الدَّعوةُ إلى الوحدةِ بينَ المسلمين والتَّصدّي لمساعي الفتنة

الدَّعوةُ إلى الوحدةِ بينَ المسلمين والتَّصدّي لمساعي الفتنة

أمامنا في هذا اللّقاء مناسبتان؛ المناسبة الأولى، وهي الرواية الثَّالثة في تحديد وفاة سيّدتنا الزهراء (ع)، حيث إنَّ هناك رواية تقول إنَّ الوفاة كانت في الثّالث من جمادى الثانيَّة.
الزّهراء (ع): القدوةُ في الحقّ
ونحن في كلّ مناسبة نذكر فيها فاطمة الزَّهراء (ع)، فإنَّنا نريد أن نستفيد من هذا النَّموذج الطَّاهر الَّذي يتميَّز بالقرب من الله، وبكلّ الرّوح المعنويَّة الَّتي تتمثَّلها في كلّ عناصر وجودها، وبكلّ الفضائل الذَّاتيَّة الَّتي أصبحت من خلالها سيّدة نساء العالمين. وعندما تكون سيّدة نساء العالمين، فإنَّ معنى ذلك أنَّها تتميَّز بأفضل ما تتميَّز به المرأة، بحيث إنَّ شخصيَّتها تتجمَّع فيها كلُّ الفضائل، ثمَّ تتفوَّق بها، لأنَّ قضيَّة أن تكون سيّدة النّساء، يعني أن تكون قدوةً في كلّ فضائلها، وفي كلّ عناصر شخصيَّتها.
ومن هنا، فإنَّنا عندما نتذكَّرها، فإنَّنا نريد من هذه الذكرى للرّجال والنساء، أن تكون ذكرى القدوة الَّتي نقتدي بها ونتأسَّى بها في كلّ ما تمَّيزت به، فهي الإنسان الَّذي عاش الرَّوحانيَّة مع الله، بحيث إنَّها كانت من أقرب النَّاس إليه، وعاشت العلم الَّذي لم نجد هناك أيّ امرأة في زمانها تملك من العلم ما تملكه. ولو أنَّنا درسنا خطبتها الَّتي ألقتها على جموع المهاجرين والأنصار، لرأينا أنَّها تمثّل محاضرةً في فلسفة التَّوحيد، وفي فلسفة النبوَّة، وفي الحديث عن خصائص القرآن في مواقع عظمته، وفي الحديث عن خصائص التَّشريعات الإسلاميَّة في العبادات وفي غيرها، وفي الفقه الإسلاميّ القرآنيّ الَّذي انطلقت من خلاله لتعطي الحجَّة في أنَّها ترث رسول الله (ص)، كما ورث سليمانُ داوود، وكما ورث يحيى زكريَّا، بحيث إنَّها استطاعت أن تثبت حقَّها في فدك بالمنطق القرآنيّ الواضح.
وهكذا نشعر بأنَّها كانت شجاعةً في الحقّ، وقويَّة فيه، فقد آمنت بالحقّ لعليّ (ع)، لا بصفته زوجها وابن عمّها، لتتحرَّك بوحي العاطفة في الدّفاع عن حقّه، لأنَّ الزَّهراء (ع)، وهي تملك أطهر العواطف وأصفاها، لم تكن عاطفيَّةً في مواقف الحقّ، بل كانت تنطلق بالحقّ على أساس اقتناعها به، وقد سمعَتْ رسول الله (ص) يقول: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ"، وسمعته (ص) يقول: "يَا عَلِيّ، أَنْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي"، وسمعته (ص) يقول: "عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ، وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ"، وسمعته (ص) يقول: "أَنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُها"، "أَقْضَاكُمْ عَلِيّ"، سمعته يقولها في المواقع العامَّة، وسمعته يقولها لعليّ ولها في بيتها حديثاً طويلاً، عرفت منه أنَّ عليّاً إمامها بعدَ رسول الله (ص). ومن موقع اقتناعها بإمامته، شعرت بأنَّ عليها أن تقف معه ومع الحقّ الَّذي يمثّله، ولذلك كان كلّ حديثها في المسجد، ومع المهاجرين والأنصار، رجالاً ونساءً، عن عليّ (ع)، وعن خصائصه، وعن تميّزه وأفضليَّته، بالأسلوب الإسلاميّ الَّذي يتحرَّك من موقع الحجَّة لا من موقع العاطفة.
وقد عاشت الزَّهراء (ع) مظلوميَّة في أكثر من جانب، وعاشت الآلام الكثيرة في فقد رسول الله (ص)، وفيما جرى على البيت النبويّ الشَّريف من بعده، لقد اختزنت ذلك، ولكنَّها كانت تعبّر لرسول الله عن ذلك في خطابها له.
أمَّا في الجانب العام، فقد كانت قصَّتها قصّة الحقّ أن تثبته، وأن تقف معه، وأن تقنع النَّاس به. وهذا هو درس الزَّهراء (ع)، في أن نقف مع الحقّ وندافع عنه بالأسلوب الإسلاميّ الَّذي يرتكز على الحجَّة، وعلى الجدال بالَّتي هي أحسن، وبالدَّفع بالَّتي هي أحسن.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نحتاج رجالاً ونساءً، إلى أن نأخذ من سيّدة نساء العالمين، هذه السيّدة الطَّاهرة المعصومة الَّتي هي بضعة رسول الله، الَّذي كان يؤذيه ما يؤذيها، ويرضيه ما يرضيها، ويغضبه ما يغضبها، لأنَّها لم تكن ترضى إلَّا لله، ولا تغضب إلّا لله، وعلينا أن ننطلق في هذا الاتجاه؛ أن لا نرضى إلّا بما يرضي الله، ولا نغضب إلَّا مما يغضبه، في القضايا الصّغيرة الكبيرة. وهذا معنى موالاة أهل البيت (ع)؛ أن نواليهم، بأن نكون مع الله كما كانوا معه، وأن نكون مع رسول الله كما كانوا معه، أن نكون مع الإسلام كما كانوا معه. إنَّ الولاية ليست نبضة قلب ولا خفقة إحساس، لكنَّها موقف للحقّ، وموقف للصّدق، في لله، وبالله، وفي سبيل الله.
الاعتصامُ بحبلِ الله
الموضوع الثاني الَّذي نريد أن نعالجه باختصار، من خلال ما نواجهه ونشاهده من بعض الأوضاع المعقَّدة في العالم الإسلاميّ، هو موضوع الوحدة في خطّ الإسلام، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 104].
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46].
{إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92].
{وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون}[المؤمنون: 52].
إنّ هذه الآيات وغيرها، تقول للمسلمين جميعاً، كما قالت للرّسل جميعاً في خطِّ الإسلام الَّذي هو خطّ الرسل والرسالات، إنَّ الله يريد لنا أن نعتصم بحبله، وحبله هو الإسلام، وهو القرآن، وهو رسول الله، وهو الثّقل الأكبر الَّذي يتحرَّك في خطّه ومعه.
أن نعتصم بحبل الله جميعاً، فندرس كتاب الله، وندرس سنَّة رسوله (ص)، وندرس تعاليم أهل البيت (ع)، وندرس كلَّ هذا الواقع الَّذي نعيشه، لنستمع إلى كلّ نداءات الاعتصام بحبل الله، وإلى كلّ نداء التحرّك على أساس الأمَّة الواحدة، وإلى كلّ نداءات الحوار وإرجاع الأمر إلى الله ورسوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59].
أن يكون الإسلام هو العنوانَ الكبيرَ الَّذي ننطلق منه، وهو الدّين الَّذي نتوحَّد به، وإذا اختلفنا في بعض ما اختلف المسلمون فيه، سواء في بعض جوانب العقيدة، أو في بعض جوانب الشَّريعة، أو في بعض الأساليب والمناهج، فإنَّ علينا أن نتحاور ونتذاكر، وأن لا نتنازع نزاع الحقد والعداوة والبغضاء، لنفشل وتذهب ريحنا.
درسُ عليّ (ع): منعُ الفتنة
أن ننطلق كأمَّة كما أرادنا رسول الله (ص). وإذا كنَّا نلتزم عليّاً (ع) في خطّ الولاية وفي خطّ الإمامة، ونلتزم أولاده الأحد عشر، لأنَّهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتّنزيل، فإنَّ علينا أن نأخذ بأسلوب عليّ (ع)؛ بأسلوبه في إدارة ما اختلف فيه المسلمون في حقّه بالذَّات، وفي قضيَّته بالذَّات، وفي ولايته بالذَّات، كان عليّ (ع) صاحب الحقّ، ومع ذلك، كان يراعي مصلحة الإسلام في إدارته لحركة حقّه وللمطالبة به، لم يسمح عليّ (ع) لأبي سفيان بأن يستغلّ ما عاشه المسلمون من خلاف، عندما قال للعبَّاس عمّ النّبيّ وعمّ عليّ: امض بنا لنبايع عليّاً، "واللهِ لَأَمْلَأَنَّها خَيْلَاً وَرَجِلاً!"، أنا أبو سفيان، شيخ قريش، ولا أزال أملك القوَّة، وسآتي بكلّ جماعتي من أجل أن يقفوا مع عليّ ضدّ القوم الَّذين تقدَّموه. ونقل العبَّاس قصَّة أبي سفيان إلى عليّ (ع)، وجاء معه وقال له: "والله إنَّكّ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلَّا الفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللهِ طَالَما بَغَيْتَ للإسْلامِ شَرّاً! لَا حَاجةَ لنَا في نَصيحَتِكَ". متى كنت مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان؟ إنَّك تتحدَّث كما لو كانت لك غيرة على الإسلام من خلال الغيرة عليّ، إنَّني صاحب الحقّ، وأنا أعرف أنَّك لا تريد بهذه الكلمة الحقّ، وإنَّما تريد أن تأخذ موقعاً جديداً لك ولعائلتك من خلال ذلك، وأنا لا أسمح لك بذلك.
وهذا درسٌ نستفيده من عليّ (ع)، أنَّنا قد نكون أصحاب حقّ، وربما نصطدم بالآخرين الَّذين يأخذون حقَّنا، ولكن قد يأتي فريق يريد أن يستغلَّ الخلافات الموجودة فيما بين المسلمين، وفيما بين أصحاب الحقّ، من أجل أن يصل إلى ما يريده من زرع المشاكل بين المسلمين. علينا أن لا نتحمَّس مع كلّ الَّذين يتحمَّسون لنا، وأن لا نندفع مع كلّ مَنْ يريد أن يزايد علينا، بل علينا أن ندرس ماذا يريد، فقد يقول كلمة حقّ ولكنَّه يريد بها الباطل.
إنَّني أثير مثل هذه الأحاديث أمامكم، وقد تحدَّثت بها أكثر من مرَّة، لأنَّني أجد أنَّ هناك من يحاول أن يثير في السّاحة الفتنة المذهبيَّة بين السنَّة والشّيعة، فهناك منشورات وتسجيلات تنطلق من جانب لتكفّر الشّيعة، وهناك أحاديث تنطلق من هنا وهناك من أجل أن تكفّر السنَّة، لتكون المسألة تكفيراً بتكفير، وتضليلاً بتضليل، وتندفع كلّ المخابرات الدوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة من أجل أن تؤلّب هؤلاء على هؤلاء، وأن تحمّس هؤلاء ضدّ هؤلاء، وأن ينطلق شخص في السنَّة ليقول يا لثارات الصّحابة ويا لثارات السنَّة! ولينطلق شخص في الواقع الشيعي ليقول يا لثارات أهل البيت ويا لثارات الشّيعة! وتنطلق الفتنة من خلال هذا وذاك.
مسؤوليّةُ الوحدةِ والتّقارب
أيُّها الأحبَّة، نحن عندما نتحدَّث عن الوحدة الإسلاميَّة، فإنَّنا لا نريد - وقلناها مراراً - أن نقدّم أيّ تنازلات مما نؤمن به أنَّه الحقّ، حتَّى لو كان حكماً شرعيّاً صغيراً، ولكنَّنا نقول إنَّ هناك عقائد يتَّفق عليها المسلمون، وإنَّ هناك شرائع يلتقي عليها المسلمون، وإنَّ هناك واقعاً صعباً في ساحات التحدّي أمام الاستكبار كلّه، وأمام الكفر كلّه، يتحمَّل كلّ المسلمين مسؤوليَّته.
لذلك، علينا أن نلتقي على ما اتَّفقنا عليه، فنحن نتَّفق على التَّوحيد، وعلى رسالة النَّبيّ (ص)، وعلى القرآن كلّه، وعلى رسل الله، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر، كما أنَّنا نتَّفق على محبَّة أهل البيت (ع)، فنحن لا نعتقد أنَّ مسلماً، أيّاً كان مذهبه، لا يحبّ أهل البيت هذا الحبّ الَّذي يعظّمهم فيه، وإن كان الاختلاف في مسألة الإمامة.
فعلينا أن نلتقي فيما اتّفقنا عليه، وأن نتحاور ونردَّ الأمر إلى الله ورسوله فيما اختلفنا فيه، أن نتحاور بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالَّتي هي أحسن، أن نتحاور حواراً علميّاً موضوعيّاً، أن لا نتراشق بكلمات الاتّهام بالكفر والتَّضليل والتّفسيق، أن لا نتراشق بالسّباب وباللَّعن وما إلى ذلك، حيث يسبّ كلُّ فريق مقدَّسات الفريق الآخر، فقد أوصانا الله أن لا نسبَّ في ساحة الصِّراع، حتّى الّذين يدعون من دون الله بغير علم {وَلَا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]، لأنَّ الفعل يجتذب ردّ الفعل، وردّ الفعل يخلق الفتنة، إن كان من هذا الجانب أو ذاك الجانب.
الوعيُ في مواجهةِ الفتنة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نكون الواعين لما يدبَّر للأمَّة من خلافات. لا أتحدَّث عن لبنان فحسب، الَّذي بدأ البعض يعمل على إيقاظ الفتنة في داخله، في الوقت الَّذي يتميَّز فيه بلدنا هذا، بأنَّ السنَّة والشّيعة يجتمعون، علماء ومفكّرين وسياسيّين، ويتزوَّج بعضهم من بعض، ويعيشون حياة مشتركة، مع بقاء كلّ واحد منهم على مذهبه، ليس هناك حقد كما هو موجود في بعض البلدان، سواء في بعض البلدان العربيَّة أو الآسيويَّة. إنَّ لبنان يتميَّز بهذا النوع من اللقاء السني والشيعي على أساس الإسلام، وإن كان هناك بعض التعقيدات والتحفّظات. لكنَّ بعض النَّاس لا يريدون للبلد أن يهدأ، فكما أثاروا العقدة الطائفيَّة بين المسلمين والمسيحيّين، فإنهم يريدون إثارة العقدة المذهبيّة بين المسلمين أنفسهم، بين السنَّة والشّيعة.
وهكذا يعمل الكثيرون من النَّاس، أيُّها الأحبَّة، كما تعرفون، أن يثيروا الفتنة في داخل المسلمين الشّيعة أيضاً، سواء كان من ناحية حزبيَّة، أو من ناحية مرجعيَّة، أو من ناحية سياسيَّة، أو من ناحية ضيعويَّة هنا وهناك، باعتبار أنَّ النَّاس إذا توحَّدوا، وقفوا مع القضايا الكبرى. لذلك يريدون للنَّاس أن ينشغلوا بخلافاتهم العائليَّة، وبخلافاتهم الحزبيَّة والسياسيَّة، وبخلافاتهم المرجعيَّة، هذه الخلافات الجديدة الَّتي دخلت فيما بيننا؛ أن تقلّد مرجعاً، فتكون ضدّ الّذين يقلّدون مرجعاً آخر، ما يوحي بالتخلّف كأبشع ما يكون التخلّف.
لذلك كونوا الواعين، لأنَّ الَّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيراً.. لا تتحمَّسوا للفتنة، ولا لمن يريد أن يثير فيما بينكم الخلاف من أجل أن تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نتوحَّد بالله وبرسوله وبالقرآن وبأهل بيته وبالحقّ، لنقف مع ما يريدنا الله أن نقف فيه.
الوحدة الوحدة! الوعي الوعي! اليقظة اليقظة! العقل العقل! لا تتحركوا في هوى ألسنتكم، ولا في هوى عواطفكم وعصبيَّاتكم، تحركوا بالحقّ، وفي طريق الحقّ، ومن أجل الحقّ.
الخطبة الثّانيَّة
عباد الله، اتَّقوا الله في نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، كما قال عليّ (ع) في وصيَّته الأخيرة لولديه، ولمن بلغه كتابه: "فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (ص) يَقُولُ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ"، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10].
وحدةُ الصَّفّ أمامَ الاستكبار
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن ننفتح على كلّ ما يربط قلوب بعضنا ببعض، وعلى كلّ ما يوحّد الصّفّ، وكلّ ما يجعلنا نقف في مواجهة الاستكبار ومواجهة الكفر صفّاً واحداً كأنَّنا بنيان مرصوص يشدّ بعضه بعضاً، فقد أرادنا رسول الله (ص) كمؤمنين أن ننطلق في هذا الاتجاه: "مَثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ، إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ، تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى".
ولا سيَّما أنَّنا عندما نكون كعالم إسلاميّ في مواجهة العالم المستكبر، فإنَّنا نرى المستكبرين يتحركون في كلّ موقع للقوَّة في الإسلام، من أجل إضعاف هذا الموقع الاقتصاديّ لمصلحة مواقعهم الاقتصاديَّة، أو هذا الموقع السياسيّ لمصلحة مواقعهم السياسيَّة، أو هذا الموقع الاستراتيجيّ والأمنيّ لمصلحة لمواقعهم الاستراتيجيَّة والأمنيَّة. إنَّهم يريدون أن يضعفونا بخلافاتنا المذهبيَّة، وبخلافاتنا العرقيَّة والقوميَّة والحزبيَّة والسياسيَّة، إنَّهم يريدون إضعافنا حتَّى ينشغل بعضنا ببعض، حتَّى يسرقوا ثرواتنا ويوظّفوها في تلبية السّلاح الَّذي نقاتل فيه بعضنا بعضاً.
إنهم يبيعوننا السّلاح من هنا وهناك، ولكن لا لنقاتل أعداءنا، ولا لنحافظ فيه على حرّيّاتنا واستقلالنا، ولكن من أجل أن يقتل المسلمون بعضهم بعضاً. وهذا ما لاحظناه في كلّ هذه المراحل الَّتي مررنا بها. ماذا حدث؟ إنَّنا رأينا قتالاً من أشرس ما يكون في الحرب المفروضة على إيران في حرب الخليج الأولى، وقتالاً آخر في حرب الخليج الثَّانية، وقتالاً في لبنان، وقتالاً في أكثر من بلد إسلاميّ يعيش فيه المسلمون الصّراع بعضهم مع بعض، على أساس قضايا بسيطة هنا وهناك، ويعيش فيه المسلمون الحقد بعضهم على بعض، وإضرار بعضهم ببعض.
إنَّنا نرى أنَّ الكثير من المسلمين يعملون على أن يوظّفوا أدوارهم ومواقعهم الرسميَّة من أجل الإضرار بهذا البلد الإسلاميّ أو بذاك البلد الإسلاميّ، لحساب الاستكبار العالميّ الَّذي يريد لهم أن يخلقوا مشكلةً لهذا البلد أو لذاك البلد، حتَّى إنَّنا نرى أنَّ ما يسمَّى بالدول الإسلاميَّة لا يتوافق بعضها مع بعض، إلَّا إذا كانت مصلحة الاستكبار العالميّ أن يتوافقوا. ولذلك نجد أنّ لدينا كثيراً من المنظَّمات الإقليميَّة؛ منظَّمة الجامعة العربيَّة في البلاد العربيَّة، ومنظَّمة المؤتمر الإسلاميّ في الواقع الإسلاميّ، ومنظَّمة عدم الانحياز، وما إلى ذلك، ونحن لا نرى غنى لهذه المنظَّمات، لأنَّها تتحرَّك بشكل عام كما يراد لها أن تتحرَّك، فإذا أرادوا لها الحرب فإنَّها تتحرَّك في خطّ الحرب، وإذا أرادوا لها السِّلم فإنَّها تتحرَّك في خطّ السّلم.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، كنت أقول ولا أزال أقول، إنَّنا كمسلمين، لا بدَّ من أن يكون لنا الوعي كلّه؛ أن يكون لنا وعي ثقافيّ نفهم فيه الإسلام، حتّى لا يضلّلنا البعض باسم الإسلام عن الإسلام، وأن يكون لنا وعي سياسيّ؛ أن نفهم ماذا هناك، ماذا يخطَّط لنا وماذا يدبَّر لنا، ما هي الظّروف الَّتي تحيط بنا، لأنَّ الأمَّة الَّتي لا تعي ما يخطّط لها الأعداء، ولا ما يعملون من أجل إضعافها، سوف تكون مجرَّد حطبٍ لكلّ الحرائق الَّتي يريدون أن يثيروها، وسوف تكون جسراً لكلّ أهدافهم الَّتي يسعون إليها.
تعالوا لنأخذ شيئاً من الوعي فيما يدبَّر لنا في الواقع.
الأزمةُ الإيرانيَّةُ الأفغانيَّة
لا نزال نراقب الموقف في أفغانستان، من خلال اللّعبة الدوليَّة في إرباك الوضع الإسلامي بالفتن والمشاكل السياسيَّة والأمنيَّة، وإشغال العالم الإسلاميّ عن قضاياه الحيويَّة في الوصول إلى الاكتفاء الذَّاتي، وفي حركة الحريَّة والعدالة. ونلاحظ حركة الأمم المتَّحدة في إيصال الواقع الأفغاني إلى شاطئ السّلام الَّذي لن يتحقَّق إلَّا من خلال ائتلاف سياسيّ بين جميع الأطراف، يعمل على توحيد الأفغانيّين حول حوار جدّيّ ينهي الحرب، ويفضي إلى إعطاء دور لكلّ الجهات الفاعلة المخلصة للحكم، وفي إعادة بناء أفغانستان، بعيداً من العصبيَّات المنغلقة والمختنقة في دائرة الحقد والبغضاء.
وإنَّنا نقدّر للجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة مدى الحكمة الَّتي أدارت فيها الأزمة، بالدّبلوماسيَّة الواعية الدَّقيقة، والقوَّة العاقلة في خطّ المواجهة الَّتي كانت تحافظ فيها على حقوق شعبها في منع الاعتداء عليه من أيَّة جهة، وفي حماية السَّلام الإقليميّ من العابثين به.
كما أنَّنا نجد في الموقف السّعوديّ بتجميد علاقة السعوديَّة بحركة طالبان، موقفاً حكيماً، لأنَّ هذه الحركة لا تمثّل الحركة المسؤولة في أكثر من موقع، ولا سيَّما في مجازرها ضدَّ شعبها، وفي تهديدها للوحدة الإسلاميَّة، مع تأكيدنا على الدّول المعنيَّة أن تمارس ضغوطاً على هذه الحركة لكي تراجع حساباتها، وتعود إلى الصفّ الإسلاميّ، من قاعدة المسؤوليَّة عن الحاضر والمستقبل في حركة المسلمين نحو الوحدة والعزَّة والكرامة.
بينَ الخطابِ المعسولِ والواقع
وقد تابعنا في هذا الجوّ خطاب الرَّئيس الأمريكيّ في الأمم المتَّحدة، وحديثه عن الإسلام، باعتباره - كما يقول - الدّين الأكثر انتشاراً في العالم، وعن المساجد في أمريكا، وعن رفضه لمقولتي صدام الحضارات وأنَّ الإسلام هو العدوّ. إنَّ هذا الكلام الجميل في الظاهر، يختلف عن الصّورة الحقيقيَّة للسياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة، ولا سيَّما في العالم الإسلاميّ، حيث لا تزال أمريكا تعمل على محاصرة قضاياه الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، وإرباك مسيرة التقدم والتنمية فيه، والسيطرة على ثرواته الطبيعيَّة وأسواقه الاستهلاكيَّة ومواقعه الاستراتيجيَّة، وتعطيل حركة الإنتاج فيه لخدمة مصالحها ومصالح الاستكبار العالميّ، على حساب مصالح شعوبنا المستضعفة.
إنَّ المطلوب من أمريكا، لكي تثبت صدقها في كلامها، أن تقدّم أدلّة واضحة، لا أن تكتفي بالكلمات المعسولة الَّتي لا تعني شيئاً. وقد تحدَّث الرئيس الأمريكيّ في خطابه عن ضرورة قيام تكتّل عالميّ ضدّ الإرهاب، في الوقت الَّذي نرى أنَّ أمريكا لا تزال تدعم إرهاب الدّول ضدّ شعوبها، كما أنَّها تدعم الدَّولة الأكثر إرهاباً في العالم، وهي إسرائيل.
إنَّ عنوان الحملة على الإرهاب، يختزن في داخله الحملة على كلّ الحركات السياسيَّة والأمنيَّة المعارضة لسياسة أمريكا ومصالحها الاستكباريَّة في العالم. وعلى الشّعوب المستضعفة، ولا سيَّما العربيَّة والإسلاميَّة، أن تفهم ذلك جيّداً في حركتها السياسيَّة.
صفقةٌ عدوانيّةٌ ضدّ المنطقة
وفي غمرة هذا الخطاب الأمريكيّ المعسول، لاحظنا أنَّ أمريكا عرضت الآن على إسرائيل بيعها 90 طائرة متقدّمة، في صفقة قيمتها - كما يقول الإعلام - 5 مليارات دولار، لمساعدتها على الاحتفاظ بتفوّقها العسكري على كلّ دول المنطقة، وقالت وزارة الدفاع الأمريكيَّة إنَّ هذه الصفقة المقترحة، ستخدم السياسة الخارجيَّة والأمن القوميّ للولايات المتَّحدة، بالمساعدة على تحصين دولة صديقة كانت وما زالت قوَّة مهمَّة للاستقرار السياسي والتقدّم الاقتصادي في الشَّرق الأوسط، على حدّ زعمهم.
إنَّنا نرى في هذه الصَّفقة الأمريكيَّة الجديدة استمراراً لسياسة أمريكا العدوانيَّة ضدّ شعوب المنطقة في دعم إسرائيل الَّتي أربكت استقرار المنطقة، وخلقت حالة من الاهتزاز السياسي، والانهيار الاقتصادي، بواسطة احتلالها لفلسطين، وما زالت تمارس عدوانها التَّدميري على الشَّعبين الفلسطيني واللّبناني وجميع شعوب المنطقة، حتى إنَّها تقف ضدَّ المبادرة الأمريكيَّة نفسها في مسألة الانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينيَّة المحتلّة، ما يؤكّد أنَّ أمريكا لا تزال خاضعة في سياستها في المنطقة للسياسة الإسرائيليَّة، أو أنَّها تتوافق معها في العدوان على المنطقة العربيَّة الإسلاميَّة بكلّ خطوطها السياسيَّة.
لبنانُ وعمليَّةُ التَّغيير؟!
أمَّا على المستوى اللّبناني الدّاخلي، فإننا نراقب السجال الداخلي في البلد في الظروف الحاضرة، والحديث عن التَّغيير في السَّاحة السياسيَّة والاقتصاديَّة من خلال تغيير الأشخاص، بما يشبه الحديث عن أحلام جديدة للشَّعب اللّبنانيّ، ليغرق في أجواء الخيال الَّتي تبتعد عن الواقع.
والسّؤال الكبير: هل هناك واقعيَّة في عمليَّة التَّغيير، من خلال تغيير شخص في مقام الرّئاسة، من دون الدّخول في عمليَّة إعادةٍ لإنتاج الذّهنيَّة السياسيَّة الَّتي تحكم الواقع السياسيّ في البلد، أو للدّخول في دراسة الخطَّة الَّتي تبني للبلد اقتصاده على أساس إمكاناته وموارده، ولا تثقله بالدّيون والأزمات الدَّاخليَّة الَّتي قد تصادر استقلاله في المستقبل؟!
إنَّنا نريد للبلد أن يخرج من دوَّامة اللّعبة السياسيَّة الَّتي يتحوَّل فيها الوطن إلى كرة تتقاذفها أقدام السياسيّين المحترفين في ساحة الحاضر والمستقبل، وأن يدخل في دائرة التَّخطيط الشَّامل الَّذي يدرس الحلول في حجم المشاكل، من أجل أن يلتقي الحكم والمواطنون على التَّعاون والتَّكامل لتحرير الوطن من الاحتلال، وإنتاج المستقبل الكبير، من خلال الوعي المسؤول في حركة الحاضر.
التّعليمُ الدّيني.. والتَّكافل
وأخيراً، إنَّنا ندعو الدَّولة إلى المبادرة لإعادة إلزاميَّة التَّعليم الدّيني، لأنَّ ذلك هو الَّذي يساهم في حفظ القيم الرّوحيَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة للنَّاس، ويهيّئ الفرصة لإنتاج الإنسان المسؤول الَّذي يخاف الله في نفسه وفي النَّاس، كما أنَّنا ندعو اللّبنانيّين جميعاً إلى التَّكافل الاجتماعي فيما بينهم، لمواجهة الحالات الصَّعبة للفقراء والمحرومين الَّذين لا يستطيع الكثير منهم إدخال أولادهم إلى المدارس، ما قد يؤدّي إلى مشاكل كبيرة على الصَّعيد التربويّ العام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 25/09/1998م.

أمامنا في هذا اللّقاء مناسبتان؛ المناسبة الأولى، وهي الرواية الثَّالثة في تحديد وفاة سيّدتنا الزهراء (ع)، حيث إنَّ هناك رواية تقول إنَّ الوفاة كانت في الثّالث من جمادى الثانيَّة.
الزّهراء (ع): القدوةُ في الحقّ
ونحن في كلّ مناسبة نذكر فيها فاطمة الزَّهراء (ع)، فإنَّنا نريد أن نستفيد من هذا النَّموذج الطَّاهر الَّذي يتميَّز بالقرب من الله، وبكلّ الرّوح المعنويَّة الَّتي تتمثَّلها في كلّ عناصر وجودها، وبكلّ الفضائل الذَّاتيَّة الَّتي أصبحت من خلالها سيّدة نساء العالمين. وعندما تكون سيّدة نساء العالمين، فإنَّ معنى ذلك أنَّها تتميَّز بأفضل ما تتميَّز به المرأة، بحيث إنَّ شخصيَّتها تتجمَّع فيها كلُّ الفضائل، ثمَّ تتفوَّق بها، لأنَّ قضيَّة أن تكون سيّدة النّساء، يعني أن تكون قدوةً في كلّ فضائلها، وفي كلّ عناصر شخصيَّتها.
ومن هنا، فإنَّنا عندما نتذكَّرها، فإنَّنا نريد من هذه الذكرى للرّجال والنساء، أن تكون ذكرى القدوة الَّتي نقتدي بها ونتأسَّى بها في كلّ ما تمَّيزت به، فهي الإنسان الَّذي عاش الرَّوحانيَّة مع الله، بحيث إنَّها كانت من أقرب النَّاس إليه، وعاشت العلم الَّذي لم نجد هناك أيّ امرأة في زمانها تملك من العلم ما تملكه. ولو أنَّنا درسنا خطبتها الَّتي ألقتها على جموع المهاجرين والأنصار، لرأينا أنَّها تمثّل محاضرةً في فلسفة التَّوحيد، وفي فلسفة النبوَّة، وفي الحديث عن خصائص القرآن في مواقع عظمته، وفي الحديث عن خصائص التَّشريعات الإسلاميَّة في العبادات وفي غيرها، وفي الفقه الإسلاميّ القرآنيّ الَّذي انطلقت من خلاله لتعطي الحجَّة في أنَّها ترث رسول الله (ص)، كما ورث سليمانُ داوود، وكما ورث يحيى زكريَّا، بحيث إنَّها استطاعت أن تثبت حقَّها في فدك بالمنطق القرآنيّ الواضح.
وهكذا نشعر بأنَّها كانت شجاعةً في الحقّ، وقويَّة فيه، فقد آمنت بالحقّ لعليّ (ع)، لا بصفته زوجها وابن عمّها، لتتحرَّك بوحي العاطفة في الدّفاع عن حقّه، لأنَّ الزَّهراء (ع)، وهي تملك أطهر العواطف وأصفاها، لم تكن عاطفيَّةً في مواقف الحقّ، بل كانت تنطلق بالحقّ على أساس اقتناعها به، وقد سمعَتْ رسول الله (ص) يقول: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ"، وسمعته (ص) يقول: "يَا عَلِيّ، أَنْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي"، وسمعته (ص) يقول: "عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ، وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ"، وسمعته (ص) يقول: "أَنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُها"، "أَقْضَاكُمْ عَلِيّ"، سمعته يقولها في المواقع العامَّة، وسمعته يقولها لعليّ ولها في بيتها حديثاً طويلاً، عرفت منه أنَّ عليّاً إمامها بعدَ رسول الله (ص). ومن موقع اقتناعها بإمامته، شعرت بأنَّ عليها أن تقف معه ومع الحقّ الَّذي يمثّله، ولذلك كان كلّ حديثها في المسجد، ومع المهاجرين والأنصار، رجالاً ونساءً، عن عليّ (ع)، وعن خصائصه، وعن تميّزه وأفضليَّته، بالأسلوب الإسلاميّ الَّذي يتحرَّك من موقع الحجَّة لا من موقع العاطفة.
وقد عاشت الزَّهراء (ع) مظلوميَّة في أكثر من جانب، وعاشت الآلام الكثيرة في فقد رسول الله (ص)، وفيما جرى على البيت النبويّ الشَّريف من بعده، لقد اختزنت ذلك، ولكنَّها كانت تعبّر لرسول الله عن ذلك في خطابها له.
أمَّا في الجانب العام، فقد كانت قصَّتها قصّة الحقّ أن تثبته، وأن تقف معه، وأن تقنع النَّاس به. وهذا هو درس الزَّهراء (ع)، في أن نقف مع الحقّ وندافع عنه بالأسلوب الإسلاميّ الَّذي يرتكز على الحجَّة، وعلى الجدال بالَّتي هي أحسن، وبالدَّفع بالَّتي هي أحسن.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نحتاج رجالاً ونساءً، إلى أن نأخذ من سيّدة نساء العالمين، هذه السيّدة الطَّاهرة المعصومة الَّتي هي بضعة رسول الله، الَّذي كان يؤذيه ما يؤذيها، ويرضيه ما يرضيها، ويغضبه ما يغضبها، لأنَّها لم تكن ترضى إلَّا لله، ولا تغضب إلّا لله، وعلينا أن ننطلق في هذا الاتجاه؛ أن لا نرضى إلّا بما يرضي الله، ولا نغضب إلَّا مما يغضبه، في القضايا الصّغيرة الكبيرة. وهذا معنى موالاة أهل البيت (ع)؛ أن نواليهم، بأن نكون مع الله كما كانوا معه، وأن نكون مع رسول الله كما كانوا معه، أن نكون مع الإسلام كما كانوا معه. إنَّ الولاية ليست نبضة قلب ولا خفقة إحساس، لكنَّها موقف للحقّ، وموقف للصّدق، في لله، وبالله، وفي سبيل الله.
الاعتصامُ بحبلِ الله
الموضوع الثاني الَّذي نريد أن نعالجه باختصار، من خلال ما نواجهه ونشاهده من بعض الأوضاع المعقَّدة في العالم الإسلاميّ، هو موضوع الوحدة في خطّ الإسلام، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 104].
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46].
{إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92].
{وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون}[المؤمنون: 52].
إنّ هذه الآيات وغيرها، تقول للمسلمين جميعاً، كما قالت للرّسل جميعاً في خطِّ الإسلام الَّذي هو خطّ الرسل والرسالات، إنَّ الله يريد لنا أن نعتصم بحبله، وحبله هو الإسلام، وهو القرآن، وهو رسول الله، وهو الثّقل الأكبر الَّذي يتحرَّك في خطّه ومعه.
أن نعتصم بحبل الله جميعاً، فندرس كتاب الله، وندرس سنَّة رسوله (ص)، وندرس تعاليم أهل البيت (ع)، وندرس كلَّ هذا الواقع الَّذي نعيشه، لنستمع إلى كلّ نداءات الاعتصام بحبل الله، وإلى كلّ نداء التحرّك على أساس الأمَّة الواحدة، وإلى كلّ نداءات الحوار وإرجاع الأمر إلى الله ورسوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59].
أن يكون الإسلام هو العنوانَ الكبيرَ الَّذي ننطلق منه، وهو الدّين الَّذي نتوحَّد به، وإذا اختلفنا في بعض ما اختلف المسلمون فيه، سواء في بعض جوانب العقيدة، أو في بعض جوانب الشَّريعة، أو في بعض الأساليب والمناهج، فإنَّ علينا أن نتحاور ونتذاكر، وأن لا نتنازع نزاع الحقد والعداوة والبغضاء، لنفشل وتذهب ريحنا.
درسُ عليّ (ع): منعُ الفتنة
أن ننطلق كأمَّة كما أرادنا رسول الله (ص). وإذا كنَّا نلتزم عليّاً (ع) في خطّ الولاية وفي خطّ الإمامة، ونلتزم أولاده الأحد عشر، لأنَّهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتّنزيل، فإنَّ علينا أن نأخذ بأسلوب عليّ (ع)؛ بأسلوبه في إدارة ما اختلف فيه المسلمون في حقّه بالذَّات، وفي قضيَّته بالذَّات، وفي ولايته بالذَّات، كان عليّ (ع) صاحب الحقّ، ومع ذلك، كان يراعي مصلحة الإسلام في إدارته لحركة حقّه وللمطالبة به، لم يسمح عليّ (ع) لأبي سفيان بأن يستغلّ ما عاشه المسلمون من خلاف، عندما قال للعبَّاس عمّ النّبيّ وعمّ عليّ: امض بنا لنبايع عليّاً، "واللهِ لَأَمْلَأَنَّها خَيْلَاً وَرَجِلاً!"، أنا أبو سفيان، شيخ قريش، ولا أزال أملك القوَّة، وسآتي بكلّ جماعتي من أجل أن يقفوا مع عليّ ضدّ القوم الَّذين تقدَّموه. ونقل العبَّاس قصَّة أبي سفيان إلى عليّ (ع)، وجاء معه وقال له: "والله إنَّكّ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلَّا الفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللهِ طَالَما بَغَيْتَ للإسْلامِ شَرّاً! لَا حَاجةَ لنَا في نَصيحَتِكَ". متى كنت مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان؟ إنَّك تتحدَّث كما لو كانت لك غيرة على الإسلام من خلال الغيرة عليّ، إنَّني صاحب الحقّ، وأنا أعرف أنَّك لا تريد بهذه الكلمة الحقّ، وإنَّما تريد أن تأخذ موقعاً جديداً لك ولعائلتك من خلال ذلك، وأنا لا أسمح لك بذلك.
وهذا درسٌ نستفيده من عليّ (ع)، أنَّنا قد نكون أصحاب حقّ، وربما نصطدم بالآخرين الَّذين يأخذون حقَّنا، ولكن قد يأتي فريق يريد أن يستغلَّ الخلافات الموجودة فيما بين المسلمين، وفيما بين أصحاب الحقّ، من أجل أن يصل إلى ما يريده من زرع المشاكل بين المسلمين. علينا أن لا نتحمَّس مع كلّ الَّذين يتحمَّسون لنا، وأن لا نندفع مع كلّ مَنْ يريد أن يزايد علينا، بل علينا أن ندرس ماذا يريد، فقد يقول كلمة حقّ ولكنَّه يريد بها الباطل.
إنَّني أثير مثل هذه الأحاديث أمامكم، وقد تحدَّثت بها أكثر من مرَّة، لأنَّني أجد أنَّ هناك من يحاول أن يثير في السّاحة الفتنة المذهبيَّة بين السنَّة والشّيعة، فهناك منشورات وتسجيلات تنطلق من جانب لتكفّر الشّيعة، وهناك أحاديث تنطلق من هنا وهناك من أجل أن تكفّر السنَّة، لتكون المسألة تكفيراً بتكفير، وتضليلاً بتضليل، وتندفع كلّ المخابرات الدوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة من أجل أن تؤلّب هؤلاء على هؤلاء، وأن تحمّس هؤلاء ضدّ هؤلاء، وأن ينطلق شخص في السنَّة ليقول يا لثارات الصّحابة ويا لثارات السنَّة! ولينطلق شخص في الواقع الشيعي ليقول يا لثارات أهل البيت ويا لثارات الشّيعة! وتنطلق الفتنة من خلال هذا وذاك.
مسؤوليّةُ الوحدةِ والتّقارب
أيُّها الأحبَّة، نحن عندما نتحدَّث عن الوحدة الإسلاميَّة، فإنَّنا لا نريد - وقلناها مراراً - أن نقدّم أيّ تنازلات مما نؤمن به أنَّه الحقّ، حتَّى لو كان حكماً شرعيّاً صغيراً، ولكنَّنا نقول إنَّ هناك عقائد يتَّفق عليها المسلمون، وإنَّ هناك شرائع يلتقي عليها المسلمون، وإنَّ هناك واقعاً صعباً في ساحات التحدّي أمام الاستكبار كلّه، وأمام الكفر كلّه، يتحمَّل كلّ المسلمين مسؤوليَّته.
لذلك، علينا أن نلتقي على ما اتَّفقنا عليه، فنحن نتَّفق على التَّوحيد، وعلى رسالة النَّبيّ (ص)، وعلى القرآن كلّه، وعلى رسل الله، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر، كما أنَّنا نتَّفق على محبَّة أهل البيت (ع)، فنحن لا نعتقد أنَّ مسلماً، أيّاً كان مذهبه، لا يحبّ أهل البيت هذا الحبّ الَّذي يعظّمهم فيه، وإن كان الاختلاف في مسألة الإمامة.
فعلينا أن نلتقي فيما اتّفقنا عليه، وأن نتحاور ونردَّ الأمر إلى الله ورسوله فيما اختلفنا فيه، أن نتحاور بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالَّتي هي أحسن، أن نتحاور حواراً علميّاً موضوعيّاً، أن لا نتراشق بكلمات الاتّهام بالكفر والتَّضليل والتّفسيق، أن لا نتراشق بالسّباب وباللَّعن وما إلى ذلك، حيث يسبّ كلُّ فريق مقدَّسات الفريق الآخر، فقد أوصانا الله أن لا نسبَّ في ساحة الصِّراع، حتّى الّذين يدعون من دون الله بغير علم {وَلَا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]، لأنَّ الفعل يجتذب ردّ الفعل، وردّ الفعل يخلق الفتنة، إن كان من هذا الجانب أو ذاك الجانب.
الوعيُ في مواجهةِ الفتنة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نكون الواعين لما يدبَّر للأمَّة من خلافات. لا أتحدَّث عن لبنان فحسب، الَّذي بدأ البعض يعمل على إيقاظ الفتنة في داخله، في الوقت الَّذي يتميَّز فيه بلدنا هذا، بأنَّ السنَّة والشّيعة يجتمعون، علماء ومفكّرين وسياسيّين، ويتزوَّج بعضهم من بعض، ويعيشون حياة مشتركة، مع بقاء كلّ واحد منهم على مذهبه، ليس هناك حقد كما هو موجود في بعض البلدان، سواء في بعض البلدان العربيَّة أو الآسيويَّة. إنَّ لبنان يتميَّز بهذا النوع من اللقاء السني والشيعي على أساس الإسلام، وإن كان هناك بعض التعقيدات والتحفّظات. لكنَّ بعض النَّاس لا يريدون للبلد أن يهدأ، فكما أثاروا العقدة الطائفيَّة بين المسلمين والمسيحيّين، فإنهم يريدون إثارة العقدة المذهبيّة بين المسلمين أنفسهم، بين السنَّة والشّيعة.
وهكذا يعمل الكثيرون من النَّاس، أيُّها الأحبَّة، كما تعرفون، أن يثيروا الفتنة في داخل المسلمين الشّيعة أيضاً، سواء كان من ناحية حزبيَّة، أو من ناحية مرجعيَّة، أو من ناحية سياسيَّة، أو من ناحية ضيعويَّة هنا وهناك، باعتبار أنَّ النَّاس إذا توحَّدوا، وقفوا مع القضايا الكبرى. لذلك يريدون للنَّاس أن ينشغلوا بخلافاتهم العائليَّة، وبخلافاتهم الحزبيَّة والسياسيَّة، وبخلافاتهم المرجعيَّة، هذه الخلافات الجديدة الَّتي دخلت فيما بيننا؛ أن تقلّد مرجعاً، فتكون ضدّ الّذين يقلّدون مرجعاً آخر، ما يوحي بالتخلّف كأبشع ما يكون التخلّف.
لذلك كونوا الواعين، لأنَّ الَّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيراً.. لا تتحمَّسوا للفتنة، ولا لمن يريد أن يثير فيما بينكم الخلاف من أجل أن تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نتوحَّد بالله وبرسوله وبالقرآن وبأهل بيته وبالحقّ، لنقف مع ما يريدنا الله أن نقف فيه.
الوحدة الوحدة! الوعي الوعي! اليقظة اليقظة! العقل العقل! لا تتحركوا في هوى ألسنتكم، ولا في هوى عواطفكم وعصبيَّاتكم، تحركوا بالحقّ، وفي طريق الحقّ، ومن أجل الحقّ.
الخطبة الثّانيَّة
عباد الله، اتَّقوا الله في نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، كما قال عليّ (ع) في وصيَّته الأخيرة لولديه، ولمن بلغه كتابه: "فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (ص) يَقُولُ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ"، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10].
وحدةُ الصَّفّ أمامَ الاستكبار
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن ننفتح على كلّ ما يربط قلوب بعضنا ببعض، وعلى كلّ ما يوحّد الصّفّ، وكلّ ما يجعلنا نقف في مواجهة الاستكبار ومواجهة الكفر صفّاً واحداً كأنَّنا بنيان مرصوص يشدّ بعضه بعضاً، فقد أرادنا رسول الله (ص) كمؤمنين أن ننطلق في هذا الاتجاه: "مَثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ، إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ، تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى".
ولا سيَّما أنَّنا عندما نكون كعالم إسلاميّ في مواجهة العالم المستكبر، فإنَّنا نرى المستكبرين يتحركون في كلّ موقع للقوَّة في الإسلام، من أجل إضعاف هذا الموقع الاقتصاديّ لمصلحة مواقعهم الاقتصاديَّة، أو هذا الموقع السياسيّ لمصلحة مواقعهم السياسيَّة، أو هذا الموقع الاستراتيجيّ والأمنيّ لمصلحة لمواقعهم الاستراتيجيَّة والأمنيَّة. إنَّهم يريدون أن يضعفونا بخلافاتنا المذهبيَّة، وبخلافاتنا العرقيَّة والقوميَّة والحزبيَّة والسياسيَّة، إنَّهم يريدون إضعافنا حتَّى ينشغل بعضنا ببعض، حتَّى يسرقوا ثرواتنا ويوظّفوها في تلبية السّلاح الَّذي نقاتل فيه بعضنا بعضاً.
إنهم يبيعوننا السّلاح من هنا وهناك، ولكن لا لنقاتل أعداءنا، ولا لنحافظ فيه على حرّيّاتنا واستقلالنا، ولكن من أجل أن يقتل المسلمون بعضهم بعضاً. وهذا ما لاحظناه في كلّ هذه المراحل الَّتي مررنا بها. ماذا حدث؟ إنَّنا رأينا قتالاً من أشرس ما يكون في الحرب المفروضة على إيران في حرب الخليج الأولى، وقتالاً آخر في حرب الخليج الثَّانية، وقتالاً في لبنان، وقتالاً في أكثر من بلد إسلاميّ يعيش فيه المسلمون الصّراع بعضهم مع بعض، على أساس قضايا بسيطة هنا وهناك، ويعيش فيه المسلمون الحقد بعضهم على بعض، وإضرار بعضهم ببعض.
إنَّنا نرى أنَّ الكثير من المسلمين يعملون على أن يوظّفوا أدوارهم ومواقعهم الرسميَّة من أجل الإضرار بهذا البلد الإسلاميّ أو بذاك البلد الإسلاميّ، لحساب الاستكبار العالميّ الَّذي يريد لهم أن يخلقوا مشكلةً لهذا البلد أو لذاك البلد، حتَّى إنَّنا نرى أنَّ ما يسمَّى بالدول الإسلاميَّة لا يتوافق بعضها مع بعض، إلَّا إذا كانت مصلحة الاستكبار العالميّ أن يتوافقوا. ولذلك نجد أنّ لدينا كثيراً من المنظَّمات الإقليميَّة؛ منظَّمة الجامعة العربيَّة في البلاد العربيَّة، ومنظَّمة المؤتمر الإسلاميّ في الواقع الإسلاميّ، ومنظَّمة عدم الانحياز، وما إلى ذلك، ونحن لا نرى غنى لهذه المنظَّمات، لأنَّها تتحرَّك بشكل عام كما يراد لها أن تتحرَّك، فإذا أرادوا لها الحرب فإنَّها تتحرَّك في خطّ الحرب، وإذا أرادوا لها السِّلم فإنَّها تتحرَّك في خطّ السّلم.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، كنت أقول ولا أزال أقول، إنَّنا كمسلمين، لا بدَّ من أن يكون لنا الوعي كلّه؛ أن يكون لنا وعي ثقافيّ نفهم فيه الإسلام، حتّى لا يضلّلنا البعض باسم الإسلام عن الإسلام، وأن يكون لنا وعي سياسيّ؛ أن نفهم ماذا هناك، ماذا يخطَّط لنا وماذا يدبَّر لنا، ما هي الظّروف الَّتي تحيط بنا، لأنَّ الأمَّة الَّتي لا تعي ما يخطّط لها الأعداء، ولا ما يعملون من أجل إضعافها، سوف تكون مجرَّد حطبٍ لكلّ الحرائق الَّتي يريدون أن يثيروها، وسوف تكون جسراً لكلّ أهدافهم الَّتي يسعون إليها.
تعالوا لنأخذ شيئاً من الوعي فيما يدبَّر لنا في الواقع.
الأزمةُ الإيرانيَّةُ الأفغانيَّة
لا نزال نراقب الموقف في أفغانستان، من خلال اللّعبة الدوليَّة في إرباك الوضع الإسلامي بالفتن والمشاكل السياسيَّة والأمنيَّة، وإشغال العالم الإسلاميّ عن قضاياه الحيويَّة في الوصول إلى الاكتفاء الذَّاتي، وفي حركة الحريَّة والعدالة. ونلاحظ حركة الأمم المتَّحدة في إيصال الواقع الأفغاني إلى شاطئ السّلام الَّذي لن يتحقَّق إلَّا من خلال ائتلاف سياسيّ بين جميع الأطراف، يعمل على توحيد الأفغانيّين حول حوار جدّيّ ينهي الحرب، ويفضي إلى إعطاء دور لكلّ الجهات الفاعلة المخلصة للحكم، وفي إعادة بناء أفغانستان، بعيداً من العصبيَّات المنغلقة والمختنقة في دائرة الحقد والبغضاء.
وإنَّنا نقدّر للجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة مدى الحكمة الَّتي أدارت فيها الأزمة، بالدّبلوماسيَّة الواعية الدَّقيقة، والقوَّة العاقلة في خطّ المواجهة الَّتي كانت تحافظ فيها على حقوق شعبها في منع الاعتداء عليه من أيَّة جهة، وفي حماية السَّلام الإقليميّ من العابثين به.
كما أنَّنا نجد في الموقف السّعوديّ بتجميد علاقة السعوديَّة بحركة طالبان، موقفاً حكيماً، لأنَّ هذه الحركة لا تمثّل الحركة المسؤولة في أكثر من موقع، ولا سيَّما في مجازرها ضدَّ شعبها، وفي تهديدها للوحدة الإسلاميَّة، مع تأكيدنا على الدّول المعنيَّة أن تمارس ضغوطاً على هذه الحركة لكي تراجع حساباتها، وتعود إلى الصفّ الإسلاميّ، من قاعدة المسؤوليَّة عن الحاضر والمستقبل في حركة المسلمين نحو الوحدة والعزَّة والكرامة.
بينَ الخطابِ المعسولِ والواقع
وقد تابعنا في هذا الجوّ خطاب الرَّئيس الأمريكيّ في الأمم المتَّحدة، وحديثه عن الإسلام، باعتباره - كما يقول - الدّين الأكثر انتشاراً في العالم، وعن المساجد في أمريكا، وعن رفضه لمقولتي صدام الحضارات وأنَّ الإسلام هو العدوّ. إنَّ هذا الكلام الجميل في الظاهر، يختلف عن الصّورة الحقيقيَّة للسياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة، ولا سيَّما في العالم الإسلاميّ، حيث لا تزال أمريكا تعمل على محاصرة قضاياه الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، وإرباك مسيرة التقدم والتنمية فيه، والسيطرة على ثرواته الطبيعيَّة وأسواقه الاستهلاكيَّة ومواقعه الاستراتيجيَّة، وتعطيل حركة الإنتاج فيه لخدمة مصالحها ومصالح الاستكبار العالميّ، على حساب مصالح شعوبنا المستضعفة.
إنَّ المطلوب من أمريكا، لكي تثبت صدقها في كلامها، أن تقدّم أدلّة واضحة، لا أن تكتفي بالكلمات المعسولة الَّتي لا تعني شيئاً. وقد تحدَّث الرئيس الأمريكيّ في خطابه عن ضرورة قيام تكتّل عالميّ ضدّ الإرهاب، في الوقت الَّذي نرى أنَّ أمريكا لا تزال تدعم إرهاب الدّول ضدّ شعوبها، كما أنَّها تدعم الدَّولة الأكثر إرهاباً في العالم، وهي إسرائيل.
إنَّ عنوان الحملة على الإرهاب، يختزن في داخله الحملة على كلّ الحركات السياسيَّة والأمنيَّة المعارضة لسياسة أمريكا ومصالحها الاستكباريَّة في العالم. وعلى الشّعوب المستضعفة، ولا سيَّما العربيَّة والإسلاميَّة، أن تفهم ذلك جيّداً في حركتها السياسيَّة.
صفقةٌ عدوانيّةٌ ضدّ المنطقة
وفي غمرة هذا الخطاب الأمريكيّ المعسول، لاحظنا أنَّ أمريكا عرضت الآن على إسرائيل بيعها 90 طائرة متقدّمة، في صفقة قيمتها - كما يقول الإعلام - 5 مليارات دولار، لمساعدتها على الاحتفاظ بتفوّقها العسكري على كلّ دول المنطقة، وقالت وزارة الدفاع الأمريكيَّة إنَّ هذه الصفقة المقترحة، ستخدم السياسة الخارجيَّة والأمن القوميّ للولايات المتَّحدة، بالمساعدة على تحصين دولة صديقة كانت وما زالت قوَّة مهمَّة للاستقرار السياسي والتقدّم الاقتصادي في الشَّرق الأوسط، على حدّ زعمهم.
إنَّنا نرى في هذه الصَّفقة الأمريكيَّة الجديدة استمراراً لسياسة أمريكا العدوانيَّة ضدّ شعوب المنطقة في دعم إسرائيل الَّتي أربكت استقرار المنطقة، وخلقت حالة من الاهتزاز السياسي، والانهيار الاقتصادي، بواسطة احتلالها لفلسطين، وما زالت تمارس عدوانها التَّدميري على الشَّعبين الفلسطيني واللّبناني وجميع شعوب المنطقة، حتى إنَّها تقف ضدَّ المبادرة الأمريكيَّة نفسها في مسألة الانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينيَّة المحتلّة، ما يؤكّد أنَّ أمريكا لا تزال خاضعة في سياستها في المنطقة للسياسة الإسرائيليَّة، أو أنَّها تتوافق معها في العدوان على المنطقة العربيَّة الإسلاميَّة بكلّ خطوطها السياسيَّة.
لبنانُ وعمليَّةُ التَّغيير؟!
أمَّا على المستوى اللّبناني الدّاخلي، فإننا نراقب السجال الداخلي في البلد في الظروف الحاضرة، والحديث عن التَّغيير في السَّاحة السياسيَّة والاقتصاديَّة من خلال تغيير الأشخاص، بما يشبه الحديث عن أحلام جديدة للشَّعب اللّبنانيّ، ليغرق في أجواء الخيال الَّتي تبتعد عن الواقع.
والسّؤال الكبير: هل هناك واقعيَّة في عمليَّة التَّغيير، من خلال تغيير شخص في مقام الرّئاسة، من دون الدّخول في عمليَّة إعادةٍ لإنتاج الذّهنيَّة السياسيَّة الَّتي تحكم الواقع السياسيّ في البلد، أو للدّخول في دراسة الخطَّة الَّتي تبني للبلد اقتصاده على أساس إمكاناته وموارده، ولا تثقله بالدّيون والأزمات الدَّاخليَّة الَّتي قد تصادر استقلاله في المستقبل؟!
إنَّنا نريد للبلد أن يخرج من دوَّامة اللّعبة السياسيَّة الَّتي يتحوَّل فيها الوطن إلى كرة تتقاذفها أقدام السياسيّين المحترفين في ساحة الحاضر والمستقبل، وأن يدخل في دائرة التَّخطيط الشَّامل الَّذي يدرس الحلول في حجم المشاكل، من أجل أن يلتقي الحكم والمواطنون على التَّعاون والتَّكامل لتحرير الوطن من الاحتلال، وإنتاج المستقبل الكبير، من خلال الوعي المسؤول في حركة الحاضر.
التّعليمُ الدّيني.. والتَّكافل
وأخيراً، إنَّنا ندعو الدَّولة إلى المبادرة لإعادة إلزاميَّة التَّعليم الدّيني، لأنَّ ذلك هو الَّذي يساهم في حفظ القيم الرّوحيَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة للنَّاس، ويهيّئ الفرصة لإنتاج الإنسان المسؤول الَّذي يخاف الله في نفسه وفي النَّاس، كما أنَّنا ندعو اللّبنانيّين جميعاً إلى التَّكافل الاجتماعي فيما بينهم، لمواجهة الحالات الصَّعبة للفقراء والمحرومين الَّذين لا يستطيع الكثير منهم إدخال أولادهم إلى المدارس، ما قد يؤدّي إلى مشاكل كبيرة على الصَّعيد التربويّ العام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 25/09/1998م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية