آتٍ من المستقبل

آتٍ من المستقبل

آتٍ من المستقبل

في السياسة، كان السيد حريصاً على أن نقرأ المشهد من خلال الصورة العامة في المنطقة، كيف تتحرك الخطط الدولية وتشتبك المصالح، لأننا في ذلك يمكن أن نقرأ مستقبل لبنان والمنطقة.
من الرابع من تموز 2010، إلى ما بعد هذا التاريخ بخمسة عشر عاماً، عقد ونصف من الزمن زُلزلت فيه المنطقة بأسرها تباعاً، عصفت فيها العواصف، زُعزِعت ثوابت، ووُضعت الكثير من العناوين والأفكار تحت مجهر الفحص، لتتقهقر رؤى وترتفع أخرى.

خمسة عشر عاماً على رحيل نبض العصر العلّامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، ارتاح فيها بشخصه من كل ما تعب لأجله، وترك لمريديه من معين إرثه الزاخر فرصة إعادة قراءة كل ما كتب لمعرفة استخلاص المواقف اللحظيّة واستنهاضها من عمق نصوصه وكلماته. كانت تلك رغبته الدائمة أصلاً، أن لا يترك أتباعاً منقادين، بل قرّاء ومريدين لهم حرية الاستنباط والتفكر والغوص في المعاني وخلفياتها.
مرجعاً دينياً كان، إن شئنا، أو سياسياً، أو أدبياً، أو اجتماعياً... يُستفاد منه في كل تلك الأمور التي لا يَنطق بها وعنها إلا بعد بحث ودراية. كان ينظر إلى العالم فيرى فيه عالماً "يتطوّر ويُسرع الخطى في حركته فلا تجد هناك شيئاً يستقر في موقعه" كما قال. لذلك، أراد أن يلاحق القريب والبعيد في عمليّة محاكاة يستنفر فيها كلّ عناصر القوّة الفكرية والعقلية والروحية والجسدية. ولأنه لمح تنوّع الزمن وسرعته، وأن كل شيء فيه يركض، السياسة والأمن وإفرازات العلم والتكنولوجيا والنظريات والمفاهيم، أراد للأمة أن تدخل في عملية السباق، وأن لا تخسر في المضمار الطويل، وأن لا تعيش على فتات الماضي، بل أن تأخذ جذوته وعمقه ولبابه، ترصد الآتي، ولا تتخلّف عن المستقبل في السياسة، كان السيد حريصاً على أن نقرأ المشهد من خلال الصورة العامة في المنطقة، كيف تتحرك الخطط الدولية وتشتبك المصالح، لأننا في ذلك يمكن أن نقرأ مستقبل لبنان والمنطقة، هذا مع رؤيته أن لبنان هو "الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة"، وأن العين الأميركية تنظر إليه "كأفضل مكان للتنصّت في الشرق الأوسط".
ولذلك، أراد للجميع ألا يستغرقوا في حيثيات الواقع اللبناني بعيداً من فهم اللعبة الدولية حتى لا يكونوا فريسة الخطط الخارجية وإن ربحوا السباق في بعض جولاته. من هنا، سارع بعد التحرير عام 2000 إلى التحذير في أول خطبة جمعة له من "سرّاق الانتصارات"، وبعد حرب تموز من "أن نشعر بالزهو"، وقال لبعض القياديين الذين دخلوا عليه بعدما وضعت الحرب أوزارها: "تواضعوا... تواضعوا"، وهو إنما أطلق هذه الكلمة لتكون عنواناً على مستوى المرحلة كلها، لأنه كان يعرف أن الآتي أصعب بكثير، كما كان يعرف أن العضلات تحتاج إلى السيقان القوية كما كان يردد، وأن قوة الجسد تكمن في انحناءة الروح أمام الله وفي أن نعيش الانكسار في لحظات الانتصار.
وكم كان صادقاً عندما قال في أيام التحرير والانتصار: "أن نحتفل بالانتصار، ألا يشغلنا هذا الانتصار في بعض إفرازات القضية عن التحديق في المستقبل من أجل الانتصار في القضيّة نفسها... ليست هذه هي النهاية، الكلّ يحدّق في التسوية، في السلام، الكل مستعجلون تحت شعار خلصونا، ولن يخلصونا، لأنهم سوف يخلصون أنفسهم على حساب أن نبقى في المشكلة". وهو الذي عرف من صباه حجم الخطر الإسرائيلي هاتفاً وناظماً: "دافعوا عن حقنا المغتصبِ في فلسطين بحد القضب". وباكراً أيضاً، تنبه لخطورة محاولات الإيقاع بين السنة والشيعة، فتصدّى لها، وعندما سئل في إحدى ندواته الفكرية التي كان يحط فيها الرحال في كل المناطق اللبنانية: أنت سني أم شيعي؟ قال: " السنة هم أهل الشيعة لأنهم يحبون أهل البيت، والشيعة هم أهل السنة لأنهم يعملون بسنة رسول الله، وأنا أرفض أن يقال سني أم شيعي، لننطلق من شخصيتنا الإسلامية قبل شخصيتنا المذهبية".
وبهذه الانفتاحية الإسلامية، حرّر سماحة السيد الفهم الديني من الكثير من الانغلاقات الفكرية والتعقيدات الفقهية، ورفض أن يتضخم الفقه بطريقة يغيب معها معنى الحياة لينحصر فقط في الإطار الهندسي لما هو حرام وحلال، كما حرر الناس من فكرة طلب الخسران في الدنيا في مقابل الربح في الآخرة، بل حثّهم على العمران والفرح والنهضة في كل ميادين الحياة الدنيا في الوقت نفسه الذي يسعون فيه لكسب الآخرة.
ظلّ السيد يحدّق في الهموم الكبرى، وفي ما نحن مقبلون عليه، يدعو إلى المأسسة في كل شيء: "الفردانية في القيادة تمثل خطراً كبيراً لأنها تخضع للعوامل الذاتية في شخصية القائد التي قد تجتذب إلى دائرتها الفاشلين... أن يبقى الرمز ولكن مع الاحتياطات التي تمنع سقوط الرموز واختلال الموقف". هكذا كان يردّد.
مستقبل الأمّة وفقاً لما رآه سماحته كان يخضع لمستوى الحوار فيها ومنسوب النقد الذي يبتعد عن منطق التقديس والتدنيس في آن واحد، وأن نظلّ في رحلة الأسئلة والأجوبة: "ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال محرج، (الحقيقة بنت الحوار)" بحسب القاعدة التي "حرّرها" في الحوار... ولأنه كان مستقبلياً، كان حوارياً، فلا معنى لأن تحاكي المستقبل دون أن تنفتح على كل تعقيدات الحوار التي تقودك إليه كما كان يقول:
ناقش في كلّ شيء، حتى إنه في بعض حواراته مع والده السيد عبد الرؤوف فضل الله كان يقول له: "تعال نتحاور في الكفريات"... لأن أفضل ثمرة في الحوار بالنسبة إليه هو أن تحرّكه في أكثر المسائل تعقيداً: "دورنا أن نحرّك الصوت في الأفق ليبقى معلقاً في الفضاء

باحثاً في المدى عن الأذن الظمأى إليه في لهفة الإصغاء

عن كيانٍ يعيش في قلق الحيرة بحثاً عن فكرة عصماء

عن غدٍ يحضن الهدى إليه إن تخلّى حاضر الجيل عن نداء السماء"
ذاك شعره، وتلك كلماته... وهو الأديب الحافظ والناقد والناظم... وهو المشجّع للأدب والفن؛ كان يقول: "لسنا ضد الفن ولكن ضد الإثارة"..."إذا كان الكلام حقاً فالموسيقى تقوّي كلام الحق"... ورفض مقولة أن صوت المرأة عورة، لأنه كان يرى أن "المرأة إذا تمايعت في الصوت فهي تماماً كما يتمايع الرجل". وأراد للمجتمع أن يتحسّس المسؤولية حيال المرأة في حريتها المنفتحة على آفاق الدين والعلم حتى لا يخدعها أولئك الذين عملوا مراراً على تجهيلها وتسليعها وقتل روح العطاء والإبداع فيها، ففي ذلك "تعطيل لجهد الأمة وتكبيل لمستقبلها.
لقد نظر السيد إلى المرأة كشخصية مستقلة لا يمكن للأب أو الأخ أو أي أحد أن يصادر قرارها ورؤيتها، وكان يصرّ على قراءة ما تكتب وما تطرح، ولذلك قرأ المقالات وتابع ما يُكتب في المجلات النسائية وكان يردّد: "كيف أفتي للمرأة إن لم أقرأها وأفهمها وأتعرّف إلى واقعها وما يختلج في عقلها وقلبها". كان يعرف أن المسؤولية في فهم النص تقتضي أن تفهم الواقع، وأن الجمود في حروفه لا يعني الجمود في المضمون.
إنه هو، في كلّ زمان، العلّامة المجدّد، أخذ بريشة التجديد ليرسم في اجتهاداته على جبين المراحل، ولكنه الرسم الذي لا يخدش إنجازات من سبق ولا يفتئت حق المعاصر، فلا ينكر المغايرة ولا يخضع للمسايرة.
أطلّ على البدر في رمضان فرآه بعين العين واليقين الذي لا يساوره الشك، واستمع للإمام علي: "قطع العلم عذر المتعللين"، وبانت له شهرية الشهر من كتاب الله: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...". فقرر أن الرؤية طريقية، وأنها وسيلة... وهو الذي كان يذهب دائماً في منهجه إلى المقاصد والغايات، دون أن يتجمّد عند الوسائل، أو يجعل من الوسيلة غاية في حد ذاتها.
من هنا، كان يتطلع إلى المزاوجة بين الحوزة والجامعة، فتستفيد الحوزة على مستوى المناهج والتطوير، دون أن تذوب في الجامعة فتفقد شخصيتها، ولا تفتقر للمعاصرة والموضوعية العلمية في مقاربة الأشياء... ولذلك كان يشترط على المنخرط في السلك الديني أن يختزن في شخصيته وتحصيله العلمي شخصية الباحث في علم النفس وعلم الاجتماع وكل ما تتطلبه الحياة من فهم منطق العصر وأساليبه، وكان يقول: "من لا يملك نبض العصر لا يستطيع أن يكون داعية وأن يقترب من عقول الناس..".
لقد كان السيد مستقبلياً في كلّ تطلعاته... أراد للأمة أن تكون السباقة فلا تتأخر عن الركب، وأراد للأجيال أن تصنع مستقبلها قائلاً: "لقد صنعوا مستقبلهم وعلينا أن نصنع مستقبلنا ". ومضى وهو يقول: "غيّر نفسك تغيّر ما حولك، غيّر نفسك تغيّر العالم".
خمسة عشر عاماً على رحيلك يا سماحة السيد، يا أيّها السّمح الموقّر الحكيم بشهادة البعيدين الذين قدّروك قبل القريبين ممّن غيّبوك، لأنه كما قال علي: "من ضيّعه الأقرب أُتيح له الأبعد".
وقد شاءت الأقدار أن تكون ذكراك هذا العام مترافقة وذكرى استشهاد جدّك الحسين، الرمز الذي أبيت إلّا أن يكون للإنسانية جمعاء، فلا نحصره بدمعةٍ وبكاء، أو بفئة أو بعد طائفي للانتماء، كما أنك لم تشأ أن نستغرق في المناسبة بالشكل الذي ننسى معه الاحتفاء برمزية رأس السنة الهجرية في أبعاد هجرة الرسول، فكانت كل المناسبات عندك هكذا، سعياً وراء المقاصد الكبرى، لا طقسنة أو أدلجة تحرف القصد عن المعنى...
لقد كنت جبلاً من الحكمة وموسوعة من المعرفة، وفي خضمّ كلّ تلك الأزمات العاصفة، يصح أن نكتب فيك ما كتبه زميلنا الإعلامي سعيد غريب في وداعك: "رحمنا الله يا سيدنا، وأطال الله في عمرك".
هاني عبدالله - المستشار الإعلامي والسياسي للمرجع الديني الراحل السيد محمد حسين فضل الله "رض".
المصدر : جريدة النهار.
آتٍ من المستقبل

في السياسة، كان السيد حريصاً على أن نقرأ المشهد من خلال الصورة العامة في المنطقة، كيف تتحرك الخطط الدولية وتشتبك المصالح، لأننا في ذلك يمكن أن نقرأ مستقبل لبنان والمنطقة.
من الرابع من تموز 2010، إلى ما بعد هذا التاريخ بخمسة عشر عاماً، عقد ونصف من الزمن زُلزلت فيه المنطقة بأسرها تباعاً، عصفت فيها العواصف، زُعزِعت ثوابت، ووُضعت الكثير من العناوين والأفكار تحت مجهر الفحص، لتتقهقر رؤى وترتفع أخرى.

خمسة عشر عاماً على رحيل نبض العصر العلّامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، ارتاح فيها بشخصه من كل ما تعب لأجله، وترك لمريديه من معين إرثه الزاخر فرصة إعادة قراءة كل ما كتب لمعرفة استخلاص المواقف اللحظيّة واستنهاضها من عمق نصوصه وكلماته. كانت تلك رغبته الدائمة أصلاً، أن لا يترك أتباعاً منقادين، بل قرّاء ومريدين لهم حرية الاستنباط والتفكر والغوص في المعاني وخلفياتها.
مرجعاً دينياً كان، إن شئنا، أو سياسياً، أو أدبياً، أو اجتماعياً... يُستفاد منه في كل تلك الأمور التي لا يَنطق بها وعنها إلا بعد بحث ودراية. كان ينظر إلى العالم فيرى فيه عالماً "يتطوّر ويُسرع الخطى في حركته فلا تجد هناك شيئاً يستقر في موقعه" كما قال. لذلك، أراد أن يلاحق القريب والبعيد في عمليّة محاكاة يستنفر فيها كلّ عناصر القوّة الفكرية والعقلية والروحية والجسدية. ولأنه لمح تنوّع الزمن وسرعته، وأن كل شيء فيه يركض، السياسة والأمن وإفرازات العلم والتكنولوجيا والنظريات والمفاهيم، أراد للأمة أن تدخل في عملية السباق، وأن لا تخسر في المضمار الطويل، وأن لا تعيش على فتات الماضي، بل أن تأخذ جذوته وعمقه ولبابه، ترصد الآتي، ولا تتخلّف عن المستقبل في السياسة، كان السيد حريصاً على أن نقرأ المشهد من خلال الصورة العامة في المنطقة، كيف تتحرك الخطط الدولية وتشتبك المصالح، لأننا في ذلك يمكن أن نقرأ مستقبل لبنان والمنطقة، هذا مع رؤيته أن لبنان هو "الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة"، وأن العين الأميركية تنظر إليه "كأفضل مكان للتنصّت في الشرق الأوسط".
ولذلك، أراد للجميع ألا يستغرقوا في حيثيات الواقع اللبناني بعيداً من فهم اللعبة الدولية حتى لا يكونوا فريسة الخطط الخارجية وإن ربحوا السباق في بعض جولاته. من هنا، سارع بعد التحرير عام 2000 إلى التحذير في أول خطبة جمعة له من "سرّاق الانتصارات"، وبعد حرب تموز من "أن نشعر بالزهو"، وقال لبعض القياديين الذين دخلوا عليه بعدما وضعت الحرب أوزارها: "تواضعوا... تواضعوا"، وهو إنما أطلق هذه الكلمة لتكون عنواناً على مستوى المرحلة كلها، لأنه كان يعرف أن الآتي أصعب بكثير، كما كان يعرف أن العضلات تحتاج إلى السيقان القوية كما كان يردد، وأن قوة الجسد تكمن في انحناءة الروح أمام الله وفي أن نعيش الانكسار في لحظات الانتصار.
وكم كان صادقاً عندما قال في أيام التحرير والانتصار: "أن نحتفل بالانتصار، ألا يشغلنا هذا الانتصار في بعض إفرازات القضية عن التحديق في المستقبل من أجل الانتصار في القضيّة نفسها... ليست هذه هي النهاية، الكلّ يحدّق في التسوية، في السلام، الكل مستعجلون تحت شعار خلصونا، ولن يخلصونا، لأنهم سوف يخلصون أنفسهم على حساب أن نبقى في المشكلة". وهو الذي عرف من صباه حجم الخطر الإسرائيلي هاتفاً وناظماً: "دافعوا عن حقنا المغتصبِ في فلسطين بحد القضب". وباكراً أيضاً، تنبه لخطورة محاولات الإيقاع بين السنة والشيعة، فتصدّى لها، وعندما سئل في إحدى ندواته الفكرية التي كان يحط فيها الرحال في كل المناطق اللبنانية: أنت سني أم شيعي؟ قال: " السنة هم أهل الشيعة لأنهم يحبون أهل البيت، والشيعة هم أهل السنة لأنهم يعملون بسنة رسول الله، وأنا أرفض أن يقال سني أم شيعي، لننطلق من شخصيتنا الإسلامية قبل شخصيتنا المذهبية".
وبهذه الانفتاحية الإسلامية، حرّر سماحة السيد الفهم الديني من الكثير من الانغلاقات الفكرية والتعقيدات الفقهية، ورفض أن يتضخم الفقه بطريقة يغيب معها معنى الحياة لينحصر فقط في الإطار الهندسي لما هو حرام وحلال، كما حرر الناس من فكرة طلب الخسران في الدنيا في مقابل الربح في الآخرة، بل حثّهم على العمران والفرح والنهضة في كل ميادين الحياة الدنيا في الوقت نفسه الذي يسعون فيه لكسب الآخرة.
ظلّ السيد يحدّق في الهموم الكبرى، وفي ما نحن مقبلون عليه، يدعو إلى المأسسة في كل شيء: "الفردانية في القيادة تمثل خطراً كبيراً لأنها تخضع للعوامل الذاتية في شخصية القائد التي قد تجتذب إلى دائرتها الفاشلين... أن يبقى الرمز ولكن مع الاحتياطات التي تمنع سقوط الرموز واختلال الموقف". هكذا كان يردّد.
مستقبل الأمّة وفقاً لما رآه سماحته كان يخضع لمستوى الحوار فيها ومنسوب النقد الذي يبتعد عن منطق التقديس والتدنيس في آن واحد، وأن نظلّ في رحلة الأسئلة والأجوبة: "ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال محرج، (الحقيقة بنت الحوار)" بحسب القاعدة التي "حرّرها" في الحوار... ولأنه كان مستقبلياً، كان حوارياً، فلا معنى لأن تحاكي المستقبل دون أن تنفتح على كل تعقيدات الحوار التي تقودك إليه كما كان يقول:
ناقش في كلّ شيء، حتى إنه في بعض حواراته مع والده السيد عبد الرؤوف فضل الله كان يقول له: "تعال نتحاور في الكفريات"... لأن أفضل ثمرة في الحوار بالنسبة إليه هو أن تحرّكه في أكثر المسائل تعقيداً: "دورنا أن نحرّك الصوت في الأفق ليبقى معلقاً في الفضاء

باحثاً في المدى عن الأذن الظمأى إليه في لهفة الإصغاء

عن كيانٍ يعيش في قلق الحيرة بحثاً عن فكرة عصماء

عن غدٍ يحضن الهدى إليه إن تخلّى حاضر الجيل عن نداء السماء"
ذاك شعره، وتلك كلماته... وهو الأديب الحافظ والناقد والناظم... وهو المشجّع للأدب والفن؛ كان يقول: "لسنا ضد الفن ولكن ضد الإثارة"..."إذا كان الكلام حقاً فالموسيقى تقوّي كلام الحق"... ورفض مقولة أن صوت المرأة عورة، لأنه كان يرى أن "المرأة إذا تمايعت في الصوت فهي تماماً كما يتمايع الرجل". وأراد للمجتمع أن يتحسّس المسؤولية حيال المرأة في حريتها المنفتحة على آفاق الدين والعلم حتى لا يخدعها أولئك الذين عملوا مراراً على تجهيلها وتسليعها وقتل روح العطاء والإبداع فيها، ففي ذلك "تعطيل لجهد الأمة وتكبيل لمستقبلها.
لقد نظر السيد إلى المرأة كشخصية مستقلة لا يمكن للأب أو الأخ أو أي أحد أن يصادر قرارها ورؤيتها، وكان يصرّ على قراءة ما تكتب وما تطرح، ولذلك قرأ المقالات وتابع ما يُكتب في المجلات النسائية وكان يردّد: "كيف أفتي للمرأة إن لم أقرأها وأفهمها وأتعرّف إلى واقعها وما يختلج في عقلها وقلبها". كان يعرف أن المسؤولية في فهم النص تقتضي أن تفهم الواقع، وأن الجمود في حروفه لا يعني الجمود في المضمون.
إنه هو، في كلّ زمان، العلّامة المجدّد، أخذ بريشة التجديد ليرسم في اجتهاداته على جبين المراحل، ولكنه الرسم الذي لا يخدش إنجازات من سبق ولا يفتئت حق المعاصر، فلا ينكر المغايرة ولا يخضع للمسايرة.
أطلّ على البدر في رمضان فرآه بعين العين واليقين الذي لا يساوره الشك، واستمع للإمام علي: "قطع العلم عذر المتعللين"، وبانت له شهرية الشهر من كتاب الله: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...". فقرر أن الرؤية طريقية، وأنها وسيلة... وهو الذي كان يذهب دائماً في منهجه إلى المقاصد والغايات، دون أن يتجمّد عند الوسائل، أو يجعل من الوسيلة غاية في حد ذاتها.
من هنا، كان يتطلع إلى المزاوجة بين الحوزة والجامعة، فتستفيد الحوزة على مستوى المناهج والتطوير، دون أن تذوب في الجامعة فتفقد شخصيتها، ولا تفتقر للمعاصرة والموضوعية العلمية في مقاربة الأشياء... ولذلك كان يشترط على المنخرط في السلك الديني أن يختزن في شخصيته وتحصيله العلمي شخصية الباحث في علم النفس وعلم الاجتماع وكل ما تتطلبه الحياة من فهم منطق العصر وأساليبه، وكان يقول: "من لا يملك نبض العصر لا يستطيع أن يكون داعية وأن يقترب من عقول الناس..".
لقد كان السيد مستقبلياً في كلّ تطلعاته... أراد للأمة أن تكون السباقة فلا تتأخر عن الركب، وأراد للأجيال أن تصنع مستقبلها قائلاً: "لقد صنعوا مستقبلهم وعلينا أن نصنع مستقبلنا ". ومضى وهو يقول: "غيّر نفسك تغيّر ما حولك، غيّر نفسك تغيّر العالم".
خمسة عشر عاماً على رحيلك يا سماحة السيد، يا أيّها السّمح الموقّر الحكيم بشهادة البعيدين الذين قدّروك قبل القريبين ممّن غيّبوك، لأنه كما قال علي: "من ضيّعه الأقرب أُتيح له الأبعد".
وقد شاءت الأقدار أن تكون ذكراك هذا العام مترافقة وذكرى استشهاد جدّك الحسين، الرمز الذي أبيت إلّا أن يكون للإنسانية جمعاء، فلا نحصره بدمعةٍ وبكاء، أو بفئة أو بعد طائفي للانتماء، كما أنك لم تشأ أن نستغرق في المناسبة بالشكل الذي ننسى معه الاحتفاء برمزية رأس السنة الهجرية في أبعاد هجرة الرسول، فكانت كل المناسبات عندك هكذا، سعياً وراء المقاصد الكبرى، لا طقسنة أو أدلجة تحرف القصد عن المعنى...
لقد كنت جبلاً من الحكمة وموسوعة من المعرفة، وفي خضمّ كلّ تلك الأزمات العاصفة، يصح أن نكتب فيك ما كتبه زميلنا الإعلامي سعيد غريب في وداعك: "رحمنا الله يا سيدنا، وأطال الله في عمرك".
هاني عبدالله - المستشار الإعلامي والسياسي للمرجع الديني الراحل السيد محمد حسين فضل الله "رض".
المصدر : جريدة النهار.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية