تفسير
25/01/2024

s-2-a-165-166-167

s-2-a-165-166-167

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{مِنْ دُونِ اللّهِ} : من غير الله. ‏

{ أنْداداً } : أمثالاً، قال الطّبرسيُّ: «الأنداد والأشباه والأمثال نظائر، واحدها: نِدٌّ، وقيل: هي الأضداد. وأصل النِّد: المِثل المناوئ»‏1‏. وقال الرّاغب: كلُّ ندٍّ مِثْلٌ وليس كلُّ مِثْلٍ ندًّا؛ باعتبار أنّ نديد الشّي‏ء مشاركه في جوهره، وذلك ضربٌ من المماثلة؛ فإنّ المثل يُقال في أيِّ مشاركةٍ كانت‏‏2‏. ‏

{ تبرّأ } : التّبرُّؤ: التّولِّي والتّباعد للعداوة، وأصله من الانفصال، ومنه: برأ من مرضه. ‏

{ الْأسْبابُ } : والأسباب: الوصلات، واحدها: سبب، قال الطّبرسيُّ: «السّبب، الوصلة إلى المتعذِّر بما يصلح من الطّلب... ومنه يسمّى الحبل سببًا؛ لأنّك تتوصّل به إلى ما انقطع عنك»‏3‏ . وقال الرّاغب: «السّبب: الحبل الّذي يُصعد به النّخل... وسُمِّي كلُّ ما يُتوصّل به إلى شي‏ءٍ سببًا»‏4‏. ‏

{ حسراتٍ } : ندامات. قال الرّاغب: «الحسرة: الغمُّ على ما فاته والنّدم عليه؛ كأنّه انحسر عنه الجهل الّذي حمله على ما ارتكبه، او انحسر قواه من فرط غمٍّ»‏5‏ ، وقال الطّبرسيُّ: «حسرات: جمع الحسرة، وهي أشدُّ النّدامة... وأصل الحسر: الكشف»‏6‏ . ‏

‏الحبُّ المستقيم والحبُّ المنحرف ‏

‏في هذه الآيات، يتحرّك القرآن في واقع الحياة ليقدِّم إلينا نموذجًا من نماذج الانحراف العاطفيِّ والعمليِّ في واقع النّاس في الحياة، وهو النّموذج المتمثِّل في أتباع الظّلمة وأشياعهم - حسب التّفسير الوارد عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام في قوله تعالى: {و مِن النّاسِ منْ يتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْداداً يُحِبُّونهُمْ كحُبِّ اللّهِ}7‏ -؛ فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبّته، وبين حبِّ الظّالمين من أسيادهم وكبرائهم، تمامًا كما يحبُّ الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصِّفات. ‏

‏ولعلّ هذا الاتِّجاه في تصوير حالة التّسوية في المشاعر بين الله وبين أئمّة الظُّلم، كان منطلقًا من الأساس العمليِّ للواقع الّذي يعيشونه؛ فإنّ الحبّ الّذي تتحدّث عنه الآية ليس الحبّ الدّاخليّ الانفعاليّ الّذي يتحرّك في الجانب الشُّعوريِّ العاطفيِّ للإنسان؛ لأنّ الجوّ هنا هو جوُّ الحديث عن الخطوات العمليّة الّتي تحكم حياتهم، بل الظّاهر أنّ المراد من الحبِّ هو الحبُّ العمليُّ - إن صحّ التّعبير - وهو الّذي يتمثّل بالاتِّباع والتّأييد والمشاركة والطّاعة لما يريدون ولما يخطِّطون من دون قيدٍ أو شرطٍ، تمامًا كما هي الحال في محبّة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة. وذلك هو التّطبيق العمليُّ للإشراك بالله؛ لأنّ مثل هذه الإطاعة الّتي لا تنبغي إلاّ لله، عندما يقدِّمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته، فمعنى ذلك أنّه قد جعل ذلك المطاع ندًّا ونظيرًا لله في ما يمثِّله ذلك من إخلاص العمل، وهذا هو الشِّرك الواقعيُّ الّذي لا يرتبط بتعدُّد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهيّة، بل يتّصل بتعدُّدها على مستوى الطّاعة؛ انطلاقًا من العوامل الذّاتيّة المتّصلة بالشّهوات والأطماع والمنافع الّتي يحصلون عليها لدى هؤلاء، أو الّتي يأملون الحصول عليها منهم. ‏

‏ حقيقة حبِّ اللّه ‏

‏وهنا يلتفت القرآن في عمليّة مقارنةٍ سريعةٍ بين هؤلاء وبين المؤمنين، في قوله تعالى: {و الّذِين آمنُوا أشدُّ حُبًّا لِلّهِ} ؛ فإنّ معرفة المؤمن بربِّه ووعيه لعظمته تجعلانه ينفتح على الله انفتاحًا يملأ كلّ كيانه، في أفكاره ومشاعره، في جوارحه وجوانحه، فلا يبقى هناك مجالٌ لأيّة قوّةٍ، مهما عظمت، أن تحتلّ ولو مساحةً صغيرةً من نفسه في المستوى الّذي يلتقي فيه بالله، فلا ولاء لغيره، ولا طاعة إلاّ له؛ لأنّ معنى التّوحيد أن يخلص كلُّ شي‏ءٍ فيك للإله الواحد. وهذا هو معنى الحبِّ لله في القرآن، الّذي يريد للمؤمنين أن يعيشوه ويتمثّلوه في وجدانهم، بعيدًا عن الاستغراق في ذاته، أو التّغزُّل بصفاته، في ما يشبه بعض أساليب المتصوِّفة في تعبيرهم عن المحبّة بمظاهر العشق والوله والانجذاب الجسديِّ والرُّوحيِّ ممّا لا يُتحرّك من خلاله في خطِّ الطّاعة لله، ولذا قد نجد لدى بعض أصحاب هذه الاتِّجاهات انحرافاتٍ عمليّةً عن الخطِّ الّذي أراد الله للانسان أن يأخذ به، ما لا يمكن أن يجتمع مع الحبِّ لله. ‏

‏إنّ الحبّ الّذي يريده الله هو الحبُّ الّذي يجعل من حياة المؤمن المحبِّ امتدادًا للخطِّ الّذي أرسل الله به رسوله، في طاعةٍ مطلقةٍ، في فكره وإرادته وكلامه. وبعبارةٍ أخرى: إنّ ثمّة أمرين متلازمين وأحدهما يغذِّي الآخر ويعمِّقه: الحبُّ بمعناه الانفعاليِّ الذّاتيِّ، الّذي ينطلق ليملأ ذات الانسان بالعشق لله سبحانه وتعالى؛ والحبُّ بمعناه العمليِّ الّذي يركن فيه المحبُّ أو العاشق لإرادة الله، وينطلق في الخطوط الّتي يحبُّها ويبتعد عن الخطوط الّتي لا يحبُّها. ‏

‏أمّا كيف نستفيد ذلك ونقرِّره فهذا ما يبدو لنا من جوِّ الآية من جهةٍ، ومن طبيعة الرِّسالة من جهةٍ أخرى، فنحن نلاحظ في الآية أنّها تثير في نهاية المطاف قضيّة التّابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة، ما يوحي بأنّ الأساس في قضيّة الحبِّ هو التّبعيّة لا العاطفة المجرّدة. كما أنّنا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آيةٍ أخرى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ و اللّهُ غفُورٌ رحِيمٌ} [آل عمران: 31]، حيث جعل اتِّباع النّبيِّ من علامات الحبِّ ونتائجه. ‏

‏أمّا طبيعة الحبِّ من ناحية الرِّسالة، فنستطيع أن نفهمه من خلال الاطِّلاع على تخطيط الله لنا أسلوب التّعامل معه في الوقوف بين يديه، وفي ممارستنا للمسؤوليّة أمامه، وفي الانضباط في الخطِّ المستقيم العمليِّ لديه، وفي كيفيّة العمل من خلال رسالاته في الحياة، ما يعني أن يكون التّعبير عن الحبِّ بالعمل الصّالح الّذي يحبُّه ويرضاه. ‏

‏وفي ضوء ذلك، نفهم الاتِّجاه القرآنيّ الّذي يدعو الإنسان إلى التّفكير في خلق الله وفي صفاته، ونفهم الأحاديث الّتي تدعو إلى التّفكير في خلق الله وتنهى عن التّفكير في ذاته‏‏8‏ ؛ لأنّ التّفكير في ذاته يُغرق الإنسان في متاهاتٍ واسعةٍ من الفكر التّجريديِّ الّذي لا ينتهي إلى نتيجة، ومن المشاعر السّلبيّة الّتي لا تؤدِّي إلى أساسٍ معقولٍ، بينما ينطلق التّفكير في خلقه ليقود الإنسان إلى العقيدة المرتكزة على أساسٍ واقعيٍّ يربط العقيدة بالخطِّ المعقول، والمشاعر الطّبيعيّة الإيجابيّة الّتي ترتبط بالله، من خلال ما تعيشه من نعم وأوضاع، وما تشاهده من ظواهر وآيات، فكأنّها ترى الله في ما تراه وتتعاطف معه من خلال التّعاطف مع عظمة الخلق وإبداعه وروعته. ‏

‏ولعلّ التّأكيد الدّائم على صفات الله تعالى، سواءً في القرآن أو في السُّنّة، والّتي تمثِّل القمّة في القيمة الأخلاقيّة، في ما يستوحيه الإنسان، تتحرّك في هذا الاتِّجاه الّذي يريد أن يجعل العلاقة خاضعةً للخطِّ الواقعيِّ العمليِّ في الأخلاق والصِّفات، ليحبّ الإنسان الله من خلال صفاته الّتي تتحوّل في حياته إلى عيشٍ وإيمانٍ وحياةٍ، ليبتعد بذلك عن الاستغراق في الأجواء الضّبابيّة الّتي تعزله عن ذاته وعن مسؤوليّته العمليّة أمام الله. ‏

‏معالجة الحبِّ المنحرف ‏

‏وقد عالج القرآن الحبّ المنحرف لغير الله بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان، فقد يكون من أسبابه شعورُه بالقوّة الّتي يملكها هؤلاء الظّالمون والمنحرفون، في ما يملكون من شؤون المُلْك والسُّلطان في الدُّنيا، فيخيّل للنّاظر أنّهم يتمتّعون بالقوّة المطلقة الّتي تهيمن على كلِّ الأمور، ما يخلق في أعماق النّفس شعورًا بالإعجاب الّذي يتحوّل إلى المحبّة في كثيرٍ من الحالات، ثمّ تتحوّل المشاعر إلى رغبةٍ عميقةٍ في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون في ما يأمرونه به أو ينهونه عنه... فكانت هذه الآيات الّتي تكشف ضعفهم الذّاتيّ الّذي قد تحجبه مظاهر السُّلطان في الدُّنيا، ولكنّه يبدو على حقيقته في الآخرة. {و لوْ يرى الّذِين ظلمُوا إِذْ يروْن الْعذاب} ، وذلك عندما يقف الظّالمون ليروا العذاب المعدّ لهم من الله، فيعرفون أنّ كلّ مظاهر القوّة الّتي يتمتّعون بها أو يتمتّع بها غيرهم من النّاس، لا قيمة لها ولا أساس؛ فها هم يعانون من العذاب الّذي يقفون أمامه موقف الذِّلّة المطلقة، والضّعف المطلق، فلا يملكون لأنفسهم معه ضرًّا ولا نفعًا. وتنكشف أمامهم الحقيقة المطلقة، وهي {أنّ الْقُوّة لِلّهِ جمِيعاً} ؛ فهو الّذي يعطي القوّة، وهو الّذي يمنعها، أو يسيِّرها، أو يوقفها عند حدودها الّتي يريد لها أن تقف عندها. وهكذا يتعمّق الشُّعور وهم أمام الحقيقة الأخرويّة الحاسمة في مصيرهم النِّهائيِّ، {و أنّ اللّه شدِيدُ الْعذابِ} ، فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول، فيرون الله شديد العذاب للمتمرِّدين والعاصين والمنحرفين والكافرين. ‏

‏ براءة المتبوعين من الأتباع ‏

‏ثمّ يحدِّثنا الله عن مصير الّذين يتّبعون هؤلاء الظّالمين، فيشعرون بحمايتهم لهم عندما يوحون لهم بأنّهم يتحمّلون مسؤوليّتهم في كلِّ ما يتعرّضون له من صعوبات الحياة ومشاكلها، وذلك في ما ينقله لنا من مشاهد القيامة، {إِذْ تبرّأ الّذِين اُتُّبِعُوا مِن الّذِين اِتّبعُوا و رأوُا الْعذاب} ، فالمتبوعون من الظّالمين والكبراء يتهرّبون من المسؤوليّة، فلا يشعرون بأيّة علاقةٍ تربطهم بهم، وذلك عندما رأوا العذاب ماثلاً أمامهم وهو يقتحم الجميع بمستوًى واحدٍ من دون تفريق، {و تقطّعتْ بِهِمُ الْأسْبابُ} الّتي كانت بينهم، في كلِّ ما تمثِّله من علاقات قرابةٍ أو صداقةٍ أو انتفاعٍ، وغير ذلك من العلاقات الّتي تربط الإنسان بالإنسان، وتجعل المستضعفين ينطلقون من حاجاتهم الذّاتيّة كي يحصلوا عليها من المستكبرين. وقد تقطّعت كلُّ هذه العلاقات؛ لأنّها لم تُبن على أساسٍ متين من الله، بل كانت خاضعةً للأوضاع الطّارئة الّتي تزول لدى أوّل تحدٍّ من تحدِّيات المصير الّتي تواجه المسؤولين بطريقةٍ حاسمةٍ ليس فيها أيُّ انحرافٍ أو لفٍّ أو دوران، وليس فيها وساطةٌ في ما تعارف عليه النّاس من أساليب الوساطة في الدُّنيا. ‏

‏وهنا وقف التّابعون ليطلقوا التّنهُّدات والحسرات على كلِّ المواقف الخاضعة الخانعة الّتي كانوا يقفونها لمصلحة هؤلاء في الدُّنيا، فيجعلون مصيرهم تبعًا لإرادة الآخرين وشهواتهم وأطماعهم. وانطلقت التّمنِّيات الّتي تعبِّر عن التّمزُّق النّفسيِّ الدّاخليِّ، والحيرة القاتلة، والشُّعور بالخيبة الكبيرة للآمال الّتي تعيش في نفوسهم من خلال العلاقة بهم، والحقد العميق الّذي يحرق الرُّوح بحثًا عن الثّأر. {و قال الّذِين اِتّبعُوا لوْ أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ مِنْهُمْ كما تبرّؤُا مِنّا} . إنّهم يبحثون عن ردِّ الفعل الّذي يقابل البراءة ببراءةٍ مماثلةٍ تمسُّ الظّالمين في مصالحهم في مواقعهم في الدُّنيا؛ لأنّ قوّة الظّالمين، وحركة مصالحهم لا تنطلق من قوّتهم الذّاتيّة، بل من خلال التّابعين لهم الّذين يخضعون لسلطتهم فيستمدُّ الظّالمون منها ما يقوِّي سلطانهم ويوسِّع مدى ظلمهم. ولذلك فإنّ هؤلاء التّابعين يتمنّون أن يرجعوا إلى الدُّنيا كرّةً أخرى، ليخذلوهم عند حاجتهم إليهم. ولكنّها تمنِّياتٌ تضيع في الهواء. ‏

{كذلِك يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالهُمْ حسراتٍ عليْهِمْ} ، عندما ترجع بهم الذِّكرى إلى حياتهم الّتي كانوا يسيرون فيها في ركاب هؤلاء الظّالمين، ليبنوا حياة الظُّلم والطُّغيان بسواعدهم وجهودهم، في كفاحٍ متواصلٍ طويل. إنّهم يواجهون الموقف ليروا كلّ تلك الأعمال والجهود تتحوّل في مصيرهم إلى حسراتٍ لا تنفعهم؛ فقد وقعوا في النّار، {و ما هُمْ بِخارِجِين مِن النّارِ} ، مهما احتجُّوا ومهما برّروا أو تنهّدوا؛ فقد كان لهم مجالٌ كبيرٌ في دراسة الواقع ومعرفته من خلال وعي الرِّسالة والمبدأ، وقامت عليهم الحجّة من الله في ذلك كلِّه. ‏

‏من وحي الآيات ‏

‏وبناءً على ما تقدّم، نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات عدّة نقاط: ‏

‏ 1- الالتزام الفكري يقود إلى الالتزام العاطفي :‏

‏إنّ الالتزام بالعقيدة لا يتمثّل في الالتزام الفكريِّ الّذي يمثِّل الموقف الفكريّ للإنسان فحسب، بل يمتدُّ إلى الالتزام العاطفيِّ والرُّوحيِّ مع خطِّ الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانيّة الموافقة أو المضادّة؛ فإنّ التقاء الجانب العاطفيِّ بالجانب الفكريِّ في شخصيّة الإنسان المسلم يمثِّل وحدة الشّخصيّة، بينما يكون اختلافهما مظهرًا من مظاهر ازدواجيّتها وتمزُّقها الذّاتيِّ، ما يترك آثارًا سلبيّةً على استقامتها على الخطِّ الإسلاميِّ المستقيم. وإذا كانت العواطف غير الإسلاميّة تنطلق من مفاهيم غير إسلاميّة؛ باعتبار أنّ العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذّات، فإنّ ذلك يؤدِّي إلى التّناقض بين الالتزام الفكريِّ الّذي يوحي بعاطفةٍ إيجابيّةٍ، والعاطفة السّلبيّة النّاتجة عن مفهومٍ مضادٍّ، فكيف يمكن اجتماعهما في الذّات في الوقت الّذي ينفي فيه أحدهما الآخر؟! ‏

‏ 2- الحب موقفٌ لا عاطفة مجردة: ‏

‏إنّ الحبّ في المفهوم القرآنيِّ لا يتمثّل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها السّاذجة، بل يتمثّل في العاطفة الّتي تتحوّل إلى مواقف عمليّةٍ في اتِّجاه خطِّ الحبِّ. وقد يتطوّر المفهوم في اعتبار المواقف العمليّة المضادّة دليلاً على ضعف الحبِّ أو عدم جدِّيّة العاطفة وصدقها. ‏

‏ 3- الدّعوة إلى اكتشاف ضعف الأقوياء: ‏

‏إنّ القرآن يوجِّه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطُّغاة، بالبحث عن نقاط الضّعف الكامنة في داخلهم، وبالانطلاق في التّصوُّر الدِّينيِّ بعيدًا، إلى يوم القيامة، حيث يقف الأقوياء في موقف الضّعف والانسحاق أمام عذاب الله وعقابه. ‏

‏وهكذا ينطلق المنهج التّربويُّ القرآنيُّ في عمليّةٍ إيحائيّةٍ ترتبط بالسّلب، من حيث فقدان الطُّغاة والمستكبرين للقوّة الّتي تبرِّر للنّاس الارتباط بهم في أمورهم الخاصّة والعامّة وفي قضايا المصير، وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التّوحيديّة الّتي تؤكِّد أنّ القوّة لله جميعًا، وأنّ العزّة لله جميعًا، في خطاب الّذين يريدون الاعتزاز بغير الله؛ فقد جاء في قوله تعالى: {الّذِين يتّخِذُون الْكافِرِين أوْلِياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين أ يبْتغُون عِنْدهُمُ الْعِزّة فإِنّ الْعِزّة لِلّهِ جمِيعاً} [النِّساء: 139]، وقوله تعالى: {منْ كان يُرِيدُ الْعِزّة فلِلّهِ الْعِزّةُ جمِيعاً إِليْهِ يصْعدُ الْكلِمُ الطّيِّبُ و الْعملُ الصّالِحُ يرْفعُهُ و الّذِين يمْكُرُون السّيِّئاتِ لهُمْ عذابٌ شدِيدٌ و مكْرُ أُولئِك هُو يبُورُ} [فاطر: 10]،على أساس ملكيّة الله للقوّة كلِّها، والعزّة كلِّها؛ فالله هو مصدر القوّة والعزّة، ما يفرض على النّاس أن يطلبوها منه، ويرتبطوا بقوّته وعزّته. هذا هو الخطُّ الأصيل في التّوحيد الحركيِّ للإنسان المسلم في العمل والوجدان. ‏

‏ 4- المسؤوليّة الفرديّة في الإسلام: ‏

‏إنّ الآيات توحي للمؤمنين الضُّعفاء بأنّ المسؤوليّة في الإسلام فرديّةٌ، يتحمّلها الإنسان من خلال عمله، وأنّ الضُّغوط الخارجيّة الّتي تنطلق من الشُّعور بسيطرة الأقوياء على الموقف، وحاجة الضُّعفاء إليهم، في ما يملكونه من مالٍ وجاهٍ وسلطةٍ، لا تمثِّل أيّ مبرِّرٍ شرعيٍّ للانحراف عن الخطِّ. ثمّ تُبيِّن لهم أنّ الأساليب الّتي يتّبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشِّدّة، ليشعروا بالأمن من خلال هذه العلاقة، هي أساليب تضليليّة لا تثبت أمام الواقع الّذي يفرض نفسه، وهو أنّ هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم، فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب الله؟! ‏

‏وسينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كلِّ تبعةٍ أو مسؤوليّةٍ من كلِّ هؤلاء، عندما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدُّنيا قبل الآخرة، ليبدؤوا - هنا - بالبراءة من هؤلاء المتبوعين، فلا ينفِّذون مخطّطاتهم الشِّرِّيرة الّتي لا ترضي الله، ولا يطيعونهم في معصية الله، ليتفادوا الموقف الخاسر هناك، وليحصلوا على ما يتمنّونه من العودة إلى الدُّنيا، ليعلنوا في الدُّنيا البراءة كردِّ فعلٍ لبراءة هؤلاء منهم. ‏

‏إنّ الآيات الّتي تتحدّث عن خيبة الضُّعفاء في الآخرة لا تتحدّث عن القضيّة كقصّةٍ للإثارة، بل كأسلوبٍ من الأساليب الوقائيّة الّتي توجِّه الإنسان إلى أن يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك، فيكون أكثر وعيًا للواقع وللمصير. ‏

‏وبهذا يتحوّل القرآن إلى كتابٍ يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي الّتي لا تعيش في إطاره المحدود، بل تعيش في نطاق الحياة كلِّها. والله العالم بأسرار آياته. ‏

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‏1.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 460.‏

‏2.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 486.‏

‏3.‏‏الشّيخ الطّبرسي، م. ن، ص 463.‏

‏4.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 220.‏

‏5.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 118.‏

‏6.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 464.‏

‏7.‏‏ العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 72، ح 142. عن جابر، عن الصّادق عليه السلام.‏

‏8.‏‏الشّيخ الرّيشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط 1، تحقيق ونشر دار الحديث، قم - إيران، 1375 هـ- ش، ج‏3، ص‏1892.‏

‎ ‎

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{مِنْ دُونِ اللّهِ} : من غير الله. ‏

{ أنْداداً } : أمثالاً، قال الطّبرسيُّ: «الأنداد والأشباه والأمثال نظائر، واحدها: نِدٌّ، وقيل: هي الأضداد. وأصل النِّد: المِثل المناوئ»‏1‏. وقال الرّاغب: كلُّ ندٍّ مِثْلٌ وليس كلُّ مِثْلٍ ندًّا؛ باعتبار أنّ نديد الشّي‏ء مشاركه في جوهره، وذلك ضربٌ من المماثلة؛ فإنّ المثل يُقال في أيِّ مشاركةٍ كانت‏‏2‏. ‏

{ تبرّأ } : التّبرُّؤ: التّولِّي والتّباعد للعداوة، وأصله من الانفصال، ومنه: برأ من مرضه. ‏

{ الْأسْبابُ } : والأسباب: الوصلات، واحدها: سبب، قال الطّبرسيُّ: «السّبب، الوصلة إلى المتعذِّر بما يصلح من الطّلب... ومنه يسمّى الحبل سببًا؛ لأنّك تتوصّل به إلى ما انقطع عنك»‏3‏ . وقال الرّاغب: «السّبب: الحبل الّذي يُصعد به النّخل... وسُمِّي كلُّ ما يُتوصّل به إلى شي‏ءٍ سببًا»‏4‏. ‏

{ حسراتٍ } : ندامات. قال الرّاغب: «الحسرة: الغمُّ على ما فاته والنّدم عليه؛ كأنّه انحسر عنه الجهل الّذي حمله على ما ارتكبه، او انحسر قواه من فرط غمٍّ»‏5‏ ، وقال الطّبرسيُّ: «حسرات: جمع الحسرة، وهي أشدُّ النّدامة... وأصل الحسر: الكشف»‏6‏ . ‏

‏الحبُّ المستقيم والحبُّ المنحرف ‏

‏في هذه الآيات، يتحرّك القرآن في واقع الحياة ليقدِّم إلينا نموذجًا من نماذج الانحراف العاطفيِّ والعمليِّ في واقع النّاس في الحياة، وهو النّموذج المتمثِّل في أتباع الظّلمة وأشياعهم - حسب التّفسير الوارد عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام في قوله تعالى: {و مِن النّاسِ منْ يتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْداداً يُحِبُّونهُمْ كحُبِّ اللّهِ}7‏ -؛ فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبّته، وبين حبِّ الظّالمين من أسيادهم وكبرائهم، تمامًا كما يحبُّ الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصِّفات. ‏

‏ولعلّ هذا الاتِّجاه في تصوير حالة التّسوية في المشاعر بين الله وبين أئمّة الظُّلم، كان منطلقًا من الأساس العمليِّ للواقع الّذي يعيشونه؛ فإنّ الحبّ الّذي تتحدّث عنه الآية ليس الحبّ الدّاخليّ الانفعاليّ الّذي يتحرّك في الجانب الشُّعوريِّ العاطفيِّ للإنسان؛ لأنّ الجوّ هنا هو جوُّ الحديث عن الخطوات العمليّة الّتي تحكم حياتهم، بل الظّاهر أنّ المراد من الحبِّ هو الحبُّ العمليُّ - إن صحّ التّعبير - وهو الّذي يتمثّل بالاتِّباع والتّأييد والمشاركة والطّاعة لما يريدون ولما يخطِّطون من دون قيدٍ أو شرطٍ، تمامًا كما هي الحال في محبّة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة. وذلك هو التّطبيق العمليُّ للإشراك بالله؛ لأنّ مثل هذه الإطاعة الّتي لا تنبغي إلاّ لله، عندما يقدِّمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته، فمعنى ذلك أنّه قد جعل ذلك المطاع ندًّا ونظيرًا لله في ما يمثِّله ذلك من إخلاص العمل، وهذا هو الشِّرك الواقعيُّ الّذي لا يرتبط بتعدُّد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهيّة، بل يتّصل بتعدُّدها على مستوى الطّاعة؛ انطلاقًا من العوامل الذّاتيّة المتّصلة بالشّهوات والأطماع والمنافع الّتي يحصلون عليها لدى هؤلاء، أو الّتي يأملون الحصول عليها منهم. ‏

‏ حقيقة حبِّ اللّه ‏

‏وهنا يلتفت القرآن في عمليّة مقارنةٍ سريعةٍ بين هؤلاء وبين المؤمنين، في قوله تعالى: {و الّذِين آمنُوا أشدُّ حُبًّا لِلّهِ} ؛ فإنّ معرفة المؤمن بربِّه ووعيه لعظمته تجعلانه ينفتح على الله انفتاحًا يملأ كلّ كيانه، في أفكاره ومشاعره، في جوارحه وجوانحه، فلا يبقى هناك مجالٌ لأيّة قوّةٍ، مهما عظمت، أن تحتلّ ولو مساحةً صغيرةً من نفسه في المستوى الّذي يلتقي فيه بالله، فلا ولاء لغيره، ولا طاعة إلاّ له؛ لأنّ معنى التّوحيد أن يخلص كلُّ شي‏ءٍ فيك للإله الواحد. وهذا هو معنى الحبِّ لله في القرآن، الّذي يريد للمؤمنين أن يعيشوه ويتمثّلوه في وجدانهم، بعيدًا عن الاستغراق في ذاته، أو التّغزُّل بصفاته، في ما يشبه بعض أساليب المتصوِّفة في تعبيرهم عن المحبّة بمظاهر العشق والوله والانجذاب الجسديِّ والرُّوحيِّ ممّا لا يُتحرّك من خلاله في خطِّ الطّاعة لله، ولذا قد نجد لدى بعض أصحاب هذه الاتِّجاهات انحرافاتٍ عمليّةً عن الخطِّ الّذي أراد الله للانسان أن يأخذ به، ما لا يمكن أن يجتمع مع الحبِّ لله. ‏

‏إنّ الحبّ الّذي يريده الله هو الحبُّ الّذي يجعل من حياة المؤمن المحبِّ امتدادًا للخطِّ الّذي أرسل الله به رسوله، في طاعةٍ مطلقةٍ، في فكره وإرادته وكلامه. وبعبارةٍ أخرى: إنّ ثمّة أمرين متلازمين وأحدهما يغذِّي الآخر ويعمِّقه: الحبُّ بمعناه الانفعاليِّ الذّاتيِّ، الّذي ينطلق ليملأ ذات الانسان بالعشق لله سبحانه وتعالى؛ والحبُّ بمعناه العمليِّ الّذي يركن فيه المحبُّ أو العاشق لإرادة الله، وينطلق في الخطوط الّتي يحبُّها ويبتعد عن الخطوط الّتي لا يحبُّها. ‏

‏أمّا كيف نستفيد ذلك ونقرِّره فهذا ما يبدو لنا من جوِّ الآية من جهةٍ، ومن طبيعة الرِّسالة من جهةٍ أخرى، فنحن نلاحظ في الآية أنّها تثير في نهاية المطاف قضيّة التّابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة، ما يوحي بأنّ الأساس في قضيّة الحبِّ هو التّبعيّة لا العاطفة المجرّدة. كما أنّنا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آيةٍ أخرى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون اللّه فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ و اللّهُ غفُورٌ رحِيمٌ} [آل عمران: 31]، حيث جعل اتِّباع النّبيِّ من علامات الحبِّ ونتائجه. ‏

‏أمّا طبيعة الحبِّ من ناحية الرِّسالة، فنستطيع أن نفهمه من خلال الاطِّلاع على تخطيط الله لنا أسلوب التّعامل معه في الوقوف بين يديه، وفي ممارستنا للمسؤوليّة أمامه، وفي الانضباط في الخطِّ المستقيم العمليِّ لديه، وفي كيفيّة العمل من خلال رسالاته في الحياة، ما يعني أن يكون التّعبير عن الحبِّ بالعمل الصّالح الّذي يحبُّه ويرضاه. ‏

‏وفي ضوء ذلك، نفهم الاتِّجاه القرآنيّ الّذي يدعو الإنسان إلى التّفكير في خلق الله وفي صفاته، ونفهم الأحاديث الّتي تدعو إلى التّفكير في خلق الله وتنهى عن التّفكير في ذاته‏‏8‏ ؛ لأنّ التّفكير في ذاته يُغرق الإنسان في متاهاتٍ واسعةٍ من الفكر التّجريديِّ الّذي لا ينتهي إلى نتيجة، ومن المشاعر السّلبيّة الّتي لا تؤدِّي إلى أساسٍ معقولٍ، بينما ينطلق التّفكير في خلقه ليقود الإنسان إلى العقيدة المرتكزة على أساسٍ واقعيٍّ يربط العقيدة بالخطِّ المعقول، والمشاعر الطّبيعيّة الإيجابيّة الّتي ترتبط بالله، من خلال ما تعيشه من نعم وأوضاع، وما تشاهده من ظواهر وآيات، فكأنّها ترى الله في ما تراه وتتعاطف معه من خلال التّعاطف مع عظمة الخلق وإبداعه وروعته. ‏

‏ولعلّ التّأكيد الدّائم على صفات الله تعالى، سواءً في القرآن أو في السُّنّة، والّتي تمثِّل القمّة في القيمة الأخلاقيّة، في ما يستوحيه الإنسان، تتحرّك في هذا الاتِّجاه الّذي يريد أن يجعل العلاقة خاضعةً للخطِّ الواقعيِّ العمليِّ في الأخلاق والصِّفات، ليحبّ الإنسان الله من خلال صفاته الّتي تتحوّل في حياته إلى عيشٍ وإيمانٍ وحياةٍ، ليبتعد بذلك عن الاستغراق في الأجواء الضّبابيّة الّتي تعزله عن ذاته وعن مسؤوليّته العمليّة أمام الله. ‏

‏معالجة الحبِّ المنحرف ‏

‏وقد عالج القرآن الحبّ المنحرف لغير الله بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان، فقد يكون من أسبابه شعورُه بالقوّة الّتي يملكها هؤلاء الظّالمون والمنحرفون، في ما يملكون من شؤون المُلْك والسُّلطان في الدُّنيا، فيخيّل للنّاظر أنّهم يتمتّعون بالقوّة المطلقة الّتي تهيمن على كلِّ الأمور، ما يخلق في أعماق النّفس شعورًا بالإعجاب الّذي يتحوّل إلى المحبّة في كثيرٍ من الحالات، ثمّ تتحوّل المشاعر إلى رغبةٍ عميقةٍ في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون في ما يأمرونه به أو ينهونه عنه... فكانت هذه الآيات الّتي تكشف ضعفهم الذّاتيّ الّذي قد تحجبه مظاهر السُّلطان في الدُّنيا، ولكنّه يبدو على حقيقته في الآخرة. {و لوْ يرى الّذِين ظلمُوا إِذْ يروْن الْعذاب} ، وذلك عندما يقف الظّالمون ليروا العذاب المعدّ لهم من الله، فيعرفون أنّ كلّ مظاهر القوّة الّتي يتمتّعون بها أو يتمتّع بها غيرهم من النّاس، لا قيمة لها ولا أساس؛ فها هم يعانون من العذاب الّذي يقفون أمامه موقف الذِّلّة المطلقة، والضّعف المطلق، فلا يملكون لأنفسهم معه ضرًّا ولا نفعًا. وتنكشف أمامهم الحقيقة المطلقة، وهي {أنّ الْقُوّة لِلّهِ جمِيعاً} ؛ فهو الّذي يعطي القوّة، وهو الّذي يمنعها، أو يسيِّرها، أو يوقفها عند حدودها الّتي يريد لها أن تقف عندها. وهكذا يتعمّق الشُّعور وهم أمام الحقيقة الأخرويّة الحاسمة في مصيرهم النِّهائيِّ، {و أنّ اللّه شدِيدُ الْعذابِ} ، فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول، فيرون الله شديد العذاب للمتمرِّدين والعاصين والمنحرفين والكافرين. ‏

‏ براءة المتبوعين من الأتباع ‏

‏ثمّ يحدِّثنا الله عن مصير الّذين يتّبعون هؤلاء الظّالمين، فيشعرون بحمايتهم لهم عندما يوحون لهم بأنّهم يتحمّلون مسؤوليّتهم في كلِّ ما يتعرّضون له من صعوبات الحياة ومشاكلها، وذلك في ما ينقله لنا من مشاهد القيامة، {إِذْ تبرّأ الّذِين اُتُّبِعُوا مِن الّذِين اِتّبعُوا و رأوُا الْعذاب} ، فالمتبوعون من الظّالمين والكبراء يتهرّبون من المسؤوليّة، فلا يشعرون بأيّة علاقةٍ تربطهم بهم، وذلك عندما رأوا العذاب ماثلاً أمامهم وهو يقتحم الجميع بمستوًى واحدٍ من دون تفريق، {و تقطّعتْ بِهِمُ الْأسْبابُ} الّتي كانت بينهم، في كلِّ ما تمثِّله من علاقات قرابةٍ أو صداقةٍ أو انتفاعٍ، وغير ذلك من العلاقات الّتي تربط الإنسان بالإنسان، وتجعل المستضعفين ينطلقون من حاجاتهم الذّاتيّة كي يحصلوا عليها من المستكبرين. وقد تقطّعت كلُّ هذه العلاقات؛ لأنّها لم تُبن على أساسٍ متين من الله، بل كانت خاضعةً للأوضاع الطّارئة الّتي تزول لدى أوّل تحدٍّ من تحدِّيات المصير الّتي تواجه المسؤولين بطريقةٍ حاسمةٍ ليس فيها أيُّ انحرافٍ أو لفٍّ أو دوران، وليس فيها وساطةٌ في ما تعارف عليه النّاس من أساليب الوساطة في الدُّنيا. ‏

‏وهنا وقف التّابعون ليطلقوا التّنهُّدات والحسرات على كلِّ المواقف الخاضعة الخانعة الّتي كانوا يقفونها لمصلحة هؤلاء في الدُّنيا، فيجعلون مصيرهم تبعًا لإرادة الآخرين وشهواتهم وأطماعهم. وانطلقت التّمنِّيات الّتي تعبِّر عن التّمزُّق النّفسيِّ الدّاخليِّ، والحيرة القاتلة، والشُّعور بالخيبة الكبيرة للآمال الّتي تعيش في نفوسهم من خلال العلاقة بهم، والحقد العميق الّذي يحرق الرُّوح بحثًا عن الثّأر. {و قال الّذِين اِتّبعُوا لوْ أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ مِنْهُمْ كما تبرّؤُا مِنّا} . إنّهم يبحثون عن ردِّ الفعل الّذي يقابل البراءة ببراءةٍ مماثلةٍ تمسُّ الظّالمين في مصالحهم في مواقعهم في الدُّنيا؛ لأنّ قوّة الظّالمين، وحركة مصالحهم لا تنطلق من قوّتهم الذّاتيّة، بل من خلال التّابعين لهم الّذين يخضعون لسلطتهم فيستمدُّ الظّالمون منها ما يقوِّي سلطانهم ويوسِّع مدى ظلمهم. ولذلك فإنّ هؤلاء التّابعين يتمنّون أن يرجعوا إلى الدُّنيا كرّةً أخرى، ليخذلوهم عند حاجتهم إليهم. ولكنّها تمنِّياتٌ تضيع في الهواء. ‏

{كذلِك يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالهُمْ حسراتٍ عليْهِمْ} ، عندما ترجع بهم الذِّكرى إلى حياتهم الّتي كانوا يسيرون فيها في ركاب هؤلاء الظّالمين، ليبنوا حياة الظُّلم والطُّغيان بسواعدهم وجهودهم، في كفاحٍ متواصلٍ طويل. إنّهم يواجهون الموقف ليروا كلّ تلك الأعمال والجهود تتحوّل في مصيرهم إلى حسراتٍ لا تنفعهم؛ فقد وقعوا في النّار، {و ما هُمْ بِخارِجِين مِن النّارِ} ، مهما احتجُّوا ومهما برّروا أو تنهّدوا؛ فقد كان لهم مجالٌ كبيرٌ في دراسة الواقع ومعرفته من خلال وعي الرِّسالة والمبدأ، وقامت عليهم الحجّة من الله في ذلك كلِّه. ‏

‏من وحي الآيات ‏

‏وبناءً على ما تقدّم، نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات عدّة نقاط: ‏

‏ 1- الالتزام الفكري يقود إلى الالتزام العاطفي :‏

‏إنّ الالتزام بالعقيدة لا يتمثّل في الالتزام الفكريِّ الّذي يمثِّل الموقف الفكريّ للإنسان فحسب، بل يمتدُّ إلى الالتزام العاطفيِّ والرُّوحيِّ مع خطِّ الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانيّة الموافقة أو المضادّة؛ فإنّ التقاء الجانب العاطفيِّ بالجانب الفكريِّ في شخصيّة الإنسان المسلم يمثِّل وحدة الشّخصيّة، بينما يكون اختلافهما مظهرًا من مظاهر ازدواجيّتها وتمزُّقها الذّاتيِّ، ما يترك آثارًا سلبيّةً على استقامتها على الخطِّ الإسلاميِّ المستقيم. وإذا كانت العواطف غير الإسلاميّة تنطلق من مفاهيم غير إسلاميّة؛ باعتبار أنّ العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذّات، فإنّ ذلك يؤدِّي إلى التّناقض بين الالتزام الفكريِّ الّذي يوحي بعاطفةٍ إيجابيّةٍ، والعاطفة السّلبيّة النّاتجة عن مفهومٍ مضادٍّ، فكيف يمكن اجتماعهما في الذّات في الوقت الّذي ينفي فيه أحدهما الآخر؟! ‏

‏ 2- الحب موقفٌ لا عاطفة مجردة: ‏

‏إنّ الحبّ في المفهوم القرآنيِّ لا يتمثّل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها السّاذجة، بل يتمثّل في العاطفة الّتي تتحوّل إلى مواقف عمليّةٍ في اتِّجاه خطِّ الحبِّ. وقد يتطوّر المفهوم في اعتبار المواقف العمليّة المضادّة دليلاً على ضعف الحبِّ أو عدم جدِّيّة العاطفة وصدقها. ‏

‏ 3- الدّعوة إلى اكتشاف ضعف الأقوياء: ‏

‏إنّ القرآن يوجِّه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطُّغاة، بالبحث عن نقاط الضّعف الكامنة في داخلهم، وبالانطلاق في التّصوُّر الدِّينيِّ بعيدًا، إلى يوم القيامة، حيث يقف الأقوياء في موقف الضّعف والانسحاق أمام عذاب الله وعقابه. ‏

‏وهكذا ينطلق المنهج التّربويُّ القرآنيُّ في عمليّةٍ إيحائيّةٍ ترتبط بالسّلب، من حيث فقدان الطُّغاة والمستكبرين للقوّة الّتي تبرِّر للنّاس الارتباط بهم في أمورهم الخاصّة والعامّة وفي قضايا المصير، وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التّوحيديّة الّتي تؤكِّد أنّ القوّة لله جميعًا، وأنّ العزّة لله جميعًا، في خطاب الّذين يريدون الاعتزاز بغير الله؛ فقد جاء في قوله تعالى: {الّذِين يتّخِذُون الْكافِرِين أوْلِياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين أ يبْتغُون عِنْدهُمُ الْعِزّة فإِنّ الْعِزّة لِلّهِ جمِيعاً} [النِّساء: 139]، وقوله تعالى: {منْ كان يُرِيدُ الْعِزّة فلِلّهِ الْعِزّةُ جمِيعاً إِليْهِ يصْعدُ الْكلِمُ الطّيِّبُ و الْعملُ الصّالِحُ يرْفعُهُ و الّذِين يمْكُرُون السّيِّئاتِ لهُمْ عذابٌ شدِيدٌ و مكْرُ أُولئِك هُو يبُورُ} [فاطر: 10]،على أساس ملكيّة الله للقوّة كلِّها، والعزّة كلِّها؛ فالله هو مصدر القوّة والعزّة، ما يفرض على النّاس أن يطلبوها منه، ويرتبطوا بقوّته وعزّته. هذا هو الخطُّ الأصيل في التّوحيد الحركيِّ للإنسان المسلم في العمل والوجدان. ‏

‏ 4- المسؤوليّة الفرديّة في الإسلام: ‏

‏إنّ الآيات توحي للمؤمنين الضُّعفاء بأنّ المسؤوليّة في الإسلام فرديّةٌ، يتحمّلها الإنسان من خلال عمله، وأنّ الضُّغوط الخارجيّة الّتي تنطلق من الشُّعور بسيطرة الأقوياء على الموقف، وحاجة الضُّعفاء إليهم، في ما يملكونه من مالٍ وجاهٍ وسلطةٍ، لا تمثِّل أيّ مبرِّرٍ شرعيٍّ للانحراف عن الخطِّ. ثمّ تُبيِّن لهم أنّ الأساليب الّتي يتّبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشِّدّة، ليشعروا بالأمن من خلال هذه العلاقة، هي أساليب تضليليّة لا تثبت أمام الواقع الّذي يفرض نفسه، وهو أنّ هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم، فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب الله؟! ‏

‏وسينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كلِّ تبعةٍ أو مسؤوليّةٍ من كلِّ هؤلاء، عندما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدُّنيا قبل الآخرة، ليبدؤوا - هنا - بالبراءة من هؤلاء المتبوعين، فلا ينفِّذون مخطّطاتهم الشِّرِّيرة الّتي لا ترضي الله، ولا يطيعونهم في معصية الله، ليتفادوا الموقف الخاسر هناك، وليحصلوا على ما يتمنّونه من العودة إلى الدُّنيا، ليعلنوا في الدُّنيا البراءة كردِّ فعلٍ لبراءة هؤلاء منهم. ‏

‏إنّ الآيات الّتي تتحدّث عن خيبة الضُّعفاء في الآخرة لا تتحدّث عن القضيّة كقصّةٍ للإثارة، بل كأسلوبٍ من الأساليب الوقائيّة الّتي توجِّه الإنسان إلى أن يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك، فيكون أكثر وعيًا للواقع وللمصير. ‏

‏وبهذا يتحوّل القرآن إلى كتابٍ يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي الّتي لا تعيش في إطاره المحدود، بل تعيش في نطاق الحياة كلِّها. والله العالم بأسرار آياته. ‏

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‏1.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 460.‏

‏2.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 486.‏

‏3.‏‏الشّيخ الطّبرسي، م. ن، ص 463.‏

‏4.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 220.‏

‏5.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 118.‏

‏6.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 464.‏

‏7.‏‏ العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 72، ح 142. عن جابر، عن الصّادق عليه السلام.‏

‏8.‏‏الشّيخ الرّيشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط 1، تحقيق ونشر دار الحديث، قم - إيران، 1375 هـ- ش، ج‏3، ص‏1892.‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية