ السُّجُودِ} ، كما جعله {مثابةً لِلنّاسِ و أمْناً} ، وغير ذلك من الخصوصيّات الدّاخليّة والخارجيّة الّتي تميِّزه عن بيت المقدس؛ فقد صُنعت الكعبة على عين الله، ولم يكن ذلك لبيت المقدس. ‏

‏وهكذا تقبّل الله ابتهالاته ودعواته، وجاء الوحي ليقرِّر التّشريع للقبلة الجديدة الّتي يرضاها الله كما رضيها رسوله. {فلنُولِّينّك قِبْلةً ترْضاها فولِّ وجْهك} يا محمّد {شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، أي: حوِّل نفسك في توجُّهاتك العباديّة نحو المسجد الحرام الّذي يحتوي الكعبة - القبلة؛ باعتبارها جزءًا منه. ‏

{و حيْثُ ما كُنْتُمْ} أيُّها المسلمون، {فولُّوا وُجُوهكُمْ شطْرهُ} وتوجّهوا إليه؛ ليكون رمز وحدتكم في اتِّجاهكم نحو بيت الله الّذي هو المسجد العالميُّ، سواءً كنتم في البحر، أو في البرِّ، أو في السّهل، أو في الجبل، أو في الجوِّ، أو في الشّرق، أو في الغرب. ولا تنحرفوا عنه إلى غيره يمينًا أو شمالاً، ولا تستدبروه. ‏

‏وقد انطلق التّدقيق بالقبلة من خلال التّحديد الصّريح في ضرورة التّوجُّه إلى المسجد الحرام، حتّى أصبح هناك ما يقارب تأسيس علم القبلة. ‏

‏وهكذا كانت القبلة الجديدة في حركة التّشريع استجابةً للتّطلُّعات الرُّوحيّة النّبويّة، بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من المصالح الإلهيّة الّتي يريد الله للنّاس أن يحصلوا عليها من خلال ذلك. وهكذا وجّه الله نبيّه إلى جهة المسجد الحرام؛ لاشتماله على الكعبة، وهو قائمٌ يصلِّي في مسجد بني سالم - في ما تنقله روايات أسباب النُّزول - ودعا المسلمين إلى التّوجُّه إليه في أيِّ مكانٍ كانوا. ‏

‏وأثار الله بذلك أمامه قضيّة أهل الكتاب الّذين لا ينطلقون من الواقع في ما ينطلقون فيه من حديثٍ وإثارةٍ، بل ينطلقون من العناد والمكابرة والكذب. {و إِنّ الّذِين أُوتُوا الْكِتاب} ، ولا سيّما اليهود الّذين بادروا بالاعتراض، وأوحوا للمنافقين أن يرفعوا الصّوت عاليًا بذلك، بعد أن كانوا يتحدُّون النّبيّ ويستعلون عليه، لتوجُّهه إلى قبلتهم نحو بيت المقدس، {ليعْلمُون أنّهُ الْحقُّ مِنْ ربِّهِمْ} . قال في (مجمع البيان): «أي: يعلمون أنّ تحويل القبلة إلى الكعبة حقٌّ مأمورٌ به من ربِّهم، وإنّما علموا ذلك لأنّه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبيٌّ من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنّه يصلِّي إلى القبلتين. ورُوي أنّهم قالوا عند التّحويل: ما أُمِرت بهذا يا محمّد، وإنّما هو شي‏ءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك مرّةً إلى هنا، ومرّةً إلى هنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبيّن أنّهم يعلمون خلاف ما يقولون»‏27‏. ‏

‏وربّما كان وصفهم بتعبير: {أُوتُوا الْكِتاب} في الآية إيحاءً بأنّ تحويل القبلة موجودٌ في الكتاب؛ لأنّهم يعلمون أنّ الخطّ الّذي تسير عليه في العقيدة وفي التّشريع هو الحقُّ من ربِّهم، وذلك في ما تحدّثت به التّوراة، الّتي يعرفونها جيِّدًا ويخفونها عن النّاس، وهم يظنُّون أنّ الله يغفل عنهم في ما يدبِّرون من مكائد، {و ما اللّهُ بِغافِلٍ عمّا يعْملُون} من الخطط التّخريبيّة العدوانيّة الّتي يخطِّطونها في حركتهم المضادّة للنّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ من أجل أن يصدُّوا عن سبيل الله ويفتنوا النّاس عن دينهم الحقِّ، فالله تعالى لا يغفل عنهم وعن أعمالهم على أيِّ حال، فهو المطّلع على كلِّ شي‏ءٍ من أمور عباده. ‏

‏ موقف العناد والجهود الضّائعة ‏

{و لئِنْ أتيْت الّذِين أُوتُوا الْكِتاب بِكُلِّ آيةٍ ما تبِعُوا قِبْلتك} ؛ لأنّهم لا يريدون الانفتاح على رسالتك، فقد أغلقوا كلّ النّوافذ الرُّوحيّة والفكريّة الّتي تطلُّ على الحقِّ، ولذلك فإنّ الجهد الّذي تصرفه معهم من أجل أن تقنعهم بالحقِّ الّذي معك، هو جهدٌ ضائعٌ لا يؤدِّي إلى النّتيجة المطلوبة، فالقضيّة ليست قضيّة الدّلائل والبيِّنات الّتي تقدِّمها إليهم، كثرةً أو قلّةً، بل هي الباب المغلق الّذي يقفون خلفه ولا يريدون الخروج منه، فلو أنّك قدّمت لهم كلّ الآيات ما اتّبعوا قبلتك، {و ما أنْت بِتابِعٍ قِبْلتهُمْ} ؛ وذلك من خلال الحقِّ الّذي تؤمن به. ‏

‏ثمّ إنّ القضيّة لديهم ليست قضيّة العناد الّذي لا يلين للحقِّ معك، بل إنّ الموقف الّذي يحكم علاقة بعضهم ببعض يتّخذ الأسلوب نفسه؛ فإنّ اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، أمّا النّصارى فيستقبلون المشرق أينما كانوا، دون أن يتنازل أحدهم للآخر، {و ما بعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلة بعْضٍ} . ‏

‏وتنطلق الآية أخيرًا في مواجهة الموقف بأسلوب التّهديد لأيّة حالةٍ من حالات الاستسلام للضُّغوط المتنوِّعة الّتي يمكن أن يخضع لها المسلمون في مثل هذه المجالات. وتزداد المواجهة حدّةً وتأكيدًا بتوجيه الخطاب إلى النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، كأسلوبٍ من أساليب القرآن في الإيحاء للأُمّة بخطورة القضيّة؛ فإنّ القوم لا ينطلقون من موقفٍ فكريٍّ ‏

‏للحقِّ، بل يتحرّكون من خلال أهوائهم. فيأتي الخطاب: {و لئِنِ اِتّبعْت أهْواءهُمْ مِنْ بعْدِ ما جاءك مِن الْعِلْمِ إِنّك إِذاً لمِن الظّالِمِين} ، الّذين يظلمون أنفسهم فيبتعدون بها عن الحقيقة الأصيلة الّتي انفتحوا عليها من خلال المعرفة العميقة الواسعة، ويظلمون العقل الّذي يمثِّل القاعدة لوجودهم الإنسانيِّ، والّذي يركِّز لهم كلّ خطواتهم في الحياة ويضعها على الدّرب المستقيم، ويظلمون مصيرهم الّذي يتحرّكون به إلى النّار بدلاً من الجنّة. فكيف يمكن لمن يملك وضوح الرُّؤية للموقف أن يستسلم لأهواء الآخرين؟! إنّ النتيجة ستكون استسلامًا لنوازع الظُّلم للذّات وللقضيّة وللأُمّة، ما يجعل المصير في اتِّجاه مصير الظّالمين. ‏

‏ معرفة أهل الكتاب للنّبيِّ ‏

‏ويؤكِّد القرآن من جديد أنّ أهل الكتاب لا يعيشون حالة جهلٍ للنّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ولرسالته؛ فقد عرّفتهم التّوراة صفاته جيِّدًا، فعرفوه في وضوحٍ من الرُّؤية كما عرفوا أبناءهم، ولكنّهم يكتمون الحقّ وهم يعلمونه؛ نتيجة عنادهم وتمرُّدهم وضلالهم. ‏

‏ويختم القرآن الموقف بأنّ الحقّ من الله، فلا مجال فيه للشّكِّ والرّيب والتّوقُّف أمام أيِّ موقفٍ من مواقف التّحدِّي الّذي يمارسه الباطل ضدّ الحقِّ. ‏

‏ثمّ يحدِّد القضيّة بشكلٍ حاسمٍ؛ فلكلِّ إنسانٍ وجهةٌ في حياته يصرف وجهه إليها ويتّجه نحوها، فأهل الباطل يتّجهون إلى رموز الباطل وعلاماته، وأهل الحقِّ يتّجهون إلى رموز الحقِّ وعلاماته، ولكلِّ واحدٍ منهم عملٌ، فأهل الخير يتحرّكون في اتِّجاه الخير ويتسابقون نحوه، وأهل الشّرِّ يتحرّكون في اتِّجاه الشّرِّ ويستبقون إليه. ‏

‏ثمّ يطرح القرآن النِّداء الحاسم للمؤمنين أن يستبقوا الخيرات في كلِّ موقفٍ وفي كلِّ منعطفٍ، ليعرفوها ويعيشوها فكرًا وشعورًا وعملاً، وستكون نهاية الجميع عند الله، فإنّ الله لا يفوته أحدٌ ولا يعجزه مطلوبٌ، مهما ابتعد ومهما نأى، فسيأتي به الله؛ لأنّه على كلِّ شي‏ءٍ قديرٌ. ‏

{الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب} وهم العلماء منهم، { يعْرِفُونهُ } أي: رسول الله في صدقه في نبوّته، {كما يعْرِفُون أبْناءهُمْ} في وضوح الرُّؤية وإشراقة اليقين؛ من خلال بشارة التّوراة والإنجيل به، وحديثهما عنه بأوصافه ودلائله الّتي تشير إليه. وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {الّذِين يتّبِعُون الرّسُول النّبِيّ الْأُمِّيّ الّذِي يجِدُونهُ مكْتُوباً عِنْدهُمْ فِي التّوْراةِ و الْإِنْجِيلِ يأْمُرُهُمْ بِالْمعْرُوفِ و ينْهاهُمْ عنِ الْمُنْكرِ و يُحِلُّ لهُمُ الطّيِّباتِ و يُحرِّمُ عليْهِمُ الْخبائِث و يضعُ عنْهُمْ إِصْرهُمْ‏‏ ‏‏و الْأغْلال الّتِي كانتْ عليْهِمْ فالّذِين آمنُوا بِهِ و عزّرُوهُ و نصرُوهُ و اِتّبعُوا النُّور الّذِي أُنْزِل معهُ أُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف: 157]، وقوله: {و إِذْ قال عِيسى اِبْنُ مرْيم يا بنِي إِسْرائِيل إِنِّي رسُولُ اللّهِ إِليْكُمْ مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و مُبشِّراً بِرسُولٍ يأْتِي مِنْ بعْدِي اِسْمُهُ أحْمدُ فلمّا جاءهُمْ بِالْبيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]. ‏

‏واحتمل بعضهم أن يكون الضّمير في: { يعْرِفُون } عائدًا إلى الكتاب‏‏28‏. ولكنّه غير ظاهرٍ؛ لأنّه لا مناسبة له في السِّياق العامِّ في موضوع الجدال الّذي يدور حول النّبيِّ والنُّبوّة أمام مفردات التّشكيك الّتي تُوجّه إليه، كما أنّ تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء قد يوحي بذلك؛ فإنّه يقال في الإنسان: إنّ فلانًا يعرفه كما يعرف ولده، ولا يُقال ذلك في الكتاب. ‏

{و إِنّ فرِيقاً مِنْهُمْ ليكْتُمُون الْحقّ} الّذي قامت الحجّة عليهم به بمعرفته اليقينيّة، {و هُمْ يعْلمُون} ؛ لأنّهم لا يملكون أساسًا لأيّة شبهةٍ في ذلك. ‏

{الْحقُّ مِنْ ربِّك} ، الّذي أنزله إليك وبيّنه لك في وضوح الوحي وإشراقته، {فلا تكُوننّ مِن الْمُمْترِين} : الشّاكِّين في أيِّ شأن من شؤونه. ‏

‏والظّاهر أنّ الخطاب - كما ذكرنا - موجّهٌ لرسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم {و الّذِي جاء بِالصِّدْقِ و صدّق بِهِ أُولئِك هُمُ الْمُتّقُون} [الزُّمر: 33]، وهو جارٍ على أسلوب خطاب الأُمّة من خلال خطاب الرّسول، ما يوحي بأنّ على الأُمّة أن لا تقع تحت تأثير عناصر الشّكِّ الّتي يحاول الكافرون من أعداء الإسلام إثارتها في وجدانهم الفكريِّ. ‏

{و لِكُلٍّ وِجْهةٌ هُو مُولِّيها} أي: أنّ لكلِّ قومٍ وجهةً يتّجهون إليها؛ من خلال القاعدة الفكريّة الإيمانيّة الّتي يرتكزون عليها في ما يأخذون به، أو يتركونه، أو ينطلقون به من مواقع ومواقف وعلاقات بالحياة وبالإنسان، بما في ذلك الأنبياء الّذين ينطلق كلُّ واحدٍ منهم بملّته ووجهته الّتي تختلف في خصوصيّاتها، فتتعدّد جهاتها، ولكنّها تلتقي في الإسلام الّذي يجمع الرِّسالات كلّها عند الانقياد لله في كلِّ شي‏ء. ‏

‏وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يتحرّكوا فيه في انفتاحهم على الكعبة الّتي أراد الله لهم أن يتوجّهوا إليها، بعيدًا عن كلِّ عناصر الشّكِّ الّتي يثيرها اليهود والمنافقون في عمليّة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ليعرفوا أنّه ليس من الضّروريِّ أن يتّبعوا القبلة الّتي شرّعها الأنبياء من قبلهم؛ لأنّه من الممكن أن يختلف اتِّجاه القبلة بين رسالةٍ وأخرى، وبين نبيٍّ وآخر. ‏

{فاسْتبِقُوا الْخيْراتِ} . فهذا هو الوجه الّذي أراد الله لكم أن تستقبلوه في كلِّ مواقع حياتكم، في رسالتكم الّتي حمّلكم الله إيّاها من خلال رسوله، بالمسارعة إلى الخيرات الّتي تمثِّل حركة الحياة في إيجابيّاتها الرُّوحيّة والأخلاقيّة، في الإنسان بعلاقته بالإنسان الآخر، وبالكون من حوله، عندما يقدِّم من عقله وقلبه وروحه وجهده الكثير من الأفكار والمشاعر والعواطف والأعمال الّتي تفتح آفاقه على عوالم جديدة، كما توجِّه خطواته إلى دروبٍ جديدة، وترتفع بحياته إلى الدّرجات العليا على مستوى تطوير طاقاته وتنميتها وتحويلها إلى عناصر حيّة في كلِّ اتِّجاهٍ من اتِّجاهات الحركة في الحياة. ‏

‏إنّها الخيرات، العنوان الكبير لاستقامة الحياة على الخطِّ الصّالح الّذي يربط بين الله والإنسان والحياة، في دائرة المسؤوليّات العامّة الّتي يريدها الله للحياة من خلال الإنسان، لتكون على الصُّورة الّتي أراد لها أن تتمثّل فيها على أساس الحقِّ الّذي أقام عليه الكون كلّه. وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يتنافسوا فيه ويلتقوا عليه، ليواجهوا مسؤوليّتهم أمام الله غدًا، فيحاسبهم على ما قدّموه من الخيرات الّتي أمرهم الله بالسّعي إليها والعمل بها، عندما يقوم النّاس لربِّ العالمين. ‏

{أيْن ما تكُونُوا} ، في أيِّ مكانٍ وموقع، {يأْتِ بِكُمُ اللّهُ جمِيعاً} ؛ حيث يبعثكم كما خلقكم، وأماتكم، {إِنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} ، فلا شي‏ء خارج قدرة الله تعالى، وليس البعث بأصعب من الخلق، وليس الجمع بأصعب من التّفريق. ‏

‏ لا مجال للتّراجع ‏

‏وتعود الآيات مع التّشريع الجديد في خطابٍ حاسمٍ للنّبيِّ، لتؤكِّد له أنّه الحقُّ من ربِّه، فلا مجال للتّراجع عنه مهما حشد اليهود من ضغوط، ومهما اتّبعوا من أساليب التّضليل؛ فإنّ الله لا يغفل عمّا يعمله عباده إزاء تكاليفه من طاعةٍ أو معصيةٍ. ويعود الخطاب من جديدٍ للنّبيِّ أوّلاً وللمسلمين ثانيًا بالقوّة الآمرة نفسها، وبتعليلٍ جديدٍ؛ فإنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية تتحدّث عن تعاليم واردةٍ في الكتب الدِّينيّة السّابقة الّتي تذكر أنّ النّبيّ سيصلِّي إلى الكعبة، ما يجعل من الانحراف عن ذلك حجّةً للآخرين على المسلمين؛ لأنّه يكشف أنّهم ليسوا الأُمّة الموعودة في الكتب السّماويّة. ‏

‏ثمّ استثنى من هؤلاء النّاس الظّالمين، الّذين لا يريدون أن يستسلموا للحقِّ الّذي يعرفونه في كتبهم، بل يسيرون في طريق العناد والظُّلم للحقيقة وللمؤمنين، فلا تخشوهم أيُّها المؤمنون؛ لأنّهم لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة ولا يملكون أن يضرُّوكم شيئًا، بل اجعلوا خشيتكم من الله الّذي يملك لكم كلّ شي‏ءٍ. ‏

‏وتلتقي الآية بالنِّعمة الّتي يريد الله أن يُتمّها على المسلمين، من جهة إكمال التّشريع الّذي يبني لهم حياتهم على أساسٍ من الاستقرار والطُّمأنينة والسّعادة الرُّوحيّة والمادِّيّة. وفي هذا دلالةٌ على أنّ تدرُّج التّشريع وتطوُّره يعتبر تدرُّجًا بالنِّعمة، فكأنّ الله لا يريد أن يعطي النِّعمة دفعةً واحدةً، بل يريد أن يجعل من كلِّ نعمةٍ ينزلها على الإنسان في تشريعه إعدادًا لنعمةٍ جديدةٍ، في الطّريق الأرحب نحو التّكامل. ‏

{و مِنْ حيْثُ خرجْت} ، من أيِّ موقعٍ من البلدان الّتي تبتعد بك عن المسجد الحرام أو عن مكّة، {فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، في صلاتك وفي كلِّ عملٍ مشروطٍ باستقبال القبلة. {و إِنّهُ للْحقُّ مِنْ ربِّك} ، فهو القبلة الّتي شرّعها الله، وجعلها القاعدة الّتي تتوحّدون فيها، وتتوجّهون إليها، في موقعٍ من مواقع الإلزام الشّرعيِّ الّذي لا مجال للانحراف عنه تحت تأثير أيّة حالةٍ ذاتيّةٍ أو أيِّ ضغطٍ خارجيٍّ، {و ما اللّهُ بِغافِلٍ عمّا تعْملُون} ، فلا تغفلوا عن الحقيقة الإيمانيّة في مراقبة الله لكم في كلِّ الأمور. ‏

{و مِنْ حيْثُ خرجْت فولِّ وجْهك شطْر الْمسْجِدِ الْحرامِ} ، فهذا هو التّشريع المؤكّد الّذي يزداد تأكيدًا على مستوى الفريضة اليوميّة الّتي يجب عليكم أن تنفتحوا عليها في وعي الفكرة، وتلتزموا بها في وعي العمل، لتتحوّل لديكم إلى عادةٍ جديدةٍ تنسخ العادة السّابقة، لتشعروا بأنّ التّشريع الجديد قد تحوّل إلى واقعٍ جديدٍ. وتلك هي مهمّة التّشريع في حياة المسلمين، بأن يتحوّل إلى حالةٍ تغييريّةٍ في حياة الأُمّة، لتكون في حجم العادة التّاريخيّة المتجذِّرة في وجودها العمليِّ، لا مجرّد حالةٍ طارئةٍ في الواقع، ليلتقي الخطُّ في فريضة النّبيِّ الّذي لا بُدّ من أن يكون أوّل مسلمٍ في وعي التّشريع وحركته، وفي فريضة الأُمّة. {و حيْثُ ما كُنْتُمْ فولُّوا وُجُوهكُمْ شطْرهُ} ، في صلاتكم وعباداتكم الأخرى المشروطة بالتّوجه إلى القبلة، وعليكم أن تتابعوا ذلك وتلتزموه دائمًا. ‏

{لِئلاّ يكُون لِلنّاسِ عليْكُمْ حُجّةٌ} ، من خلال التّاريخ الّذي كان يتحدّث به اليهود - كما حُكي - أنّ النّبيّ الموعود يصلِّي إلى قبلتين، أو ما كان يتحدّث به المشركون -كما قيل - ويتساءلون كيف ترك محمّدٌ الكعبة وهو المؤهّل - كما يقول - لإحياء ملّة إبراهيم الّتي سار عليها‏29‏ ؟ فإذا التزمتم بالكعبة قبلةً أبطلتم حجّة هؤلاء المضادّة، ممّن ينفتح على الحوار ويقف أمام الحجّة. ‏

{إِلاّ الّذِين ظلمُوا مِنْهُمْ} ، ممّن يعيش في مواقفه المضادّة على أساس العناد الّذي لا ينطلق من حجّةٍ أو برهانٍ، بل من ذهنيّة العدوان الذّاتيِّ، من خلال العقدة المستحكمة في نفسه ضدّ الحقِّ وأهله. فليست المشكلة عند هؤلاء نوعيّة الاتِّجاه إلى بيت المقدس أو الكعبة، بل المشكلة هي التزامكم بالدّعوة الجديدة والدِّين الجديد الّذي يلغي امتيازاتهم النّاشئة من الفكر الباطل والخطِّ المنحرف، فهم الظّالمون في مواقفهم وفي كلِّ اتِّجاهاتهم الفكريّة والعمليّة، {فلا تخْشوْهُمْ} ؛ لأنّهم لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا، {و اِخْشوْنِي} ؛ لأنِّي ربُّكم الّذي يملك وجودكم ومصيركم كلّه، ما يفرض عليكم الالتزام بالدِّين الّذي أنزلتُه والرّسول الّذي أرسلتُه. ‏

{و لِأُتِمّ نِعْمتِي عليْكُمْ} ، في استقامة التّشريع على الخطِّ الّذي تتكامل فيه قضاياكم ومواقفكم وخطواتكم في الحياة؛ باعتبار أنّ الله يريد للنّاس أن يتابعوا نعمه في تشريعاته، كما يتابعونها في أوضاعهم العامّة والخاصّة. {و لعلّكُمْ تهْتدُون} ، بما يوفِّره الله لكم من وسائل الهداية في امتحانه لكم، واختباره لثباتكم على الإيمان، وذلك إذا أخذتم بأسباب الهدى في ما يشرِّعه الله لكم من أحكامه ويوضحه لكم من مفاهيمه. ‏

‏ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم النِّعمة الإلهيّة التّامّة ‏

‏ثمّ يعطي للمسلمين الصُّورة الكاملة المتجسِّدة للنِّعمة التّامّة الشّاملة في هذا الرّسول العظيم، الّذي جاء من أجل أن يرفع مستوى الإنسانيّة في ما يتلوه من آيات الله، ويزكِّي ضمائر النّاس وحياتهم، ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، وما لم يعلموه من حقائق الحياة في الدُّنيا والآخرة. وينتهي الفصل بأمرهم بأن يذكروا الله في وجدانهم، وفي ألسنتهم، وفي وعيهم لمسؤوليّتهم أمامه في الحياة؛ ليذكِّرهم بنعمه وعفوه وغفرانه. ودعاهم إلى أن يشكروا نعمته عليهم، ولا يكفروا بها ويجحدوها؛ لئلاّ يعاقبهم الله بإزالتها عنهم. ‏

{كما أرْسلْنا فِيكُمْ رسُولاً مِنْكُمْ} . فهذه هي النِّعمة الكبرى الّتي تتفرّع عنها كلُّ النِّعم الصّغيرة في تفاصيل التّشريع؛ لأنّه يفتح لكم الأُفُق الكبير الّذي يطلُّ بكم على كلِّ جمالات الحقِّ وروائع الإيمان، {يتْلُوا عليْكُمْ آياتِنا} الّتي توحي إليكم بكلِّ الحقيقة الصّافية، وترتفع بكم إلى الدّرجات العليا من المعرفة، وتمهِّد لكم سبل الحياة القويمة، وتعرِّفكم ما يصلح أمركم أو يفسده، وتقرِّبكم إلى الله وإلى الخطِّ المستقيم للسّعادة في الدُّنيا والآخرة. ‏

{و يُزكِّيكُمْ} وينمِّي أرواحكم بالخير، ويربِّي نفوسكم على الطُّهر والنّقاء، ويبتعد بكم عن كلِّ الرّذائل والنّقائص الأخلاقيّة. {و يُعلِّمُكُمُ الْكِتاب} ، الّذي أنزله الله على رسوله ليكون المنهج الّذي تأخذون به في كلِّ خطواتكم في الحياة، {و الْحِكْمة} الّتي تعرِّفكم كيف تركِّزون أقدامكم على الصِّراط المستقيم وتضعون كلّ شي‏ءٍ في موضعه، فلا تخطئون في موقع، ولا تنحرفون في طريق، {و يُعلِّمُكُمْ ما لمْ تكُونُوا تعْلمُون} ، من فنون المعرفة في عالم الغيب والشّهادة، ما لم يسبق لكم معرفته في تجاربكم الماضية. ‏

{فاذْكُرُونِي} في كلِّ ما يفتح عقولكم وقلوبكم على معنى الألوهيّة والرُّبوبيّة في ذات الله، ليدفعكم ذلك إلى الوعي العميق للحضور الشّامل لله في كلِّ حياتكم العقليّة في معنى الفكر، وفي حياتكم العمليّة في خطِّ الواقع، لتذكروا كلّ صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، ونعمه الوافرة، وآياته الكثيرة ولتتحرّكوا في اتِّجاهه في كلِّ موقعٍ وموقفٍ، فهو الذِّكر الّذي يخرجكم من الغفلة، ويفتح لكم أبواب المعرفة، لتعيشوا معه في عالم الشُّهود من خلال الوعي الرُّوحيِّ المنطلق من عالم الغيب، وهو الذِّكر الّذي يجعل الإنسان قريبًا إلى الله بروحه وجسده، ليكون الله معه في كلِّ حال، وليراه مع كلِّ شي‏ءٍ وخلف كلِّ شي‏ءٍ. { أذْكُرْكُمْ } بالرّحمة والنِّعمة والمغفرة والرِّضوان، ما يجعلكم تحت رعايتي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ. ‏

{و اُشْكُرُوا لِي} نعمتي الّتي أنعمت عليكم، بالكلمة والفعل والموقف، ليكون الشُّكر باللِّسان في الكلمة المعبِّرة، وبالفعل في الطّاعة لله وامتثال أوامره ونواهيه، وبالموقف في موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وإعزاز الحقِّ وإذلال الباطل، وفي غير ذلك ممّا يكون موقعًا لرضوان الله. {و لا تكْفُرُونِ} ، ولا تجحدوا النِّعمة بأساليب التّمرُّد والطُّغيان والمعصية؛ فإنّ ذلك يعرِّضكم للغضب الإلهيِّ والعذاب الشّديد، بينما يؤهِّلكم الشُّكر للزِّيادة في أعماركم وأرزاقكم وكلِّ أوضاعكم المتّصلة بكلِّ شؤونكم في الحياة. ‏

‏ الذِّكر والشُّكر بين الكلمة والموقف ‏

‏وقد جاءت الأحاديث المأثورة، إلى جانب المدلول الحيِّ للآية في الموقف القويِّ أمام الكافرين والمنافقين من خلال الموقف الخاضع لله، لتُخرج الذِّكر لله والشُّكر له من مدلوله اللّفظيِّ إلى موقفٍ عمليٍّ، يتمثّل فيه ذكره بالانضباط العمليِّ في حالات الاهتزاز النّفسيِّ الّتي يتعرّض فيها الإنسان لضغوط الانحراف الرُّوحيّة والعمليّة، فيكون الشُّعور العميق بحضور الله في نفسه، من خلال الإحساس بحضوره المهيمن على الكون كلِّه، دافعًا للإنسان إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، ومانعًا له عن الانسياق وراء تيّارات الضّلال والانحراف. وهذا ما عبّر عنه الحديث المرويُّ في (عدّة الدّاعي) عن رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه «خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذِّكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله تعالى يُنزل العبد حيث أنزل العبدُ الله من نفسه، واعلموا أنّ خير أعمالكم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشّمس ذكرُ الله سبحانه؛ فإنّه أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال سبحانه: {فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ} بنعمتي، واذكروني بالطّاعة والعبادة أذكركم بالنِّعم والإحسان والرّحمة والرِّضوان»‏30‏ . ‏

‏وعن الحسن البزّاز قال: «قال لي أبو عبدالله [جعفر الصّادق‏] عليه السلام : ألا أخبرك بأشدِّ ما فرض الله على خلقه؛ ثلاث؟ قلت: بلى، قال: إنصاف النّاس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر الله في كلِّ موطن، أما إنِّي لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلِّ موطنٍ إذا هجمت على طاعةٍ أو على معصية»‏31‏ . ‏

‏وليس معنى التّأكيد للجانب العمليِّ للذِّكر هو التّهوين من الجانب الآخر الّذي يتمثّل في الذِّكر باللِّسان، في كلمات التّسبيح والتّحميد والتّهليل والاستغفار، بل قد يكون هذا مقدِّمةً لذاك؛ لأنّ الاستمرار في ذكر آلاء الله ونعمائه وعظمته باللِّسان يخلق لدى الإنسان حالةً رائعةً منفتحةً على الله، حتّى ليحسّ به في كلِّ شؤون حياته، ما يؤدِّي به إلى الإحساس بضرورة طاعته في كلِّ شي‏ءٍ. ‏

‏وفي ضوء ذلك كلِّه، نفهم أنّ المقابلة بين ذكر الله لعبده، وبين ذكر العبد لله، تعطينا الفكرة الإسلاميّة الّتي توحي للعبد بأنّ استحقاقه لرعاية الله له بنعمه وألطافه، مشروطٌ بانضباطه العمليِّ أمام أوامره ونواهيه، كما هي الحال في ميثاق الله لعباده، وعهد العباد أمام ربِّهم في قوله تعالى: {يا بنِي إِسْرائِيل اُذْكُرُوا نِعْمتِي الّتِي أنْعمْتُ عليْكُمْ و أوْفُوا بِعهْدِي أُوفِ بِعهْدِكُمْ و إِيّاي فارْهبُونِ} [البقرة: 40]. ‏

‏وإنّنا نشعر في هذا التّأكيد على ذكر الله في الكلمة والموقف، بأنّ حركة الإيمان في داخل نفس المؤمن وحياته تحتاج إلى الارتباط العميق بالله، ليكون للإيمان أصالته في نفسه، فتتركّز القاعدة على أساسه، وتنطلق الأعماق من خلاله بعفويّةٍ وبساطةٍ ووعي. ‏

‏وقد نحتاج، في سبيل الوصول إلى هذا الهدف، إلى الإفساح في المجال للأساليب التّربويّة الّتي تريد صنع الشّخصيّة الإسلاميّة لدى الأطفال والشّباب والشُّيوخ، لنؤكِّد ذكر الله من خلال الكلمة في إطارٍ من الوعي لمعانيها، وذكره من خلال الموقف في تدريب الإنسان المسلم على أن يمارس التّجارب اليوميّة لأوضاع حياته في هذا الجوِّ المنفتح على ذكر الله، وذلك بإعطاء الدُّروس الفكريّة والعمليّة من خلال موجِّهين واعين يعرفون كيف يحرِّكون الكلمة في اتِّجاه الموقف، ويدفعون الموقف نحو الإحساس بالله. ‏

‏أمّا الشُّكر، فهو الدّعوة الثّانية الّتي يختم بها الله هذه الآيات، ليوجِّه النّاس إلى أن يشكروه ولا يكفروا به، وليست الدّعوة لكلمة الشُّكر، بل هي دعوةٌ إلى موقف الشُّكر، وذلك بأن يقوم بالطّاعة ويجتنب المعصية، ويعبد الله كما ينبغي له. وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عن رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام ، قال: «كان رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول‏الله لِم تُتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبدًا شكورًا؟ قال: وكان رسول‏الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه: {طه*`ما أنْزلْنا عليْك الْقُرْآن لِتشْقى‏} [طه: 1 - 2]»‏32‏ . ‏

‏وقد رُوي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام أنّه قال: «شكر النِّعمة اجتناب المحارم، وتمام الشُّكر قول الرّجل: الحمد لله ربِّ العالمين»‏33‏ . ورُوي عنه، في ما رواه أبو بصير، قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام : هل للشُّكر حدٌّ إذا فعله العبد كان شاكرًا؟ قال: نعم، قلت: ما هو؟ قال: يحمد الله على كلِّ نعمةٍ عليه في أهل ومال، وإن كان في ما أنعم الله عليه في ماله حقٌّ أدّاه»‏34‏ . ‏

‏وهكذا يلتقي الشُّكر في الكلمة بالشُّكر في الممارسة، ليتأكّد الأسلوب الإسلاميُّ التّربويُّ الّذي لا يحوِّل العلاقة بالله إلى كلماتٍ تقليديّةٍ ربّما ينتهي الأمر فيها إلى الجمود، بل يبعث فيها الرُّوح الّذي يجعل منها تجسيدًا حيًّا للمبادئ الرُّوحيّة في خطوات الإنسان العمليّة في كلماته وأفعاله. ‏

‏ شكر الإنسان شكرٌ للّه ‏

‏وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أنّ شكر الله يمتدُّ حتّى يتمثّل في شكر الإنسان للنّاس على ما قدّموه له من خدماتٍ في حياته الخاصّة والعامّة، حتّى أنّ الإنسان الّذي لا يشكر النّاس لا يشكر الله؛ فقد جاء في الحديث عن الإمام عليِّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنّه قال: «إنّ الله يحبُّ كلّ قلبٍ حزين، ويحبُّ كلّ عبدٍ شكور. يقول الله تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانًا؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشْكرُكُمْ لله أشْكرُكُم للنّاس»‏35‏ . ‏

‏ولعلّ من المعروف لدينا أنّ هذا الاتِّجاه التّربويّ في اعتبار شكر الإنسان على عمله شكرًا لله، يتحرّك في الخطِّ الإسلاميِّ الّذي يدعو النّاس إلى تشجيع المحسنين على إحسانهم؛ لأنّ من طبيعة الإنسان العامل في الخير أنّه يحبُّ أن يجد صدى عمله في مواقف الآخرين منه، وإن لم يكن ذلك عن عقدةٍ ذاتيّةٍ، فإذا لم يحصلوا على ذلك، بل وجدوا إهمالاً وجحودًا، كان هذا موجبًا لتثبيطهم عن السّير بعيدًا في هذا الاتِّجاه، وقد ورد في وصيّة الإمام عليٍّ عليه السلام لمالك الأشتر: «ولا يكوننّ المحسنُ والمسي‏ء عندك بمنزلةٍ سواء؛ فإنّ في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان»‏36‏ . ‏

‏ولا يتنافى ذلك مع الرُّوح الإسلاميّة الّتي تدعو الإنسان إلى أن يعتبر الله هو السّبب الأعمق في الأشياء، فلا يملك العبد من أمره إلاّ ما ملّكه؛ لأنّ الله يريد - في الوقت نفسه - أن لا يغفل الإنسان دور الواسطة الّتي جعلها الله أداة لإيصال نعمه إليه، ولهذا أمر الإنسان بأن يشكر والديه كما يشكر ربّه في قوله تعالى: {و وصّيْنا الْإِنْسان بِوالِديْهِ حملتْهُ أُمُّهُ وهْناً على‏ وهْنٍ و فِصالُهُ فِي عاميْنِ أنِ اُشْكُرْ لِي و لِوالِديْك إِليّ الْمصِيرُ} [لقمان: 14]. ‏

‏وقد يكون من أسباب التّركيز على هذا الجانب، أنّ الإنسان عادةً يحسُّ بتأثير الأشياء المحسوسة لديه أو القريبة من إحساسه، فإذا لم يتأثّر أو ينفعل بالخدمات المباشرة المحسوسة لديه ممّن يعيش معهم، فإنّ ذلك يكشف عن فقدان حسِّ الشُّكر لديه، الأمر الّذي يؤدِّي إلى أن يفقد روح الشُّكر لله سبحانه في نهاية المطاف. ‏

‏ ‏‏تلخيصٌ وتأمُّلٌ ‏

‏وفي ختام هذا الفصل، نقف عدّة وقفات لنتأمّل الأفكار الأساسيّة فيه في عدّة نقاط: ‏

‏ 1 - إنّ أعداء الله في بداية الدّعوة كانوا يحاولون إثارة كلِّ نقاط الضّعف لدى المسلمين، من أجل أن يدفعوهم نحو الانحراف عن الإسلام. ‏

‏ 2 - إنّ الإسلام - في القرآن الكريم - قد واجه القضيّة المثارة أمام التّشريع الجديد مواجهةً حاسمةً، في ما حشده من الأساليب المتنوِّعة الّتي تكشف الخلفيّات الذّاتيّة والفكريّة المنحرفة الكامنة وراء ذلك كلِّه. ‏

‏ 3 - إنّ الفصل بأكمله وحدةٌ متكاملةٌ، نجد فيها القرآن يتحرّك في اتِّجاه تشويه صورة أعداء الله من جهةٍ، وتحليل طبيعة التّشريع من جهةٍ، ثمّ يدفع بالأُمّة إلى الواجهة، ليوحي لها بموقعها من بقيّة الأُمم، ومنهم اليهود، الّذين يستدعي منهم التّحرُّك من موقع الفعل لا الانفعال، من خلال ما كانوا يعلمونه من الحقِّ... وتتحرّك من جديد لتفلسف التّشريع ولتربطه بالجانب التّربويِّ للأُمّة وبالتّطلُّعات الرُّوحيّة للنّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم . وتتنوّع الأساليب الّتي تكشف للنّبيِّ الصُّورة الحقيقيّة للموقف اليهوديِّ بالمستوى الّذي لا يبقى معه مجالٌ للتّجربة. ويظلُّ الفصل مشدودًا للتّشريع في عمليّة إصرارٍ وتأكيدٍ، ليظلّ المسلمون معه بعيدًا عن كلِّ اهتزازٍ وارتباك. ‏

‏4 - إنّ المسيرة الإسلاميّة المعاصرة تلتقي بكثيرٍ من الأساليب المماثلة الّتي يثيرها خصوم الإسلام وأعداؤه ضدّ التّشريعات الإسلاميّة في بعض الحالات، وضدّ الأساليب العمليّة المتنوِّعة المتغيِّرة للعاملين في سبيل الله، حسب حاجة العمل إلى التّغيير والتّبديل، ما يشابه كثيرًا من هذه الأجواء الّتي كان يثيرها اليهود أمام النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم . ‏

‏ 5 - إنّ علينا التّوفُّر على دراسة هذا الفصل كنموذجٍ للأساليب الإسلاميّة العمليّة في مواجهة حالات التّشكيك والتّضليل والإثارة، واعتباره أسلوبًا رائدًا في هذا المجال، من خلال التّأكيد على ملاحظة الطّبيعة المشابهة للظُّروف الموضوعيّة هنا وهناك، بالمقارنة مع الظُّروف المختلفة في كلتا الحالتين. ‏

‏ 6 - إنّ دراستنا لأسلوب المعالجة للحالة الصّعبة الّتي عاشها المسلمون أمام هذا التّحدِّي الكبير، تؤدِّي بنا إلى التّركيز على حيويّة الأسلوب الإسلاميِّ للعمل ومرونته الحركيّة، فلا يقف أمام عنصرٍ واحدٍ من عناصر المواجهة، ولا يتجمّد عند حالةٍ عاطفيّةٍ أو عقلانيّةٍ واحدةٍ، بل يحاول أن ينتقل من جوٍّ إلى جوٍّ ومن عنصرٍ إلى عنصرٍ، لتتكامل كلُّ العناصر، وتتجمّع كلُّ الأجواء الّتي تساعد على حلِّ المشكلة ومواجهة التّحدِّي. ‏

‏وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نقرِّر خطأ الفكرة الّتي تعمل على إخضاع أسلوب الدّعوة أو أسلوب المواجهة للقواعد الفنِّيّة الموضوعة للأسلوب، من وحدة الموضوع ووحدة الجوِّ، وما إلى ذلك ممّا قد يتّفق مع الموضوعات الّتي تريد أن تعالج فكرةً واحدةً أو موضوعًا محدّدًا، ولكنّه لا يتّفق مع القضايا الّتي يُراد من خلالها التّأثير على الحالة الدّاخليّة المعقّدة للإنسان وعلى الأجواء الخارجيّة المحيطة به؛ فإنّ مسألة التّعامل مع الإنسان تختلف عن التّعامل مع الفكرة المجرّدة؛ لأنّ الإنسان كائنٌ متغيِّرٌ متنوِّعٌ في عواطفه وتأثُّراته، ما يقتضي منّا التّحرُّك معه في كلِّ الاتِّجاهات الّتي يمكن أن تهبّ منها الرِّيح، أو تتأثّر بها الأجواء. ‏

‏ 7 - إنّ الطّابع العامّ لكلِّ هذا الفصل هو التّذكير الدّائم بموقع الإنسان في كلِّ أعماله وأقواله من الله، في ثوابه وعقابه، ما يعطي الموقف جوًّا روحيًّا يتحرّك فيه الإنسان في مواجهة الحالة من موقع المسؤوليّة الإيمانيّة، لا من موقع التّفكير المجرّد الّذي يخاطب فيه الإنسان الحالة كقضيّةٍ موضوعيّةٍ مجرّدةٍ لا مجال فيها إلاّ للحسابات الفكريّة الجافّة. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏ابن عربي، تفسير ابن عربي، م. س، ج 1، ص 77.‏

‏2.‏‏الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 10.‏

‏3.‏‏الفراهيدي، أبو عبد الرّحمن الخليل بن أحمد (ت 175 هـ-)، كتاب العين، ط 2، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السّامرائي، مؤسسة دار الهجرة، 1401 هـ-، ج 7، ص 279.‏

‏4.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 416. ‏

‏5.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 322.‏

‏6.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 421.‏

‏7.‏‏الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 319.‏

‏8.‏‏الفراهيدي، العين، م. س، ج 6، ص 233.‏

‏9.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 467. ‏

‏10.‏‏الفراهيدي، م. ن، ج 8، ص 294.‏

‏11.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 108.‏

‏12.‏‏أبو هلال العسكري، الفروق اللُّغوية، م. س، 217 - 218.‏

‏13.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 213.‏

‏14.‏‏م. ن، ص 127. ‏

‏15.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 432.‏

‏16.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 179.‏

‏17.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 416.‏

‏18.‏‏رشيد رضا، المنار، م. س، ج 2، ص 4 - 5.‏

‏19.‏‏غمط الحقّ: جحده.‏

‏20.‏‏المغيّا: الموضوع له الغاية.‏

‏21.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 320.‏

‏22.‏‏الفراهيدي، العين، م. س، ج 7، ص 279.‏

‏23.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 323.‏

‏24.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 418.‏

‏25.‏‏الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 318.‏

‏26.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 414 - 415. والرِّواية موجودةٌ في: علي بن إبراهيم، تفسير القمِّي، م. س، ج 1، ص 63، لكن مع تقديمٍ وتأخيرٍ في عباراتها.‏

‏27.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 423.‏

‏28.‏‏انظر: السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 326؛ إذ ردّ عليه من دون أن يحكيه عن أحدٍ بعينه، ولم نجد قائلاً به، فلعلّه دفع توهمٍ منه رحمه الله .‏

‏29.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 431. وانظر: الشّيخ الشِّيرازي، الأمثل، م. س، ج 1، ص 426.‏

‏30.‏‏ابن فهد الحلِّي، أبو العبّاس أحمد بن محمد (ت 841 هـ-)، عدّة الدّاعي ونجاح السّاعي، مكتبة وجداني، قم - إيران، (د ت)، ص 238.‏‎ ‎

‏31.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 145، ح 8.‏

‏32.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 95، ح 6.‏

‏33.‏‏م. ن، ح 10.‏

‏34.‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 95 - 96، ح 12.‏‎P‎‏ ‏

‏35.‏‏م. ن، ص 99، ح 30.‏

‏36.‏‏نهج البلاغة، م. س، ص 138، الكتاب 53.‏

‏ ‏

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية