نحتاج السيّد محمَّد حسين فضل الله اليوم ليذكّرنا أنَّ فلسطين لا تزال البوصلة، وأنَّ المذاهب حين تلتقي تُنبت سنابل الحياة لا أشواك الموت، وأنَّ المحبَّة حين تُزرع في القلوب، تنبت وطناً بلا أسوار، وإيماناً بلا كراهية.
في زمن ازدحمت فيه الأصوات، وضاقت فيه الأرواح، كان السيّد محمَّد حسين فضل الله نسمة هادئة تمرّ فوق قلب العالم، تذكّرنا أنَّ الإيمان لا يُقاس بعدد الأتباع، بل بقدرة القلب على الاتّساع.
تحلّ الذكرى الخامسة عشرة لرحيله، لكنَّ حضوره لا يزال يسبق الغياب، يطلّ من بين كلماتنا، ومن بين ملامح كلّ من آمن بأنَّ الإنسان أوّل الأديان وآخرها.
كان السيّد لا يشبه أحداً؛ رجلٌ اختار أن يكون جسراً لا سوراً، أن يكون بوصلةً في زمن التّيه، لا صوتاً في سوق المزايدات.
فتح صدره للنَّاس جميعاً، من اختلف ومن اتَّفق، من أحبَّ ومن خاصم، وجعل من دينه زاداً للرّوح، لا سلاحاً للنّزاع.
خمسة عشر عاماً مرّت، وما زال صوته يهمس لنا في اللَّيالي المظلمة: "اصنعوا من الرَّحمة منارة، ومن الوحدة وطناً، ومن الإيمان خبزاً يُكسر على موائد الفقراء".
وها نحن، في حضرته، نحاول أن نقرأ ملامحه في وجوهنا، ونسمع خطواته في طرقات القلب، ونمسك بيده كلَّما ضللنا الطريق.
البدايات المؤجَّلة... ولقاء لا يشبه سواه
عرفتُ السيّد محمَّد حسين فضل الله قبل أن ألتقيه، من خلال خطبه ومقالاته وكلماته الَّتي تشعّ دفئاً ورحابة عقل، لكنّ اللّقاء المباشر كان أشبه برحلة روحيَّة وفكريَّة لا تُنسى.
بدأت الحكاية في نيسان/أبريل 2006، حين شرعتُ في التَّنسيق مع فريق مكتبه في بيروت لإجراء حوار معمَّق يلامس جوهر رؤيته للإنسان، والإسلام، والعالم.
استغرق الإعداد أسابيع طويلة من التَّواصل والترتيب، قبل أن تندلع حرب تموز 2006، فتؤجّل كلَّ شيء، وتضع لبنان كلَّه في قلب النَّار والدَّمار. وبعد انتهاء العدوان، وقف السيّد شامخاً كجبل، يزرع الأمل في النفوس، ويشدّ أزر شعبه ومقاومته، ويبثّ في النَّاس روح الصّمود.
في تلك الأجواء الثَّقيلة، التقينا في الطَّابق السفلي تحت مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، وهناك جرى الحوار الَّذي طال انتظاره. وما زاد تلك اللَّحظة فرادة، أنَّ الصَّديق الغالي الحاج عبد الله قصير، مدير عام قناة "المنار" آنذاك، رغم الضّغط الهائل الَّذي كانت تعانيه القناة بعد الحرب، أرسل إليَّ مشكوراً سيارة البثّ المتنقّلة، تقل فريق عمل كامل يضمّ 3 كاميرات، لتصوير الحوار من زوايا متعدّدة، بحرفيَّة واهتمام بالغين. كانت تلك البادرة عربون محبَّة وتقدير، وتجسيداً صادقاً لمكانة السيّد في قلوب من عرفوه وأدركوا عمق فكره.
حوارٌ خارج حدود الزَّمن
بثّ التلفزيون المصريّ مقطعاً صغيراً من الحوار فقط - لأسباب لا مجال لذكرها الآن - فكان لا بدَّ من إظهاره كاملاً، بكلّ عمقه وروحه، فلجأت إلى نشره كاملاً في مجلَّة "الأهرام العربي". ولاحقاً، عند رحيل السيّد، طلب مني الصديق خالد صلاح إعادة نشره في جريدة وموقع "اليوم السَّابع"، فكان له وقع خاصّ وصدى واسع، وخصوصاً لدى النخبة المصريَّة الَّتي كانت تتعطَّش لصوت العقل والوحدة، بعيداً من ضجيج الطائفيَّة وصخب التَّحريض.
ذلك الحوار لم يكن مجرَّد مقابلة صحفيَّة عابرة، بل كشفاً حقيقيّاً عن معدن السيّد الأصيل: إيمانه الراسخ بفلسطين كقضيَّة مركزيَّة، دفاعه المستميت عن المقاومة، موقفه الحازم في رفض الإساءة إلى الصَّحابة والسيّدة عائشة، إصراره العميق على التَّوحيد الخالص ونبذ الغلوّ، ورفضه القاطع تحويل المذهب إلى أداة صراع سياسي.
وسام في القلب
في إحدى زياراتي الأخيرة له قبيل رحيله، دخلتُ عليه، فوجدته قد أنهى لتوّه لقاءً مع الإعلاميّ الكبير الأستاذ غسان بن جدو. التفت السيّد إليّ مبتسماً، وقال بحضوره الوضَّاء وصوته المفعم بالثّقة: "لقد قلتُ للأستاذ غسان بن جدو قبل قليل إنَّ الحوار الذي أجريته معك، هو من أعمق، بل أعمق حوار أُجري معي حتَّى الآن".
كانت تلك الكلمات بمثابة شهادة أعتزّ بها، أحملها وساماً على صدري مدى الحياة، شهادة تؤكّد عمق الثّقة المتبادلة، وتجسّد روح اللقاء الإنساني الصَّادق العابر لكلّ الشَّكليَّات.
مرجع المحبَّة والوحدة
لم يكن السيّد فضل الله مجرَّد عالم دين، بل عقلاً حراً وقلباً كبيراً، يفتح ذراعيه لكلّ من طرق بابه، مؤمناً كان أو باحثاً أو حتَّى معارضاً.
انفتح على الحركات الإسلاميَّة الوطنيَّة، وتواصل مع الحركات اليساريَّة والعلمانيَّة، وتحاور مع الجميع من دون أن يفرّط في ثوابته وقيمه.
رأى في الدين وسيلة للرحمة والتقريب، لا للفرقة والتمزيق. جعل من فلسطين صلاته اليوميَّة، ومن المقاومة شرفه وسيفه، ومن الوحدة الإسلاميَّة حلمه الدائم. في زمن كثر فيه باعة الطائفيَّة، ظلَّ السيّد صامداً كجذع زيتون، يؤكّد أنَّ "الحقيقة بنت الحوار"، وأنَّ الحقَّ لا يموت ما دام هناك من يرفعه راية.
سلام على من جعل الإيمان وطناً
سلام على تلك الابتسامة الّتي كانت تسبق كلماته، على ذلك الصَّوت الَّذي اخترق جدران الخوف واليأس، على قلبه الَّذي علّمنا أنَّ الدين ممرّ إلى القلوب، لا متاريس للفصل والاقتتال.
في زمنٍ امتلأت فيه السَّاحات بالضَّجيج، وخفتت فيه همسات الرَّحمة والعقل، كان السيّد فضل الله يرفع صوته كأذانٍ في الفجر، يوقظ الضَّمائر، ويعيدنا إلى جوهر الدّين: الإنسان.
علّمنا أنَّ الطَّريق إلى الله يمرّ بخدمة النَّاس، بإطعام الجائع، وبناء الجسور، وحماية كرامة الإنسان أيّاً كان.
نحتاجه اليوم ليذكّرنا أنَّ فلسطين لا تزال البوصلة، وأنَّ المذاهب حين تلتقي تُنبت سنابل الحياة لا أشواك الموت، وأنَّ المحبَّة حين تُزرع في القلوب، تنبت وطناً بلا أسوار، وإيماناً بلا كراهية.
سلامٌ على روحه الَّتي حلّقت فوق الانقسامات، على حلمه الَّذي لم ينكسر رغم قسوة السّنين، على فكره الَّذي بقي شجرة وارفة، تظلّل المتعبين وتمنحهم ظلال الطّمأنينة.
طوبى لمن يواصلون حمل مشعله اليوم، يسيرون في الدّروب الصَّعبة، يسمعون همسه في ليالي الوحدة: "لا تتركوا الحقَّ وحيداً، ولا تدعوا المحبَّة تسقط من أيديكم".
سلامٌ عليك أيُّها السيّد، في الخلود، في الحضور، في كلّ صلاة تُهمس بها قلوبنا: "اللَّهمَّ ارزقنا سعة صدره، ونبل روحه، وصدق محبَّته".
* المصدر: الميادين نت.
نحتاج السيّد محمَّد حسين فضل الله اليوم ليذكّرنا أنَّ فلسطين لا تزال البوصلة، وأنَّ المذاهب حين تلتقي تُنبت سنابل الحياة لا أشواك الموت، وأنَّ المحبَّة حين تُزرع في القلوب، تنبت وطناً بلا أسوار، وإيماناً بلا كراهية.
في زمن ازدحمت فيه الأصوات، وضاقت فيه الأرواح، كان السيّد محمَّد حسين فضل الله نسمة هادئة تمرّ فوق قلب العالم، تذكّرنا أنَّ الإيمان لا يُقاس بعدد الأتباع، بل بقدرة القلب على الاتّساع.
تحلّ الذكرى الخامسة عشرة لرحيله، لكنَّ حضوره لا يزال يسبق الغياب، يطلّ من بين كلماتنا، ومن بين ملامح كلّ من آمن بأنَّ الإنسان أوّل الأديان وآخرها.
كان السيّد لا يشبه أحداً؛ رجلٌ اختار أن يكون جسراً لا سوراً، أن يكون بوصلةً في زمن التّيه، لا صوتاً في سوق المزايدات.
فتح صدره للنَّاس جميعاً، من اختلف ومن اتَّفق، من أحبَّ ومن خاصم، وجعل من دينه زاداً للرّوح، لا سلاحاً للنّزاع.
خمسة عشر عاماً مرّت، وما زال صوته يهمس لنا في اللَّيالي المظلمة: "اصنعوا من الرَّحمة منارة، ومن الوحدة وطناً، ومن الإيمان خبزاً يُكسر على موائد الفقراء".
وها نحن، في حضرته، نحاول أن نقرأ ملامحه في وجوهنا، ونسمع خطواته في طرقات القلب، ونمسك بيده كلَّما ضللنا الطريق.
البدايات المؤجَّلة... ولقاء لا يشبه سواه
عرفتُ السيّد محمَّد حسين فضل الله قبل أن ألتقيه، من خلال خطبه ومقالاته وكلماته الَّتي تشعّ دفئاً ورحابة عقل، لكنّ اللّقاء المباشر كان أشبه برحلة روحيَّة وفكريَّة لا تُنسى.
بدأت الحكاية في نيسان/أبريل 2006، حين شرعتُ في التَّنسيق مع فريق مكتبه في بيروت لإجراء حوار معمَّق يلامس جوهر رؤيته للإنسان، والإسلام، والعالم.
استغرق الإعداد أسابيع طويلة من التَّواصل والترتيب، قبل أن تندلع حرب تموز 2006، فتؤجّل كلَّ شيء، وتضع لبنان كلَّه في قلب النَّار والدَّمار. وبعد انتهاء العدوان، وقف السيّد شامخاً كجبل، يزرع الأمل في النفوس، ويشدّ أزر شعبه ومقاومته، ويبثّ في النَّاس روح الصّمود.
في تلك الأجواء الثَّقيلة، التقينا في الطَّابق السفلي تحت مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، وهناك جرى الحوار الَّذي طال انتظاره. وما زاد تلك اللَّحظة فرادة، أنَّ الصَّديق الغالي الحاج عبد الله قصير، مدير عام قناة "المنار" آنذاك، رغم الضّغط الهائل الَّذي كانت تعانيه القناة بعد الحرب، أرسل إليَّ مشكوراً سيارة البثّ المتنقّلة، تقل فريق عمل كامل يضمّ 3 كاميرات، لتصوير الحوار من زوايا متعدّدة، بحرفيَّة واهتمام بالغين. كانت تلك البادرة عربون محبَّة وتقدير، وتجسيداً صادقاً لمكانة السيّد في قلوب من عرفوه وأدركوا عمق فكره.
حوارٌ خارج حدود الزَّمن
بثّ التلفزيون المصريّ مقطعاً صغيراً من الحوار فقط - لأسباب لا مجال لذكرها الآن - فكان لا بدَّ من إظهاره كاملاً، بكلّ عمقه وروحه، فلجأت إلى نشره كاملاً في مجلَّة "الأهرام العربي". ولاحقاً، عند رحيل السيّد، طلب مني الصديق خالد صلاح إعادة نشره في جريدة وموقع "اليوم السَّابع"، فكان له وقع خاصّ وصدى واسع، وخصوصاً لدى النخبة المصريَّة الَّتي كانت تتعطَّش لصوت العقل والوحدة، بعيداً من ضجيج الطائفيَّة وصخب التَّحريض.
ذلك الحوار لم يكن مجرَّد مقابلة صحفيَّة عابرة، بل كشفاً حقيقيّاً عن معدن السيّد الأصيل: إيمانه الراسخ بفلسطين كقضيَّة مركزيَّة، دفاعه المستميت عن المقاومة، موقفه الحازم في رفض الإساءة إلى الصَّحابة والسيّدة عائشة، إصراره العميق على التَّوحيد الخالص ونبذ الغلوّ، ورفضه القاطع تحويل المذهب إلى أداة صراع سياسي.
وسام في القلب
في إحدى زياراتي الأخيرة له قبيل رحيله، دخلتُ عليه، فوجدته قد أنهى لتوّه لقاءً مع الإعلاميّ الكبير الأستاذ غسان بن جدو. التفت السيّد إليّ مبتسماً، وقال بحضوره الوضَّاء وصوته المفعم بالثّقة: "لقد قلتُ للأستاذ غسان بن جدو قبل قليل إنَّ الحوار الذي أجريته معك، هو من أعمق، بل أعمق حوار أُجري معي حتَّى الآن".
كانت تلك الكلمات بمثابة شهادة أعتزّ بها، أحملها وساماً على صدري مدى الحياة، شهادة تؤكّد عمق الثّقة المتبادلة، وتجسّد روح اللقاء الإنساني الصَّادق العابر لكلّ الشَّكليَّات.
مرجع المحبَّة والوحدة
لم يكن السيّد فضل الله مجرَّد عالم دين، بل عقلاً حراً وقلباً كبيراً، يفتح ذراعيه لكلّ من طرق بابه، مؤمناً كان أو باحثاً أو حتَّى معارضاً.
انفتح على الحركات الإسلاميَّة الوطنيَّة، وتواصل مع الحركات اليساريَّة والعلمانيَّة، وتحاور مع الجميع من دون أن يفرّط في ثوابته وقيمه.
رأى في الدين وسيلة للرحمة والتقريب، لا للفرقة والتمزيق. جعل من فلسطين صلاته اليوميَّة، ومن المقاومة شرفه وسيفه، ومن الوحدة الإسلاميَّة حلمه الدائم. في زمن كثر فيه باعة الطائفيَّة، ظلَّ السيّد صامداً كجذع زيتون، يؤكّد أنَّ "الحقيقة بنت الحوار"، وأنَّ الحقَّ لا يموت ما دام هناك من يرفعه راية.
سلام على من جعل الإيمان وطناً
سلام على تلك الابتسامة الّتي كانت تسبق كلماته، على ذلك الصَّوت الَّذي اخترق جدران الخوف واليأس، على قلبه الَّذي علّمنا أنَّ الدين ممرّ إلى القلوب، لا متاريس للفصل والاقتتال.
في زمنٍ امتلأت فيه السَّاحات بالضَّجيج، وخفتت فيه همسات الرَّحمة والعقل، كان السيّد فضل الله يرفع صوته كأذانٍ في الفجر، يوقظ الضَّمائر، ويعيدنا إلى جوهر الدّين: الإنسان.
علّمنا أنَّ الطَّريق إلى الله يمرّ بخدمة النَّاس، بإطعام الجائع، وبناء الجسور، وحماية كرامة الإنسان أيّاً كان.
نحتاجه اليوم ليذكّرنا أنَّ فلسطين لا تزال البوصلة، وأنَّ المذاهب حين تلتقي تُنبت سنابل الحياة لا أشواك الموت، وأنَّ المحبَّة حين تُزرع في القلوب، تنبت وطناً بلا أسوار، وإيماناً بلا كراهية.
سلامٌ على روحه الَّتي حلّقت فوق الانقسامات، على حلمه الَّذي لم ينكسر رغم قسوة السّنين، على فكره الَّذي بقي شجرة وارفة، تظلّل المتعبين وتمنحهم ظلال الطّمأنينة.
طوبى لمن يواصلون حمل مشعله اليوم، يسيرون في الدّروب الصَّعبة، يسمعون همسه في ليالي الوحدة: "لا تتركوا الحقَّ وحيداً، ولا تدعوا المحبَّة تسقط من أيديكم".
سلامٌ عليك أيُّها السيّد، في الخلود، في الحضور، في كلّ صلاة تُهمس بها قلوبنا: "اللَّهمَّ ارزقنا سعة صدره، ونبل روحه، وصدق محبَّته".
* المصدر: الميادين نت.