إنّ الطفل الذي قد انغرس في غير أرضه، كان نموّه بعيداً عن العناصر الطبيعيّة التي تمنحه حالة النموّ الطبيعي، الأمر الّذي يفرض علاجه في نطاق خطّة مدروسة واقعيّة واعية، وذلك في ضمن نقاط متعدّدة هي:
1ـ الانطلاق من الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ(ع):
"لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم".
فقد نستوحي من هذه الكلمة، إلحاق اختلاف المكان باختلاف الزّمن، لأنّ المسألة لم تنطلق من الزّمن في ذاتيّاته، بل هي ـ في إيحاءاتها الفكريّة ـ تعني أنّ الأخلاق المتحرّكة تخضع للظّروف المتنوّعة، فقد تتغيّر تبعاً لتنوّعها في خصوصيّاتها الحيويّة، كما نلاحظه في اختلاف الأخلاق المنفتحة على قواعد السّلوك في اللّياقات الاجتماعيّة، وفي طريقة الطّعام والشّراب واللّباس والأساليب المختلفة في التّعبير، وفي الحركة الاجتماعيّة، وفي وسائل اللّهو ونحو ذلك، فقد يكون للمكان دور في ذلك، لاختلاف المجتمعات في عاداتها وتقاليدها، وقد يكون للزّمان دور أيضاً.
ولهذا، لا بدَّ من دراسة الواقع الّذي يعيشه الطّفل في الغرب، للدّخول في مقارنة بين الأخلاق الثّابتة الّتي تمتدّ في الزّمان والمكان، باعتبار أنها أخلاق الإنسان في معنى إنسانيّته، مما يمثّل الحقيقة الّتي ترتفع فوق الزّمان والمكان، والأخلاق المتحرّكة الّتي لا علاقة لها بالقيمة، بل هي منطلقة من الظّروف والأوضاع المحيطة بالإنسان والواقع، لنعرف كيف نطلق حريّته في هذا، ونخطّط لتنظيم حركته وتوجيهها في ذاك، لأنّ المشكلة هي أنّ بعض الآباء والأمّهات يعملون على أن يكون أولادهم صورة عنهم، من دون دراسة للظّروف الّتي صنعت صورتهم في أبعادها الفكريّة والعمليّة، وللظّروف الجديدة الّتي قد تفرض صورة أخرى من خلال أبعاد جديدة.
وقد يخلط النّاس ـ في كثير من الحالات ـ بين ما هو التّقليد، وما هو الالتزام الدّينيّ، كنتيجة لارتباك المفاهيم الأخلاقيّة لدى الناس، حتّى المتديّنين منهم، من خلال عدم وجود وعي إسلاميّ دينيّ لتفاصيل الأخلاق الإسلاميّة الأصيلة في القاعدة الفكريّة الّتي تنفتح على حركة الانتماء في سلوكيّاته.
إنّنا لا ندعو إلى انقلاب فكريّ أخلاقيّ، بل ندعو إلى إعادة النّظر في الخطوط الأخلاقيّة، بما فيها الخطوط الشرعيّة في الفتاوى، الّتي تمنع الإنسان المسلم من كلّ لهو حتّى ولو كان بريئاً، فنجد هناك فتوى تحرّم التّصفيق بطريقة معيّنة، وتمنع اللّهو بقول مطلق، إلا ما خرج بالدّليل، بحيث كانت القاعدة حرمة اللّهو، ما يجعل بعض الوسائل استثناءً، وربما يستوحي الإنسان أنّ هناك ذهنيّة تعتبر الفرح في عمق حركته في الذّات أمراً مكروهاً شرعاً، لأنّ الإنسان لا بدَّ من أن يعيش الإحساس بالمشاعر الباكية الّتي تربطه بالموت وهو في قلب الحياة.
إنّنا لا نريد من هذه الإشارة إلى هذا النّوع من الذهنيّة الفقهيّة في النظرة إلى سلوك الإنسان، أن نتحدّث ـ عن الموضوع ـ بأسلوب السلبيّة الرّافضة بالطريقة الحاسمة، لأنّ المسألة لا بدّ من أن تخضع في الرّفض أو القبول، للبحث العلميّ الّذي اختلف الفقهاء في نتائجه، ولكنّنا نريد ـ من خلال ذلك ـ الإشارة إلى أنّ بعض الآراء الفقهيّة في التحريم والتحليل، ربما تكون خاضعة للمؤثّرات البيئيّة التي عاشها هذا الفقيه أو ذاك، بحيث تنعكس على طريقة فهمه للنّصّ، أو لمرتكزات الشرعيّة في ذهن المتشرّعة أو غير ذلك.
إنّنا لا نريد تجاوز المنهج الفقهي ـ كما أشرنا ـ لمجرّد أنّ هناك واقعاً جديداً لا بدّ من أن ننفتح عليه، أو أنّ هناك تطوّراً فكريّاً لا بدّ من أن نواجهه، بل نريد أن ندرس الواقع في عناوينه الشرعيّة، من خلال اجتهاد موضوعيّ منفتح للخطوط القرآنيّة العامّة في تفاصيل الأحكام الجزئيّة في الحياة العامّة أو الخاصّة.
2 ـ ضرورة العمل على فتح مدارس علميّة معاصرة، ليتنفّس فيها الجيل الجديد في مراحله التربويّة الأولى أجواء الإسلام الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، فإنّ ذلك قد يساهم مساهمة كبيرة في تحصين النّشء المسلم من عوامل الانحراف الروحي والأخلاقي والتعقيدات النفسية البالغة، ولعلّنا نستطيع التأكيد أنّ مشروع المدرسة في بلاد الغرب، أكثر أهميّة من المسجد أو الحسينية، لأننا قد نملك استخدام المدرسة في الأغراض المسجدية والحسينية، دون العكس.. ولعلّ تنفيذ هذا الموضوع هو الذي يبيح للمسلمين البقاء في تلك البلاد، لأن النتائج السلبية المنعكسة على الجيل من الناحية الإسلامية، قد يؤدي إلى وجوب الهجرة منها، لأنه لا يجوز البقاء في بلاد يضعف فيها الدّين لنفسه أو لأهله.
3 ـ إيجاد النوادي الرياضية والاجتماعية والشبابية للجيل المسلم الناشئ، بحيث يجد فيها متنفساً طبيعياً للخروج من الاختناق النفسي والتعب اليومي الذي قد يحصل له من جراء الالتزامات الدراسية أو العملية، والقيام بإيجاد ندوات حوارية للنشء المسلم بالأسلوب الذي نكتشف فيه أفكاره، ونتعرّف فيه نظراته إلى العناصر الحيويّة في العقيدة والسلوك، ونلتقي فيه بالمفاهيم والمشاعر الجديدة التي اكتسبها في محاولة للانفتاح عليه من الدّاخل، من أجل إصلاح ما فسد منه، وتقويم ما انحرف فيه، بطريقة لا يشعر فيها بالضّغط النفسي الذي قد يخلق لديه ردّ فعل عكسياً، ولا سيما إذا صاحبه ضغط جسدي.
4 ـ تهيئة الأجواء العبادية المنفتحة على العناصر المتحركة في الحركة الروحية الدينية، بالخروج من الرتابة المملّة في أسلوب الممارسة العبادية، وذلك من أجل إيجاد الرّغبة للنشء في التواجد هناك، والانسجام مع روحانية الصّلاة وحركية الدعاء.
5 ـ إيجاد الأجواء الاجتماعيّة الدينيّة في إثارة الذّكريات الإسلاميّة، ومحاولة تجديد وسائلها وأساليبها بما يتناسب مع الذهنيّات المتنوّعة لدى الشّباب، بحيث يعيشون الانفتاح عليها بالدّرجة الّتي يشعرون فيها بالعلاقة القويّة الحميمة بالشخصيّات المتمثّلة فيها، والأحداث الّتي تتحدّث عنها، وذلك من خلال التّخطيط لإعطاء الصورة المشرقة التي تجعلهم يختزنون في وجدانهم ملامحها الرّوحيّة وعناصرها الأخلاقيّة، وأسرار العظمة الإنسانيّة فيها.
إنّنا نثير بعض الأفكار العامّة في إيجاد بعض التّجارب الملائمة للواقع الجديد، من أجل إثارة المزيد من الأفكار، والدّخول في الكثير من التجارب، في عمليّة دراسة ومقارنة، لنصل ـ في نهاية المطاف ـ إلى التّكامل في معالجة المشكلة الصّعبة.
إنّنا نعتقد أنّ مسؤوليّة البقاء في بلاد الغرب، تفرض علينا مسؤوليّة تهيئة كلّ الوسائل، للمحافظة على هويّتنا الإسلاميّة، وأصالتنا الأخلاقيّة، والتزامنا الشّرعيّ، فلا نفقد أنفسنا تحت تأثير الأجواء المنحرفة، ولا نفقد أولادنا من خلال التربية الضالّة أو الكافرة.
ربما لا نستطيع الوصول إلى الكمال في مستوى الحاجة، فعلينا أن نقبل بذلك كوسيلة من وسائل تحريك التّجارب في عمليّة تواصل وتكامل، حتّى نصل إلى الواقع الأفضل.
إنّ الأسرة المسلمة في الغرب، كما في أيّ بلد من بلاد الكفر، تعيش مشكلة من أصعب المشاكل، ومسؤوليّتنا الكبرى أن نعمل من أجل إيجاد الحلول الملائمة، ولا سيّما أنّ طموحنا الكبير هو الانطلاق بالدّعوة الإسلاميّة من أجل أسلمة العالم، فلا يجوز أن نفقد أنفسنا وأهلنا في الطّريق إلى ربح الآخرين.
[كتاب: الهجرة والاغتراب].