نستقبل بعد أيَّام ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع) والصَّفوة الطيِّبة من أهل بيته وأصحابه.
الإمام الحسين (ع) الثائر
هذه الذّكرى الَّتي نتمثَّل فيها الإمام الحسين (ع) وهو يحمل على عاتقه رسالة الله الَّتي انطلق بها جدُّه رسولاً يدعو النَّاس بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبشِّرهم وينذرهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويضيء لهم الطَّريق، ويتحمَّل ما يتحمَّل من كلِّ المجابهات الَّتي جوبه بها من قبل الكافرين والمشركين، حتَّى قال: "مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ ما أُوذِيْتُ".
وهكذا، كان الحسين (ع) يتمثَّل أباه أمير المؤمنين (ع) الَّذي انطلق منذ أن فتح عينيه على الحياة مع رسول الله (ص) الَّذي كان يضمَّه ويحضنه ويعلِّمه ويربّيه ويدرِّبه، حتَّى انطبعت شخصيَّته بشخصيَّة رسول الله (ص)، بحيث كان نفس رسول الله (ص).
وعندما أرسل الله رسوله بالرِّسالة، كان عليّ (ع) المسلم الأوَّل، والدَّاعية الأوَّل، والمجاهد الأوَّل، والفقيه الأوَّل، والزاهد الأوَّل بعد رسول الله (ص)، لأنَّ عليّاً (ع) كان مع رسول الله (ص) في ليله ونهاره، وفي حربه وسلمه، وفي كلِّ تجاربه في الحياة، وفي كلِّ مواقعه فيها.
وهكذا كان الحسين (ع) يتمثَّل خطَّ أبيه الَّذي واجه الكثير من العنت والجحود والعقوق والنّكران، وصَبَر كأفضل ما يكون الصَّبر، وتحمَّل كأكثر ما يكون التَّحمّل، وسالم لأنَّ مصلحة الإسلام كانت أن يسالم، وأعطى الرَّأي لأنَّ مصلحة الإسلام كانت أن يساعد.
وهكذا، عاش أبوه كلَّ حياته من دون أن يرتاح لحظة، لأنَّه كان مع رسول الله (ص) رجلَ الجهاد، وكان بعدَ رسول الله رجلَ المعاناة، وكان في خلافته الرَّجلَ الَّذي أحاطت به المشاكل من كلِّ جانبٍ، مع النَّاكسين والمارقين والقاسطين... عاش الحسين كلَّ عليٍّ في كلِّ عقله وقلبه وحياته.
وهكذا وهو (ع) في عاشوراء، تمثَّل أخاه الإمام الحسن (ع)، وهو رفيق حياته، وهو أخوه في أخوَّة الإمامة، وأخوَّة الموقع، من خلال أنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة، ومن خلال أخوَّة المعاناة في سبيل الله.
ووقف الإمام الحسين (ع) ليقول: "خرجْتُ لِطَلَبِ الإصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْروفِ وأَنْهى عَنِ المُنْكَرِ". ووقف أيضاً وقفة الإنسان الَّذي يفتح قلبه للحقِّ كلِّه، وللنَّاس كلِّهم، لم ينطلق الإمام الحسين (ع) وهو يحمل الحقد على أحد، ولم ينطلق (ع) وفي قلبه أيُّ عنفٍ للنَّاس، كان يقول: "فمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقّ فَاللهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وبَيْنَ القَوْمِ بالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِين".
وهكذا، وقف الإمام الحسين (ع) في كلِّ يومٍ من أيَّام عاشوراء، وقف مع كلِّ هؤلاء الَّذين تجمَّعوا من أجل قتاله، ومن أجل أن يخضعوه لسلطة ابن زياد ويزيد، وقف (ع) بكلِّ براءة ورقَّة، وبكلِّ عاطفة وحنان، من أجل أن يهديهم إلى الحقّ، ومن أجل أن يفتح قلوبهم على الحقّ، وأن يجعلهم في مواقع الخوف من الله، والمحبَّة له سبحانه وتعالى.
ولكنَّ الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وعندما أرادوا منه أن يخضع، وأن يعطي بيده إعطاء الذَّليل، ويقرَّ إقرار العبيد، انطلق بهذه الفئة الطيِّبة الصَّغيرة، من أجل أن يشهد الله على قلبه وعلى موقفه، أنَّه كان المخلص لله منذ أن انطلق في الحياة مع جدِّه، وأنَّه المخلص له سبحانه في كلِّ مواقفه.
وهكذا انطلق الإمام الحسين (ع) في هذه الثَّورة النَّهضة الَّتي تمثِّل حركة الموقف الإسلاميّ أمام كلِّ استكبارٍ وكلِّ انحرافٍ وكلِّ ضلالٍ في الواقع الإسلاميِّ أو في خارجِهِ.
الحفاظ على نهج وذكرى الحسين(ع)
إنَّه الإمامُ الحسينُ (ع) الَّذي عشنا معه في طفولتنا، فقد فتحنا عيوننا على الحياة ونحن نسمع عاشوراء، ونحن نسمع اسم الحسين، ونحمل في قلوبنا حبَّه، ونحمل في عيوننا كلَّ الدّموع على مأساته، ونحمل في حياتنا كلَّ النَّهج الحسينيّ في ساحة الصِّراع، وفي ساحة السِّلم أو في ساحة الحرب، لأنَّ الحسين (ع)، كما ذكرنا أكثر من مرَّة، كان يحمل في عقله كلَّ أصحاب الكساء، كان يحمل في عقله رسول الله وعليّاً وفاطمة والحسن، لقد تجمَّعت عقولهم في عقله، وتجمَّعت قلوبهم في قلبه، وتجمَّعت حركاتهم ونهجهم في نهجه.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، يبقى الحسين (ع) ما بقيت الحياة فينا، يبقى من أجل أن نعرف كيف نقف مع الله، وكيف نحبّ الله سبحانه وتعالى، ليتحوَّل حبُّنا لله موقفاً نقفه من أجل أن نستقيم على دربه وعلى نهجه، في كتابِهِ وسنَّةِ نبيِّه.
وقد أرادنا أئمَّة أهل البيت (ع) في كلِّ عصر وفي كلِّ مصر، أن نعمل على أن تبقى ذكرى الإمام الحسين (ع) حيّةً في كلِّ مواقعنا، بحيث يشبُّ عليها الصَّغير، ويهرم عليها الكبير، أن نعلِّم أولادنا اسم الحسين (ع) إلى جانب اسم جدِّه وأبيه وأمِّه أخيه، لأنَّ هذا الاسم هو الَّذي ينمِّي في قلوب كلِّ جيلٍ معنى الإسلام والعدالة والحريَّة، ومعنى العزَّة، ومعنى التَّضحية والكرامة.
ولذلك، كانت مجالس عاشوراء من تخطيط الأئمَّة (ع) الَّذين بدأوها في بيوتهم، وأرادوا لنا أن نستمرَّ عليها. ولكن علينا أن نحوِّل مجالس عاشوراء إلى مجالس للتَّوعية الإٍسلاميَّة، حتَّى يفهم النَّاسُ الإسلامَ في هذه المجالس، وللتَّوعية السياسيَّة والاجتماعيَّة، حتَّى يعرف النَّاسُ ماذا يأخذون وماذا يدعون من هذا الخطِّ السياسيِّ والاجتماعيِّ، أو ذاك الخطّ السياسيِّ والاجتماعيِّ، لأنَّ عاشوراء كانت تحمل في داخلها كلَّ الوعي الَّذي أطلقه الإمام الحسين (ع) للواقع السياسيّ آنذاك، فكانت صرخةً في وجه الظَّالمين، وفي وجه المستكبرين.
عاداتٌ متخلِّفة!
وهكذا، أن تكون مواكبُ عاشوراء مواكبَ تستطيع أن تحرِّك الوعي، وأن تلهب النفوس بالحماس الواعي، وأن نتخفَّف في مواكب عاشوراء من كلِّ ما ورثناه من عاداتٍ تسيء إلى الذّكرى، كما في عادة ضرب الرؤوس بالسّيوف، والظّهور بالسَّلاسل.
إنَّ هذا لا علاقة له بعاشوراء، ولا يمثِّل أيَّ معنى للحزن، إنَّ الإنسان في كلِّ تاريخه يعبِّر عن الحزن بالبكاء، ويعبِّر عن الحزن باللَّطم الهادئ الَّذي يوحي بالحزن، أمَّا أن تحزن فتضرب رأسك بالسَّيف، أو تضرب طفلك بالسَّيف، أو أن تحزن فتضرب ظهرك بالسِّياط، فأيّ معنى لهذا الحزن، وأيّ دليلٍ من شرعٍ أو غير شرعٍ في هذا المجال؟!
هذه عادات استهلكت، وهي تمثِّل الكثير من أساليب التخلّف الَّتي نعيشها في هذا المجال، ومع الأسف، أنَّ بعض النَّاس يعتبرونها من المقدَّسات، وقد أصبحت في نظر العالم كلِّه تمثِّل أسلوب التخلّف الَّذي يسيء إلى كرامة النَّاس الَّذين يلتزمونه، وقد أفتى السيِّد أبو القاسم (ره)، المرجع الكبير الَّذي افتقدناه، وهو أستاذنا وأستاذ العلماء جميعاً في هذه المرحلة، أنَّ هذه العادات ليست من الشَّعائر الحسينيَّة، كما أنَّها إذا أدَّت إلى هتك المؤمنين الثَّائرين على نهج أهل البيت (ع)، وأوجبت سخرية النَّاس بهم، وأوجبت انطباعاً سيِّئاً عنهم وعن المذهب، فإنَّها تكون محرَّمة، وهذا موجودٌ في كتاب "المسائل الشَّرعيَّة" الَّتي تمثِّل مجموعة الاستفتاءات... وقد أفتى الكثيرون من العلماء، كما أفتينا، بحرمة هذه الأمور، ولا سيَّما ما يفعله بعض النَّاس من نذر أولادهم وأطفالهم الَّذين يعذِّبونهم بجرح رؤوسهم، مما يمثِّل الكثير من تعذيب الطّفولة.
إنَّ علينا أن نبقي عاشوراء، وأن نبقي العاطفة حيّةً في عاشوراء، ولكن علينا أن نعرف كيف نستخدم الأساليب العاطفيَّة في هذا وذاك.
معنى زيارة الحسين (ع)
وقد أرادنا الأئمَّة من أهل البيت (ع) أن نزور الحسين (ع) في كلِّ وقت، أرادونا أن نزوره عن بعد، وأن نزوره عن قرب؛ أن نزوره في عرفة، وفي عاشوراء، وفي الأربعين، وفي الأوَّل من رجب، والنّصف من رجب، والنّصف من شعبان، وليلة القدر في شهر رمضان، وما إلى ذلك، أرادونا أن نتابع زيارته. ولكن، أيَّها الأحبَّة، إنَّ معنى الزّيارة ليس أن تقف أمام القبر لتتلو بعض الكلمات دون وعي، فأن تزور الحسين، أن تتمثَّله حاضراً أمامَكَ، أن تتمثَّله بكلِّ ما يعنيه (ع)، وأن تتمثَّله بكلِّ خطِّه ونهجه وتضحيته وجهاده وروحه.
إنَّنا عندما نقرأ في الزّيارة، نقرأ أنَّ الحسين (ع) ورث كلَّ الأنبياء: "السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ إِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ مُوسى كَليمِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ عيسى رُوحِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبيبِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ وليِّ الله"، إلى أن نقول: "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَأمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأطَعْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ حَتَّى أتاكَ الْيَقينُ".
إنَّك تستحضر وأنت تزور الحسين (ع)، كم كان للصَّلاة من أهميَّة في شخصيَّته (ع)، بحيث إنَّك تزوره لتقول: "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ"، وبذلك تستحضر كلَّ الَّذين يهتفون باسم الحسين ولا يصلّون. وهكذا عندما تقول: "وَآتَيْتَ الزَّكاةَ"، تتمثَّله كيف كان يعطي من ماله كلَّ حقوق الله وفرائضه، وتتمثَّل كلَّ هؤلاء الَّذين يقيمون العزاء للحسين (ع) ويهتفون باسمه، ولا يخرجون فرائض الله من أموالهم، ولا يؤتون الزكاة في أموالهم.
وهكذا عندما تتمثَّل الحسين (ع) لتقول له إنَّك "أمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنْ الْمُنْكَرِ"، لتتمثَّل أنَّ الحسين (ع) قد عانى كلَّ المعاناة من أجل أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهل تأمر أنت بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! "وَأطَعْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ حَتَّى أتاكَ الْيَقينُ"، فهل تعبد الله مخلصاً؟ أن تتمثَّل في زيارتك كلَّ هذه المعاني.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الزائر الحقَّ هو الَّذي يقف أمام المرقد الشَّريف، ليعيش في عقله وذهنه كلَّ تاريخ الحسين (ع) وكلَّ تضحيته، أن تزور الحسين بعقلك، وأن تزوره بقلبك، وأن تزوره بموقفك، أن تزوره بأن تشعر بأنّه حاضرٌ معك، وأنَّك تقف أمامه لتقول له كما لو كنت تشاهده: السَّلام عليك يا أبا عبدالله، ولتعاهده على أن تسير في مسيرته، وعندما تقف مع عليّ الأكبر ومع أنصاره (ع)، حتَّى تستحضر تلك التَّضحية الَّتي ضحّوها، والَّتي استطاعوا أن يحصلوا من خلالها على الوسام الحسيني، عندما كان يستقبل كلّ واحد منهم، ويقول: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 23]، أن تستحضر ذلك كلَّه.
التوحُّدُ بالحسينِ (ع)
إنَّنا نستحضر في هذه الأيَّام زيارة الأربعين، وقد روي عن الإمام الصَّادق (ع) في بعض زيارة الأربعين: "اَللَّـهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ، وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ، الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ، وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السَّادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذَّادَةِ، وَأَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الأَنْبِياءِ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الأوْصِياءِ، فَأعْذَرَ فىِ الدُّعاءِ، وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ، لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ، وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا، وَباعَ حَظَّهُ بِالأرْذَلِ الأدْنى، وَشَرى آخِرَتَهُ بِالَّثمَنِ الأوْكَسِ، وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدَّى فِي هَواهُ، وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ، وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ، وَحَمَلَةَ الأوْزارِ الْمُسْتَوْجِبينَ النَّارَ، فَجاهَدَهُمْ فيكَ صابِراً مُحْتَسِباً، حَتَّى سُفِكَ فِي طاعَتِكَ دَمُهُ، وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ...".
لاحظوا كيف يستحضرُ الإنسانُ وهو يزورُ الإمامَ الحسينَ (ع)، موقعَ الحسين (ع) من ربِّه، ويستحضرُ المجتمعَ الَّذي عاش معه الإمام، سواء المجتمع الَّذي ناصره وكان معه، أو المجتمع الَّذي حاربه وقتله وسبى حريمه.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، في يوم الأربعين، وفي زيارة الأربعين، علينا أن نستحضر الإمام الحسين (ع) في كلِّ حياتنا، وأن نكون جنده، وأن نكون جماهيره، وأن نكون أنصاره، فقد كان للحسين (ع) أنصار في حياته، وله أيضاً أنصار بعد شهادته، لأنَّه عندما قال: "هَلْ مِنْ ناصرٍ ينصرُنا؟"، لم يطلق هذه الكلمة من أجل نصرة شخصه، ولكنَّه أطلقها من أجل نصرة رسالته الَّتي هي رسالة جدِّه رسول الله (ص).
فلنكن، أيُّها الأحبَّة، من أنصار الحسين (ع) في حمل الرِّسالة، وفي مواجهة كلِّ أعدائها وأعداء الأمَّة كلِّها، لنكن من أنصار الحسين (ع) الَّذين كانوا يعيشون الأخوَّة فيما بينهم كأفضل ما تكون الأخوَّة، وكانوا يعيشون المحبَّة بينهم كأصفى ما تكون المحبَّة.
أيُّها الأحبَّة، إذا كنتم أنتم من أنصار الإمام الحسين (ع) ومن أتباعه وشيعته، فمعنى ذلك أنَّكم تتوحَّدون بالحسين، فإذا كان الحسين (ع) وجدُّه وأبوه وأمُّه وأخوه هم القاعدة الَّتي نرتكز عليها، وهم الفئة الطَّاهرة الطيِّبة الَّتي نتوحَّد فيها، فعلى أي أساس يفرِّقنا مَنْ يفرِّق؟! إذا كان الحسين (ع) وجدّه وأبوه وأمّه وأخوه هم الَّذين نلتقي عليهم بالولاية، ونلتقي عليهم بالمحبَّة، ونلتقي عليهم بالخطّ، فلماذا يبغض بعضنا بعضاً، ولماذا يعادي بعضنا بعضاً؟! لو وقف الحسين الآن فيما بينكم، فهل يقبل كلَّ هذه العداوات، وكلَّ هذه البغضاء، وكلَّ هذه الأحقاد، وكلَّ هذه التمزّقات؟!
عندما تذهبون لزيارة الحسين (ع)، لو قال لكم الحسين (ع): لقد كان أنصاري يعيشون حياتهم كالجسد الواحد، فهل تعيشون حياتكم كالجسد الواحد؟! فماذا تجيبون؟!
مسؤوليَّةُ الزِّيارة
أيُّها الأحبَّة، إنَّ ذكر الإمام الحسين (ع) مسؤوليَّة، وإنَّ زيارته (ع) مسؤوليَّة، تفرض علينا أن نفكِّر في واقعنا مقارناً بواقع الإمام الحسين (ع)، وأن نفكِّر أنَّ الإنسان إذا أحبَّ حسيناً، فعليه أن يحبَّ كلَّ الثَّائرين على خطِّه ونهجه، وكلَّ المتمسّكين بولايته.
هذا نداء عاشوراء: كونوا وحدةً في الإسلام وفي الولاية والخطِّ وفي الحسين، وهذا هو نداء الأربعين: حاولوا أن تنطلقوا من أجل أن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تصلحوا بين أخويكم.
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ الواقع الإسلامي الَّذي يعيش في هذه المراحل من تاريخنا الإسلاميّ الكثير من الاهتزازات، والكثير من المشاكل، والكثير من التَّعقيدات، على مستوى الواقع الإسلاميّ في الدَّاخل، وعلى مستوى الواقع الإسلاميّ في الخارج، فقد وقف كلّ المستكبرين من أجل أن لا يتحوَّل المسلمون إلى قوَّةٍ في العالم، وأن لا يتحوَّل الإسلام إلى خطٍّ للحياة في كلِّ العالم، فأينما انطلقت في شرقٍ أو في غربٍ، تجد أنَّ المستكبرين في كلِّ ألوانهم ومواقعهم، يخطِّطون ويعملون على أساس أن يربكوا كلَّ أوضاعنا السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وأن ينهبوا كلَّ ثرواتنا، وأن يحوِّلونا إلى قبائلَ يحاربُ بعضها بعضاً، ويعيق بعضها تقدّم بعض.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نفهمَ أنَّهم اتَّحدوا في باطلهم علينا وتفرَّقنا عن حقّنا، أصبح بأسنا بيننا شديداً، تحسبنا جميعاً ولكنَّ قلوبنا شتّى، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10]، ويقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
إنَّ المسألة هي أنَّ قضيَّتنا الآن، في كلِّ معاني الوحدة والتَّضامن، في كلِّ الواقع الإسلاميّ، ليست مسألة الآخرة فحسب، ولكنَّها مسألة الدنيا إلى جانب الآخرة.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نجمِّد الكثيرَ من خلافاتنا، سواء كانت هذه الخلافات خلافات عائليَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة، لأنَّ المسألة الكبرى هي أنَّ المصير في كلِّ مواقعنا الإسلاميَّة يتعرَّض للاهتزاز، وها نحن عندنا نتابع كلَّ الواقع السياسيِّ والاقتصاديِّ في العالم، نجد كيف يعبث المستكبرون بذلك كلِّه.
فلنواجه الواقع، لنعرف كيف نفهمه، وكيف نهتمُّ به، وكيف نتصرَّف في هذا الاتجاه.
ضغطٌ لصالحِ إسرائيل
لا تزال أمريكا - وفتِّش عن أمريكا في كلِّ مشكلة في العالم - تتدخَّل في الضَّغط على الدّول العربيَّة، من أجل منع عقد قمَّة عربيَّة للوقوف في وجه العنجهيَّة الإسرائيليَّة الَّتي تعتصر كلَّ الواقع العربيّ بفعل تمزّقه السياسيّ، لأنَّ الخطَّة الأمريكيَّة هي منع العرب من تسجيل أيِّ نقطة سياسيَّة أو دبلوماسيَّة على إسرائيل بما يؤدِّي إلى عزلتها عن العالم وإدانته لها، ثمَّ إعطاء العدوّ الفرصة لاستكمال تهويد القدس، واستمرار الاستيطان، وعدم إعطاء الفلسطينيّين الفرصة في أن يكون لهم كيان ذو أهميَّة، ومنعهم من الاستقرار حتَّى داخل فواصل اتّفاق أوسلو.
إنَّ أمريكا تتحرَّك في خطٍّ استراتيجيٍّ يستهدف تحقيق الأهداف اليهوديَّة في فلسطين وفي المنطقة، بإسقاط الانتفاضة وإزالتها من جذورها، وهذا ما كشفت عنه المبادرة الأمريكيَّة في خدعة قرار الانسحاب من 13% من أراضي الضفَّة الغربيَّة الَّتي قد تبدو كما لو كانت تنازلاً كبيراً من العدوّ الصّهيونيّ إذا حصل، في مقابل تعهّدات من سلطة الحكم الذّاتي بجمع السّلاح من الفصائل السياسيَّة الفلسطينيَّة الإسلاميَّة، تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وبإلغاء أيِّ مادَّة من الميثاق الفلسطيني تدعو أو تلمِّح إلى تدمير إسرائيل، والوقف الفوريّ لأيِّ تحريض عليها، وليس في هذه المبادرة الأمريكيَّة أيّ تعهّد بوقف الاستيطان اليهوديّ.
إنَّ هذه المبادرة تعمل على التَّحضير لحرب أهليَّة فلسطينيَّة فلسطينيَّة مقبلة، تحت ذريعة جمع السِّلاح غير المرخَّص، لأنَّ هذا السِّلاح هو سلاح الانتفاضة، وهو السِّلاح الوحيد الَّذي يملك الفلسطينيّون من خلاله الدّفاع عن أنفسهم وسط غابةٍ من المستوطنات، في الوقت الَّذي يُسمَح للمستوطنين اليهود بحمل السِّلاح، وبقتل أيِّ فلسطينيٍّ بحجَّة الدّفاع عن أنفسهم.
إنَّ هناك تنسيقاً بين أمريكا والعدوّ الصّهيوني في اللَّعب على عامل الوقت، وفي إعطاء إسرائيل الفرصة لاستكمال كلِّ مشروعها، في إبعاد الفلسطينيّين عن أيِّ حلم في الحصول على دولة أو وطن مما يملكون فيه الحريَّة لتقرير مصيرهم.
الحاجةُ إلى قمَّةٍ عربيَّة
وفي هذا الجوّ، لا بدَّ للواقع العربيّ أن يقف عند مسؤوليَّاته في مواجهة المرحلة الَّتي يراد لها أن تُسقِطَ كلَّ مواطن القوَّة في حاضرهم ومستقبلهم، من خلال الحلقة المفرغة التي يتحركون في داخلها دون جدوى، في لهاثٍ وراء الوعود الأمريكيَّة الَّتي لم تصل إلى أيِّ نتيجة في حجم قضاياهم المصيريَّة، ولا سيَّما أنَّ بعض العرب يعملون للدّخول فيما يشبه الحلف السياسيّ والعسكريّ مع إسرائيل وتركيا، ضدَّ بعض المواقع العربيَّة والإسلاميَّة كسوريا وإيران.
إنَّ القمَّة العربيَّة لم تعد مجرَّد حاجة عربيَّة تقليديَّة، بل هي ضرورة سياسيَّة لحماية الحاضر والمستقبل، في حجم عزَّة الأمَّة وكرامتها، ولا بدَّ لهذه القمَّة أن تكون قمَّة الارتفاع إلى مستوى المسؤوليَّة في جديَّة الحوار، وصلابة الموقف، ودقَّة التَّخطيط.
وعلى الفلسطينيِّين أن يعرفوا أنَّ الخطَّة الموضوعة في هذه المرحلة، هي أن لا يكون لهم وطن في مستوى وجودهم السياسيّ، الأمر الَّذي يفرض على سلطة الحكم الذَّاتيِّ أن لا تقع في شرك التَّمهيد للفتنة الدَّاخليَّة الَّتي يراد لها أن تُفرَض على الشَّعب الفلسطينيِّ باسم تنفيذ الاتّفاقات الأمنيَّة مع إسرائيل، وعليهم أن يعرفوا أنَّ الأمريكيّين والإسرائيليّين لم يمنحوهم إلَّا ما يتناسب مع هامش الأمن الإسرائيليِّ الَّذي لا يقف عند حدّ.
حربٌ بتخطيطٍ أمريكيّ
وفي اتجاه آخر، ماذا يجري في أفريقيا؟
إنَّ الحرب الدَّائرة في هذه الأيَّام بين أثيوبيا وأريتريا، هي جزء من حروب الفقراء الَّتي تخطِّط لها أمريكا الَّتي انطلقت في أكثر من موقعٍ في الدَّائرة الأفريقيَّة، لتحقيق الأهداف الأمريكيَّة في السَّيطرة على أفريقيا كلِّها، بحجَّة التَّغيير والإصلاح بين هذه الدَّولة أو تلك، وصولاً إلى التَّمزيق.
ولا تزال الحرب الَّتي تشرف عليها أمريكا في جنوب السّودان منذ مدَّة طويلة، من أجل منع السّودان من تقرير مصيره، ومن الانطلاق من الإسلام كقاعدة للحكم والحريَّة والعدالة، وعلى الجميع الانتباه إلى شرارات هذه الحرب، ولا سيَّما السّودان ومصر وليبيا، لأنَّ أهداف الحرب تتجاوز السَّاحة الجغرافيَّة للمعارك.
إنَّ المستكبرين لا يريدون لأفريقيا أن تستثمر ثرواتها الطبيعيَّة في تحقيق الاكتفاء الذّاتيّ، وفي الحصول على القوَّة الَّتي تؤكِّد وجودها السياسيَّ والاقتصاديَّ في العالم، ولذلك، فإنَّ الخطَّة الموضوعة هي تفتيت أفريقيا، ثمَّ اجتياحها اقتصادياً وسياسياً.
تورُّطُ السُّلطةِ في الجزائر
وليس بعيداً من ذلك، المجازر المتنقِّلة بين وقتٍ وآخر في الجزائر، والَّتي اعتادت وسائل الإعلام العالميَّة أن تلصقها بالإسلاميِّين، ولكن هناك دلائل تؤكِّد تورّط السلطة هناك في هذه المجازر، من خلال المشاركة الفعليَّة تارةً، والاختراق الأمنيّ للمتخلّفين من الإسلاميّين تارةً أخرى، وهذا ما عبَّرت عنه الصّحف الغربيَّة في فرنسا وبريطانيا وغيرهما.
انفجارُ رشت: محاولةُ اختراق!
وفي جانب آخر، نقف أمام الانفجار الأخير الَّذي استهدف مستشفى في مدينة رشت الإيرانيَّة، وهو حلقة من سلسلة الاعتداءات الآثمة الَّتي يحاول المنافقون من خلالها الإيحاء بوجودهم، بعد أن واجهوا الانتصار الكبير للجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة في السَّاحة الدّوليَّة، من خلال سياسة الانفتاح السياسي والاقتصادي على المنطقة والعالم.
إنَّنا نعتقد أنَّ محاولة اختراق هؤلاء للسَّاحة الإسلاميَّة الدَّاخليَّة في إيران ستبوء بالفشل، ولكن لا بدَّ للشَّعب الإيراني وللقوى الإسلاميَّة في داخل إيران، من حسم الملفَّات الداخليَّة لمصلحة الوحدة والتَّعاون والعدالة، لأنَّ المرحلة الَّتي تمرُّ بها إيران في التحدّيات الصَّعبة من قبل الاستكبار العالميِّ، هي مرحلةٌ من أخطرِ المراحل.
في انتظارِ رجوعِ الأسرى
ونصل إلى لبنان، لنتوقَّف عند ملفِّ الأسرى الَّذين ننتظر قدومهم بفارغ الصَّبر، هؤلاء الَّذين واجهوا العدوَّ بكلِّ قوَّة وصلابة ومسؤوليَّة، إلى أيِّ جهة انتموا، كما نستقبل الشّهداء الأبرار الَّذين سقطوا في مواجهة العدوّ، واستطاعوا إسقاط الكثير من عنفوانه، وتحويل احتلاله إلى مأزق، كما كنَّا نودّ إطلاق سراح المجاهديْن، الشَّيخ عبد الكريم عبيد، والحاج مصطفى الديراني، اللَّذين قامت إسرائيل باختطافهما في عمليَّة أمنيَّة إرهابيَّة.
ونتوقَّف في هذا المجال عند كلمة نتنياهو، في ردِّه على سؤال حول إمكانيَّة إطلاق سراحهما، قال ليس وارداً الإفراج عن أسوأ الإرهابيّين، إنَّنا نتساءل: هل إنَّ أسوأ الإرهابيّين هم الَّذين يدافعون عن وطنهم وعن شعبهم، أم الَّذين يقومون بالمجازر الوحشيَّة اليوميَّة في فلسطين، وقد طردوا شعباً كاملاً من أرضه؟!
إنَّ المسألة هي أنَّ إسرائيل لا تزال تضرب بسيف أمريكا الَّتي تمنحها كلَّ الدَّعم من جهة، وبسيف الضّعف العربيّ بالتمزّقات السياسيَّة الشَّاملة من جهةٍ أخرى.
إنَّ العدوَّ لا يفهم إلَّا بلغة القوَّة، ولا بدَّ للأمَّة أن تقف صفّاً واحداً في مواجهته سياسيّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً، من أجلِ تحقيقِ الأهدافِ الكبرى.
الانتخابات.. ومسؤوليَّة المرحلة
وأخيراً، إنَّنا ندعو الجميع في هذه المرحلة من واقع الوطن، إلى الانطلاق في تنافسهم الانتخابيّ والسياسيّ، إلى مواقع المحبَّة والوحدة والانفتاح على القضايا الكبرى أمام تحدّيات المرحلة الصَّعبة الَّتي تحمل في داخلها كلَّ الأخطار على صعيد المستقبل، فعليهم أن يتمثَّلوا قول الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
لقد قلناها سابقاً، ونقولها الآن بوحي مسؤوليَّتنا الإسلاميَّة، وبوحي مشاعرنا الأبويَّة للجميع: حاولوا أن تحسنوا كلماتكم، حتَّى عندما تتنفَّسون، لا تكونوا كما قال الله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التَّكاثر: 1- 2]، حاولوا أن تفتحوا قلوبكم حتَّى لخصومكم، حاولوا أن تعرفوا أنَّكم إذا تنافستم في قريةٍ هنا ومدينةٍ هناك، فإنَّ القضيَّة هي أن تتعاونوا جميعاً مع الَّذين هم منكم أو من الفريق الآخر، في خدمة النّاس وخدمة المجتمع. ليكن التَّنافس كيف يخدم أحدنا المجتمع أكثر من الآخر، وكيف ينشر أحدنا المحبَّة في المجتمع ويطرد العداوة منه.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ العداوة لا تنقذ وطناً، إنَّ البغضاء لا تعمِّر بيتاً، إنَّ الكلمات السلبيَّة لا يمكن أن توحِّد مجتمعاً.
اتَّقوا الله في عباده وبلاده، اتَّقوا الله في كلماتكم، اتَّقوا الله في علاقاتكم، في عصبيَّاتكم، لأنَّ الله سوف يسأل كلَّ واحد منكم عمَّا قال، كيف قال، وعلى أيِّ أساس قال، وعمَّا فعل، كيف فعل، ولماذا فعل، وعلى أيِّ أساس، اتَّقوا الله في ذلك كلّه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 -20].
علينا أن نعرف أنَّ الأمَّة تحتاج إلى طاقاتنا جميعاً؛ كلٌّ في موقعه، كلٌّ في دوره، كلٌّ بقدراته، من أجل الواقع كلِّه، والمستقبل كلّه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 12/06/1998م.
نستقبل بعد أيَّام ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع) والصَّفوة الطيِّبة من أهل بيته وأصحابه.
الإمام الحسين (ع) الثائر
هذه الذّكرى الَّتي نتمثَّل فيها الإمام الحسين (ع) وهو يحمل على عاتقه رسالة الله الَّتي انطلق بها جدُّه رسولاً يدعو النَّاس بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبشِّرهم وينذرهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويضيء لهم الطَّريق، ويتحمَّل ما يتحمَّل من كلِّ المجابهات الَّتي جوبه بها من قبل الكافرين والمشركين، حتَّى قال: "مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ ما أُوذِيْتُ".
وهكذا، كان الحسين (ع) يتمثَّل أباه أمير المؤمنين (ع) الَّذي انطلق منذ أن فتح عينيه على الحياة مع رسول الله (ص) الَّذي كان يضمَّه ويحضنه ويعلِّمه ويربّيه ويدرِّبه، حتَّى انطبعت شخصيَّته بشخصيَّة رسول الله (ص)، بحيث كان نفس رسول الله (ص).
وعندما أرسل الله رسوله بالرِّسالة، كان عليّ (ع) المسلم الأوَّل، والدَّاعية الأوَّل، والمجاهد الأوَّل، والفقيه الأوَّل، والزاهد الأوَّل بعد رسول الله (ص)، لأنَّ عليّاً (ع) كان مع رسول الله (ص) في ليله ونهاره، وفي حربه وسلمه، وفي كلِّ تجاربه في الحياة، وفي كلِّ مواقعه فيها.
وهكذا كان الحسين (ع) يتمثَّل خطَّ أبيه الَّذي واجه الكثير من العنت والجحود والعقوق والنّكران، وصَبَر كأفضل ما يكون الصَّبر، وتحمَّل كأكثر ما يكون التَّحمّل، وسالم لأنَّ مصلحة الإسلام كانت أن يسالم، وأعطى الرَّأي لأنَّ مصلحة الإسلام كانت أن يساعد.
وهكذا، عاش أبوه كلَّ حياته من دون أن يرتاح لحظة، لأنَّه كان مع رسول الله (ص) رجلَ الجهاد، وكان بعدَ رسول الله رجلَ المعاناة، وكان في خلافته الرَّجلَ الَّذي أحاطت به المشاكل من كلِّ جانبٍ، مع النَّاكسين والمارقين والقاسطين... عاش الحسين كلَّ عليٍّ في كلِّ عقله وقلبه وحياته.
وهكذا وهو (ع) في عاشوراء، تمثَّل أخاه الإمام الحسن (ع)، وهو رفيق حياته، وهو أخوه في أخوَّة الإمامة، وأخوَّة الموقع، من خلال أنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة، ومن خلال أخوَّة المعاناة في سبيل الله.
ووقف الإمام الحسين (ع) ليقول: "خرجْتُ لِطَلَبِ الإصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْروفِ وأَنْهى عَنِ المُنْكَرِ". ووقف أيضاً وقفة الإنسان الَّذي يفتح قلبه للحقِّ كلِّه، وللنَّاس كلِّهم، لم ينطلق الإمام الحسين (ع) وهو يحمل الحقد على أحد، ولم ينطلق (ع) وفي قلبه أيُّ عنفٍ للنَّاس، كان يقول: "فمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقّ فَاللهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وبَيْنَ القَوْمِ بالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِين".
وهكذا، وقف الإمام الحسين (ع) في كلِّ يومٍ من أيَّام عاشوراء، وقف مع كلِّ هؤلاء الَّذين تجمَّعوا من أجل قتاله، ومن أجل أن يخضعوه لسلطة ابن زياد ويزيد، وقف (ع) بكلِّ براءة ورقَّة، وبكلِّ عاطفة وحنان، من أجل أن يهديهم إلى الحقّ، ومن أجل أن يفتح قلوبهم على الحقّ، وأن يجعلهم في مواقع الخوف من الله، والمحبَّة له سبحانه وتعالى.
ولكنَّ الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وعندما أرادوا منه أن يخضع، وأن يعطي بيده إعطاء الذَّليل، ويقرَّ إقرار العبيد، انطلق بهذه الفئة الطيِّبة الصَّغيرة، من أجل أن يشهد الله على قلبه وعلى موقفه، أنَّه كان المخلص لله منذ أن انطلق في الحياة مع جدِّه، وأنَّه المخلص له سبحانه في كلِّ مواقفه.
وهكذا انطلق الإمام الحسين (ع) في هذه الثَّورة النَّهضة الَّتي تمثِّل حركة الموقف الإسلاميّ أمام كلِّ استكبارٍ وكلِّ انحرافٍ وكلِّ ضلالٍ في الواقع الإسلاميِّ أو في خارجِهِ.
الحفاظ على نهج وذكرى الحسين(ع)
إنَّه الإمامُ الحسينُ (ع) الَّذي عشنا معه في طفولتنا، فقد فتحنا عيوننا على الحياة ونحن نسمع عاشوراء، ونحن نسمع اسم الحسين، ونحمل في قلوبنا حبَّه، ونحمل في عيوننا كلَّ الدّموع على مأساته، ونحمل في حياتنا كلَّ النَّهج الحسينيّ في ساحة الصِّراع، وفي ساحة السِّلم أو في ساحة الحرب، لأنَّ الحسين (ع)، كما ذكرنا أكثر من مرَّة، كان يحمل في عقله كلَّ أصحاب الكساء، كان يحمل في عقله رسول الله وعليّاً وفاطمة والحسن، لقد تجمَّعت عقولهم في عقله، وتجمَّعت قلوبهم في قلبه، وتجمَّعت حركاتهم ونهجهم في نهجه.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، يبقى الحسين (ع) ما بقيت الحياة فينا، يبقى من أجل أن نعرف كيف نقف مع الله، وكيف نحبّ الله سبحانه وتعالى، ليتحوَّل حبُّنا لله موقفاً نقفه من أجل أن نستقيم على دربه وعلى نهجه، في كتابِهِ وسنَّةِ نبيِّه.
وقد أرادنا أئمَّة أهل البيت (ع) في كلِّ عصر وفي كلِّ مصر، أن نعمل على أن تبقى ذكرى الإمام الحسين (ع) حيّةً في كلِّ مواقعنا، بحيث يشبُّ عليها الصَّغير، ويهرم عليها الكبير، أن نعلِّم أولادنا اسم الحسين (ع) إلى جانب اسم جدِّه وأبيه وأمِّه أخيه، لأنَّ هذا الاسم هو الَّذي ينمِّي في قلوب كلِّ جيلٍ معنى الإسلام والعدالة والحريَّة، ومعنى العزَّة، ومعنى التَّضحية والكرامة.
ولذلك، كانت مجالس عاشوراء من تخطيط الأئمَّة (ع) الَّذين بدأوها في بيوتهم، وأرادوا لنا أن نستمرَّ عليها. ولكن علينا أن نحوِّل مجالس عاشوراء إلى مجالس للتَّوعية الإٍسلاميَّة، حتَّى يفهم النَّاسُ الإسلامَ في هذه المجالس، وللتَّوعية السياسيَّة والاجتماعيَّة، حتَّى يعرف النَّاسُ ماذا يأخذون وماذا يدعون من هذا الخطِّ السياسيِّ والاجتماعيِّ، أو ذاك الخطّ السياسيِّ والاجتماعيِّ، لأنَّ عاشوراء كانت تحمل في داخلها كلَّ الوعي الَّذي أطلقه الإمام الحسين (ع) للواقع السياسيّ آنذاك، فكانت صرخةً في وجه الظَّالمين، وفي وجه المستكبرين.
عاداتٌ متخلِّفة!
وهكذا، أن تكون مواكبُ عاشوراء مواكبَ تستطيع أن تحرِّك الوعي، وأن تلهب النفوس بالحماس الواعي، وأن نتخفَّف في مواكب عاشوراء من كلِّ ما ورثناه من عاداتٍ تسيء إلى الذّكرى، كما في عادة ضرب الرؤوس بالسّيوف، والظّهور بالسَّلاسل.
إنَّ هذا لا علاقة له بعاشوراء، ولا يمثِّل أيَّ معنى للحزن، إنَّ الإنسان في كلِّ تاريخه يعبِّر عن الحزن بالبكاء، ويعبِّر عن الحزن باللَّطم الهادئ الَّذي يوحي بالحزن، أمَّا أن تحزن فتضرب رأسك بالسَّيف، أو تضرب طفلك بالسَّيف، أو أن تحزن فتضرب ظهرك بالسِّياط، فأيّ معنى لهذا الحزن، وأيّ دليلٍ من شرعٍ أو غير شرعٍ في هذا المجال؟!
هذه عادات استهلكت، وهي تمثِّل الكثير من أساليب التخلّف الَّتي نعيشها في هذا المجال، ومع الأسف، أنَّ بعض النَّاس يعتبرونها من المقدَّسات، وقد أصبحت في نظر العالم كلِّه تمثِّل أسلوب التخلّف الَّذي يسيء إلى كرامة النَّاس الَّذين يلتزمونه، وقد أفتى السيِّد أبو القاسم (ره)، المرجع الكبير الَّذي افتقدناه، وهو أستاذنا وأستاذ العلماء جميعاً في هذه المرحلة، أنَّ هذه العادات ليست من الشَّعائر الحسينيَّة، كما أنَّها إذا أدَّت إلى هتك المؤمنين الثَّائرين على نهج أهل البيت (ع)، وأوجبت سخرية النَّاس بهم، وأوجبت انطباعاً سيِّئاً عنهم وعن المذهب، فإنَّها تكون محرَّمة، وهذا موجودٌ في كتاب "المسائل الشَّرعيَّة" الَّتي تمثِّل مجموعة الاستفتاءات... وقد أفتى الكثيرون من العلماء، كما أفتينا، بحرمة هذه الأمور، ولا سيَّما ما يفعله بعض النَّاس من نذر أولادهم وأطفالهم الَّذين يعذِّبونهم بجرح رؤوسهم، مما يمثِّل الكثير من تعذيب الطّفولة.
إنَّ علينا أن نبقي عاشوراء، وأن نبقي العاطفة حيّةً في عاشوراء، ولكن علينا أن نعرف كيف نستخدم الأساليب العاطفيَّة في هذا وذاك.
معنى زيارة الحسين (ع)
وقد أرادنا الأئمَّة من أهل البيت (ع) أن نزور الحسين (ع) في كلِّ وقت، أرادونا أن نزوره عن بعد، وأن نزوره عن قرب؛ أن نزوره في عرفة، وفي عاشوراء، وفي الأربعين، وفي الأوَّل من رجب، والنّصف من رجب، والنّصف من شعبان، وليلة القدر في شهر رمضان، وما إلى ذلك، أرادونا أن نتابع زيارته. ولكن، أيَّها الأحبَّة، إنَّ معنى الزّيارة ليس أن تقف أمام القبر لتتلو بعض الكلمات دون وعي، فأن تزور الحسين، أن تتمثَّله حاضراً أمامَكَ، أن تتمثَّله بكلِّ ما يعنيه (ع)، وأن تتمثَّله بكلِّ خطِّه ونهجه وتضحيته وجهاده وروحه.
إنَّنا عندما نقرأ في الزّيارة، نقرأ أنَّ الحسين (ع) ورث كلَّ الأنبياء: "السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ إِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ مُوسى كَليمِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ عيسى رُوحِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبيبِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ وليِّ الله"، إلى أن نقول: "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَأمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأطَعْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ حَتَّى أتاكَ الْيَقينُ".
إنَّك تستحضر وأنت تزور الحسين (ع)، كم كان للصَّلاة من أهميَّة في شخصيَّته (ع)، بحيث إنَّك تزوره لتقول: "أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ"، وبذلك تستحضر كلَّ الَّذين يهتفون باسم الحسين ولا يصلّون. وهكذا عندما تقول: "وَآتَيْتَ الزَّكاةَ"، تتمثَّله كيف كان يعطي من ماله كلَّ حقوق الله وفرائضه، وتتمثَّل كلَّ هؤلاء الَّذين يقيمون العزاء للحسين (ع) ويهتفون باسمه، ولا يخرجون فرائض الله من أموالهم، ولا يؤتون الزكاة في أموالهم.
وهكذا عندما تتمثَّل الحسين (ع) لتقول له إنَّك "أمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنْ الْمُنْكَرِ"، لتتمثَّل أنَّ الحسين (ع) قد عانى كلَّ المعاناة من أجل أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهل تأمر أنت بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! "وَأطَعْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ حَتَّى أتاكَ الْيَقينُ"، فهل تعبد الله مخلصاً؟ أن تتمثَّل في زيارتك كلَّ هذه المعاني.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الزائر الحقَّ هو الَّذي يقف أمام المرقد الشَّريف، ليعيش في عقله وذهنه كلَّ تاريخ الحسين (ع) وكلَّ تضحيته، أن تزور الحسين بعقلك، وأن تزوره بقلبك، وأن تزوره بموقفك، أن تزوره بأن تشعر بأنّه حاضرٌ معك، وأنَّك تقف أمامه لتقول له كما لو كنت تشاهده: السَّلام عليك يا أبا عبدالله، ولتعاهده على أن تسير في مسيرته، وعندما تقف مع عليّ الأكبر ومع أنصاره (ع)، حتَّى تستحضر تلك التَّضحية الَّتي ضحّوها، والَّتي استطاعوا أن يحصلوا من خلالها على الوسام الحسيني، عندما كان يستقبل كلّ واحد منهم، ويقول: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 23]، أن تستحضر ذلك كلَّه.
التوحُّدُ بالحسينِ (ع)
إنَّنا نستحضر في هذه الأيَّام زيارة الأربعين، وقد روي عن الإمام الصَّادق (ع) في بعض زيارة الأربعين: "اَللَّـهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ، وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ، الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ، وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السَّادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذَّادَةِ، وَأَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الأَنْبِياءِ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الأوْصِياءِ، فَأعْذَرَ فىِ الدُّعاءِ، وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ، لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ، وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا، وَباعَ حَظَّهُ بِالأرْذَلِ الأدْنى، وَشَرى آخِرَتَهُ بِالَّثمَنِ الأوْكَسِ، وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدَّى فِي هَواهُ، وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ، وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ، وَحَمَلَةَ الأوْزارِ الْمُسْتَوْجِبينَ النَّارَ، فَجاهَدَهُمْ فيكَ صابِراً مُحْتَسِباً، حَتَّى سُفِكَ فِي طاعَتِكَ دَمُهُ، وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ...".
لاحظوا كيف يستحضرُ الإنسانُ وهو يزورُ الإمامَ الحسينَ (ع)، موقعَ الحسين (ع) من ربِّه، ويستحضرُ المجتمعَ الَّذي عاش معه الإمام، سواء المجتمع الَّذي ناصره وكان معه، أو المجتمع الَّذي حاربه وقتله وسبى حريمه.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، في يوم الأربعين، وفي زيارة الأربعين، علينا أن نستحضر الإمام الحسين (ع) في كلِّ حياتنا، وأن نكون جنده، وأن نكون جماهيره، وأن نكون أنصاره، فقد كان للحسين (ع) أنصار في حياته، وله أيضاً أنصار بعد شهادته، لأنَّه عندما قال: "هَلْ مِنْ ناصرٍ ينصرُنا؟"، لم يطلق هذه الكلمة من أجل نصرة شخصه، ولكنَّه أطلقها من أجل نصرة رسالته الَّتي هي رسالة جدِّه رسول الله (ص).
فلنكن، أيُّها الأحبَّة، من أنصار الحسين (ع) في حمل الرِّسالة، وفي مواجهة كلِّ أعدائها وأعداء الأمَّة كلِّها، لنكن من أنصار الحسين (ع) الَّذين كانوا يعيشون الأخوَّة فيما بينهم كأفضل ما تكون الأخوَّة، وكانوا يعيشون المحبَّة بينهم كأصفى ما تكون المحبَّة.
أيُّها الأحبَّة، إذا كنتم أنتم من أنصار الإمام الحسين (ع) ومن أتباعه وشيعته، فمعنى ذلك أنَّكم تتوحَّدون بالحسين، فإذا كان الحسين (ع) وجدُّه وأبوه وأمُّه وأخوه هم القاعدة الَّتي نرتكز عليها، وهم الفئة الطَّاهرة الطيِّبة الَّتي نتوحَّد فيها، فعلى أي أساس يفرِّقنا مَنْ يفرِّق؟! إذا كان الحسين (ع) وجدّه وأبوه وأمّه وأخوه هم الَّذين نلتقي عليهم بالولاية، ونلتقي عليهم بالمحبَّة، ونلتقي عليهم بالخطّ، فلماذا يبغض بعضنا بعضاً، ولماذا يعادي بعضنا بعضاً؟! لو وقف الحسين الآن فيما بينكم، فهل يقبل كلَّ هذه العداوات، وكلَّ هذه البغضاء، وكلَّ هذه الأحقاد، وكلَّ هذه التمزّقات؟!
عندما تذهبون لزيارة الحسين (ع)، لو قال لكم الحسين (ع): لقد كان أنصاري يعيشون حياتهم كالجسد الواحد، فهل تعيشون حياتكم كالجسد الواحد؟! فماذا تجيبون؟!
مسؤوليَّةُ الزِّيارة
أيُّها الأحبَّة، إنَّ ذكر الإمام الحسين (ع) مسؤوليَّة، وإنَّ زيارته (ع) مسؤوليَّة، تفرض علينا أن نفكِّر في واقعنا مقارناً بواقع الإمام الحسين (ع)، وأن نفكِّر أنَّ الإنسان إذا أحبَّ حسيناً، فعليه أن يحبَّ كلَّ الثَّائرين على خطِّه ونهجه، وكلَّ المتمسّكين بولايته.
هذا نداء عاشوراء: كونوا وحدةً في الإسلام وفي الولاية والخطِّ وفي الحسين، وهذا هو نداء الأربعين: حاولوا أن تنطلقوا من أجل أن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تصلحوا بين أخويكم.
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ الواقع الإسلامي الَّذي يعيش في هذه المراحل من تاريخنا الإسلاميّ الكثير من الاهتزازات، والكثير من المشاكل، والكثير من التَّعقيدات، على مستوى الواقع الإسلاميّ في الدَّاخل، وعلى مستوى الواقع الإسلاميّ في الخارج، فقد وقف كلّ المستكبرين من أجل أن لا يتحوَّل المسلمون إلى قوَّةٍ في العالم، وأن لا يتحوَّل الإسلام إلى خطٍّ للحياة في كلِّ العالم، فأينما انطلقت في شرقٍ أو في غربٍ، تجد أنَّ المستكبرين في كلِّ ألوانهم ومواقعهم، يخطِّطون ويعملون على أساس أن يربكوا كلَّ أوضاعنا السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وأن ينهبوا كلَّ ثرواتنا، وأن يحوِّلونا إلى قبائلَ يحاربُ بعضها بعضاً، ويعيق بعضها تقدّم بعض.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نفهمَ أنَّهم اتَّحدوا في باطلهم علينا وتفرَّقنا عن حقّنا، أصبح بأسنا بيننا شديداً، تحسبنا جميعاً ولكنَّ قلوبنا شتّى، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10]، ويقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
إنَّ المسألة هي أنَّ قضيَّتنا الآن، في كلِّ معاني الوحدة والتَّضامن، في كلِّ الواقع الإسلاميّ، ليست مسألة الآخرة فحسب، ولكنَّها مسألة الدنيا إلى جانب الآخرة.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نجمِّد الكثيرَ من خلافاتنا، سواء كانت هذه الخلافات خلافات عائليَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة، لأنَّ المسألة الكبرى هي أنَّ المصير في كلِّ مواقعنا الإسلاميَّة يتعرَّض للاهتزاز، وها نحن عندنا نتابع كلَّ الواقع السياسيِّ والاقتصاديِّ في العالم، نجد كيف يعبث المستكبرون بذلك كلِّه.
فلنواجه الواقع، لنعرف كيف نفهمه، وكيف نهتمُّ به، وكيف نتصرَّف في هذا الاتجاه.
ضغطٌ لصالحِ إسرائيل
لا تزال أمريكا - وفتِّش عن أمريكا في كلِّ مشكلة في العالم - تتدخَّل في الضَّغط على الدّول العربيَّة، من أجل منع عقد قمَّة عربيَّة للوقوف في وجه العنجهيَّة الإسرائيليَّة الَّتي تعتصر كلَّ الواقع العربيّ بفعل تمزّقه السياسيّ، لأنَّ الخطَّة الأمريكيَّة هي منع العرب من تسجيل أيِّ نقطة سياسيَّة أو دبلوماسيَّة على إسرائيل بما يؤدِّي إلى عزلتها عن العالم وإدانته لها، ثمَّ إعطاء العدوّ الفرصة لاستكمال تهويد القدس، واستمرار الاستيطان، وعدم إعطاء الفلسطينيّين الفرصة في أن يكون لهم كيان ذو أهميَّة، ومنعهم من الاستقرار حتَّى داخل فواصل اتّفاق أوسلو.
إنَّ أمريكا تتحرَّك في خطٍّ استراتيجيٍّ يستهدف تحقيق الأهداف اليهوديَّة في فلسطين وفي المنطقة، بإسقاط الانتفاضة وإزالتها من جذورها، وهذا ما كشفت عنه المبادرة الأمريكيَّة في خدعة قرار الانسحاب من 13% من أراضي الضفَّة الغربيَّة الَّتي قد تبدو كما لو كانت تنازلاً كبيراً من العدوّ الصّهيونيّ إذا حصل، في مقابل تعهّدات من سلطة الحكم الذّاتي بجمع السّلاح من الفصائل السياسيَّة الفلسطينيَّة الإسلاميَّة، تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وبإلغاء أيِّ مادَّة من الميثاق الفلسطيني تدعو أو تلمِّح إلى تدمير إسرائيل، والوقف الفوريّ لأيِّ تحريض عليها، وليس في هذه المبادرة الأمريكيَّة أيّ تعهّد بوقف الاستيطان اليهوديّ.
إنَّ هذه المبادرة تعمل على التَّحضير لحرب أهليَّة فلسطينيَّة فلسطينيَّة مقبلة، تحت ذريعة جمع السِّلاح غير المرخَّص، لأنَّ هذا السِّلاح هو سلاح الانتفاضة، وهو السِّلاح الوحيد الَّذي يملك الفلسطينيّون من خلاله الدّفاع عن أنفسهم وسط غابةٍ من المستوطنات، في الوقت الَّذي يُسمَح للمستوطنين اليهود بحمل السِّلاح، وبقتل أيِّ فلسطينيٍّ بحجَّة الدّفاع عن أنفسهم.
إنَّ هناك تنسيقاً بين أمريكا والعدوّ الصّهيوني في اللَّعب على عامل الوقت، وفي إعطاء إسرائيل الفرصة لاستكمال كلِّ مشروعها، في إبعاد الفلسطينيّين عن أيِّ حلم في الحصول على دولة أو وطن مما يملكون فيه الحريَّة لتقرير مصيرهم.
الحاجةُ إلى قمَّةٍ عربيَّة
وفي هذا الجوّ، لا بدَّ للواقع العربيّ أن يقف عند مسؤوليَّاته في مواجهة المرحلة الَّتي يراد لها أن تُسقِطَ كلَّ مواطن القوَّة في حاضرهم ومستقبلهم، من خلال الحلقة المفرغة التي يتحركون في داخلها دون جدوى، في لهاثٍ وراء الوعود الأمريكيَّة الَّتي لم تصل إلى أيِّ نتيجة في حجم قضاياهم المصيريَّة، ولا سيَّما أنَّ بعض العرب يعملون للدّخول فيما يشبه الحلف السياسيّ والعسكريّ مع إسرائيل وتركيا، ضدَّ بعض المواقع العربيَّة والإسلاميَّة كسوريا وإيران.
إنَّ القمَّة العربيَّة لم تعد مجرَّد حاجة عربيَّة تقليديَّة، بل هي ضرورة سياسيَّة لحماية الحاضر والمستقبل، في حجم عزَّة الأمَّة وكرامتها، ولا بدَّ لهذه القمَّة أن تكون قمَّة الارتفاع إلى مستوى المسؤوليَّة في جديَّة الحوار، وصلابة الموقف، ودقَّة التَّخطيط.
وعلى الفلسطينيِّين أن يعرفوا أنَّ الخطَّة الموضوعة في هذه المرحلة، هي أن لا يكون لهم وطن في مستوى وجودهم السياسيّ، الأمر الَّذي يفرض على سلطة الحكم الذَّاتيِّ أن لا تقع في شرك التَّمهيد للفتنة الدَّاخليَّة الَّتي يراد لها أن تُفرَض على الشَّعب الفلسطينيِّ باسم تنفيذ الاتّفاقات الأمنيَّة مع إسرائيل، وعليهم أن يعرفوا أنَّ الأمريكيّين والإسرائيليّين لم يمنحوهم إلَّا ما يتناسب مع هامش الأمن الإسرائيليِّ الَّذي لا يقف عند حدّ.
حربٌ بتخطيطٍ أمريكيّ
وفي اتجاه آخر، ماذا يجري في أفريقيا؟
إنَّ الحرب الدَّائرة في هذه الأيَّام بين أثيوبيا وأريتريا، هي جزء من حروب الفقراء الَّتي تخطِّط لها أمريكا الَّتي انطلقت في أكثر من موقعٍ في الدَّائرة الأفريقيَّة، لتحقيق الأهداف الأمريكيَّة في السَّيطرة على أفريقيا كلِّها، بحجَّة التَّغيير والإصلاح بين هذه الدَّولة أو تلك، وصولاً إلى التَّمزيق.
ولا تزال الحرب الَّتي تشرف عليها أمريكا في جنوب السّودان منذ مدَّة طويلة، من أجل منع السّودان من تقرير مصيره، ومن الانطلاق من الإسلام كقاعدة للحكم والحريَّة والعدالة، وعلى الجميع الانتباه إلى شرارات هذه الحرب، ولا سيَّما السّودان ومصر وليبيا، لأنَّ أهداف الحرب تتجاوز السَّاحة الجغرافيَّة للمعارك.
إنَّ المستكبرين لا يريدون لأفريقيا أن تستثمر ثرواتها الطبيعيَّة في تحقيق الاكتفاء الذّاتيّ، وفي الحصول على القوَّة الَّتي تؤكِّد وجودها السياسيَّ والاقتصاديَّ في العالم، ولذلك، فإنَّ الخطَّة الموضوعة هي تفتيت أفريقيا، ثمَّ اجتياحها اقتصادياً وسياسياً.
تورُّطُ السُّلطةِ في الجزائر
وليس بعيداً من ذلك، المجازر المتنقِّلة بين وقتٍ وآخر في الجزائر، والَّتي اعتادت وسائل الإعلام العالميَّة أن تلصقها بالإسلاميِّين، ولكن هناك دلائل تؤكِّد تورّط السلطة هناك في هذه المجازر، من خلال المشاركة الفعليَّة تارةً، والاختراق الأمنيّ للمتخلّفين من الإسلاميّين تارةً أخرى، وهذا ما عبَّرت عنه الصّحف الغربيَّة في فرنسا وبريطانيا وغيرهما.
انفجارُ رشت: محاولةُ اختراق!
وفي جانب آخر، نقف أمام الانفجار الأخير الَّذي استهدف مستشفى في مدينة رشت الإيرانيَّة، وهو حلقة من سلسلة الاعتداءات الآثمة الَّتي يحاول المنافقون من خلالها الإيحاء بوجودهم، بعد أن واجهوا الانتصار الكبير للجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة في السَّاحة الدّوليَّة، من خلال سياسة الانفتاح السياسي والاقتصادي على المنطقة والعالم.
إنَّنا نعتقد أنَّ محاولة اختراق هؤلاء للسَّاحة الإسلاميَّة الدَّاخليَّة في إيران ستبوء بالفشل، ولكن لا بدَّ للشَّعب الإيراني وللقوى الإسلاميَّة في داخل إيران، من حسم الملفَّات الداخليَّة لمصلحة الوحدة والتَّعاون والعدالة، لأنَّ المرحلة الَّتي تمرُّ بها إيران في التحدّيات الصَّعبة من قبل الاستكبار العالميِّ، هي مرحلةٌ من أخطرِ المراحل.
في انتظارِ رجوعِ الأسرى
ونصل إلى لبنان، لنتوقَّف عند ملفِّ الأسرى الَّذين ننتظر قدومهم بفارغ الصَّبر، هؤلاء الَّذين واجهوا العدوَّ بكلِّ قوَّة وصلابة ومسؤوليَّة، إلى أيِّ جهة انتموا، كما نستقبل الشّهداء الأبرار الَّذين سقطوا في مواجهة العدوّ، واستطاعوا إسقاط الكثير من عنفوانه، وتحويل احتلاله إلى مأزق، كما كنَّا نودّ إطلاق سراح المجاهديْن، الشَّيخ عبد الكريم عبيد، والحاج مصطفى الديراني، اللَّذين قامت إسرائيل باختطافهما في عمليَّة أمنيَّة إرهابيَّة.
ونتوقَّف في هذا المجال عند كلمة نتنياهو، في ردِّه على سؤال حول إمكانيَّة إطلاق سراحهما، قال ليس وارداً الإفراج عن أسوأ الإرهابيّين، إنَّنا نتساءل: هل إنَّ أسوأ الإرهابيّين هم الَّذين يدافعون عن وطنهم وعن شعبهم، أم الَّذين يقومون بالمجازر الوحشيَّة اليوميَّة في فلسطين، وقد طردوا شعباً كاملاً من أرضه؟!
إنَّ المسألة هي أنَّ إسرائيل لا تزال تضرب بسيف أمريكا الَّتي تمنحها كلَّ الدَّعم من جهة، وبسيف الضّعف العربيّ بالتمزّقات السياسيَّة الشَّاملة من جهةٍ أخرى.
إنَّ العدوَّ لا يفهم إلَّا بلغة القوَّة، ولا بدَّ للأمَّة أن تقف صفّاً واحداً في مواجهته سياسيّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً، من أجلِ تحقيقِ الأهدافِ الكبرى.
الانتخابات.. ومسؤوليَّة المرحلة
وأخيراً، إنَّنا ندعو الجميع في هذه المرحلة من واقع الوطن، إلى الانطلاق في تنافسهم الانتخابيّ والسياسيّ، إلى مواقع المحبَّة والوحدة والانفتاح على القضايا الكبرى أمام تحدّيات المرحلة الصَّعبة الَّتي تحمل في داخلها كلَّ الأخطار على صعيد المستقبل، فعليهم أن يتمثَّلوا قول الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
لقد قلناها سابقاً، ونقولها الآن بوحي مسؤوليَّتنا الإسلاميَّة، وبوحي مشاعرنا الأبويَّة للجميع: حاولوا أن تحسنوا كلماتكم، حتَّى عندما تتنفَّسون، لا تكونوا كما قال الله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التَّكاثر: 1- 2]، حاولوا أن تفتحوا قلوبكم حتَّى لخصومكم، حاولوا أن تعرفوا أنَّكم إذا تنافستم في قريةٍ هنا ومدينةٍ هناك، فإنَّ القضيَّة هي أن تتعاونوا جميعاً مع الَّذين هم منكم أو من الفريق الآخر، في خدمة النّاس وخدمة المجتمع. ليكن التَّنافس كيف يخدم أحدنا المجتمع أكثر من الآخر، وكيف ينشر أحدنا المحبَّة في المجتمع ويطرد العداوة منه.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ العداوة لا تنقذ وطناً، إنَّ البغضاء لا تعمِّر بيتاً، إنَّ الكلمات السلبيَّة لا يمكن أن توحِّد مجتمعاً.
اتَّقوا الله في عباده وبلاده، اتَّقوا الله في كلماتكم، اتَّقوا الله في علاقاتكم، في عصبيَّاتكم، لأنَّ الله سوف يسأل كلَّ واحد منكم عمَّا قال، كيف قال، وعلى أيِّ أساس قال، وعمَّا فعل، كيف فعل، ولماذا فعل، وعلى أيِّ أساس، اتَّقوا الله في ذلك كلّه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 -20].
علينا أن نعرف أنَّ الأمَّة تحتاج إلى طاقاتنا جميعاً؛ كلٌّ في موقعه، كلٌّ في دوره، كلٌّ بقدراته، من أجل الواقع كلِّه، والمستقبل كلّه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 12/06/1998م.