في الذكرى الخامسة عشرة لرحيله...السيد فضل الله حاضرٌ في الغياب
تمرّ اليوم الذكرى الخامسة عشرة على وفاة سماحة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)، الذي رحل عن دنيانا في الرابع من يوليو عام 2010، بعد معاناة طويلة مع المرض، لينضم إلى كوكبة من المفكرين والمجددين الذين غادروا عالمنا في تلك السنة، مثل محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وغازي القصيبي، فتركوا برحيلهم الجماعي فراغًا كبيرًا في فضاء الفكر العربي المعاصر.
ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف عام 1935، لعائلة لبنانية من بلدة عيناثا ، قضاء بنت جبيل،جنوب لبنان. وقد ارتحل والده، العلامة السيد عبد الرؤوف فضل الله، إلى النجف طلبًا للعلم في حوزتها الشهيرة.
في أجواء النجف الفكرية، تأثر الشاب محمد حسين بمختلف التيارات الثقافية والأدبية التي كانت نشطة في تلك الفترة، لا سيما أنه نذر على نفسه ألّا يكون رجل دين تقليديًا، فانفتح مبكرًا على المجلات العربية الوافدة، مثل "المصور" و"الرسالة" و"الكاتب المصري"، بالإضافة إلى بعض الدوريات العراقية واللبنانية.
وفي حوار أجراه معه الصحفي اللبناني علي حسن سرور، ونُشر في كتابه "تحدي الممنوع"، يقول فضل الله: "أستطيع أن أعتبر أن طفولتي الثقافية بدأت في سن التاسعة أو العاشرة." ويصف علاقته بوالده بأنها كانت علاقة حوار دائم، حتى في المسائل الفكرية التي قد تُعدّ محرّمة في أوساط دينية مغلقة، وكان يقول له ممازحًا:"يا سيدنا، تعال لنتحدث في الكفريات"، في إشارة إلى المسائل التي قد تُعد خروجًا عن المألوف أو تمردًا على الثوابت.
انتمى فضل الله فكريًا إلى المدرسة الإصلاحية التي مهد لها السيد محسن الأمين، وواصلها السيد الشهيد محمد باقر الصدر، صاحب المؤلفات الفكرية البارزة مثل "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"الأسس المنطقية للاستقراء"، وهي كتب لا تزال مرجعًا مهمًا في الأوساط الإسلامية والعلمانية على حد سواء.
وتميزت هذه المدرسة بانفتاحها على المناهج العلمية والفلسفية الغربية، محاولة تقديم قراءات عقلانية للتراث الإسلامي، بعيدًا عن الغلو والخرافة.
تميز السيد فضل الله بخطابه الإسلامي المعتدل، وانفتاحه على التيارات الفكرية والدينية المختلفة في العراق ولبنان والعالم العربي، ما أكسبه احترامًا واسعًا حتى من خصومه. غير أن هذا الخطاب لم يرق لبعض القوى المتشددة، التي شنّت عليه حملة ضارية استخدمت فيها سلاح التكفير والكتب والمنشورات التي نعتته بالضلال والانحراف.
لكن فضل الله ظلّ على موقفه، مؤمنًا بخطاب إنساني جامع يتجاوز المذهبية والطائفية، وينطلق من إيمان عميق بالتعددية والاختلاف.
وعُرف سماحة السيد فضل الله بمواقفه الصريحة ضد الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ودعمه لحركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني.
رغم وصف الإعلام الغربي والأمريكي له بأنه "المرشد الروحي لحزب الله"، فقد كان يرفض هذه الصفة بشكل قاطع، مؤكدًا أنه ينتمي إلى الإسلام كهوية كونية تتجاوز الانتماءات الحزبية والمذهبية الضيقة.
وقد دفع ثمن مواقفه المناهضة للاحتلال والاستعمار بمحاولة اغتيال مروعة استهدفته يوم الجمعة 8 مارس 1985، عبر تفجير سيارة مفخخة بالقرب من مسجد الإمام الرضا في منطقة بئر العبد بالضاحية الجنوبية لبيروت، بعيد خروجه من صلاة الجمعة، فيما عُرف لاحقًا بـ"مجزرة بئر العبد". وأسفر التفجير عن استشهاد أكثر من 80 شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة نحو 200 آخرين، في حين نجا السيد فضل الله بأعجوبة دون أن يُصاب بأي أذى.
وفي مؤلفاته الفكرية، كان خطاب السيد فضل الله موجّهًا إلى جميع المسلمين، من مختلف المذاهب والانتماءات. وقد اعتمدت بعض الأحزاب الإسلامية كتبه، مثل "الحوار في القرآن"، و"أسلوب الدعوة في القرآن"، و"الإسلام ومنطق القوة"، مرجعيةً فكريةً لها، نظرًا لاعتدالها وابتعادها عن الإقصاء والتكفير.
اعتبر السيد فضل الله نفسه مرجعًا لجميع المسلمين، واختار أن يعمل على تعزيز الوحدة من خارج الأطر الرسمية.
على صعيد الفقه والاجتهاد، دعا السيد فضل الله إلى تجديد الممارسة الفقهية، من خلال الانفتاح على روايات المذاهب الأخرى، واستنباط الأحكام الشرعية منها، لا من روايات مذهبه فقط.
ويتجلّى هذا الاتجاه في أبحاثه الفقهية مثل "اليمين والعهد والنذر"، و"المسائل الفقهية"، كما كان يرفض الروايات التي تتعارض مع القرآن والعقل، مقدّمًا البرهان العقلي على رواية النقل، حيثما تعارضت.
ولم تكن المرأة غائبة عن اهتماماته، بل احتلت موقعًا محوريًا في مشروعه الفكري. فأصدر كتبًا مثل "تأملات إسلامية حول المرأة"، و"دنيا المرأة"، وطرح فتاوى جريئة حظيت باهتمام المنظمات الحقوقية، ومنها فتواه بجواز أن تدافع المرأة عن نفسها إن تعرّضت للضرب من زوجها، وفتواه بعدم جواز استحواذ الزوج على أموال الزوجة، وحقّ المرأة في فسخ عقد الزواج إذا اكتشفت في الزوج عيبًا جوهريًا.
لقد كان محمد حسين فضل الله صوتًا عقلانيًا في زمن طغت فيه أصوات الغلو والانغلاق، ومثّل في حياته، كما في وفاته، جسرًا بين المذاهب والتيارات، وخطًّا ثالثًا في عالم تتقاذفه الثنائيات القاتلة.
في ذكراه، تتجدّد الحاجة إلى استعادة مشروعه في التجديد والاعتدال، لا بوصفه موقفًا دينيًا فقط، بل خيارًا إنسانيًا وأخلاقيًا يليق بعالم تتنازعه العداوات والانقسامات.
*صالح البلوشي.
في الذكرى الخامسة عشرة لرحيله...السيد فضل الله حاضرٌ في الغياب
تمرّ اليوم الذكرى الخامسة عشرة على وفاة سماحة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)، الذي رحل عن دنيانا في الرابع من يوليو عام 2010، بعد معاناة طويلة مع المرض، لينضم إلى كوكبة من المفكرين والمجددين الذين غادروا عالمنا في تلك السنة، مثل محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وغازي القصيبي، فتركوا برحيلهم الجماعي فراغًا كبيرًا في فضاء الفكر العربي المعاصر.
ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف عام 1935، لعائلة لبنانية من بلدة عيناثا ، قضاء بنت جبيل،جنوب لبنان. وقد ارتحل والده، العلامة السيد عبد الرؤوف فضل الله، إلى النجف طلبًا للعلم في حوزتها الشهيرة.
في أجواء النجف الفكرية، تأثر الشاب محمد حسين بمختلف التيارات الثقافية والأدبية التي كانت نشطة في تلك الفترة، لا سيما أنه نذر على نفسه ألّا يكون رجل دين تقليديًا، فانفتح مبكرًا على المجلات العربية الوافدة، مثل "المصور" و"الرسالة" و"الكاتب المصري"، بالإضافة إلى بعض الدوريات العراقية واللبنانية.
وفي حوار أجراه معه الصحفي اللبناني علي حسن سرور، ونُشر في كتابه "تحدي الممنوع"، يقول فضل الله: "أستطيع أن أعتبر أن طفولتي الثقافية بدأت في سن التاسعة أو العاشرة." ويصف علاقته بوالده بأنها كانت علاقة حوار دائم، حتى في المسائل الفكرية التي قد تُعدّ محرّمة في أوساط دينية مغلقة، وكان يقول له ممازحًا:"يا سيدنا، تعال لنتحدث في الكفريات"، في إشارة إلى المسائل التي قد تُعد خروجًا عن المألوف أو تمردًا على الثوابت.
انتمى فضل الله فكريًا إلى المدرسة الإصلاحية التي مهد لها السيد محسن الأمين، وواصلها السيد الشهيد محمد باقر الصدر، صاحب المؤلفات الفكرية البارزة مثل "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"الأسس المنطقية للاستقراء"، وهي كتب لا تزال مرجعًا مهمًا في الأوساط الإسلامية والعلمانية على حد سواء.
وتميزت هذه المدرسة بانفتاحها على المناهج العلمية والفلسفية الغربية، محاولة تقديم قراءات عقلانية للتراث الإسلامي، بعيدًا عن الغلو والخرافة.
تميز السيد فضل الله بخطابه الإسلامي المعتدل، وانفتاحه على التيارات الفكرية والدينية المختلفة في العراق ولبنان والعالم العربي، ما أكسبه احترامًا واسعًا حتى من خصومه. غير أن هذا الخطاب لم يرق لبعض القوى المتشددة، التي شنّت عليه حملة ضارية استخدمت فيها سلاح التكفير والكتب والمنشورات التي نعتته بالضلال والانحراف.
لكن فضل الله ظلّ على موقفه، مؤمنًا بخطاب إنساني جامع يتجاوز المذهبية والطائفية، وينطلق من إيمان عميق بالتعددية والاختلاف.
وعُرف سماحة السيد فضل الله بمواقفه الصريحة ضد الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ودعمه لحركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني.
رغم وصف الإعلام الغربي والأمريكي له بأنه "المرشد الروحي لحزب الله"، فقد كان يرفض هذه الصفة بشكل قاطع، مؤكدًا أنه ينتمي إلى الإسلام كهوية كونية تتجاوز الانتماءات الحزبية والمذهبية الضيقة.
وقد دفع ثمن مواقفه المناهضة للاحتلال والاستعمار بمحاولة اغتيال مروعة استهدفته يوم الجمعة 8 مارس 1985، عبر تفجير سيارة مفخخة بالقرب من مسجد الإمام الرضا في منطقة بئر العبد بالضاحية الجنوبية لبيروت، بعيد خروجه من صلاة الجمعة، فيما عُرف لاحقًا بـ"مجزرة بئر العبد". وأسفر التفجير عن استشهاد أكثر من 80 شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة نحو 200 آخرين، في حين نجا السيد فضل الله بأعجوبة دون أن يُصاب بأي أذى.
وفي مؤلفاته الفكرية، كان خطاب السيد فضل الله موجّهًا إلى جميع المسلمين، من مختلف المذاهب والانتماءات. وقد اعتمدت بعض الأحزاب الإسلامية كتبه، مثل "الحوار في القرآن"، و"أسلوب الدعوة في القرآن"، و"الإسلام ومنطق القوة"، مرجعيةً فكريةً لها، نظرًا لاعتدالها وابتعادها عن الإقصاء والتكفير.
اعتبر السيد فضل الله نفسه مرجعًا لجميع المسلمين، واختار أن يعمل على تعزيز الوحدة من خارج الأطر الرسمية.
على صعيد الفقه والاجتهاد، دعا السيد فضل الله إلى تجديد الممارسة الفقهية، من خلال الانفتاح على روايات المذاهب الأخرى، واستنباط الأحكام الشرعية منها، لا من روايات مذهبه فقط.
ويتجلّى هذا الاتجاه في أبحاثه الفقهية مثل "اليمين والعهد والنذر"، و"المسائل الفقهية"، كما كان يرفض الروايات التي تتعارض مع القرآن والعقل، مقدّمًا البرهان العقلي على رواية النقل، حيثما تعارضت.
ولم تكن المرأة غائبة عن اهتماماته، بل احتلت موقعًا محوريًا في مشروعه الفكري. فأصدر كتبًا مثل "تأملات إسلامية حول المرأة"، و"دنيا المرأة"، وطرح فتاوى جريئة حظيت باهتمام المنظمات الحقوقية، ومنها فتواه بجواز أن تدافع المرأة عن نفسها إن تعرّضت للضرب من زوجها، وفتواه بعدم جواز استحواذ الزوج على أموال الزوجة، وحقّ المرأة في فسخ عقد الزواج إذا اكتشفت في الزوج عيبًا جوهريًا.
لقد كان محمد حسين فضل الله صوتًا عقلانيًا في زمن طغت فيه أصوات الغلو والانغلاق، ومثّل في حياته، كما في وفاته، جسرًا بين المذاهب والتيارات، وخطًّا ثالثًا في عالم تتقاذفه الثنائيات القاتلة.
في ذكراه، تتجدّد الحاجة إلى استعادة مشروعه في التجديد والاعتدال، لا بوصفه موقفًا دينيًا فقط، بل خيارًا إنسانيًا وأخلاقيًا يليق بعالم تتنازعه العداوات والانقسامات.
*صالح البلوشي.