بعضٌ من وصايا رسولِ اللهِ (ص) ومواقفِهِ في آخرِ أيَّامِ حياتِهِ

بعضٌ من وصايا رسولِ اللهِ (ص) ومواقفِهِ في آخرِ أيَّامِ حياتِهِ

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسوله (ص): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
نلتقي بعد أيَّام بذكرى وفاة الرَّسول الأعظم محمَّد (ص). ولا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من أن نقف وقفةً قصيرةً، لنعرف ما هي إيحاءات الآية الكريمة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...}، وكيف واجه النَّبيّ (ص) الأيَّامَ الأخيرة في حياته.
أبعادُ نزولِ الآية
أمَّا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، فقد نزلت، كما يذكر المفسِّرون، في معركة أحد، عندما أصيب النَّبيّ (ص)، فشجَّت جبهته، وكسرت رباعيَّته، وصاح صائح: لقد قُتِلَ محمَّد، أو لقد مات محمَّد، وزلزل بعض النَّاس، فقالوا: من يتوسَّط بيننا وبين أبي سفيان، وقال بعضهم: "إنْ كانَ مُحمَّدٌ قد مات، فربُّ محمَّدٍ لم يمت".
ونزلت هذه الآية، لتؤكِّد للنَّاس أنَّ دور النبيِّ (ص) في حياته هو أن يبلِّغ الرّسالة، وأن يربِّي النَّاس على مفاهيمها وقضاياها، وأن يعرِّفهم كيف يتحركون في الخطِّ المستقيم الَّذي يوصل إلى الله، وأن يعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم، ويبشِّرهم وينذرهم، وينتهي دوره في حركة حياته في هذه الدَّائرة، أمَّا الرّسالة فتبقى.
فدور الرّسل والأنبياء والمصلحين من الأئمَّة والأولياء، هو أن يركِّزوا الرّسالة، ويطلقوا الفكرة، وأن يقودوا النَّاس نحوها، وأن يشيروا إلى النَّاس بأنَّ عليهم أن يتابعوا المسيرة إذا غاب صاحبها، فموت الرَّسول لا يعني موت الرِّسالة، وعلى النَّاس أن ترتبط بالرَّسول من خلال الرِّسالة، وقد كان الرَّسول (ص) رسالةً في كلِّ حياته، كما كان رسالةً في كلِّ كلماته، لأنَّ قوله رسالة، وفعله رسالة، وكلّ ما وافق عليه رسالة.
لذلك، كان النَّبيُّ (ص) قد أعطى الرِّسالة من سيرته، كما أعطاها من كلماته، فإذا غاب الرَّسول، فعلى الأمَّة أن تستمرَّ في الرِّسالة من بعده، وأن لا تتراجع، ولا تسقط، ولا تنحرف، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ - بحيث تتركون الرّسالة، وتنفتحون على أبي سفيان وعلى الجاهليَّة من جديد - وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا - لأنَّ الله لا تضرّه معصية من عصاه، كما لا تنفعه طاعة من أطاعه - وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} الَّذين يشكرونه بالوقوف في خطِّ الرِّسالة والتحرّك نحوها.
الارتباطُ بالرِّسالةِ لا بالشَّخص
ماذا نأخذ من هذه الآية؟
إنَّ الله يريد أن يقول لنا إنَّ الَّذين ينطلقون في حياتنا في أيِّ موقع، سواء كان موقع النّبوَّة أو الإمامة أو الإصلاح، علينا أن نتابع خطَّهم، وأن لا نعتبر أنَّ الدِّين يموت بموتهم، وأنَّ الرِّسالة تموت بهم، كما يقول بعض النَّاس عندما يؤبّنون العظماء: مات الدّين بموتهم، أو ماتت الأمَّة، أو ماتت الحريّة، كلٌّ بحسبه.
إنَّ المبادئ لا تموت بموت أصحابها، وعلينا أن نرتبط بالرِّسالة في حركتنا، باعتبار أنَّها رسالة الله، وأن لا يكون ارتباطنا بالشَّخص، بحيث نبقى مع الرّسالة ما بقي، فإذا غاب، انحرفنا عنها.
هذه فكرة لا بدَّ أن تعطينا الخطَّ العمليَّ في كلِّ الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والثَّقافيّ؛ أن نرتبط بالأشخاص من خلال مبادئِهم، ومن خلال رسالتهم، فإذا كانت رسالتهم تمتدُّ بعد حياتهم، وكانت مبادئهم تتحرَّك بعد حياتهم، فعلينا من خلالِ اقتناعِنا بهذا المبدأِ أو بهذهِ الرِّسالةِ، أن نتابعَ الخطَّ، وأن ننطلقَ فيه.
كما أنَّ علينا أن نأخذ إيحاءً آخر، وهو أن لا يكون ارتباطُنا بالشَّخصِ ارتباطاً ذاتيّاً. بعضُ النَّاسِ يتحزَّب للشَّخص، كما في الواقع السياسيِّ، بحيث يلتزمه على كلِّ حال، فإذا انحرف هذا الشَّخص انحرف معه، وإذا استقام استقام معه، كما في الكثير من النَّاس الَّذين يتعبَّدون للأشخاص، فإذا صارَ الشَّخص يمينيّاً، صارت كلّ جماعته يمينيّين، وإذا صار يساريّاً، صارت كلُّ جماعته يساريّين. ولكن علينا أن نؤمن بالخطّ، وأن لا يكونَ ارتباطُنا بالشَّخص من خلال ذاته، بل من خلال مبادئه وصدقه وأخلاقه وأمانته ورسالته، فإذا استقام كنَّا معه، وإذا انحرف ابتعدنا عنه.
ولكنَّ المشكلة عندنا في الشَّرق، وليس فقط في العالم العربيّ، أنّنا نعبد الأشخاص ونلتصق بهم، ولذلك نضلّ إذا ضلّوا، ونهتدي إذا اهتدوا، وهذا أمرٌ يمثِّل حالةً من الصَّنميَّة البشريَّة.
ولعلَّه من بين الأمور الَّتي نلاحظها في هذا المجال، هي أنَّنا نكبِّر الأشخاص عندما ينجحون في جانب. فمثلاً، قد ينجح شخص في عمل سياسيّ، فنعطيه كلَّ الصِّفات الَّتي تجعله مرجعاً في الدِّين، ومرجعاً في الفكر، ومرجعاً في الثَّقافة، ومرجعاً في كلِّ شيء، وقد ينجح شخص في جانب دينيّ أو ثقافيّ معيّن ، فنعطيه كلَّ الصِّفات.
علينا أن نكون دقيقين، بحيث نعطي كلَّ شخصٍ ما يملك من ميزة ومن صفات، وأن لا نكبِّر هذه الصِّفات ونضخِّمها، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "إنَّمَا المُؤْمِنُ الَّذي إذا رَضِيَ، لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي إِثْمٍ وَلَا بَاطِلٍ - أي لا يعطي مَنْ أحبَّه أكثر مما يستحقّ - وَإِذَا سَخطَ، لَمْ يُخْرِجْهُ سَخطُهُ مِنْ قَوْلِ الحَقِّ".
هذه هي إيحاءات هذه الآية. أمَّا كيف واجه النَّبيُّ (ص) نهايات حياته، فعندما ندرس الأمور الَّتي ركَّز عليها (ص)، نجد أنَّها تمثِّل الأشياء الأساسيَّة في حركة الإسلام وامتداد الواقع الإسلاميِّ.
وصيَّتُهُ الأخيرةُ للمسلمين
في حجَّة الوداع، وكان (ص) في منى، وقفَ في النَّاس خطيباً، وانتهى بخطبته إلى هذا الكلام. سألهم (ص):
"أيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ – وهو شهر ذي الحجَّة - قالَ: فأيُّ يومٍ هذا؟ - وكان يوم النَّحر - قالوا: يومٌ حرامٌ. قال: فأيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرامٌ – باعتبار أنَّ منى بلد حرام - قالَ: فإنَّ دماءَكُم وأموالَكُم – وربَّما قالَ: وأعراضَكُم - حرامٌ كحرمةِ يومِكِمْ هذا، في شهرِكِمْ هذا، في بلدِكِمْ هذا. ألا هلْ بلَّغْتُ؟"، ثمَّ قال (ص): "أَلَا لَا تَرْجِعوا بعْدْي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكمْ رِقَابَ بَعْضٍ - وفي روايةٍ أخرى: كفَّاراً يَلْعَنُ بعضُكُم بعضاً - ثمَّ قال: فَلْيُبلِّغ الشَّاهِدُ الغَائبَ".
فقد طلب (ص) منهم أن يبلِّغوا ما قاله، وذكر أنَّ مَنْ يبلغُهُ قد يكون أكثر وعياً لمضمون الكلمة ممَّن يسمعه. وقد ركَّز على هذه النَّقطة؛ أن يتحرَّك المسلمون فيما يستقبلون من حياتهم، على أساس أن يحفظوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يسيئوا إليها بأيِّ حالةٍ من الحالات، وأرادَ لهم أن يحترم بعضهم بعضاً، فلا يلعن بعضهم بعضاً، ولا يسبّ بعضهم بعضاً.
وهذه النّقطة هي من النقاط الأساسيَّة في الواقع الإسلاميّ. ولكنّنا نلاحظ، بكلِّ أسف، أنَّ المسلمين لم يحفظوا هذه الوصيَّة، لأنَّنا رأينا في مدى التَّاريخ الإسلاميّ، أنَّ الدِّماء سالت بين المسلمين أنهاراً، حتَّى إنَّنا في واقعنا المعاصر، نجد أنَّ المسلمين يستسهلون سفك دماء بعضهم بعضاً، لاعتبارات متعدِّدة ومتنوّعة، قد يكون بعضها سياسياً، وقد يكون بعضها غير سياسيّ، كما نلاحظه الآن فيما يتحرَّك به الكثيرون ممن يتَّخذون لأنفسهم مواقع إسلاميَّة في الفتوى، حيث يصدرون الحكم بتكفير المسلمين من هذا الجانب أو ذاك الجانب، من دون دراسة للأسس الَّتي ينطلق بها التَّكفير هنا أو التَّكفير هناك، أو التَّضليل هنا أو التَّضليل هناك، فقد أصبحت هناك سهولة غير معقولة في مسألة انتهاك حرمات المسلمين، وانتهاك دمائهم وأموالهم، بما أصبح يشكِّل مشكلةً فوق العادة. يعني نلاحظ الآن أنَّ بعض النَّاس قد يكون موسوَساً في الطَّهارة والنَّجاسة، فإذا أرادَ أن يتوضَّأ، بقي نصف ساعة في وضوئه، وإذا صلَّى، أعاد صلاته أربع مرَّات أو أكثر، ولكن إذا حدثت مشكلة بينه وبين شخص، تراه يسحب سلاحه رأساً في وجهه، وإذا دُعِيَ إلى حَرْبٍ بين فئةٍ إسلاميَّة وفئةٍ إسلاميّةٍ أخرى، انطلق مباشرةً من دون أن يتحقَّق ما إذا كان الأمر جائزاً أو غير جائز.
هذا التحرّج الَّذي أراده رسول الله (ص) في خطبته، لعلَّه تبدَّل إلى حالة يسر في القتل، فأصبح من السَّهل على الشَّخص أن يقتل. هذه نقطة.
تبليغٌ بحجمِ الرِّسالة
وفي حجَّة الوداع، وفي أثناء العودة إلى المدينة، جمع النَّبيُّ (ص) المسلمين، وكان (ص) يفكِّر في مسألة الولاية من بعده، لأنَّ النَّبيَّ (ص) الّذي أقام هذا البنيانَ العظيم، لا يمكن أن يتركه من دون أن يؤمِّن له مَن يحافظ عليه ويحميه بطريقةٍ وبأخرى. وبذلك، عندما وصلَ إلى غدير خمّ، نزلت عليه هذه الآية: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]. والله يقول له (ص) إنَّه سيعصمه، باعتبار أنَّ المسألة قد توجب اللَّغط بين النَّاس، على أساس أنَّ الله كلَّفه بأن ينصِّب عليّاً وليّاً للمسلمين من بعده، وقد يتحرَّك بعض المنافقين والجاهلين ليثيروا اللّغط حول المسألة، في أنَّه ولَّى ابن عمِّه وصهره وما إلى ذلك، ولكنَّ الله قال له إنَّه سيعصمه من النَّاسِ في هذا، كما عصمَه من النَّاس في غيره من الأمور.
وقد أكَّد الله قيمة هذه المسألة بقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، لأنَّك كالإنسان الَّذي يبني بناءً عالياً معرَّضاً لكثير من الاهتزازات والعواصف، ولا يترك هناك أيَّ ضمانة لبقائه وسلامته وما إلى ذلك.
ووقف رسول الله (ص) استجابةً لأمر الله سبحانه وتعالى، وقال: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلَاه"، في خطبة طويلة، ونزلت الآية، كما ورد في كتب التَّفسير: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
منعُهُ منْ كتابةِ الوصيَّةِ الأخيرة
وعندما وصلَ رسول الله (ص) إلى المدينة، واشتدَّ المرض عليه، رأى أنَّ القوم بدأوا يتناسون ذلك، وبدأو يفكِّرون بطريقة أخرى، فتحدَّث معهم، كما يروي البخاري في صحيحه عن ابن عبَّاس، قال: "لَمَّا حُضِرَ النَّبيُّ (ص)، قالَ، وفي البَيْتِ رِجَالٌ، فيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قالَ (ص): هَلُمَّ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، قالَ عُمَرُ: إنَّ النبيَّ (ص) غَلَبَهُ الوَجَعُ - وفي رواية: "إنَّ النَّبيَّ ليهجر" - وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، واخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ واخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَن يقولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسولُ اللَّهِ (ص) كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَن يقولُ ما قالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغَطَ والاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبيِّ (ص)، قالَ: قُومُوا عَنِّي. قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ، كُلَّ الرَّزِيَّةِ، ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ (ص) وبيْنَ أنْ يَكْتُبَ لهمْ ذلكَ الكِتَابَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ ولَغَطِهِمْ".
وفي حديثٍ آخر: "قيلَ لَهُ: أَلَاْ نَأْتِيكَ بِمَا طَلَبْتَ؟! قَالَ: أَوَبَعْدَ ماذا؟ - ففي حال كتبت الكتاب، ستقولون إنَّ النّبيّ كتبه ولو يكن في وعيه، وإنّه كان يهجر كما يهجر المريض الَّذي يعاني الحمَّى - قَالَ: فَلَمْ يَدْعُ بِهِ".
ومن الطَّبيعي أنَّنا نقرأ من خلال القرائن المحيطة بالموضوع، أنَّ النَّبيَّ (ص) كان يريد أن يؤكِّد مسألة الولاية بشكلٍ واضح صريح لا يمكن لأحدٍ أن يتلاعبَ به، ولكنَّهم فوَّتوا على النَّبيِّ (ص) هذه الفرصة.
الوصيَّةُ بالكتابِ والعترة
ومع ذلك، كان النَّبيّ (ص) في تلك الأجواء، يوصي الأمَّة بالعترة كما يوصيها بالكتاب، وقد ورد في طبقات ابن سعد عن النَّبيّ (ص)، قال: عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبيّ (ص) قال: "إنِّي أُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فأُجيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكمُ الثَّقَليْنِ؛ كتاب اللهِ، حَبْلٌ مَمدودٌ منَ السَّماءِ إلى الأرضِ، وعتْرَتي أهل بَيْتي، وإنَّ اللَّطيفَ الخَبيرَ أَخبَرَني أنَّهما لنْ يَفتَرِقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحَوضَ". ولكنَّ أمور المسلمين سارت في غير الاتجاه الَّذي أراده الله سبحانه وتعالى، وبقي عليٌّ (ع) صاحبُ الحقِّ يعطي الدَّرسَ للمسلمين في كلِّ زمان ومكان، أنَّ مصلحةَ الإسلام فوقَ كلِّ شيء، ولذلك قال: "لأُسَالِمَنَّ مَا سَلِمَتِ أُمُوْرُ المُسْلِميْنَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً".
تحذيرُهُ (ص) مِنَ الفتن
ومن المواقف الأخرى للنَّبيِّ (ص) عندما دنت منه الوفاة، يروي ابن سعد في طبقاته عن بعض أصحاب رسول الله (ص)، أنَّ الرَّسول قال من جوف اللَّيل: "إنِّي قَدْ أمرْتُ أنْ أستغفرَ لأهلِ البقيعِ، فانطلقْ معي، فخرجْتُ معَهُ حتَّى جاءَ البقيعَ، فاستغفرَ لأهلِهِ طويلاً، ثمَّ قالَ: ليهنئْكُمْ ما أصبحْتُم فيه ممَّا أصبحَ النَّاسُ فيه، ثمَّ قالَ: أقبلَتِ الفتنُ كقطعِ اللَّيلِ المظلمِ - كأنَّ رسول الله يستشرف الغيب مما أعلمه الله بما يحدث بعده من الفتن - يتبعُ بعضُها بعضاً، يتبعُ آخرُها أوَّلَها، الآخرةُ شرٌّ منَ الأولى. ثمَّ قالَ: إنِّي قدْ أُعطيْتُ خزائنَ الدّنيا والخلدَ ثمَّ الجنَّةَ، فخيِّرْتُ بينَ ذلكَ وبينَ لقاءِ ربِّي، فقلْتُ: بأبي أنتَ وأمِّي، فخذْ خزائنَ الدّنيا والخلدَ ثمَّ الجنَّةَ، قالَ: قدِ اخترْتُ لقاءَ ربِّي والجنَّةَ"، لأنَّني أدَّيت كلَّ رسالتي، وقمْتُ بما يجبُ عليَّ، وأنا في شوقٍ للقاء ربِّي في ساحة رضوانه وجنَّته.
ويروي الشَّيخ المفيد (ره) – وأنا أقرأ لكم كلَّ ذلك، حتَّى نعيش الأجواء نفسها كما لو كان النَّبيّ (ص) بيننا وهو في حالة احتضاره، وماذا كان يفكِّر في ذلك الوقت - "لمَّا أحسَّ (ص) بالمرضِ الَّذي عَراهُ، أخذَ بيدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، واتَّبعَهُ جماعةٌ منَ النّاسِ، وتوجَّهَ إلى البقيعِ، فقالَ للّذي اتّبعَهُ: إنِّي قد أمرْتُ بالاستغفارِ لأهلِ البقيعِ، فانطلقوا معَهُ حتَّى وقفَ بينَ أظهرِهِم، وقالَ: السَّلامُ عليكم أهلَ القبورِ، ليهنئْكُم ما أصبحْتُمْ فيهِ ممَّا فيه النَّاسُ، أقبلَتِ الفتنُ كقطعِ اللَّيلِ المظلمِ، يتبعُ آخرُها أوَّلَها، ثمَّ استغفرَ لأهلِ البقيعِ طويلاً، وأقبلَ على عليٍّ (ع)، فقالَ لهُ إنَّ جبرئيلَ كانَ يعرضُ عليَّ القرآنَ في كلِّ سنةٍ مرّةً، وقدْ عرضَهُ عليَّ العامَ مرَّتين، ولا أراهُ إلَّا لحضورِ أجلي".
لا نجاةَ إلَّا بالعمل
وهكذا نجد عندما ثقل عليه المرض، "خرجَ إلى المسجدِ معصوبَ الرَّأسِ، معتمداً على أميرِ المؤمنينَ (ع) بيمنى يديْهِ، وعلى الفضلِ بن عبَّاس باليدِ الأخرى، حتَّى صعدَ المنبرَ، فجلسَ عليْهِ ثمَّ قالَ: معاشرَ النَّاسِ، وقدْ حانَ منِّي خفوقٌ منْ بينِ أظهرِكم، فمَنْ كانَ له عندي دَيْنٌ، فليأْتِني أُعطِهِ إيَّاهُ، ومَنْ كانَ له عليَّ دَيْنٌ فليخبرْني بهِ. معاشرَ النَّاسِ، ليسَ بينَ اللهِ وبينَ أحدٍ شيءٌ يعطيهِ بهِ خيراً، أو يصرفُ عنهُ بهِ شرّاً، إلَّا العملُ. أيُّها النَّاسُ، لا يدَّعِ مدَّعٍ، ولا يتمنَّ متمنٍّ، والَّذي بعثَني بالحقِّ نبيّاً، لا يُنجي إلَّا عملٌ معَ رحمةٍ، ولوْ عصيْتُ لهويْتُ، اللَّهمَّ هل بلَّغْتُ؟!، ثمَّ نزلَ (ص)، فصلَّى في النَّاسِ صلاةً خفيفةً، ثمّ دخلَ بيتَهُ".
ونلاحظ أنَّ النَّبيَّ (ص) اهتمَّ بالجانب الشَّخصيّ أوَّلاً، فإذا كانت هناك حقوق شخصيَّة للنَّاس، فكان يريد أن يستعجلَ في وفائها لهم. يعني أنت إذا كانت هناك حقوق للنَّاس عليك، وتستطيع أن تفيها في حياتك، فعليك أن لا تجعلها في وصيَّتك، وأن تفيها مباشرةً في حياتك، وإذا كانت هناك حقوقٌ لله عليك، فلا تكتب في الوصيَّة ادفعوا عنّي الخمس، لأنّ أولادك لن يدفعوا عنك، وإذا كان في حياتك صلاة أو صوم، فاقض ما عليك في حياتك، لأنَّنا نعرف الكثير من الأولاد، عندما تصبح الأموال في أيديهم، لا ينفِّذون الوصيَّة.. سدِّد كلَّ ديونك، أعط في حياتك كلَّ ما تريد أن توصي به، استجابةً لكلام عليّ (ع): "يا بْنَ آدَمَ، كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي مَالِكَ، وَاعْمَلْ فِيهِ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِك". ونحن نعرف أشخاصاً كثيرين أوصوا بثلث مالهم، ولم تنفَّذ وصيَّتهم من بعدهم.
ثمَّ أراد النَّبيُّ (ص) أن يعطيَ الخطَّ العام، أنَّ العلاقة بين الله والنَّاسِ إنَّما هي علاقة عمل، فبمقدار ما تعمل، تبلغ القرب من الله سبحانه وتعالى، لا فائدة في نسب ولا في أيِّ شيء آخر، وهو الَّذي يقول: "ولَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ"، والنّبيّ (ص) لا يعصي، والمعصية مستحيلة عليه، فهو المعصوم في نفسه، والمعصوم بالله، ولكنَّ الله أمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13]، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزّمر: 65].
لذلك، علينا أيُّها الأحبَّة، أن نأخذ من رسول الله في نهاية حياته هذه الوصيَّةَ الَّتي تجعلنا نتحرَّك على أساس أن نؤمن بالله، وأن نعمل صالحاً، لنحصل على ما عند الله سبحانه وتعالى.
وفي نهاية المطاف، يروي ابن سعد في طبقاته، كما يروي غيره، أنَّ النَّبيَّ (ص) كان في آخر حياته، وكان إلى جنبه عمُّه العبَّاس، وعمَّته صفيَّة، وابنته السيِّدة فاطمة الزَّهراء (ع)، ويقال إنَّ بعض عشيرته بني عبد المناف كانوا موجودين أيضاً، فالتفت إليهم، وهو يؤكِّد في وصيَّته مسألة العمل، قال (ص): "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ... لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً".
إنَّ الشَّفاعة له، ولكنَّه أراد أن يبيِّن أنَّ العمل هو الأساس، وأنَّ الشَّفاعة تكون في خطِّ العمل {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}[الأنبياء: 28].
نعيُ عليٍّ (ع) للرَّسول (ص)
أيُّها الأحبَّة، عندما نعيش ذكرى رسول الله (ص)، فإنَّنا نختمها بما كان عليّ (ع) يتحدَّث به عندما كان يجهِّز رسول الله (ص)، وعندما كان يغسِّله، إذ قال له مخاطباً: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّه، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ، خَصَّصْتَ – يعني اتَّصلْتَ بالنَّاس كما لو كانت لك خصوصيَّة بكلِّ فرد منهم - حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ – تحرّكت في الخطِّ العام - حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤونِ – وهي منابع الدَّمع من الرأس، يعني لبكينا عليك، حتَّى لا يبقى في منابع الدَّمع أيّ دمعة - ولَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا – يعني كان الدَّاء يتحرَّك بعيداً من الشّفاء - والْكَمَدُ مُحَالِفاً، وقَلَّا لَكَ - يعني قليل عليك ذلك - ولَكِنَّه مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّه، ولَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُه. بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، واجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ".
وقال عليٌّ (ع) للرَّسول (ص) بعد أن توفِّيت الزَّهراء (ع): "إِلَّا أَنَّ لِى فِي التَّأَسِّي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ، مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ، فَإِنَّا لله وَإِنَّا إلِيْهِ راجِعُونَ".
أمانةُ الرِّسالة
أيُّها الأحبَّة، لقد مات رسول الله (ص) وترك الرِّسالة أمانةً بين أيدينا، أن نحفظها بكلِّ وسائلنا {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104].
إنَّ هذا هو نداء الله ونداء رسوله، علينا أن نعتبر أنَّ الإسلام أمانة الله في أعناقنا، وعلينا أن نحميه من أنفسنا ومن الآخرين، وأنَّ المسلمين أمانةُ الله في أعناقنا، وعلينا أن نكونَ معهم في خطِّ الوحدة وخطِّ العدل والاستقامة.
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في واقع الإسلام كلِّه، فإنَّ الكفر يتحرَّك في كلِّ جانب، من أجل أن يزلزل قواعد الإسلام الفكريَّة، وأن يثير أمامه كلَّ الشّبهات الَّتي تهزُّ المسلمين في عقائدهم، وإنَّ الضَّلال يتَّجه من أجل أن ينحرف بالمسلمين عن إسلامهم.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، اتَّقوا الله في المسلمين، فإنَّ "مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأُمُورِ المُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُم"، وعليكم أن تتابعوا كلَّ الواقع الإسلاميِّ في العالم، من أجل أن تواجهوا كلَّ ثغرةٍ، وكلَّ خللٍ، وكلَّ ضعفٍ، وكلَّ اهتزازٍ، بالوقوف الصَّلب، من أجل أن نسدَّ الثَّغرة هنا، وأن نقوِّي مواقع الضّعف هناك، وأن نثبِّت الأرض أمام الاهتزاز.
إنَّ مسؤوليَّتنا، أيُّها الأحبَّة، بالنسبة إلى الإسلام كبيرة كبيرة، لأنَّ الإسلام - كما قلنا - هو أمانة الله وأمانة رسوله في أعناقنا، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء: 58].
ولذلك، علينا أن لا نعيش اللَّامبالاة أمام كلِّ قضايا المسلمين، بل علينا أن نعيش الاهتمام بها بكلِّ ما عندنا من قوَّة... فتعالوا لنرى ماذا هناك في الواقع الإسلاميّ في هذه الأيَّام، لنعرف كيف نتَّخذ الموقف، ولنتدبَّر الأمور بكلِّ وعيٍ وقوَّة.
مراهنةُ العدوِّ على الوقت
لا يزال طابع المرحلة الحاضرة على المستوى الفلسطيني والعربي بشكلٍ عام، هو الوقت الضَّائع الَّذي تعمل إسرائيل، ومعها أمريكا، على المراهنة عليه، وتقديم الطّروحات والمشاريع والأفكار الأمريكيَّة، والتَّمديد لإسرائيل أسبوعاً بعد أسبوع، لتقديم جوابها على ما يسمَّى المبادرة الأمريكيَّة، لأنَّ أمريكا لا تريد إدانة العدوِّ بأنَّه وراء فشل التسوية، ولا تحرِّك ساكناً أمام ما يقوم به من تدمير البيوت العربيَّة في فلسطين، وتشريد أهلها بحجَّة عدم حصولهم على رخصة بناء، وما يقوم به الآن من توسيع مدينة القدس بضمِّ ما حولها من المستوطنات إليها، لتحويل العرب السَّاكنين فيها إلى أقليَّة لا حول لها ولا قوَّة، والتحدّث بصوتٍ عال، كما يقول نتنياهو، بأنَّ إسرائيل لن تصوِّب البندقيَّة إلى رأسها بالإسراع في إبرام اتّفاقٍ للتخلِّي عن مزيدٍ من الأراضي للفلسطينيِّين. والعرب يتنازعون ويجتمعون ويتحدَّثون عن التَّعاون والتَّنسيق دون جدوى، ويطوون ملفَّ القمَّة المستحيلة في الواقع العربيّ، ويحتجّون ويخضعون للأحلام الأمريكيَّة الضَّائعة، وسلطة الحكم الذَّاتي تصرخ وتحتجّ كلَّما دُمِّر منزل فلسطينيّ، أو قتل مدنيّ فلسطينيّ من قبل المستوطنين، لتقدِّم إليهم إسرائيل استنكاراً وتمييعاً للجريمة، من دون أن يحرِّك ذلك في الواقع العربيّ ساكناً، أو تتحرَّك الانتفاضة في خطِّ المواجهة، لأنَّ سلطة الحكم الذَّاتي لا تريد للشَّعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه ويثور لكرامته.
هذا هو طابع المرحلة الفلسطينيَّة العربيَّة الضَّائعة في ضباب الوعود الأمريكيَّة، والتعنّت الإسرائيلي، والتمزّق العربي الَّذي لا ينفتح على تنسيق أو وحدة.
العدوُّ يتحدَّى المسلمين
وتبقى سوريا، ومعها لبنان، تتحرَّك من أجل إيجاد موقفٍ عربيٍّ متعاون، وتحريك بعض الأوضاع السياسيَّة في حركة المصالح الدّوليَّة، ومنها الإيحاء بتحالفٍ روسيٍّ سوريٍّ يمكن أن يغيِّر المشهد السياسيَّ في الشَّرق الأوسط، ويواجه بطريقةٍ ما التعنُّت الإسرائيليّ.
ونلاحظ في المقابل المسعى الأمريكيّ الإسرائيليّ المتواصل مع الصّين وروسيا وأوكرانيا، وغيرها من الدّول، لمنع إيران من الحصول على تكنولوجيا عسكريَّة ونوويَّة، مع إعلان الصّهاينة عن تخوّفهم من تعاون باكستان مع إيران في المجال النَّوويّ، وتحركهم نحو التَّنسيق مع تركيا الَّتي تصرّ على أنَّها سوف تتابع تحالفاتها مع إسرائيل، بالرّغم من اعتراض العرب على ذلك.
إنَّنا نعتقد أنَّ التَّحدّي الصّهيوني ليس موجَّهاً إلى العرب فحسب، بل إلى المسلمين جميعاً، ولهذا رأينا كيف واجهت إسرائيل مسألة القنبلة النوويّة الباكستانيَّة. ولذلك، لا بدَّ للجامعة العربيَّة والمؤتمر الإسلامي، من القيام بالتَّنسيق والتَّعاون فيما بينهما، من أجل درء الخطر الصهيوني الَّذي يعمل على إثارة المشاكل المتنوّعة في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، بالتعاون مع أمريكا الَّتي تمنح إسرائيل الحريَّة المطلقة باللَّعب على كلِّ الواقع السياسيّ والاقتصاديّ في المنطقة من خلال التَّناقضات الكثيرة.
النّفاقُ السياسيُّ الأمريكيّ
ومن اللَّافت في هذه الأيَّام في الإعلام الأمريكيّ، أنَّ الولايات المتَّحدة، كما يقول، مستعدَّة لمناقشة برنامج يؤدِّي إلى إقامة علاقات طبيعيَّة مع إيران، وأنَّ إيران بحاجة إلى اتّخاذ مزيدٍ من الخطوات الملموسة لتبديد القلق الأمريكيّ بشأن الإرهاب، وسياساتها بشأن الأسلحة، كما يقولون، وأنَّ أمريكا تعمل على مصالحة حقيقيَّة مع إيران، تكون مستندة إلى التبادليَّة والمعاملة بالمثل، كما يقول كلينتون، وإحساسنا بأنَّ الإيرانيّين مستعدّون للابتعاد عن الإرهاب، وتوزيع الأسلحة الخطيرة، ومعارضة عمليَّة السَّلام في الشَّرق الأوسط.
إنَّنا نجد في هذا الكلام لوناً من النفاق السياسيّ الأمريكيّ الَّذي يوحي بأنَّ المسألة هي مسألة الموقف الإيراني من الإرهاب والأسلحة، بينما يعرف العالم كلُّه أنَّ أمريكا هي الَّتي تحرِّك كلَّ خطط الإرهاب في العالم كلّه، من خلال إثارتها، بفعل مخابراتها المركزيَّة، الحروبَ والفتنَ في أكثرِ من مكانٍ في العالم، واللّعب على أكثر من حبل، فهي في الوقتِ الَّذي تتحدَّث عن ضرورةِ الوقوفِ ضدّ أسلحةِ الدَّمار الشَّامل، تعمل على تكثيف أسلحة الدَّمار لدى الصَّهاينة، وحمايتهم من أيِّ إدانة دوليَّة للسِّلاح النَّوويّ عندهم، كما تقدِّم إليهم الدَّعم لاستكمال احتلالهم السياسيّ للأرض الفلسطينيَّة، كما أنَّها تعمل على إعلان الحرب الباردة في سياستها الخارجيَّة ضدّ إيران، بفعل الضّغوط اليهوديَّة على الإدارة الأمريكيَّة الخاضعة لأكثر من سياسة داخليَّة في حركات التّجاذبات المحليَّة في أمريكا.
إنَّ أمريكا هي المسؤولة عن سياسة العدوان ضدَّ إيران، من خلال تجميدها الأرصدة الإيرانيَّة، والحرب الشَّاملة السياسيَّة والاقتصاديَّة ضدّها، فإذا أرادت أمريكا علاقات طبيعيَّة مع إيران، فعليها أن تبتعد عن سياستها العدوانيَّة ضدَّها.
دعوةٌ لانسحابٍ غيرِ مشروط
أمَّا على صعيد الواقع اللّبناني، فقد دعت القمَّة الأوروبيَّة إلى انسحاب إسرائيليّ غير مشروط من لبنان، وفي الوقت نفسه، نرى أنَّ الإدارة الأمريكيَّة تقدِّم النصيحة، كما تقول، للحكومتين اللّبنانيَّة والسوريَّة، بدراسة المشروع الإسرائيليّ حول القرار 425 بجديَّة، وهذا دليل إضافيّ على أنَّ هذه الإدارة الأمريكيَّة لا تنظر إلَّا بالعين الإسرائيليَّة، ولا تحترم قرار الأمم المتّحدة الّذي أكَّد الانسحاب من دون شروط.
وإننا نتابع بحذر الكثير من التحرك الدبلوماسي اللّبنانيّ حول هذه المسألة، ونخشى أكثر من لعبة أمريكيَّة لتطويق الواقع السياسيّ في لبنان، ولا سيَّما من خلال ما نسمعه من حديث حول إنتاج بعض الأحلام والوعود الأمريكيَّة في مسألة التَّسوية على الصّعيد اللّبناني السوري، في الوقت الَّذي لم تستطع أمريكا حتَّى الآن تسريع التَّسوية على الصّعيد الفلسطيني لحساب إسرائيل في سياستها الرّافضة لأيِّ انسحابٍ لمصلحة الفلسطينيّين إلَّا بشروطها الأمنيَّة الَّتي تلتزمها الإدارة الأمريكيّة.
ما بعدَ الانتخاباتِ البلديّة
وأخيراً، إنَّ هناك نقطتين في الواقع الدَّاخلي في لبنان، لا بدَّ أن نتوقّف عندهما:
الأولى: الدَّعوة إلى جميع الأطراف في لبنان، ولا سيَّما بعد انتهاء الانتخابات البلديَّة، للعودة إلى الأجواء الهادئة السِّلميَّة الَّتي تفرض المزيد من التعاون والتَّنسيق في القضايا المصيريَّة، ولا سيَّما قضيَّة الاحتلال الصّهيوني، وأخصّ بالذكر الإخوة في حزب الله وفي حركة أمل، اللَّذين يرتبط بعضهما ببعض برابطٍ وثيقٍ لا يمكن أن تفصله بعض الخلافات السياسيَّة والبلديَّة، ما يفرض عليهما أمام الله اللّقاء، ودراسة كلِّ المشاكل النَّاتجة من الانتخابات، وكلِّ الأمور الحيويَّة الَّتي تنتظر تعاونهما، وبالأخصّ الواقع السياسيّ في الحركة الخفيَّة الَّتي تديرها أمريكا وإسرائيل ضدّ سوريا ولبنان.
إنَّنا ندعوهما إلى المزيد من التَّفاهم والتَّعاون حتَّى الوحدة، لأنَّ الخطوط السياسيَّة الَّتي تجمعهما كثيرة، ولأنَّ الخطوط العقيديَّة الَّتي تجمعهما كثيرة، ولأنَّ مصالح البلد، ولا سيَّما الجنوب والبقاع الغربي، تجمعهما، ولأنَّ المقاومة تجمعهما، لذلك عليهما أن يلتقيا على كلمة سواء، لأنَّ الله يريد منهما ذلك كلّه.
وبهذه المناسبة، نحبُّ الإشارة إلى المحاولات المشبوهة لإيجاد فتنةٍ مذهبيَّةٍ سنيَّة شيعيَّة في بعلبكّ بفعل بعض التَّعقيدات الانتخابيَّة، إنَّنا ندعو الجميع إلى الابتعاد عن هذه النَّار الَّتي يريد الأعداء إثارتها في الواقع اللبناني والإسلامي.
ظاهرة الصَّرف للعمَّال
أما النقطة الثانية، فهي الظاهرة التي استشرت في السَّنوات الأخيرة، إمَّا بفعل الأزمة الاقتصاديَّة التي يعيشها البلد، وإمَّا لطموحات الشَّركات بالرِّبح الفاحش، وتمثَّلت هذه الظَّاهرة بالصَّرف الكيفي أو الجماعي للعمَّال من هذه الشَّركة أو تلك، من دون مراعاة لحقوق هؤلاء العمَّال وأتعابهم، ولا سيَّما أنَّ بعض الشَّركات قامت على أكتاف هؤلاء. إنَّ ذلك يستدعي من الدَّولة أن تكون سنداً للعمَّال، لا أن تكون إلى جانب الشَّركات الَّتي تسعى وراء الربح على حساب مصالح النَّاس ومعاناتهم، فإذا كانت الدَّولة عاجزةً عن تقديم فرص العمل إلى النَّاس، فعليها أن تمنع الشَّركات من هذا الأسلوب الظَّالم في التعامل مع العمَّال، هذا الأسلوب الَّذي لا يقطع المعاش لهؤلاء فحسب، بل يتركهم من دون فرصة للعمل. وندعو الشَّركات في الوقت نفسه، إلى التَّراجع عن مثل هذه القرارات، والتفكير بوسيلة أخرى في سبيل حلِّ المشكلة العالقة بطريقة عاجلة تحفظ حقوقها وحقوق العمَّال معاً.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 19/06/1998م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسوله (ص): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
نلتقي بعد أيَّام بذكرى وفاة الرَّسول الأعظم محمَّد (ص). ولا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من أن نقف وقفةً قصيرةً، لنعرف ما هي إيحاءات الآية الكريمة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...}، وكيف واجه النَّبيّ (ص) الأيَّامَ الأخيرة في حياته.
أبعادُ نزولِ الآية
أمَّا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، فقد نزلت، كما يذكر المفسِّرون، في معركة أحد، عندما أصيب النَّبيّ (ص)، فشجَّت جبهته، وكسرت رباعيَّته، وصاح صائح: لقد قُتِلَ محمَّد، أو لقد مات محمَّد، وزلزل بعض النَّاس، فقالوا: من يتوسَّط بيننا وبين أبي سفيان، وقال بعضهم: "إنْ كانَ مُحمَّدٌ قد مات، فربُّ محمَّدٍ لم يمت".
ونزلت هذه الآية، لتؤكِّد للنَّاس أنَّ دور النبيِّ (ص) في حياته هو أن يبلِّغ الرّسالة، وأن يربِّي النَّاس على مفاهيمها وقضاياها، وأن يعرِّفهم كيف يتحركون في الخطِّ المستقيم الَّذي يوصل إلى الله، وأن يعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم، ويبشِّرهم وينذرهم، وينتهي دوره في حركة حياته في هذه الدَّائرة، أمَّا الرّسالة فتبقى.
فدور الرّسل والأنبياء والمصلحين من الأئمَّة والأولياء، هو أن يركِّزوا الرّسالة، ويطلقوا الفكرة، وأن يقودوا النَّاس نحوها، وأن يشيروا إلى النَّاس بأنَّ عليهم أن يتابعوا المسيرة إذا غاب صاحبها، فموت الرَّسول لا يعني موت الرِّسالة، وعلى النَّاس أن ترتبط بالرَّسول من خلال الرِّسالة، وقد كان الرَّسول (ص) رسالةً في كلِّ حياته، كما كان رسالةً في كلِّ كلماته، لأنَّ قوله رسالة، وفعله رسالة، وكلّ ما وافق عليه رسالة.
لذلك، كان النَّبيُّ (ص) قد أعطى الرِّسالة من سيرته، كما أعطاها من كلماته، فإذا غاب الرَّسول، فعلى الأمَّة أن تستمرَّ في الرِّسالة من بعده، وأن لا تتراجع، ولا تسقط، ولا تنحرف، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ - بحيث تتركون الرّسالة، وتنفتحون على أبي سفيان وعلى الجاهليَّة من جديد - وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا - لأنَّ الله لا تضرّه معصية من عصاه، كما لا تنفعه طاعة من أطاعه - وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} الَّذين يشكرونه بالوقوف في خطِّ الرِّسالة والتحرّك نحوها.
الارتباطُ بالرِّسالةِ لا بالشَّخص
ماذا نأخذ من هذه الآية؟
إنَّ الله يريد أن يقول لنا إنَّ الَّذين ينطلقون في حياتنا في أيِّ موقع، سواء كان موقع النّبوَّة أو الإمامة أو الإصلاح، علينا أن نتابع خطَّهم، وأن لا نعتبر أنَّ الدِّين يموت بموتهم، وأنَّ الرِّسالة تموت بهم، كما يقول بعض النَّاس عندما يؤبّنون العظماء: مات الدّين بموتهم، أو ماتت الأمَّة، أو ماتت الحريّة، كلٌّ بحسبه.
إنَّ المبادئ لا تموت بموت أصحابها، وعلينا أن نرتبط بالرِّسالة في حركتنا، باعتبار أنَّها رسالة الله، وأن لا يكون ارتباطنا بالشَّخص، بحيث نبقى مع الرّسالة ما بقي، فإذا غاب، انحرفنا عنها.
هذه فكرة لا بدَّ أن تعطينا الخطَّ العمليَّ في كلِّ الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والثَّقافيّ؛ أن نرتبط بالأشخاص من خلال مبادئِهم، ومن خلال رسالتهم، فإذا كانت رسالتهم تمتدُّ بعد حياتهم، وكانت مبادئهم تتحرَّك بعد حياتهم، فعلينا من خلالِ اقتناعِنا بهذا المبدأِ أو بهذهِ الرِّسالةِ، أن نتابعَ الخطَّ، وأن ننطلقَ فيه.
كما أنَّ علينا أن نأخذ إيحاءً آخر، وهو أن لا يكون ارتباطُنا بالشَّخصِ ارتباطاً ذاتيّاً. بعضُ النَّاسِ يتحزَّب للشَّخص، كما في الواقع السياسيِّ، بحيث يلتزمه على كلِّ حال، فإذا انحرف هذا الشَّخص انحرف معه، وإذا استقام استقام معه، كما في الكثير من النَّاس الَّذين يتعبَّدون للأشخاص، فإذا صارَ الشَّخص يمينيّاً، صارت كلّ جماعته يمينيّين، وإذا صار يساريّاً، صارت كلُّ جماعته يساريّين. ولكن علينا أن نؤمن بالخطّ، وأن لا يكونَ ارتباطُنا بالشَّخص من خلال ذاته، بل من خلال مبادئه وصدقه وأخلاقه وأمانته ورسالته، فإذا استقام كنَّا معه، وإذا انحرف ابتعدنا عنه.
ولكنَّ المشكلة عندنا في الشَّرق، وليس فقط في العالم العربيّ، أنّنا نعبد الأشخاص ونلتصق بهم، ولذلك نضلّ إذا ضلّوا، ونهتدي إذا اهتدوا، وهذا أمرٌ يمثِّل حالةً من الصَّنميَّة البشريَّة.
ولعلَّه من بين الأمور الَّتي نلاحظها في هذا المجال، هي أنَّنا نكبِّر الأشخاص عندما ينجحون في جانب. فمثلاً، قد ينجح شخص في عمل سياسيّ، فنعطيه كلَّ الصِّفات الَّتي تجعله مرجعاً في الدِّين، ومرجعاً في الفكر، ومرجعاً في الثَّقافة، ومرجعاً في كلِّ شيء، وقد ينجح شخص في جانب دينيّ أو ثقافيّ معيّن ، فنعطيه كلَّ الصِّفات.
علينا أن نكون دقيقين، بحيث نعطي كلَّ شخصٍ ما يملك من ميزة ومن صفات، وأن لا نكبِّر هذه الصِّفات ونضخِّمها، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "إنَّمَا المُؤْمِنُ الَّذي إذا رَضِيَ، لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي إِثْمٍ وَلَا بَاطِلٍ - أي لا يعطي مَنْ أحبَّه أكثر مما يستحقّ - وَإِذَا سَخطَ، لَمْ يُخْرِجْهُ سَخطُهُ مِنْ قَوْلِ الحَقِّ".
هذه هي إيحاءات هذه الآية. أمَّا كيف واجه النَّبيُّ (ص) نهايات حياته، فعندما ندرس الأمور الَّتي ركَّز عليها (ص)، نجد أنَّها تمثِّل الأشياء الأساسيَّة في حركة الإسلام وامتداد الواقع الإسلاميِّ.
وصيَّتُهُ الأخيرةُ للمسلمين
في حجَّة الوداع، وكان (ص) في منى، وقفَ في النَّاس خطيباً، وانتهى بخطبته إلى هذا الكلام. سألهم (ص):
"أيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ – وهو شهر ذي الحجَّة - قالَ: فأيُّ يومٍ هذا؟ - وكان يوم النَّحر - قالوا: يومٌ حرامٌ. قال: فأيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرامٌ – باعتبار أنَّ منى بلد حرام - قالَ: فإنَّ دماءَكُم وأموالَكُم – وربَّما قالَ: وأعراضَكُم - حرامٌ كحرمةِ يومِكِمْ هذا، في شهرِكِمْ هذا، في بلدِكِمْ هذا. ألا هلْ بلَّغْتُ؟"، ثمَّ قال (ص): "أَلَا لَا تَرْجِعوا بعْدْي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكمْ رِقَابَ بَعْضٍ - وفي روايةٍ أخرى: كفَّاراً يَلْعَنُ بعضُكُم بعضاً - ثمَّ قال: فَلْيُبلِّغ الشَّاهِدُ الغَائبَ".
فقد طلب (ص) منهم أن يبلِّغوا ما قاله، وذكر أنَّ مَنْ يبلغُهُ قد يكون أكثر وعياً لمضمون الكلمة ممَّن يسمعه. وقد ركَّز على هذه النَّقطة؛ أن يتحرَّك المسلمون فيما يستقبلون من حياتهم، على أساس أن يحفظوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يسيئوا إليها بأيِّ حالةٍ من الحالات، وأرادَ لهم أن يحترم بعضهم بعضاً، فلا يلعن بعضهم بعضاً، ولا يسبّ بعضهم بعضاً.
وهذه النّقطة هي من النقاط الأساسيَّة في الواقع الإسلاميّ. ولكنّنا نلاحظ، بكلِّ أسف، أنَّ المسلمين لم يحفظوا هذه الوصيَّة، لأنَّنا رأينا في مدى التَّاريخ الإسلاميّ، أنَّ الدِّماء سالت بين المسلمين أنهاراً، حتَّى إنَّنا في واقعنا المعاصر، نجد أنَّ المسلمين يستسهلون سفك دماء بعضهم بعضاً، لاعتبارات متعدِّدة ومتنوّعة، قد يكون بعضها سياسياً، وقد يكون بعضها غير سياسيّ، كما نلاحظه الآن فيما يتحرَّك به الكثيرون ممن يتَّخذون لأنفسهم مواقع إسلاميَّة في الفتوى، حيث يصدرون الحكم بتكفير المسلمين من هذا الجانب أو ذاك الجانب، من دون دراسة للأسس الَّتي ينطلق بها التَّكفير هنا أو التَّكفير هناك، أو التَّضليل هنا أو التَّضليل هناك، فقد أصبحت هناك سهولة غير معقولة في مسألة انتهاك حرمات المسلمين، وانتهاك دمائهم وأموالهم، بما أصبح يشكِّل مشكلةً فوق العادة. يعني نلاحظ الآن أنَّ بعض النَّاس قد يكون موسوَساً في الطَّهارة والنَّجاسة، فإذا أرادَ أن يتوضَّأ، بقي نصف ساعة في وضوئه، وإذا صلَّى، أعاد صلاته أربع مرَّات أو أكثر، ولكن إذا حدثت مشكلة بينه وبين شخص، تراه يسحب سلاحه رأساً في وجهه، وإذا دُعِيَ إلى حَرْبٍ بين فئةٍ إسلاميَّة وفئةٍ إسلاميّةٍ أخرى، انطلق مباشرةً من دون أن يتحقَّق ما إذا كان الأمر جائزاً أو غير جائز.
هذا التحرّج الَّذي أراده رسول الله (ص) في خطبته، لعلَّه تبدَّل إلى حالة يسر في القتل، فأصبح من السَّهل على الشَّخص أن يقتل. هذه نقطة.
تبليغٌ بحجمِ الرِّسالة
وفي حجَّة الوداع، وفي أثناء العودة إلى المدينة، جمع النَّبيُّ (ص) المسلمين، وكان (ص) يفكِّر في مسألة الولاية من بعده، لأنَّ النَّبيَّ (ص) الّذي أقام هذا البنيانَ العظيم، لا يمكن أن يتركه من دون أن يؤمِّن له مَن يحافظ عليه ويحميه بطريقةٍ وبأخرى. وبذلك، عندما وصلَ إلى غدير خمّ، نزلت عليه هذه الآية: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]. والله يقول له (ص) إنَّه سيعصمه، باعتبار أنَّ المسألة قد توجب اللَّغط بين النَّاس، على أساس أنَّ الله كلَّفه بأن ينصِّب عليّاً وليّاً للمسلمين من بعده، وقد يتحرَّك بعض المنافقين والجاهلين ليثيروا اللّغط حول المسألة، في أنَّه ولَّى ابن عمِّه وصهره وما إلى ذلك، ولكنَّ الله قال له إنَّه سيعصمه من النَّاسِ في هذا، كما عصمَه من النَّاس في غيره من الأمور.
وقد أكَّد الله قيمة هذه المسألة بقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، لأنَّك كالإنسان الَّذي يبني بناءً عالياً معرَّضاً لكثير من الاهتزازات والعواصف، ولا يترك هناك أيَّ ضمانة لبقائه وسلامته وما إلى ذلك.
ووقف رسول الله (ص) استجابةً لأمر الله سبحانه وتعالى، وقال: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلَاه"، في خطبة طويلة، ونزلت الآية، كما ورد في كتب التَّفسير: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
منعُهُ منْ كتابةِ الوصيَّةِ الأخيرة
وعندما وصلَ رسول الله (ص) إلى المدينة، واشتدَّ المرض عليه، رأى أنَّ القوم بدأوا يتناسون ذلك، وبدأو يفكِّرون بطريقة أخرى، فتحدَّث معهم، كما يروي البخاري في صحيحه عن ابن عبَّاس، قال: "لَمَّا حُضِرَ النَّبيُّ (ص)، قالَ، وفي البَيْتِ رِجَالٌ، فيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قالَ (ص): هَلُمَّ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، قالَ عُمَرُ: إنَّ النبيَّ (ص) غَلَبَهُ الوَجَعُ - وفي رواية: "إنَّ النَّبيَّ ليهجر" - وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، واخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ واخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَن يقولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسولُ اللَّهِ (ص) كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَن يقولُ ما قالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغَطَ والاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبيِّ (ص)، قالَ: قُومُوا عَنِّي. قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ، كُلَّ الرَّزِيَّةِ، ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ (ص) وبيْنَ أنْ يَكْتُبَ لهمْ ذلكَ الكِتَابَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ ولَغَطِهِمْ".
وفي حديثٍ آخر: "قيلَ لَهُ: أَلَاْ نَأْتِيكَ بِمَا طَلَبْتَ؟! قَالَ: أَوَبَعْدَ ماذا؟ - ففي حال كتبت الكتاب، ستقولون إنَّ النّبيّ كتبه ولو يكن في وعيه، وإنّه كان يهجر كما يهجر المريض الَّذي يعاني الحمَّى - قَالَ: فَلَمْ يَدْعُ بِهِ".
ومن الطَّبيعي أنَّنا نقرأ من خلال القرائن المحيطة بالموضوع، أنَّ النَّبيَّ (ص) كان يريد أن يؤكِّد مسألة الولاية بشكلٍ واضح صريح لا يمكن لأحدٍ أن يتلاعبَ به، ولكنَّهم فوَّتوا على النَّبيِّ (ص) هذه الفرصة.
الوصيَّةُ بالكتابِ والعترة
ومع ذلك، كان النَّبيّ (ص) في تلك الأجواء، يوصي الأمَّة بالعترة كما يوصيها بالكتاب، وقد ورد في طبقات ابن سعد عن النَّبيّ (ص)، قال: عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبيّ (ص) قال: "إنِّي أُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فأُجيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكمُ الثَّقَليْنِ؛ كتاب اللهِ، حَبْلٌ مَمدودٌ منَ السَّماءِ إلى الأرضِ، وعتْرَتي أهل بَيْتي، وإنَّ اللَّطيفَ الخَبيرَ أَخبَرَني أنَّهما لنْ يَفتَرِقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحَوضَ". ولكنَّ أمور المسلمين سارت في غير الاتجاه الَّذي أراده الله سبحانه وتعالى، وبقي عليٌّ (ع) صاحبُ الحقِّ يعطي الدَّرسَ للمسلمين في كلِّ زمان ومكان، أنَّ مصلحةَ الإسلام فوقَ كلِّ شيء، ولذلك قال: "لأُسَالِمَنَّ مَا سَلِمَتِ أُمُوْرُ المُسْلِميْنَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً".
تحذيرُهُ (ص) مِنَ الفتن
ومن المواقف الأخرى للنَّبيِّ (ص) عندما دنت منه الوفاة، يروي ابن سعد في طبقاته عن بعض أصحاب رسول الله (ص)، أنَّ الرَّسول قال من جوف اللَّيل: "إنِّي قَدْ أمرْتُ أنْ أستغفرَ لأهلِ البقيعِ، فانطلقْ معي، فخرجْتُ معَهُ حتَّى جاءَ البقيعَ، فاستغفرَ لأهلِهِ طويلاً، ثمَّ قالَ: ليهنئْكُمْ ما أصبحْتُم فيه ممَّا أصبحَ النَّاسُ فيه، ثمَّ قالَ: أقبلَتِ الفتنُ كقطعِ اللَّيلِ المظلمِ - كأنَّ رسول الله يستشرف الغيب مما أعلمه الله بما يحدث بعده من الفتن - يتبعُ بعضُها بعضاً، يتبعُ آخرُها أوَّلَها، الآخرةُ شرٌّ منَ الأولى. ثمَّ قالَ: إنِّي قدْ أُعطيْتُ خزائنَ الدّنيا والخلدَ ثمَّ الجنَّةَ، فخيِّرْتُ بينَ ذلكَ وبينَ لقاءِ ربِّي، فقلْتُ: بأبي أنتَ وأمِّي، فخذْ خزائنَ الدّنيا والخلدَ ثمَّ الجنَّةَ، قالَ: قدِ اخترْتُ لقاءَ ربِّي والجنَّةَ"، لأنَّني أدَّيت كلَّ رسالتي، وقمْتُ بما يجبُ عليَّ، وأنا في شوقٍ للقاء ربِّي في ساحة رضوانه وجنَّته.
ويروي الشَّيخ المفيد (ره) – وأنا أقرأ لكم كلَّ ذلك، حتَّى نعيش الأجواء نفسها كما لو كان النَّبيّ (ص) بيننا وهو في حالة احتضاره، وماذا كان يفكِّر في ذلك الوقت - "لمَّا أحسَّ (ص) بالمرضِ الَّذي عَراهُ، أخذَ بيدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، واتَّبعَهُ جماعةٌ منَ النّاسِ، وتوجَّهَ إلى البقيعِ، فقالَ للّذي اتّبعَهُ: إنِّي قد أمرْتُ بالاستغفارِ لأهلِ البقيعِ، فانطلقوا معَهُ حتَّى وقفَ بينَ أظهرِهِم، وقالَ: السَّلامُ عليكم أهلَ القبورِ، ليهنئْكُم ما أصبحْتُمْ فيهِ ممَّا فيه النَّاسُ، أقبلَتِ الفتنُ كقطعِ اللَّيلِ المظلمِ، يتبعُ آخرُها أوَّلَها، ثمَّ استغفرَ لأهلِ البقيعِ طويلاً، وأقبلَ على عليٍّ (ع)، فقالَ لهُ إنَّ جبرئيلَ كانَ يعرضُ عليَّ القرآنَ في كلِّ سنةٍ مرّةً، وقدْ عرضَهُ عليَّ العامَ مرَّتين، ولا أراهُ إلَّا لحضورِ أجلي".
لا نجاةَ إلَّا بالعمل
وهكذا نجد عندما ثقل عليه المرض، "خرجَ إلى المسجدِ معصوبَ الرَّأسِ، معتمداً على أميرِ المؤمنينَ (ع) بيمنى يديْهِ، وعلى الفضلِ بن عبَّاس باليدِ الأخرى، حتَّى صعدَ المنبرَ، فجلسَ عليْهِ ثمَّ قالَ: معاشرَ النَّاسِ، وقدْ حانَ منِّي خفوقٌ منْ بينِ أظهرِكم، فمَنْ كانَ له عندي دَيْنٌ، فليأْتِني أُعطِهِ إيَّاهُ، ومَنْ كانَ له عليَّ دَيْنٌ فليخبرْني بهِ. معاشرَ النَّاسِ، ليسَ بينَ اللهِ وبينَ أحدٍ شيءٌ يعطيهِ بهِ خيراً، أو يصرفُ عنهُ بهِ شرّاً، إلَّا العملُ. أيُّها النَّاسُ، لا يدَّعِ مدَّعٍ، ولا يتمنَّ متمنٍّ، والَّذي بعثَني بالحقِّ نبيّاً، لا يُنجي إلَّا عملٌ معَ رحمةٍ، ولوْ عصيْتُ لهويْتُ، اللَّهمَّ هل بلَّغْتُ؟!، ثمَّ نزلَ (ص)، فصلَّى في النَّاسِ صلاةً خفيفةً، ثمّ دخلَ بيتَهُ".
ونلاحظ أنَّ النَّبيَّ (ص) اهتمَّ بالجانب الشَّخصيّ أوَّلاً، فإذا كانت هناك حقوق شخصيَّة للنَّاس، فكان يريد أن يستعجلَ في وفائها لهم. يعني أنت إذا كانت هناك حقوق للنَّاس عليك، وتستطيع أن تفيها في حياتك، فعليك أن لا تجعلها في وصيَّتك، وأن تفيها مباشرةً في حياتك، وإذا كانت هناك حقوقٌ لله عليك، فلا تكتب في الوصيَّة ادفعوا عنّي الخمس، لأنّ أولادك لن يدفعوا عنك، وإذا كان في حياتك صلاة أو صوم، فاقض ما عليك في حياتك، لأنَّنا نعرف الكثير من الأولاد، عندما تصبح الأموال في أيديهم، لا ينفِّذون الوصيَّة.. سدِّد كلَّ ديونك، أعط في حياتك كلَّ ما تريد أن توصي به، استجابةً لكلام عليّ (ع): "يا بْنَ آدَمَ، كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي مَالِكَ، وَاعْمَلْ فِيهِ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِك". ونحن نعرف أشخاصاً كثيرين أوصوا بثلث مالهم، ولم تنفَّذ وصيَّتهم من بعدهم.
ثمَّ أراد النَّبيُّ (ص) أن يعطيَ الخطَّ العام، أنَّ العلاقة بين الله والنَّاسِ إنَّما هي علاقة عمل، فبمقدار ما تعمل، تبلغ القرب من الله سبحانه وتعالى، لا فائدة في نسب ولا في أيِّ شيء آخر، وهو الَّذي يقول: "ولَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ"، والنّبيّ (ص) لا يعصي، والمعصية مستحيلة عليه، فهو المعصوم في نفسه، والمعصوم بالله، ولكنَّ الله أمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13]، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزّمر: 65].
لذلك، علينا أيُّها الأحبَّة، أن نأخذ من رسول الله في نهاية حياته هذه الوصيَّةَ الَّتي تجعلنا نتحرَّك على أساس أن نؤمن بالله، وأن نعمل صالحاً، لنحصل على ما عند الله سبحانه وتعالى.
وفي نهاية المطاف، يروي ابن سعد في طبقاته، كما يروي غيره، أنَّ النَّبيَّ (ص) كان في آخر حياته، وكان إلى جنبه عمُّه العبَّاس، وعمَّته صفيَّة، وابنته السيِّدة فاطمة الزَّهراء (ع)، ويقال إنَّ بعض عشيرته بني عبد المناف كانوا موجودين أيضاً، فالتفت إليهم، وهو يؤكِّد في وصيَّته مسألة العمل، قال (ص): "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ... لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً".
إنَّ الشَّفاعة له، ولكنَّه أراد أن يبيِّن أنَّ العمل هو الأساس، وأنَّ الشَّفاعة تكون في خطِّ العمل {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}[الأنبياء: 28].
نعيُ عليٍّ (ع) للرَّسول (ص)
أيُّها الأحبَّة، عندما نعيش ذكرى رسول الله (ص)، فإنَّنا نختمها بما كان عليّ (ع) يتحدَّث به عندما كان يجهِّز رسول الله (ص)، وعندما كان يغسِّله، إذ قال له مخاطباً: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّه، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ، خَصَّصْتَ – يعني اتَّصلْتَ بالنَّاس كما لو كانت لك خصوصيَّة بكلِّ فرد منهم - حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ – تحرّكت في الخطِّ العام - حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤونِ – وهي منابع الدَّمع من الرأس، يعني لبكينا عليك، حتَّى لا يبقى في منابع الدَّمع أيّ دمعة - ولَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا – يعني كان الدَّاء يتحرَّك بعيداً من الشّفاء - والْكَمَدُ مُحَالِفاً، وقَلَّا لَكَ - يعني قليل عليك ذلك - ولَكِنَّه مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّه، ولَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُه. بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، واجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ".
وقال عليٌّ (ع) للرَّسول (ص) بعد أن توفِّيت الزَّهراء (ع): "إِلَّا أَنَّ لِى فِي التَّأَسِّي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ، مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ، فَإِنَّا لله وَإِنَّا إلِيْهِ راجِعُونَ".
أمانةُ الرِّسالة
أيُّها الأحبَّة، لقد مات رسول الله (ص) وترك الرِّسالة أمانةً بين أيدينا، أن نحفظها بكلِّ وسائلنا {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104].
إنَّ هذا هو نداء الله ونداء رسوله، علينا أن نعتبر أنَّ الإسلام أمانة الله في أعناقنا، وعلينا أن نحميه من أنفسنا ومن الآخرين، وأنَّ المسلمين أمانةُ الله في أعناقنا، وعلينا أن نكونَ معهم في خطِّ الوحدة وخطِّ العدل والاستقامة.
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في واقع الإسلام كلِّه، فإنَّ الكفر يتحرَّك في كلِّ جانب، من أجل أن يزلزل قواعد الإسلام الفكريَّة، وأن يثير أمامه كلَّ الشّبهات الَّتي تهزُّ المسلمين في عقائدهم، وإنَّ الضَّلال يتَّجه من أجل أن ينحرف بالمسلمين عن إسلامهم.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، اتَّقوا الله في المسلمين، فإنَّ "مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأُمُورِ المُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُم"، وعليكم أن تتابعوا كلَّ الواقع الإسلاميِّ في العالم، من أجل أن تواجهوا كلَّ ثغرةٍ، وكلَّ خللٍ، وكلَّ ضعفٍ، وكلَّ اهتزازٍ، بالوقوف الصَّلب، من أجل أن نسدَّ الثَّغرة هنا، وأن نقوِّي مواقع الضّعف هناك، وأن نثبِّت الأرض أمام الاهتزاز.
إنَّ مسؤوليَّتنا، أيُّها الأحبَّة، بالنسبة إلى الإسلام كبيرة كبيرة، لأنَّ الإسلام - كما قلنا - هو أمانة الله وأمانة رسوله في أعناقنا، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء: 58].
ولذلك، علينا أن لا نعيش اللَّامبالاة أمام كلِّ قضايا المسلمين، بل علينا أن نعيش الاهتمام بها بكلِّ ما عندنا من قوَّة... فتعالوا لنرى ماذا هناك في الواقع الإسلاميّ في هذه الأيَّام، لنعرف كيف نتَّخذ الموقف، ولنتدبَّر الأمور بكلِّ وعيٍ وقوَّة.
مراهنةُ العدوِّ على الوقت
لا يزال طابع المرحلة الحاضرة على المستوى الفلسطيني والعربي بشكلٍ عام، هو الوقت الضَّائع الَّذي تعمل إسرائيل، ومعها أمريكا، على المراهنة عليه، وتقديم الطّروحات والمشاريع والأفكار الأمريكيَّة، والتَّمديد لإسرائيل أسبوعاً بعد أسبوع، لتقديم جوابها على ما يسمَّى المبادرة الأمريكيَّة، لأنَّ أمريكا لا تريد إدانة العدوِّ بأنَّه وراء فشل التسوية، ولا تحرِّك ساكناً أمام ما يقوم به من تدمير البيوت العربيَّة في فلسطين، وتشريد أهلها بحجَّة عدم حصولهم على رخصة بناء، وما يقوم به الآن من توسيع مدينة القدس بضمِّ ما حولها من المستوطنات إليها، لتحويل العرب السَّاكنين فيها إلى أقليَّة لا حول لها ولا قوَّة، والتحدّث بصوتٍ عال، كما يقول نتنياهو، بأنَّ إسرائيل لن تصوِّب البندقيَّة إلى رأسها بالإسراع في إبرام اتّفاقٍ للتخلِّي عن مزيدٍ من الأراضي للفلسطينيِّين. والعرب يتنازعون ويجتمعون ويتحدَّثون عن التَّعاون والتَّنسيق دون جدوى، ويطوون ملفَّ القمَّة المستحيلة في الواقع العربيّ، ويحتجّون ويخضعون للأحلام الأمريكيَّة الضَّائعة، وسلطة الحكم الذَّاتي تصرخ وتحتجّ كلَّما دُمِّر منزل فلسطينيّ، أو قتل مدنيّ فلسطينيّ من قبل المستوطنين، لتقدِّم إليهم إسرائيل استنكاراً وتمييعاً للجريمة، من دون أن يحرِّك ذلك في الواقع العربيّ ساكناً، أو تتحرَّك الانتفاضة في خطِّ المواجهة، لأنَّ سلطة الحكم الذَّاتي لا تريد للشَّعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه ويثور لكرامته.
هذا هو طابع المرحلة الفلسطينيَّة العربيَّة الضَّائعة في ضباب الوعود الأمريكيَّة، والتعنّت الإسرائيلي، والتمزّق العربي الَّذي لا ينفتح على تنسيق أو وحدة.
العدوُّ يتحدَّى المسلمين
وتبقى سوريا، ومعها لبنان، تتحرَّك من أجل إيجاد موقفٍ عربيٍّ متعاون، وتحريك بعض الأوضاع السياسيَّة في حركة المصالح الدّوليَّة، ومنها الإيحاء بتحالفٍ روسيٍّ سوريٍّ يمكن أن يغيِّر المشهد السياسيَّ في الشَّرق الأوسط، ويواجه بطريقةٍ ما التعنُّت الإسرائيليّ.
ونلاحظ في المقابل المسعى الأمريكيّ الإسرائيليّ المتواصل مع الصّين وروسيا وأوكرانيا، وغيرها من الدّول، لمنع إيران من الحصول على تكنولوجيا عسكريَّة ونوويَّة، مع إعلان الصّهاينة عن تخوّفهم من تعاون باكستان مع إيران في المجال النَّوويّ، وتحركهم نحو التَّنسيق مع تركيا الَّتي تصرّ على أنَّها سوف تتابع تحالفاتها مع إسرائيل، بالرّغم من اعتراض العرب على ذلك.
إنَّنا نعتقد أنَّ التَّحدّي الصّهيوني ليس موجَّهاً إلى العرب فحسب، بل إلى المسلمين جميعاً، ولهذا رأينا كيف واجهت إسرائيل مسألة القنبلة النوويّة الباكستانيَّة. ولذلك، لا بدَّ للجامعة العربيَّة والمؤتمر الإسلامي، من القيام بالتَّنسيق والتَّعاون فيما بينهما، من أجل درء الخطر الصهيوني الَّذي يعمل على إثارة المشاكل المتنوّعة في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، بالتعاون مع أمريكا الَّتي تمنح إسرائيل الحريَّة المطلقة باللَّعب على كلِّ الواقع السياسيّ والاقتصاديّ في المنطقة من خلال التَّناقضات الكثيرة.
النّفاقُ السياسيُّ الأمريكيّ
ومن اللَّافت في هذه الأيَّام في الإعلام الأمريكيّ، أنَّ الولايات المتَّحدة، كما يقول، مستعدَّة لمناقشة برنامج يؤدِّي إلى إقامة علاقات طبيعيَّة مع إيران، وأنَّ إيران بحاجة إلى اتّخاذ مزيدٍ من الخطوات الملموسة لتبديد القلق الأمريكيّ بشأن الإرهاب، وسياساتها بشأن الأسلحة، كما يقولون، وأنَّ أمريكا تعمل على مصالحة حقيقيَّة مع إيران، تكون مستندة إلى التبادليَّة والمعاملة بالمثل، كما يقول كلينتون، وإحساسنا بأنَّ الإيرانيّين مستعدّون للابتعاد عن الإرهاب، وتوزيع الأسلحة الخطيرة، ومعارضة عمليَّة السَّلام في الشَّرق الأوسط.
إنَّنا نجد في هذا الكلام لوناً من النفاق السياسيّ الأمريكيّ الَّذي يوحي بأنَّ المسألة هي مسألة الموقف الإيراني من الإرهاب والأسلحة، بينما يعرف العالم كلُّه أنَّ أمريكا هي الَّتي تحرِّك كلَّ خطط الإرهاب في العالم كلّه، من خلال إثارتها، بفعل مخابراتها المركزيَّة، الحروبَ والفتنَ في أكثرِ من مكانٍ في العالم، واللّعب على أكثر من حبل، فهي في الوقتِ الَّذي تتحدَّث عن ضرورةِ الوقوفِ ضدّ أسلحةِ الدَّمار الشَّامل، تعمل على تكثيف أسلحة الدَّمار لدى الصَّهاينة، وحمايتهم من أيِّ إدانة دوليَّة للسِّلاح النَّوويّ عندهم، كما تقدِّم إليهم الدَّعم لاستكمال احتلالهم السياسيّ للأرض الفلسطينيَّة، كما أنَّها تعمل على إعلان الحرب الباردة في سياستها الخارجيَّة ضدّ إيران، بفعل الضّغوط اليهوديَّة على الإدارة الأمريكيَّة الخاضعة لأكثر من سياسة داخليَّة في حركات التّجاذبات المحليَّة في أمريكا.
إنَّ أمريكا هي المسؤولة عن سياسة العدوان ضدَّ إيران، من خلال تجميدها الأرصدة الإيرانيَّة، والحرب الشَّاملة السياسيَّة والاقتصاديَّة ضدّها، فإذا أرادت أمريكا علاقات طبيعيَّة مع إيران، فعليها أن تبتعد عن سياستها العدوانيَّة ضدَّها.
دعوةٌ لانسحابٍ غيرِ مشروط
أمَّا على صعيد الواقع اللّبناني، فقد دعت القمَّة الأوروبيَّة إلى انسحاب إسرائيليّ غير مشروط من لبنان، وفي الوقت نفسه، نرى أنَّ الإدارة الأمريكيَّة تقدِّم النصيحة، كما تقول، للحكومتين اللّبنانيَّة والسوريَّة، بدراسة المشروع الإسرائيليّ حول القرار 425 بجديَّة، وهذا دليل إضافيّ على أنَّ هذه الإدارة الأمريكيَّة لا تنظر إلَّا بالعين الإسرائيليَّة، ولا تحترم قرار الأمم المتّحدة الّذي أكَّد الانسحاب من دون شروط.
وإننا نتابع بحذر الكثير من التحرك الدبلوماسي اللّبنانيّ حول هذه المسألة، ونخشى أكثر من لعبة أمريكيَّة لتطويق الواقع السياسيّ في لبنان، ولا سيَّما من خلال ما نسمعه من حديث حول إنتاج بعض الأحلام والوعود الأمريكيَّة في مسألة التَّسوية على الصّعيد اللّبناني السوري، في الوقت الَّذي لم تستطع أمريكا حتَّى الآن تسريع التَّسوية على الصّعيد الفلسطيني لحساب إسرائيل في سياستها الرّافضة لأيِّ انسحابٍ لمصلحة الفلسطينيّين إلَّا بشروطها الأمنيَّة الَّتي تلتزمها الإدارة الأمريكيّة.
ما بعدَ الانتخاباتِ البلديّة
وأخيراً، إنَّ هناك نقطتين في الواقع الدَّاخلي في لبنان، لا بدَّ أن نتوقّف عندهما:
الأولى: الدَّعوة إلى جميع الأطراف في لبنان، ولا سيَّما بعد انتهاء الانتخابات البلديَّة، للعودة إلى الأجواء الهادئة السِّلميَّة الَّتي تفرض المزيد من التعاون والتَّنسيق في القضايا المصيريَّة، ولا سيَّما قضيَّة الاحتلال الصّهيوني، وأخصّ بالذكر الإخوة في حزب الله وفي حركة أمل، اللَّذين يرتبط بعضهما ببعض برابطٍ وثيقٍ لا يمكن أن تفصله بعض الخلافات السياسيَّة والبلديَّة، ما يفرض عليهما أمام الله اللّقاء، ودراسة كلِّ المشاكل النَّاتجة من الانتخابات، وكلِّ الأمور الحيويَّة الَّتي تنتظر تعاونهما، وبالأخصّ الواقع السياسيّ في الحركة الخفيَّة الَّتي تديرها أمريكا وإسرائيل ضدّ سوريا ولبنان.
إنَّنا ندعوهما إلى المزيد من التَّفاهم والتَّعاون حتَّى الوحدة، لأنَّ الخطوط السياسيَّة الَّتي تجمعهما كثيرة، ولأنَّ الخطوط العقيديَّة الَّتي تجمعهما كثيرة، ولأنَّ مصالح البلد، ولا سيَّما الجنوب والبقاع الغربي، تجمعهما، ولأنَّ المقاومة تجمعهما، لذلك عليهما أن يلتقيا على كلمة سواء، لأنَّ الله يريد منهما ذلك كلّه.
وبهذه المناسبة، نحبُّ الإشارة إلى المحاولات المشبوهة لإيجاد فتنةٍ مذهبيَّةٍ سنيَّة شيعيَّة في بعلبكّ بفعل بعض التَّعقيدات الانتخابيَّة، إنَّنا ندعو الجميع إلى الابتعاد عن هذه النَّار الَّتي يريد الأعداء إثارتها في الواقع اللبناني والإسلامي.
ظاهرة الصَّرف للعمَّال
أما النقطة الثانية، فهي الظاهرة التي استشرت في السَّنوات الأخيرة، إمَّا بفعل الأزمة الاقتصاديَّة التي يعيشها البلد، وإمَّا لطموحات الشَّركات بالرِّبح الفاحش، وتمثَّلت هذه الظَّاهرة بالصَّرف الكيفي أو الجماعي للعمَّال من هذه الشَّركة أو تلك، من دون مراعاة لحقوق هؤلاء العمَّال وأتعابهم، ولا سيَّما أنَّ بعض الشَّركات قامت على أكتاف هؤلاء. إنَّ ذلك يستدعي من الدَّولة أن تكون سنداً للعمَّال، لا أن تكون إلى جانب الشَّركات الَّتي تسعى وراء الربح على حساب مصالح النَّاس ومعاناتهم، فإذا كانت الدَّولة عاجزةً عن تقديم فرص العمل إلى النَّاس، فعليها أن تمنع الشَّركات من هذا الأسلوب الظَّالم في التعامل مع العمَّال، هذا الأسلوب الَّذي لا يقطع المعاش لهؤلاء فحسب، بل يتركهم من دون فرصة للعمل. وندعو الشَّركات في الوقت نفسه، إلى التَّراجع عن مثل هذه القرارات، والتفكير بوسيلة أخرى في سبيل حلِّ المشكلة العالقة بطريقة عاجلة تحفظ حقوقها وحقوق العمَّال معاً.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 19/06/1998م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية