من خطبةِ الخلافةِ لعليّ (ع): مسؤوليَّةُ الإنسانِ في كلّ حركةِ الحياة

من خطبةِ الخلافةِ لعليّ (ع): مسؤوليَّةُ الإنسانِ في كلّ حركةِ الحياة

سنتوقّف اليوم عند جزء من خطبة لعليّ (ع) استقبل بها خلافته، عندما بويع بالخلافة، والّتي أراد من خلالها أن يبيّن العنوان الكبير الَّذي يحكم خطوط حركته في الحكم، من خلال بيان الأولويَّات الَّتي ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها في كلّ ما يتحركون فيه، باعتبار الأهميَّة الكبرى لها.
التَّعلُّمُ من عليّ (ع)
ونحن، أيُّها الأحبَّة، بحاجة دائماً الى أن نستمع إلى عليّ (ع)، وأن نتعلَّم منه، لأنَّ عليّاً يمثّل في وعيه للقرآن قرآنَ العقل في فكره، وقرآن العاطفة في قلبه، وقرآن الحركة في كلّ سلوكه.
لذلك، علينا دائماً أن نجلس إليه، وأن نستنطقه في كلّ قضايانا ومشاكلنا، لأنَّ عنده الحلّ لمشاكلنا، ولأنَّ عنده الرَّأي الأصوب في كلّ قضايانا. وعلينا دائماً أن نكون مع عليّ الفكر، ومع عليّ الرّوح، ومع عليّ المنهج، أكثر مما نكون مع عليّ السَّيف، لأنَّ عليّاً باق بروحه وفكره ومنهجه.
وعليّ يريد للنَّاس الَّذين يتَّبعونه في خطّ الإسلام، أن يحملوا نهجه وفكره، وأن يسموا إلى المواقع العالية في الحياة.. إنَّ عليّاً لا يريد أتباعاً جاهلين، ولا أتباعاً متخلّفين، ولا أتباعاً عاصين لله ومنحرفين عن خطّه.. لقد كان عليّ أتقى الأتقياء بعد رسول الله (ص)، ويريدنا أن نكون الأتقياء في حياتنا، كان المخلص ويريدنا أن نكون المخلصين، كان الصَّادق الأمين، ويريدنا أن نكون رجال الصّدق ورجال الأمانة ورجال الحقّ، فقد كان عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ.
ولذلك، إذا سمعتم كلام عليّ (ع) يتلى عليكم، فحاولوا أن تتفهَّموه، وأن تتبعوه وتجسّدوه في حياتكم، وإذا عرفتم سيرة عليّ (ع)، فعليكم أن تتَّبعوا سيرته في كلّ ما تحرَّك فيه، لأنَّ عليّاً لا يريد لكم إلَّا أن تسيروا معه إلى الله، حيث رضوان الله وجنَّته.
كتابُ الهدى والخير
قال عليّ (ع) في "نهج البلاغة" في أوَّل أيَّام خلافته مخاطباً المسلمين:
"إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ - بيّن لكم فيه كلَّ خطوط الخير وتفاصيله، وكلّ خطوط الشَّرّ وتفاصيله - فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ - الَّذي تحدَّث إليكم القرآن عنه - تَهْتَدُوا - لأنَّ الهدى بالخير القرآنيّ، فالله لم يأمرنا بشيء من الخير، ولم يوجّهنا إلى شيء من الخير، إلّا ليصلح لنا أمر دنيانا وآخرتنا - وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا"، اي انصرفوا وأعرضوا عن طريق الشَّرّ، حتّى تحصلوا على العدل.
وبعد ذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا أن نقرأ القرآن قراءة الإنسان الباحث، نتفحَّص كلّ آية من آياته، لنكتشف فيها عناوين الخير، لأنَّ الله كلَّفنا أن نعمل بالخير وندعو له: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]، وهكذا، أن نقرأ في كلّ آية ما حرّمه الله، وما بيّن فيها سخطه، لنبتعد عنه، من أجل أن نحصل على الخطّ المستقيم في كلّ خطّ السَّير.
وبهذا نعرف أنَّ الإمام (ع) يريد أن يقول لنا في أوَّل خلافته: اجعلوا القرآن أمامكم في كلّ ما تتحركون فيه، لتقرأوا آياته وتعرفوا الخير الَّذي يدلّكم عليه في الدّنيا والآخرة، وحتَّى تعرفوا الشّرّ الَّذي يُبعدكم عنه في الدّنيا والآخرة.
ولذلك، ينبغي، أيُّها الأحبَّة، في قراءتنا للقرآن، أن تكون قراءة التّلميذ لما يريد أن يتعلَّمه، وقراءة الضَّالّ الَّذي يريد أن يهتدي، وقراءة المنحرف الَّذي يريد أن يستقيم، لأنَّ الله جعل القرآن نوراً للعقل، ونوراً للقلب، ونوراً للطَّريق الَّذي يسلكه النَّاس، وقد أرادنا الله أن نتدبَّره: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمَّد: 24].
الحثُّ على أداءِ الفرائض
ثمَّ بعد ذلك، يؤكّد الإمام عليّ (ع) فرائض الله: الصَّلاة والزكاة والصَّيام والحجّ والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكلّ ما فرضه الله على العباد في شؤونهم الخاصَّة والعامَّة.
يقول (ع): "الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ!". وهذا الأسلوب هو أسلوب الاستغاثة، كما عندما يقال: "الأيتام الأيتام"، فهو الأسلوب الّذي يستخدم في اللّغة العربيَّة لتوجيه الانتباه إلى أهميّة الموضوع، ودفع النّاس إلى الالتزام به.
"الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ، أَدُّوهَا إِلَى اللَّهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ". لاحظوا قيمة هذه الفرائض في مسألة المصير؛ أن تصلّي صلاتك كما يريد الله لها أن تُصلَّى، وتخشع فيها، وتحافظ عليها، ولا تكون ساهياً عنها، وأن تصوم صيام الأتقياء، وتؤدّي الخمس والزّكاة، وتحجّ وتعتمر، وتؤدّي كلّ ما أوجبه الله عليك، لأنَّ الفرائض أمانة الله عندك، وعليك أن تؤديها إلى الله، فإذا أدَّيتها إلى الله كاملة غير منقوصة؛ إذا صلَّيت كما يجب أن تكون الصَّلاة، وإذا صمت كما يجب أن يكون الصّيام، وإذا زكَّيت كما يجب أن تكون الزكاة، وإذا حججت كما يجب أن يكون الحجّ، فإنَّ ذلك يؤدّي بك إلى أن يفتح الله لك كلَّ أبواب جنَّته {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطفّفين: 26].
فالإمام عليّ (ع) الَّذي هو أعرف بالإسلام وبالحقّ وبكتاب الله، ويقول إنَّكم إذا أدَّيتم الفرائض فالجنَّة أمامكم، فهذا يقتضينا أن نعتبر قضيَّة الصَّلاة من أهمّ الأشياء في حياتنا، وأن نحرص، إذا لم نكن معذورين، على أن نصوم شهر رمضان ولا نقصّر فيه، وأن نحجَّ بيت الله، وأن نخرج الحقوق من أموالنا، إذا كنَّا راغبين في الجنَّة، لأنَّ طريق الجنَّة هو أداء الفرائض.
حلالُ الله وحرامُه
وبعدما تحدَّث عن الواجبات، يقول (ع): "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ – فالكلّ يعرف الحرام الَّذي حرّمه الله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}[المائدة: 3]، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: 90]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء: 32]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة: 38]... إلخ، فالأشياء الَّتي حرَّمها الله لا يجهلها أحد، ويعرفها كلّ النَّاس.
- وَأَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ - أي أنَّه أحلَّ الأشياء الَّتي لا عيب فيها، أي الّتي لا يدخلها العيب ولا النّقصان.
أفضلُ الحرماتِ عندَ الله
ثمّ - وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا – فكم للكعبة من حرمة عند الله!؟ وكم للأماكن المقدَّسة والمساجد من حرمة عند الله!؟ هل يجوز للإنسان أن يهتك حرمة الكعبة، أو أن يهتك حرمة المسجد؟ ومع ذلك، يقول (ع) إنَّ حرمة المسلم عند الله أفضل من حرمة الكعبة، وأفضل من حرمة المساجد.
- وَشَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا - فإذا كنّا نشعر بأنّ الَّذي يهتك حرمة الكعبة ينبغي أن يعاقَب، فكيف من يهتك حرمة المسلم؟! وينقل عن الأئمّة (ع)، أحاديث في أنَّ حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة.
لذلك، في هذا المجال، علينا أن نعرف أنَّنا عندما يعيش بعضنا مع بعض، رجالاً ونساءً؛ الإنسان في بيته، الزَّوجة مع زوجها، والزَّوج مع زوجته، والجار مع جاره، والشَّريك مع شريكه، والقريب مع قريبه، وكلّ المسلمين بعضهم مع بعض... عليك أن تعرف أنَّك إذا هتكت حرمة مسلم وأذيته، فإنّك بذلك ترتكب جُرماً أكبر من جُرم هتك حرمة الكعبة.
لقد جاء الدين من أجل الإنسان، ومن أجل أن يعلّم النَّاس كيف يحفظ بعضهم حرمات بعض، وكيف يمكن أن يكون الإنسان آمناً على دمه وعرضه وماله في مجتمع المسلمين، بل وأكثر من هذا، كيف يمكن للإنسان الَّذي يعيش مع المسلمين في أمانهم، أن يكون أميناً على ماله ودمه وعرضه...
المسلم مصدر أمان
ثمَّ ينقل (ع) كلمة النَّبيّ (ص): "فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ"، أي أنَّ المسلم ليس فقط الّذي يصلّي ويصوم ويحجّ... المسلم هو الَّذي إذا عاش في بيته أو محلّته وفي وطنه ومع النَّاس، فإنَّ النَّاس يشعرون أنَّه ما دام هذا مسلماً، فلا يمكن أن يمدّ يده إلينا بالسّوء، ولا يمكن أن يغتابنا، أو يظلمنا بكلمة، أو يؤذينا بشيء.
فإذا أردنا أن نقلب الحديث، فنقول: من لا يسلم المسلمون من يده ولسانه فليس مسلماً. وهذا ليس كلامي، بل كلام النّبيّ (ص) وينقله الإمام عليّ (ع).
أما أن يقول أحد: نريد أن نجامل فلاناً لأنّنا نخاف من لسانه! فلسانه حادّ، فهو يسبّ ويشتم ويغضب وكذا، أو أنّهم يخافون من ضربه وأذيّته، والنّاس تخاف منه، فهذا ليس مسلماً، وإن صام وصلّى، لأنَّ المسلم، كما يبيّن الإمام (ع)، هو "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ".
نعم، {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، فإذا سبَّك أحد فلك الحقّ أن تسبّه، وإن كان {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، إذا ضربك فيحقّ لك أن تضربه، ضربةً بضربة، وليس أن تحمل المسدَّس عليه أو ما أشبه ذلك - وَلَا يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا يَجِبُ".
التّفكير في الموت
ثم يوجّه الإمام (ع) النَّاس، ويقول لهم إنَّكم وأنتم تعيشون هذه الحياة، فكّروا في الموت، وأنَّ هذه الحياة لن تدوم لكم، وسوف تنتهي، وسيكون بعدها حساب، فلا تحاولوا أن تجعلوا حياتكم حياة باطل، أو أن تجعلوها حياة الحرام والأذى.
يقول (ع): "بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ - وهو الشَّيء الَّذي يعمُّ كلَّ النَّاس: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34] - وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ – فالموت سيأتيك كما أتى لغيرك - فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ – فكما رحل أجدادنا وآباؤنا وأصدقاؤنا وأقاربنا ومعارفنا، فسنرحل نحن أيضاً.
- وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ – فلكلّ واحد من النّاس ساعة، وإذا جاءت ساعتهم {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف: 34]، فكلّ واحد هناك شرطيّ خلفه، وهو ملك الموت الّذي يقوده إلى الآخرة...
- تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا - يعني لا تُثقلوا من بضاعة الحرام والباطل والظّلم، فسيكون عليها جمرك، وأنتم تعرفون أنَّ الإنسان عندما يمرّ على الحدود ويكون معه الكثير من البضاعة فسيطول مقامه، أمَّا إذا لم يكن معه شيء فسيمرّ بسرعة - فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ"، لأنَّ كلّ واحد يسير خلف الثَّاني في الموت.
تقوى الله في البلادِ والعباد
ثمَّ يقول (ع): "اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ - فالله سوف يسأل كلَّ إنسان عن النَّاس الّذين هم تحت مسؤوليَّته، كزوجته، وأولاده، والنَّاس من حوله، والموظَّفين عنده، عن العمَّال، والجيران، وكلّ النّاس الّذين تتعلَّق مسؤوليَّته بهم، سيسأله كيف كان معهم؛ هل كان يتَّقي الله ويخافه في تصرّفاته معهم، أم كان يظلم زوجته وأولاده والجيران والضّعفاء من حوله؟
- وَبِلَادِهِ - فعندما نعيش في أرض الله، فسوف يسأل الله الإنسان عن كلّ ما عمله فيها؛ هلّ عمَّر أم خرّب؟ هل أساء إلى بلاده أم أحسن إليها؟ هل مكَّن المحتلّين الكافرين من أن يحتلّوها؟ هل أخصبت البلاد معه أم أجدبت؟... فنحن مسؤولون عن أن نجعل البلاد صالحة آمنة يعيش النَّاس فيها بسلام.
- فَإِنَّكُمْ مَسْؤولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ"، فحتَّى البهائم سيسألك الله غداً عنها: لِمَ ضربت هذه البهيمة؟ لم أجعتها؟ لماذا أذيتها؟
وهكذا ورد في بعض الأحاديث أنَّ الله يقول "ليَنتصِفَنَّ للجمَّاء من القرناء"، أي أنَّه يوم القيامة، سوف ينتصف للشَّاة الَّتي لا قرون لها، من الشَّاة القرناء الَّتي نطَحَتْها.
وقد ورد في حديثٍ أنَّ الله عذَّب إنساناً بهرّة حبسها في بيتٍ وأجاعها حتَّى هلكت، فالله يعذّب هذا الإنسان بذلك، لأنَّ الله لا يقبل الظّلم لا على الإنسان ولا على الحيوان.
الآن تستطيع أن تذبح الخروف، لأنَّ الله حلّل لك ذبحه وأكله، ولكن لا يجوز لك أن تحرقه وهو حيّ، أو أن تعذّبه، حتَّى إنَّه إذا أراد أحد أن يذبح، فعليه أن يحسن الذَّبح، وأن يحدّ شفرته، حتَّى لا يعذّب الخروف أو العجل.
ثمَّ يختم الإمام كلامه: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَلَا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ".
وصيَّةٌ للحاضرِ والمستقبل
هذه، أيُّها الأحبَّة، وصيَّة الإمام في الماضي، وهي وصيَّته في الحاضر وفي المستقبل، لأنَّ الإمام يتكلَّم عن المسؤوليَّة الإنسانيَّة في كلّ حركة الحياة. فإذا كنَّا مع الإسلام ومع الله ومع محمَّد (ص)، ومع عليّ وأهل بيته، فعلينا أن نجعل كلام عليّ برنامجنا في الدنيا، حتَّى نحصل على رضا الله، وعلى جنَّته في الآخرة.
الخطبة الثَّانية
 
عباد الله، اتَّقوا الله، وانفتحوا على كلّ أوامره ونواهيه، لتطيعوه في كلّ ما أمر به، وفي كلّ ما نهى عنه، وانطلقوا فيما أراده لكم من العدل في كلماتكم وأفعالكم، سواء كان ذلك مع القريب أو مع البعيد، وسواء كان ذلك مع الصَّديق أو مع العدوّ، لأنَّ الله يريد لنا أن نكون العادلين مع النَّاس كلّهم، حتَّى مع أعدائنا {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[المائدة: 8]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ}[الأنعام: 152]. لذلك كونوا مع العدل والعادلين، وكونوا ضدّ الظّلم والظَّالمين.
انطلقوا في مسؤوليَّاتكم في الحياة، ليحدّد كلّ واحد منكم مسؤوليَّته، ليتعلَّم كلّ واحد منكم حدود الله، فيما يريد الله منه أن يقف عنده، وفيما يريد منه أن يتحرَّك في اتجاهه، لأنَّنا إذا جهلنا حدود الله، ولم نعرف ما يريد لنا أن نقف عنده، وما يريد لنا أن نتحرَّك فيه، فقد نتعدَّى حدوده نتيجة جهلنا، ونترك ما أرادنا الله السَّير فيه.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، من التَّقوى أن نتعلَّم واجباتنا، وأن نتعلَّم المحرَّمات، حتَّى نستطيع أن نُعذر إلى الله في ذلك كلّه.. لا تهملوا أمر التَّعليم؛ أن تتعلَّموا تكاليفكم الشَّرعيَّة، سواء بالكتاب تقرأونه، أو بالموعظة تسمعونها، أو بكلّ جهاز يعطيكم علماً لما كلَّفكم الله به، لأنَّ بعض النَّاس قد يقف عن كثير من مسؤوليَّاته لأنَّه يجهلها.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ كلَّ الحياة تتحرَّك تحت المسؤوليَّة، ليس هناك أيّ مكان، أو أيّ زمان، أو أيّ موقع، إلَّا ويحدّد الله لك فيه ما تفعل وما تترك.. إنّنا في هذه الحياة عباد الله، وعلينا أن نطيع الله في كلّ شيء {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36].
ومن مسؤوليَّاتنا أن نحمل همّ المسلمين، وأن نساعد كلَّ مظلوم بقدر إمكاناتنا، وأن نساعد كلّ محروم بقدر إمكاناتنا، وأن نحاول أن يعطي كلّ واحد منّا للنَّاس من عقله وقلبه وروحه.
وهكذا نريد أن يعيش الإنسان يومه وهو يفكّر في مسؤوليَّته، وأن ينتهي يومه وهو يفكّر في مسؤوليَّته.
تعالوا لنواجه ماذا هناك في عالمنا مما قد يتَّصل ببعض مسؤوليَّاتنا.
اليومُ العالميُّ لحقوق الإنسان
في هذه الأيَّام، يحتفل العالم بـالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد اجتمعت الأمم المتَّحدة قبل خمسين سنة، في العاشر من كانون الأوَّل، ونظَّمت ما سُمّي بإعلان حقوق الإنسان، الَّتي قرَّرت فيه الحقوق الإنسانيَّة للإنسان، وأُريد من كلّ الدّول الَّتي تنتمي إلى الأمم المتَّحدة أن تحقّقها في شعوبها، وأن تدعو إليها وتتعامل معها.
من بين هذه الحقوق، أنَّ لكلّ فرد الحقّ في الحياة والحريَّة والأمن على شخصه، لا يجوز إخضاع أحد للتَّعذيب أو للمعاملة القاسية أو اللَّا إنسانيَّة، لا يجوز اعتقال أيّ إنسان أو حجزه أو أيّ شيء يثقله في حياته تعسّفاً، فلكلّ شخص حقّ التَّمتّع بحريَّة الرَّأي والتَّعبير وحقّ التعلّم والعمل، فلا يجوز لنا أن نمنع إنساناً في أيّ عمل يعمله...
هذه هي بعض حقوق الإنسان، ونحن نعلم أنَّ الإسلام قد حفظ للإنسان حقوقه، وربما تختلف حقوق الإنسان في الإسلام عن حقوق الإنسان في شرعة الأمم المتَّحدة في بعض المجالات، وتتَّفق معها في مجالات أخرى.
استغلالٌ من دولِ الاستكبار
وليس الموقفُ موقفَ البحث عن تفاصيل حقوق الإنسان، ولكنَّنا نريد أن نقول إنَّ المشكلة هي أنَّ الأمم المتَّحدة الَّتي شرَّعت حقوق الإنسان، تخضع لدول استكباريَّة كبرى تعمل على أساس أن تُسقِط حقوق الإنسان المستضعف، من أجل مصالحها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة وما إلى ذلك.
فقد عملت الدُّول الكبرى على أن تحرم المستضعفين من المسلمين وغير المسلمين، من أن يحصلوا على ثرواتهم، ليقوموا بإدارة كلّ شؤونهم في ذلك. فنحن نرى، مثلاً، أنَّ البترول في العالم الإسلاميّ وفي العالم المستضعف، تسيطر عليه الدّول الكبرى، وفي مقدَّمها أمريكا، حتَّى إنَّ أغلب الحروب الَّتي حدثت في الماضي، وتحدث في الحاضر وفي المستقبل، تتحرَّك على أساس الاستيلاء على منابع البترول، من أجل حرمان أصحاب هذه المنابع وشعوبها من نتائجها الَّتي يمكن أن تنتج لهم الرّخاء، وليستعملها أيضاً المستكبرون بعضهم ضدّ بعض، وفي صراع بعضهم ضدّ بعض، حتَّى إنَّنا نجد أنَّ أمريكا تعمل على السَّيطرة على كلّ بترول العالم، حتَّى تستطيع أن تخضع أوروبّا واليابان والدّول الأخرى غير البتروليَّة، لتضغط عليها من خلال ذلك، باعتبار أنَّ البترول يمثّل الشّريان الحيويّ للدّول.
ازدواجيَّةُ عناوين
هكذا نجد أنَّ الأمم المتَّحدة الَّتي شرَّعت حقوق الإنسان، والَّتي تمنع من أن يُحتَلَّ أيّ بلد، أو أن يُطرَدَ أيّ شعب من بلده، هذه الأمم المتَّحدة اعترفت في السَّنة نفسها بكيان إسرائيل في فلسطين، ونحن نعلم أنَّ إسرائيل قامت على أنقاض الشَّعب الفلسطيني، ولا تزال تقوم على أنقاض هذا الشَّعب برعاية الأمم المتَّحدة، وفي رئاستها أمريكا الَّتي تُصادِر الأممَ المتَّحدة لحساب سياستها في العالم. نحن نعرف أنَّ أمريكا والاتحاد السّوفييتي سابقاً والدّول الأوروبيَّة، كانت أوَّل من اعترف بإسرائيل، وهم يعرفون أنَّ الفلسطينيّين من العرب كانوا هم الأكثريَّة، وكان اليهود أقليَّة، ومع ذلك، سهّلوا لهم وأعطوهم القوَّة وهم ينادون بحقوق الإنسان.
لا علاقةَ لأمريكا بحقوقِ الإنسان
نحن نلاحظ في هذه الأيَّام، أنَّ إسرائيل تعمل بكلّ ما عندها من قوَّة من أجل أن تمنع الفلسطينيّين من حقّ تقرير المصير، في الوقت الَّذي تعمل أمريكا على منع إدانة إسرائيل على قصفها المدنيّين الآمنين في لبنان واحتلالها لبنان والجولان، وتعمل على إعطائها القوَّة وحمايتها من أيّ إدانة لها في الأمم المتَّحدة.
ونحن نلاحظ، أيضاً، أنَّ أمريكا الآن تنادي بحقوق الإنسان، ولكنَّها تحاصر الشَّعب العراقيَّ الَّذي يعاني الموت والجوع، في سياسة ظاهرها أنَّها تقف ضدّ حاكم العراق، ولكنَّها في الواقع تعمل على حمايته من كلّ من يريد إسقاطه.
وهكذا نجد أنَّها تحاصر السّودان وتحاصر ليبيا، وتعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل إثارة الحروب في أفريقيا، ليقتل النَّاس هناك بعضهم بعضاً على مستوى الملايين، من أجل إدارة الصّراع الأمريكيّ الفرنسيّ، أو إدارة الصّراع الأمريكيّ الأوروبيّ.
لذلك، نحن نلاحظ أنَّ حقوق الإنسان شُرّعت في الأمم المتَّحدة ليستفيد منها الكبار في الضَّغط على الشّعوب الصَّغيرة والشعوب المستضعفة، ليسجّلوا على هذا الشَّعب أو ذاك، أو على الحاكم هنا أو هناك، بأنّه ضدّ حقوق الإنسان، وأنَّه ينتهك حقوق الإنسان.
الأممُ المتَّحدةُ شاهدُ زور
ونحن نعلم، أيُّها الأحبَّة، أنَّ هناك الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد العربيَّة والبلاد الإسلاميَّة، ولكن ممن؟ من خلال هؤلاء الحكَّام والأنظمة الَّتي رعتها وعملت على تأسيسها الدّول الكبرى، ولا سيَّما الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. نحن نعرف أنَّ حلفاء أمريكا وعملاءها في العالم الثَّالث، هم الَّذين يهدرون حقوق شعوبهم، ونجد أنَّ أمريكا لا تحرّك ساكناً ضدَّهم، بل إنَّ الَّذين يعملون في مواجهتهم، يواجهون الكثير من العقوبات ومن المشاكل.
لذلك، نحن نقول إنَّ الأمم المتَّحدة هي شاهدُ زور على انتهاكات حقوق الإنسان باسم المحافظة على حقوق الإنسان.
ونحنُ نعتقدُ أنَّ الاحتفال بحقوق الإنسان الآن، لا بدَّ من أن يتضمَّن الحديث عن الدّول الكبرى الَّتي تسيطر على مجلس الأمن، وكيف تنتهك حقوق الإنسان المستضعف في سياسته واقتصاده وأمنه ومواقعه الاستراتيجيَّة.
إنَّ أمريكا تتحدَّث دائماً عن حقوق الإنسان، ولكنَّها كلمة حقّ يراد بها باطل، وعلينا أن ننتبه إلى ذلك كلّه، وأن نعمل في الوقت نفسه على أن تكون حقوق الإنسان عندنا مصونة، لا لأنَّ شرعة الأمم المتَّحدة تفرض ذلك، ولكن لأنَّ الله يفرض ذلك، كما سمعنا في كلام أمير المؤمنين (ع) الَّذي حدَّثنا عن النَّهج الإسلاميّ بأنَّ حرمة المسلم هي أفضل الحرم كلّها، حتَّى إنَّها أفضل من الكعبة.
لذلك، نحن نحتفل بحقوق الإنسان على أساس تأكيده في حياتنا، من خلال الشّرعة الإسلاميَّة في ذلك. وعلينا أن نتعاون في هذا الأمر؛ بأن نتواصى بالحقّ وأن نتواصى بالصَّبر، أن لا نسمح لإنسان في مجتمعنا بأن يَضطهد ضعيفاً، وبأن يُعين مستكبراً وما إلى ذلك.
ضغط أمريكيّ على الفلسطينيّين
وهذا ما نلاحظه أيضاً، أيُّها الأحبَّة، في فلسطين. ماذا نجد هناك؟ هناك استيلاد مستوطنات جديدة، وتوسيع المستوطنات القائمة، وهناك حملات الاعتقال، وإطلاق يد المستوطنين في قتل الفلسطينيّين، والإصرار على عدم الإفراج عن المعتقلين السياسيّين هناك.
في الوقت الَّذي يجهد الأمريكيّون على إبراز زيارة الرئيس الأمريكيّ لفلسطين بطريقة احتفاليّة، للإيحاء بأنَّ الملفَّ الفلسطينيّ بات على طريق الحلّ، أو أوشك على ذلك، ولكن مع تأكيد أمريكا - حتَّى لا يفهم النَّاس القضيَّة خطأً - أنَّ زيارة كلينتون إلى غزَّة أو إلى فلسطين، لا ترمي إلى الاعتراف بتطلّعات الفلسطينيّين لإنشاء دولة فلسطينيَّة مستقلَّة، بل لتُطَمئن اليهود بأنَّ الإدارة الأمريكيَّة لا تريد أن تضغط على اليهود هناك، ولكنَّها تريد أن تضغط على الفلسطينيّين، من أجل أن يُوقِّع كلينتون توقيعاً لا يستطيع أحد أن يتجاوزه مع الفلسطينيّين في إلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني الَّذي وُضع على أساس أنَّ فلسطين للفلسطينيّين وإنهاء دولة إسرائيل.
لقد جاء حتَّى يُشهِدَ اليهود على إخلاصه لهم، فلعلَّ هذه الشَّهادة يمكن أن تعطيه قوَّة في المشكلة الَّتي يعيشها. وبذلك نفهم أنَّ أمريكا لا تعمل، ولو بنسبة الواحد في المائة، لإعطاء الشَّعب الفلسطيني ولو بعض حقّه، لأنَّها التزمت إسرائيل أكثر مما تلتزم بأيَّة ولاية من ولاياتها.
العودةُ إلى خيارِ الانتفاضة
إنَّنا نعتقد أنَّ على الشَّعب الفلسطيني الَّذي بدأ باستعادة الانتفاضة من جديد، ما جعل قادة أمن العدوّ يهدّدون بقبضة حديديَّة، وبالمزيد من القتل والتدمير لهذا الشعب.. إنَّ على الشَّعب الفلسطينيّ أن يواصل هذه الانتفاضة، وإنَّ على الفصائل الفلسطينيَّة التي تعقد مؤتمرها غداً في دمشق، أن تعمل لمزيد من الوحدة والتَّخطيط للمستقبل، بعيداً من الأساليب التقليديَّة الحماسيَّة والانفعالية التي تجاوزها الزمن، وتجديد الانتفاضة بوسائل جديدة. وعلى العرب والمسلمين أن يعملوا من أجل دعم مسيرة هذا الشَّعب نحو الحريَّة والاستقلال.
الغطاءُ الأمريكيُّ للاحتلال
وإنَّنا نحذّر من الأسلوب الأمريكيّ الجديد القديم الَّذي يعمل على تعطيل تنفيذ القرار 425، ليربط تنفيذه بحلّ عامّ في المنطقة على أساس المفاوضات، بعيداً من مضمونه الَّذي ينصّ على الانسحاب من لبنان من دون قيد أو شرط، لإبقاء الاحتلال الإسرائيليّ بغطاء أمريكيّ ريثما تتحرَّك المفاوضات مع لبنان وسوريا بتعقيدات أكبر من المفاوضات مع الفلسطينيّين. بمعنى أنَّ أمريكا تقول إنَّه حتَّى لو أنَّ الإسرائيليّين بفعل ضغط المقاومة، أرادوا الانسحاب، كما تنطلق صيحات الانسحاب هناك في داخل فلسطين على أساس الانسحاب من طرف واحد، ولكنَّ أمريكا تمنع اليهود لو أرادوا أن ينسحبوا، من أن ينسحبوا بدون قيد وشرط، وهي الَّتي صوَّتت على القرار 425، لأنَّها تريد أن تحصل على مكسب لإسرائيل ولنفسها من خلال هذا الانسحاب، ولذلك هي تربط الانسحاب بالمفاوضات، فما دام لا مفاوضات فلا انسحاب، وليبق الاحتلال الإسرائيليّ للبنان على أساس القرار الأمريكيّ الَّذي صرَّح به أكثر من مسؤول أمريكيّ، وآخرها تصريح وزيرة الصحَّة الأمريكيَّة التي جاءت إلى لبنان قبل أيَّام.
الحذرُ من التَّحرّكِ الأمريكيّ
علينا أن نراقب بحذر هذا الإقبال الأمريكيّ على لبنان. فأمريكا هي الَّتي دمَّرت لبنان، لأنَّ حرب لبنان كانت بتخطيط أمريكيّ، وهي الّتي عملت ولا تزال تعمل على أن تعطي إسرائيل كلَّ الحريَّة في أن تدمّر ما تدمّره من لبنان. فما سبب هذه الصَّحوة الأمريكيَّة الجديدة؛ من وزير التّجارة الأمريكيّ، إلى وزيرة الصحَّة الأمريكيَّة، إلى مدير البنك الدَّوليّ، والتَّصريحات من هنا وهناك؟!.. فماذا يحدث؟ وأكيد، نحن لا نستطيع أن نقول إنَّ أمريكا صارت تحبّ لبنان، لأنّنا دائماً نقول إنَّ مشكلة أمريكا أنَّها عندما تحبّ شعباً، يعني أنّها ستقتلته أكثر، على طريقة "ومن الحبّ ما قتل". لذلك علينا أن نراقب الوضع بحذر... نحن نحبّ لكلّ شعوب العالم أن تكون معنا، لكن عندما يتحرَّك الشَّيطان ليظهر لك عواطفه، فعليك أن تعرف أنَّه لا يفكّر فيك بالخير، ونحن نعرف أنَّ الإمام الخميني (رض)، وهو الواعي للّعبة الأمريكيَّة جيَّداً، قال إنَّ أمريكا هي الشَّيطان الأكبر.
لذلك، علينا أن نراقب بحذر هذا الإقبال الأمريكيّ على لبنان، والَّذي لا يتحرَّك لمصلحة اللّبنانيّين، بل لمصلحة أمريكا في صراعها مع النّفوذ الفرنسيّ والأوروبيّ في لبنان، لأنَّ وزير التّجارة الأمريكيّ قال: جئنا لنوقف النفوذ الفرنسيّ في لبنان، ليكون النفوذ الأمريكي هو الَّذي يحكم لبنان.
وفي هذا الجوّ، فإنَّ أمريكا، من خلال وزيرة خارجيَّتها، هدَّدت روسيا بحرمانها من مساعدات بملايين الدّولارات إذا لم توقف تعاونها الصّاروخيّ مع إيران، وأبدت قلقها من استقدام إيران لعلماء روس، ما يشكّل - على حدّ زعمها - مخاطر على صعيد انتشار الأسلحة في المنطقة. إنَّ أمريكا لا تريد لإيران أن تملك وسائل القوَّة للدّفاع عن نفسها، ولإسقاط الحصار الأمريكيّ ضدَّها اقتصاديّاً وعسكريّاً، ولكنَّنا نعتقد أنَّ المصالح الدوليَّة، إضافةً إلى صلابة الموقف الإسلاميّ في إيران، سوف يُسقط الخطَّة الأمريكيَّة، إن عاجلاً أو آجلاً.
غاراتٌ وهميّةٌ واستعراضُ قوَّة
ونصل إلى لبنان. أوّلاً: لقد عاش النَّاس في هذه الأيَّام تحت تأثير الغارات الوهميَّة، ولا سيَّما فيما بعد منتصف اللَّيل، والّتي تمثَّلت بوحشيَّة كبيرة جدّاً، لأنَّها أفزعت الأطفال وكلّ النَّاس النَّائمين، والَّذين انطلقوا من بيوتهم في الشَّوارع من أجل أن يحصلوا على الأمن، ظنّاً منهم أنَّ هناك عملاً عسكريّاً إسرائيليّاً.
إنَّ هذا يدلّل على الوحشيَّة الأمريكيَّة الَّتي لم تحرّك ساكناً ولو بكلمة في استنكار ذلك، وعندما سُئل السَّفير الأمريكيّ عن الموضوع، تحدَّث بكلمات مائعة لا يفهم أحد منها شيئاً، ولم يستنكر ذلك بأيَّة كلمة، ولو على نحو المجاملة.
إنَّنا نحبُّ أن يعرف النَّاس من خلال ذلك، أن يعرف أطفالنا وشبابنا ونساؤنا ورجالنا، ما معنى إسرائيل، وما معنى أمريكا الَّتي تدعم إسرائيل. ولكن إذا كان النَّاس قد أخذهم الخوف من أنَّ هناك عملاً عسكريّاً كبيراً في لبنان من خلال إسرائيل، أو أنَّ هناك إمكانيَّة لقصف بيروت أو الضَّاحية، فإنَّني أحبُّ أن أقول، من خلال ما أملكه من معطيات سياسيَّة دقيقة، إنَّ أيَّ عمل عسكريّ كبير في لبنان، أو أيّ قصف لأيّ موقع من مواقع العاصمة أو من مواقع الضَّاحية، ليس وارداً، على الأقلّ في هذا المستقبل المنظور، لأنَّه ليست هناك أيَّة ظروف سياسيَّة وأمنيَّة ملائمة لذلك. وقد عرفت إسرائيل أنَّ الشَّعب اللّبنانيّ قد واجه كلَّ أساليبها، واستطاع أن يهزم كلَّ أساليبها، وأن يصمدَ أمام ذلك.
أيُّها الأحبَّة، إنَّها عمليَّة غارات وهميَّة أُريد من خلالها عرض عضلات إسرائيليَّة للقوَّة، لا من أجل النَّاس هنا، ولكن من أجل أن يقولوا لناسهم الَّذين يطالبونهم بالانسحاب من دون قيد أو شرط، إنَّنا لا نزال نملك القوَّة الَّتي تخيف اللّبنانيّين بطريقة وبأخرى. ولكنَّ هذا العمل هو عمل الجبان، وليس عمل الَّذي يملك القوَّة.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نشعر أنَّ إسرائيل قد عاشت الآن مأزقاً كبيراً بفعل ضربات المقاومة، ونحن نعرف أنَّ المجاهدين يعرفون كيف يتعاملون مع التَّهديدات العسكريَّة الإسرائيليَّة، في الوقت الَّذي يقف الشَّعب اللّبنانيّ وحكومته في عهدها الجديد، ضدّ كلّ الأساليب الصّهيونيَّة الضَّاغطة، ومع مقاومته الباسلة.
لبنان: بينَ التَّخطيطِ والتَّنفيذ
أمَّا على المستوى الدَّاخليّ، فقد سمعنا كلاماً جيّداً، وسنسمع، كما قيل لنا، كلاماً جيّداً في البيان الوزاريّ المستقبليّ، ولكن نحن ننتظر الكثير من العمل، لأنَّنا في كلّ تاريخ لبنان، سمعنا الكثير من الكلام، ورأينا القليل من العمل، ورأينا كثيراً من الكلام يبتعد عن هدفه وينحرف عن معانيه. لذلك، نحن نأمل أن يُترجَمَ هذا الكلام الَّذي سمعناه والَّذي سنسمعه، إلى سياسة اقتصاديَّة واستراتيجيَّة شاملة، في تخطيطٍ دقيقٍ على أساس دراسة الأولويَّات.
ونتساءل: لماذا لا تعود وزارة التَّخطيط لدراسة المشاكل المتراكمة في البلد، والَّتي لا تُحلّ إلَّا بالتَّخطيط والتطلّع إلى المستقبل، من خلال رصد الماضي وإمكانات الحاضر؟! إنَّنا نريد لكلّ الفعاليَّات الاقتصاديَّة والسياسيَّة في البلد، من موالين ومعارضين وخبراء، أن يتكاملوا من أجل عمليَّة الإنقاذ والتَّغيير، ونريد للحكومة اللُّبنانيَّة أن تعلن للّبنانيّين حجم الدّيون المتراكمة وكيفيَّة سدادها والخطَّة المرسومة لذلك، لتنال بذلك، بالصَّراحة مع الشَّعب في كلّ نقاط الضّعف، وفي كلّ نقاط القوّة، في كلّ السلبيَّات والإيجابيَّات، لتنال ثقة الشَّعب كلّه، لا ثقة المجلس النيابيّ فحسب، فإنَّ النَّاس يبحثون عمَّا يؤكّد لهم الثّقة بالعهد الجديد، من خلال الخطط الواقعيَّة والوقائع والإدارة القويَّة الفاعلة، ليتكامل الشَّعب والحكم والحكومة من أجل لبنان جديد قائم على أساس الحريَّة المسؤولة والعدالة، وتحرير البلد من الاحتلال الإسرائيليّ على أساس وحدة المسارين اللّبناني والسوري.
والحمد لله ربّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته في مسجد الإمامين الحسنين (ع)، بتاريخ: 11/12/1998م.
 
سنتوقّف اليوم عند جزء من خطبة لعليّ (ع) استقبل بها خلافته، عندما بويع بالخلافة، والّتي أراد من خلالها أن يبيّن العنوان الكبير الَّذي يحكم خطوط حركته في الحكم، من خلال بيان الأولويَّات الَّتي ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها في كلّ ما يتحركون فيه، باعتبار الأهميَّة الكبرى لها.
التَّعلُّمُ من عليّ (ع)
ونحن، أيُّها الأحبَّة، بحاجة دائماً الى أن نستمع إلى عليّ (ع)، وأن نتعلَّم منه، لأنَّ عليّاً يمثّل في وعيه للقرآن قرآنَ العقل في فكره، وقرآن العاطفة في قلبه، وقرآن الحركة في كلّ سلوكه.
لذلك، علينا دائماً أن نجلس إليه، وأن نستنطقه في كلّ قضايانا ومشاكلنا، لأنَّ عنده الحلّ لمشاكلنا، ولأنَّ عنده الرَّأي الأصوب في كلّ قضايانا. وعلينا دائماً أن نكون مع عليّ الفكر، ومع عليّ الرّوح، ومع عليّ المنهج، أكثر مما نكون مع عليّ السَّيف، لأنَّ عليّاً باق بروحه وفكره ومنهجه.
وعليّ يريد للنَّاس الَّذين يتَّبعونه في خطّ الإسلام، أن يحملوا نهجه وفكره، وأن يسموا إلى المواقع العالية في الحياة.. إنَّ عليّاً لا يريد أتباعاً جاهلين، ولا أتباعاً متخلّفين، ولا أتباعاً عاصين لله ومنحرفين عن خطّه.. لقد كان عليّ أتقى الأتقياء بعد رسول الله (ص)، ويريدنا أن نكون الأتقياء في حياتنا، كان المخلص ويريدنا أن نكون المخلصين، كان الصَّادق الأمين، ويريدنا أن نكون رجال الصّدق ورجال الأمانة ورجال الحقّ، فقد كان عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ.
ولذلك، إذا سمعتم كلام عليّ (ع) يتلى عليكم، فحاولوا أن تتفهَّموه، وأن تتبعوه وتجسّدوه في حياتكم، وإذا عرفتم سيرة عليّ (ع)، فعليكم أن تتَّبعوا سيرته في كلّ ما تحرَّك فيه، لأنَّ عليّاً لا يريد لكم إلَّا أن تسيروا معه إلى الله، حيث رضوان الله وجنَّته.
كتابُ الهدى والخير
قال عليّ (ع) في "نهج البلاغة" في أوَّل أيَّام خلافته مخاطباً المسلمين:
"إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ - بيّن لكم فيه كلَّ خطوط الخير وتفاصيله، وكلّ خطوط الشَّرّ وتفاصيله - فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ - الَّذي تحدَّث إليكم القرآن عنه - تَهْتَدُوا - لأنَّ الهدى بالخير القرآنيّ، فالله لم يأمرنا بشيء من الخير، ولم يوجّهنا إلى شيء من الخير، إلّا ليصلح لنا أمر دنيانا وآخرتنا - وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا"، اي انصرفوا وأعرضوا عن طريق الشَّرّ، حتّى تحصلوا على العدل.
وبعد ذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا أن نقرأ القرآن قراءة الإنسان الباحث، نتفحَّص كلّ آية من آياته، لنكتشف فيها عناوين الخير، لأنَّ الله كلَّفنا أن نعمل بالخير وندعو له: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]، وهكذا، أن نقرأ في كلّ آية ما حرّمه الله، وما بيّن فيها سخطه، لنبتعد عنه، من أجل أن نحصل على الخطّ المستقيم في كلّ خطّ السَّير.
وبهذا نعرف أنَّ الإمام (ع) يريد أن يقول لنا في أوَّل خلافته: اجعلوا القرآن أمامكم في كلّ ما تتحركون فيه، لتقرأوا آياته وتعرفوا الخير الَّذي يدلّكم عليه في الدّنيا والآخرة، وحتَّى تعرفوا الشّرّ الَّذي يُبعدكم عنه في الدّنيا والآخرة.
ولذلك، ينبغي، أيُّها الأحبَّة، في قراءتنا للقرآن، أن تكون قراءة التّلميذ لما يريد أن يتعلَّمه، وقراءة الضَّالّ الَّذي يريد أن يهتدي، وقراءة المنحرف الَّذي يريد أن يستقيم، لأنَّ الله جعل القرآن نوراً للعقل، ونوراً للقلب، ونوراً للطَّريق الَّذي يسلكه النَّاس، وقد أرادنا الله أن نتدبَّره: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمَّد: 24].
الحثُّ على أداءِ الفرائض
ثمَّ بعد ذلك، يؤكّد الإمام عليّ (ع) فرائض الله: الصَّلاة والزكاة والصَّيام والحجّ والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكلّ ما فرضه الله على العباد في شؤونهم الخاصَّة والعامَّة.
يقول (ع): "الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ!". وهذا الأسلوب هو أسلوب الاستغاثة، كما عندما يقال: "الأيتام الأيتام"، فهو الأسلوب الّذي يستخدم في اللّغة العربيَّة لتوجيه الانتباه إلى أهميّة الموضوع، ودفع النّاس إلى الالتزام به.
"الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ، أَدُّوهَا إِلَى اللَّهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ". لاحظوا قيمة هذه الفرائض في مسألة المصير؛ أن تصلّي صلاتك كما يريد الله لها أن تُصلَّى، وتخشع فيها، وتحافظ عليها، ولا تكون ساهياً عنها، وأن تصوم صيام الأتقياء، وتؤدّي الخمس والزّكاة، وتحجّ وتعتمر، وتؤدّي كلّ ما أوجبه الله عليك، لأنَّ الفرائض أمانة الله عندك، وعليك أن تؤديها إلى الله، فإذا أدَّيتها إلى الله كاملة غير منقوصة؛ إذا صلَّيت كما يجب أن تكون الصَّلاة، وإذا صمت كما يجب أن يكون الصّيام، وإذا زكَّيت كما يجب أن تكون الزكاة، وإذا حججت كما يجب أن يكون الحجّ، فإنَّ ذلك يؤدّي بك إلى أن يفتح الله لك كلَّ أبواب جنَّته {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطفّفين: 26].
فالإمام عليّ (ع) الَّذي هو أعرف بالإسلام وبالحقّ وبكتاب الله، ويقول إنَّكم إذا أدَّيتم الفرائض فالجنَّة أمامكم، فهذا يقتضينا أن نعتبر قضيَّة الصَّلاة من أهمّ الأشياء في حياتنا، وأن نحرص، إذا لم نكن معذورين، على أن نصوم شهر رمضان ولا نقصّر فيه، وأن نحجَّ بيت الله، وأن نخرج الحقوق من أموالنا، إذا كنَّا راغبين في الجنَّة، لأنَّ طريق الجنَّة هو أداء الفرائض.
حلالُ الله وحرامُه
وبعدما تحدَّث عن الواجبات، يقول (ع): "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ – فالكلّ يعرف الحرام الَّذي حرّمه الله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}[المائدة: 3]، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: 90]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء: 32]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة: 38]... إلخ، فالأشياء الَّتي حرَّمها الله لا يجهلها أحد، ويعرفها كلّ النَّاس.
- وَأَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ - أي أنَّه أحلَّ الأشياء الَّتي لا عيب فيها، أي الّتي لا يدخلها العيب ولا النّقصان.
أفضلُ الحرماتِ عندَ الله
ثمّ - وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا – فكم للكعبة من حرمة عند الله!؟ وكم للأماكن المقدَّسة والمساجد من حرمة عند الله!؟ هل يجوز للإنسان أن يهتك حرمة الكعبة، أو أن يهتك حرمة المسجد؟ ومع ذلك، يقول (ع) إنَّ حرمة المسلم عند الله أفضل من حرمة الكعبة، وأفضل من حرمة المساجد.
- وَشَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا - فإذا كنّا نشعر بأنّ الَّذي يهتك حرمة الكعبة ينبغي أن يعاقَب، فكيف من يهتك حرمة المسلم؟! وينقل عن الأئمّة (ع)، أحاديث في أنَّ حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة.
لذلك، في هذا المجال، علينا أن نعرف أنَّنا عندما يعيش بعضنا مع بعض، رجالاً ونساءً؛ الإنسان في بيته، الزَّوجة مع زوجها، والزَّوج مع زوجته، والجار مع جاره، والشَّريك مع شريكه، والقريب مع قريبه، وكلّ المسلمين بعضهم مع بعض... عليك أن تعرف أنَّك إذا هتكت حرمة مسلم وأذيته، فإنّك بذلك ترتكب جُرماً أكبر من جُرم هتك حرمة الكعبة.
لقد جاء الدين من أجل الإنسان، ومن أجل أن يعلّم النَّاس كيف يحفظ بعضهم حرمات بعض، وكيف يمكن أن يكون الإنسان آمناً على دمه وعرضه وماله في مجتمع المسلمين، بل وأكثر من هذا، كيف يمكن للإنسان الَّذي يعيش مع المسلمين في أمانهم، أن يكون أميناً على ماله ودمه وعرضه...
المسلم مصدر أمان
ثمَّ ينقل (ع) كلمة النَّبيّ (ص): "فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ"، أي أنَّ المسلم ليس فقط الّذي يصلّي ويصوم ويحجّ... المسلم هو الَّذي إذا عاش في بيته أو محلّته وفي وطنه ومع النَّاس، فإنَّ النَّاس يشعرون أنَّه ما دام هذا مسلماً، فلا يمكن أن يمدّ يده إلينا بالسّوء، ولا يمكن أن يغتابنا، أو يظلمنا بكلمة، أو يؤذينا بشيء.
فإذا أردنا أن نقلب الحديث، فنقول: من لا يسلم المسلمون من يده ولسانه فليس مسلماً. وهذا ليس كلامي، بل كلام النّبيّ (ص) وينقله الإمام عليّ (ع).
أما أن يقول أحد: نريد أن نجامل فلاناً لأنّنا نخاف من لسانه! فلسانه حادّ، فهو يسبّ ويشتم ويغضب وكذا، أو أنّهم يخافون من ضربه وأذيّته، والنّاس تخاف منه، فهذا ليس مسلماً، وإن صام وصلّى، لأنَّ المسلم، كما يبيّن الإمام (ع)، هو "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ".
نعم، {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، فإذا سبَّك أحد فلك الحقّ أن تسبّه، وإن كان {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، إذا ضربك فيحقّ لك أن تضربه، ضربةً بضربة، وليس أن تحمل المسدَّس عليه أو ما أشبه ذلك - وَلَا يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا يَجِبُ".
التّفكير في الموت
ثم يوجّه الإمام (ع) النَّاس، ويقول لهم إنَّكم وأنتم تعيشون هذه الحياة، فكّروا في الموت، وأنَّ هذه الحياة لن تدوم لكم، وسوف تنتهي، وسيكون بعدها حساب، فلا تحاولوا أن تجعلوا حياتكم حياة باطل، أو أن تجعلوها حياة الحرام والأذى.
يقول (ع): "بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ - وهو الشَّيء الَّذي يعمُّ كلَّ النَّاس: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34] - وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ – فالموت سيأتيك كما أتى لغيرك - فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ – فكما رحل أجدادنا وآباؤنا وأصدقاؤنا وأقاربنا ومعارفنا، فسنرحل نحن أيضاً.
- وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ – فلكلّ واحد من النّاس ساعة، وإذا جاءت ساعتهم {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف: 34]، فكلّ واحد هناك شرطيّ خلفه، وهو ملك الموت الّذي يقوده إلى الآخرة...
- تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا - يعني لا تُثقلوا من بضاعة الحرام والباطل والظّلم، فسيكون عليها جمرك، وأنتم تعرفون أنَّ الإنسان عندما يمرّ على الحدود ويكون معه الكثير من البضاعة فسيطول مقامه، أمَّا إذا لم يكن معه شيء فسيمرّ بسرعة - فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ"، لأنَّ كلّ واحد يسير خلف الثَّاني في الموت.
تقوى الله في البلادِ والعباد
ثمَّ يقول (ع): "اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ - فالله سوف يسأل كلَّ إنسان عن النَّاس الّذين هم تحت مسؤوليَّته، كزوجته، وأولاده، والنَّاس من حوله، والموظَّفين عنده، عن العمَّال، والجيران، وكلّ النّاس الّذين تتعلَّق مسؤوليَّته بهم، سيسأله كيف كان معهم؛ هل كان يتَّقي الله ويخافه في تصرّفاته معهم، أم كان يظلم زوجته وأولاده والجيران والضّعفاء من حوله؟
- وَبِلَادِهِ - فعندما نعيش في أرض الله، فسوف يسأل الله الإنسان عن كلّ ما عمله فيها؛ هلّ عمَّر أم خرّب؟ هل أساء إلى بلاده أم أحسن إليها؟ هل مكَّن المحتلّين الكافرين من أن يحتلّوها؟ هل أخصبت البلاد معه أم أجدبت؟... فنحن مسؤولون عن أن نجعل البلاد صالحة آمنة يعيش النَّاس فيها بسلام.
- فَإِنَّكُمْ مَسْؤولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ"، فحتَّى البهائم سيسألك الله غداً عنها: لِمَ ضربت هذه البهيمة؟ لم أجعتها؟ لماذا أذيتها؟
وهكذا ورد في بعض الأحاديث أنَّ الله يقول "ليَنتصِفَنَّ للجمَّاء من القرناء"، أي أنَّه يوم القيامة، سوف ينتصف للشَّاة الَّتي لا قرون لها، من الشَّاة القرناء الَّتي نطَحَتْها.
وقد ورد في حديثٍ أنَّ الله عذَّب إنساناً بهرّة حبسها في بيتٍ وأجاعها حتَّى هلكت، فالله يعذّب هذا الإنسان بذلك، لأنَّ الله لا يقبل الظّلم لا على الإنسان ولا على الحيوان.
الآن تستطيع أن تذبح الخروف، لأنَّ الله حلّل لك ذبحه وأكله، ولكن لا يجوز لك أن تحرقه وهو حيّ، أو أن تعذّبه، حتَّى إنَّه إذا أراد أحد أن يذبح، فعليه أن يحسن الذَّبح، وأن يحدّ شفرته، حتَّى لا يعذّب الخروف أو العجل.
ثمَّ يختم الإمام كلامه: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَلَا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ".
وصيَّةٌ للحاضرِ والمستقبل
هذه، أيُّها الأحبَّة، وصيَّة الإمام في الماضي، وهي وصيَّته في الحاضر وفي المستقبل، لأنَّ الإمام يتكلَّم عن المسؤوليَّة الإنسانيَّة في كلّ حركة الحياة. فإذا كنَّا مع الإسلام ومع الله ومع محمَّد (ص)، ومع عليّ وأهل بيته، فعلينا أن نجعل كلام عليّ برنامجنا في الدنيا، حتَّى نحصل على رضا الله، وعلى جنَّته في الآخرة.
الخطبة الثَّانية
 
عباد الله، اتَّقوا الله، وانفتحوا على كلّ أوامره ونواهيه، لتطيعوه في كلّ ما أمر به، وفي كلّ ما نهى عنه، وانطلقوا فيما أراده لكم من العدل في كلماتكم وأفعالكم، سواء كان ذلك مع القريب أو مع البعيد، وسواء كان ذلك مع الصَّديق أو مع العدوّ، لأنَّ الله يريد لنا أن نكون العادلين مع النَّاس كلّهم، حتَّى مع أعدائنا {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[المائدة: 8]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ}[الأنعام: 152]. لذلك كونوا مع العدل والعادلين، وكونوا ضدّ الظّلم والظَّالمين.
انطلقوا في مسؤوليَّاتكم في الحياة، ليحدّد كلّ واحد منكم مسؤوليَّته، ليتعلَّم كلّ واحد منكم حدود الله، فيما يريد الله منه أن يقف عنده، وفيما يريد منه أن يتحرَّك في اتجاهه، لأنَّنا إذا جهلنا حدود الله، ولم نعرف ما يريد لنا أن نقف عنده، وما يريد لنا أن نتحرَّك فيه، فقد نتعدَّى حدوده نتيجة جهلنا، ونترك ما أرادنا الله السَّير فيه.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، من التَّقوى أن نتعلَّم واجباتنا، وأن نتعلَّم المحرَّمات، حتَّى نستطيع أن نُعذر إلى الله في ذلك كلّه.. لا تهملوا أمر التَّعليم؛ أن تتعلَّموا تكاليفكم الشَّرعيَّة، سواء بالكتاب تقرأونه، أو بالموعظة تسمعونها، أو بكلّ جهاز يعطيكم علماً لما كلَّفكم الله به، لأنَّ بعض النَّاس قد يقف عن كثير من مسؤوليَّاته لأنَّه يجهلها.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ كلَّ الحياة تتحرَّك تحت المسؤوليَّة، ليس هناك أيّ مكان، أو أيّ زمان، أو أيّ موقع، إلَّا ويحدّد الله لك فيه ما تفعل وما تترك.. إنّنا في هذه الحياة عباد الله، وعلينا أن نطيع الله في كلّ شيء {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36].
ومن مسؤوليَّاتنا أن نحمل همّ المسلمين، وأن نساعد كلَّ مظلوم بقدر إمكاناتنا، وأن نساعد كلّ محروم بقدر إمكاناتنا، وأن نحاول أن يعطي كلّ واحد منّا للنَّاس من عقله وقلبه وروحه.
وهكذا نريد أن يعيش الإنسان يومه وهو يفكّر في مسؤوليَّته، وأن ينتهي يومه وهو يفكّر في مسؤوليَّته.
تعالوا لنواجه ماذا هناك في عالمنا مما قد يتَّصل ببعض مسؤوليَّاتنا.
اليومُ العالميُّ لحقوق الإنسان
في هذه الأيَّام، يحتفل العالم بـالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد اجتمعت الأمم المتَّحدة قبل خمسين سنة، في العاشر من كانون الأوَّل، ونظَّمت ما سُمّي بإعلان حقوق الإنسان، الَّتي قرَّرت فيه الحقوق الإنسانيَّة للإنسان، وأُريد من كلّ الدّول الَّتي تنتمي إلى الأمم المتَّحدة أن تحقّقها في شعوبها، وأن تدعو إليها وتتعامل معها.
من بين هذه الحقوق، أنَّ لكلّ فرد الحقّ في الحياة والحريَّة والأمن على شخصه، لا يجوز إخضاع أحد للتَّعذيب أو للمعاملة القاسية أو اللَّا إنسانيَّة، لا يجوز اعتقال أيّ إنسان أو حجزه أو أيّ شيء يثقله في حياته تعسّفاً، فلكلّ شخص حقّ التَّمتّع بحريَّة الرَّأي والتَّعبير وحقّ التعلّم والعمل، فلا يجوز لنا أن نمنع إنساناً في أيّ عمل يعمله...
هذه هي بعض حقوق الإنسان، ونحن نعلم أنَّ الإسلام قد حفظ للإنسان حقوقه، وربما تختلف حقوق الإنسان في الإسلام عن حقوق الإنسان في شرعة الأمم المتَّحدة في بعض المجالات، وتتَّفق معها في مجالات أخرى.
استغلالٌ من دولِ الاستكبار
وليس الموقفُ موقفَ البحث عن تفاصيل حقوق الإنسان، ولكنَّنا نريد أن نقول إنَّ المشكلة هي أنَّ الأمم المتَّحدة الَّتي شرَّعت حقوق الإنسان، تخضع لدول استكباريَّة كبرى تعمل على أساس أن تُسقِط حقوق الإنسان المستضعف، من أجل مصالحها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة وما إلى ذلك.
فقد عملت الدُّول الكبرى على أن تحرم المستضعفين من المسلمين وغير المسلمين، من أن يحصلوا على ثرواتهم، ليقوموا بإدارة كلّ شؤونهم في ذلك. فنحن نرى، مثلاً، أنَّ البترول في العالم الإسلاميّ وفي العالم المستضعف، تسيطر عليه الدّول الكبرى، وفي مقدَّمها أمريكا، حتَّى إنَّ أغلب الحروب الَّتي حدثت في الماضي، وتحدث في الحاضر وفي المستقبل، تتحرَّك على أساس الاستيلاء على منابع البترول، من أجل حرمان أصحاب هذه المنابع وشعوبها من نتائجها الَّتي يمكن أن تنتج لهم الرّخاء، وليستعملها أيضاً المستكبرون بعضهم ضدّ بعض، وفي صراع بعضهم ضدّ بعض، حتَّى إنَّنا نجد أنَّ أمريكا تعمل على السَّيطرة على كلّ بترول العالم، حتَّى تستطيع أن تخضع أوروبّا واليابان والدّول الأخرى غير البتروليَّة، لتضغط عليها من خلال ذلك، باعتبار أنَّ البترول يمثّل الشّريان الحيويّ للدّول.
ازدواجيَّةُ عناوين
هكذا نجد أنَّ الأمم المتَّحدة الَّتي شرَّعت حقوق الإنسان، والَّتي تمنع من أن يُحتَلَّ أيّ بلد، أو أن يُطرَدَ أيّ شعب من بلده، هذه الأمم المتَّحدة اعترفت في السَّنة نفسها بكيان إسرائيل في فلسطين، ونحن نعلم أنَّ إسرائيل قامت على أنقاض الشَّعب الفلسطيني، ولا تزال تقوم على أنقاض هذا الشَّعب برعاية الأمم المتَّحدة، وفي رئاستها أمريكا الَّتي تُصادِر الأممَ المتَّحدة لحساب سياستها في العالم. نحن نعرف أنَّ أمريكا والاتحاد السّوفييتي سابقاً والدّول الأوروبيَّة، كانت أوَّل من اعترف بإسرائيل، وهم يعرفون أنَّ الفلسطينيّين من العرب كانوا هم الأكثريَّة، وكان اليهود أقليَّة، ومع ذلك، سهّلوا لهم وأعطوهم القوَّة وهم ينادون بحقوق الإنسان.
لا علاقةَ لأمريكا بحقوقِ الإنسان
نحن نلاحظ في هذه الأيَّام، أنَّ إسرائيل تعمل بكلّ ما عندها من قوَّة من أجل أن تمنع الفلسطينيّين من حقّ تقرير المصير، في الوقت الَّذي تعمل أمريكا على منع إدانة إسرائيل على قصفها المدنيّين الآمنين في لبنان واحتلالها لبنان والجولان، وتعمل على إعطائها القوَّة وحمايتها من أيّ إدانة لها في الأمم المتَّحدة.
ونحن نلاحظ، أيضاً، أنَّ أمريكا الآن تنادي بحقوق الإنسان، ولكنَّها تحاصر الشَّعب العراقيَّ الَّذي يعاني الموت والجوع، في سياسة ظاهرها أنَّها تقف ضدّ حاكم العراق، ولكنَّها في الواقع تعمل على حمايته من كلّ من يريد إسقاطه.
وهكذا نجد أنَّها تحاصر السّودان وتحاصر ليبيا، وتعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل إثارة الحروب في أفريقيا، ليقتل النَّاس هناك بعضهم بعضاً على مستوى الملايين، من أجل إدارة الصّراع الأمريكيّ الفرنسيّ، أو إدارة الصّراع الأمريكيّ الأوروبيّ.
لذلك، نحن نلاحظ أنَّ حقوق الإنسان شُرّعت في الأمم المتَّحدة ليستفيد منها الكبار في الضَّغط على الشّعوب الصَّغيرة والشعوب المستضعفة، ليسجّلوا على هذا الشَّعب أو ذاك، أو على الحاكم هنا أو هناك، بأنّه ضدّ حقوق الإنسان، وأنَّه ينتهك حقوق الإنسان.
الأممُ المتَّحدةُ شاهدُ زور
ونحن نعلم، أيُّها الأحبَّة، أنَّ هناك الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد العربيَّة والبلاد الإسلاميَّة، ولكن ممن؟ من خلال هؤلاء الحكَّام والأنظمة الَّتي رعتها وعملت على تأسيسها الدّول الكبرى، ولا سيَّما الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. نحن نعرف أنَّ حلفاء أمريكا وعملاءها في العالم الثَّالث، هم الَّذين يهدرون حقوق شعوبهم، ونجد أنَّ أمريكا لا تحرّك ساكناً ضدَّهم، بل إنَّ الَّذين يعملون في مواجهتهم، يواجهون الكثير من العقوبات ومن المشاكل.
لذلك، نحن نقول إنَّ الأمم المتَّحدة هي شاهدُ زور على انتهاكات حقوق الإنسان باسم المحافظة على حقوق الإنسان.
ونحنُ نعتقدُ أنَّ الاحتفال بحقوق الإنسان الآن، لا بدَّ من أن يتضمَّن الحديث عن الدّول الكبرى الَّتي تسيطر على مجلس الأمن، وكيف تنتهك حقوق الإنسان المستضعف في سياسته واقتصاده وأمنه ومواقعه الاستراتيجيَّة.
إنَّ أمريكا تتحدَّث دائماً عن حقوق الإنسان، ولكنَّها كلمة حقّ يراد بها باطل، وعلينا أن ننتبه إلى ذلك كلّه، وأن نعمل في الوقت نفسه على أن تكون حقوق الإنسان عندنا مصونة، لا لأنَّ شرعة الأمم المتَّحدة تفرض ذلك، ولكن لأنَّ الله يفرض ذلك، كما سمعنا في كلام أمير المؤمنين (ع) الَّذي حدَّثنا عن النَّهج الإسلاميّ بأنَّ حرمة المسلم هي أفضل الحرم كلّها، حتَّى إنَّها أفضل من الكعبة.
لذلك، نحن نحتفل بحقوق الإنسان على أساس تأكيده في حياتنا، من خلال الشّرعة الإسلاميَّة في ذلك. وعلينا أن نتعاون في هذا الأمر؛ بأن نتواصى بالحقّ وأن نتواصى بالصَّبر، أن لا نسمح لإنسان في مجتمعنا بأن يَضطهد ضعيفاً، وبأن يُعين مستكبراً وما إلى ذلك.
ضغط أمريكيّ على الفلسطينيّين
وهذا ما نلاحظه أيضاً، أيُّها الأحبَّة، في فلسطين. ماذا نجد هناك؟ هناك استيلاد مستوطنات جديدة، وتوسيع المستوطنات القائمة، وهناك حملات الاعتقال، وإطلاق يد المستوطنين في قتل الفلسطينيّين، والإصرار على عدم الإفراج عن المعتقلين السياسيّين هناك.
في الوقت الَّذي يجهد الأمريكيّون على إبراز زيارة الرئيس الأمريكيّ لفلسطين بطريقة احتفاليّة، للإيحاء بأنَّ الملفَّ الفلسطينيّ بات على طريق الحلّ، أو أوشك على ذلك، ولكن مع تأكيد أمريكا - حتَّى لا يفهم النَّاس القضيَّة خطأً - أنَّ زيارة كلينتون إلى غزَّة أو إلى فلسطين، لا ترمي إلى الاعتراف بتطلّعات الفلسطينيّين لإنشاء دولة فلسطينيَّة مستقلَّة، بل لتُطَمئن اليهود بأنَّ الإدارة الأمريكيَّة لا تريد أن تضغط على اليهود هناك، ولكنَّها تريد أن تضغط على الفلسطينيّين، من أجل أن يُوقِّع كلينتون توقيعاً لا يستطيع أحد أن يتجاوزه مع الفلسطينيّين في إلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني الَّذي وُضع على أساس أنَّ فلسطين للفلسطينيّين وإنهاء دولة إسرائيل.
لقد جاء حتَّى يُشهِدَ اليهود على إخلاصه لهم، فلعلَّ هذه الشَّهادة يمكن أن تعطيه قوَّة في المشكلة الَّتي يعيشها. وبذلك نفهم أنَّ أمريكا لا تعمل، ولو بنسبة الواحد في المائة، لإعطاء الشَّعب الفلسطيني ولو بعض حقّه، لأنَّها التزمت إسرائيل أكثر مما تلتزم بأيَّة ولاية من ولاياتها.
العودةُ إلى خيارِ الانتفاضة
إنَّنا نعتقد أنَّ على الشَّعب الفلسطيني الَّذي بدأ باستعادة الانتفاضة من جديد، ما جعل قادة أمن العدوّ يهدّدون بقبضة حديديَّة، وبالمزيد من القتل والتدمير لهذا الشعب.. إنَّ على الشَّعب الفلسطينيّ أن يواصل هذه الانتفاضة، وإنَّ على الفصائل الفلسطينيَّة التي تعقد مؤتمرها غداً في دمشق، أن تعمل لمزيد من الوحدة والتَّخطيط للمستقبل، بعيداً من الأساليب التقليديَّة الحماسيَّة والانفعالية التي تجاوزها الزمن، وتجديد الانتفاضة بوسائل جديدة. وعلى العرب والمسلمين أن يعملوا من أجل دعم مسيرة هذا الشَّعب نحو الحريَّة والاستقلال.
الغطاءُ الأمريكيُّ للاحتلال
وإنَّنا نحذّر من الأسلوب الأمريكيّ الجديد القديم الَّذي يعمل على تعطيل تنفيذ القرار 425، ليربط تنفيذه بحلّ عامّ في المنطقة على أساس المفاوضات، بعيداً من مضمونه الَّذي ينصّ على الانسحاب من لبنان من دون قيد أو شرط، لإبقاء الاحتلال الإسرائيليّ بغطاء أمريكيّ ريثما تتحرَّك المفاوضات مع لبنان وسوريا بتعقيدات أكبر من المفاوضات مع الفلسطينيّين. بمعنى أنَّ أمريكا تقول إنَّه حتَّى لو أنَّ الإسرائيليّين بفعل ضغط المقاومة، أرادوا الانسحاب، كما تنطلق صيحات الانسحاب هناك في داخل فلسطين على أساس الانسحاب من طرف واحد، ولكنَّ أمريكا تمنع اليهود لو أرادوا أن ينسحبوا، من أن ينسحبوا بدون قيد وشرط، وهي الَّتي صوَّتت على القرار 425، لأنَّها تريد أن تحصل على مكسب لإسرائيل ولنفسها من خلال هذا الانسحاب، ولذلك هي تربط الانسحاب بالمفاوضات، فما دام لا مفاوضات فلا انسحاب، وليبق الاحتلال الإسرائيليّ للبنان على أساس القرار الأمريكيّ الَّذي صرَّح به أكثر من مسؤول أمريكيّ، وآخرها تصريح وزيرة الصحَّة الأمريكيَّة التي جاءت إلى لبنان قبل أيَّام.
الحذرُ من التَّحرّكِ الأمريكيّ
علينا أن نراقب بحذر هذا الإقبال الأمريكيّ على لبنان. فأمريكا هي الَّتي دمَّرت لبنان، لأنَّ حرب لبنان كانت بتخطيط أمريكيّ، وهي الّتي عملت ولا تزال تعمل على أن تعطي إسرائيل كلَّ الحريَّة في أن تدمّر ما تدمّره من لبنان. فما سبب هذه الصَّحوة الأمريكيَّة الجديدة؛ من وزير التّجارة الأمريكيّ، إلى وزيرة الصحَّة الأمريكيَّة، إلى مدير البنك الدَّوليّ، والتَّصريحات من هنا وهناك؟!.. فماذا يحدث؟ وأكيد، نحن لا نستطيع أن نقول إنَّ أمريكا صارت تحبّ لبنان، لأنّنا دائماً نقول إنَّ مشكلة أمريكا أنَّها عندما تحبّ شعباً، يعني أنّها ستقتلته أكثر، على طريقة "ومن الحبّ ما قتل". لذلك علينا أن نراقب الوضع بحذر... نحن نحبّ لكلّ شعوب العالم أن تكون معنا، لكن عندما يتحرَّك الشَّيطان ليظهر لك عواطفه، فعليك أن تعرف أنَّه لا يفكّر فيك بالخير، ونحن نعرف أنَّ الإمام الخميني (رض)، وهو الواعي للّعبة الأمريكيَّة جيَّداً، قال إنَّ أمريكا هي الشَّيطان الأكبر.
لذلك، علينا أن نراقب بحذر هذا الإقبال الأمريكيّ على لبنان، والَّذي لا يتحرَّك لمصلحة اللّبنانيّين، بل لمصلحة أمريكا في صراعها مع النّفوذ الفرنسيّ والأوروبيّ في لبنان، لأنَّ وزير التّجارة الأمريكيّ قال: جئنا لنوقف النفوذ الفرنسيّ في لبنان، ليكون النفوذ الأمريكي هو الَّذي يحكم لبنان.
وفي هذا الجوّ، فإنَّ أمريكا، من خلال وزيرة خارجيَّتها، هدَّدت روسيا بحرمانها من مساعدات بملايين الدّولارات إذا لم توقف تعاونها الصّاروخيّ مع إيران، وأبدت قلقها من استقدام إيران لعلماء روس، ما يشكّل - على حدّ زعمها - مخاطر على صعيد انتشار الأسلحة في المنطقة. إنَّ أمريكا لا تريد لإيران أن تملك وسائل القوَّة للدّفاع عن نفسها، ولإسقاط الحصار الأمريكيّ ضدَّها اقتصاديّاً وعسكريّاً، ولكنَّنا نعتقد أنَّ المصالح الدوليَّة، إضافةً إلى صلابة الموقف الإسلاميّ في إيران، سوف يُسقط الخطَّة الأمريكيَّة، إن عاجلاً أو آجلاً.
غاراتٌ وهميّةٌ واستعراضُ قوَّة
ونصل إلى لبنان. أوّلاً: لقد عاش النَّاس في هذه الأيَّام تحت تأثير الغارات الوهميَّة، ولا سيَّما فيما بعد منتصف اللَّيل، والّتي تمثَّلت بوحشيَّة كبيرة جدّاً، لأنَّها أفزعت الأطفال وكلّ النَّاس النَّائمين، والَّذين انطلقوا من بيوتهم في الشَّوارع من أجل أن يحصلوا على الأمن، ظنّاً منهم أنَّ هناك عملاً عسكريّاً إسرائيليّاً.
إنَّ هذا يدلّل على الوحشيَّة الأمريكيَّة الَّتي لم تحرّك ساكناً ولو بكلمة في استنكار ذلك، وعندما سُئل السَّفير الأمريكيّ عن الموضوع، تحدَّث بكلمات مائعة لا يفهم أحد منها شيئاً، ولم يستنكر ذلك بأيَّة كلمة، ولو على نحو المجاملة.
إنَّنا نحبُّ أن يعرف النَّاس من خلال ذلك، أن يعرف أطفالنا وشبابنا ونساؤنا ورجالنا، ما معنى إسرائيل، وما معنى أمريكا الَّتي تدعم إسرائيل. ولكن إذا كان النَّاس قد أخذهم الخوف من أنَّ هناك عملاً عسكريّاً كبيراً في لبنان من خلال إسرائيل، أو أنَّ هناك إمكانيَّة لقصف بيروت أو الضَّاحية، فإنَّني أحبُّ أن أقول، من خلال ما أملكه من معطيات سياسيَّة دقيقة، إنَّ أيَّ عمل عسكريّ كبير في لبنان، أو أيّ قصف لأيّ موقع من مواقع العاصمة أو من مواقع الضَّاحية، ليس وارداً، على الأقلّ في هذا المستقبل المنظور، لأنَّه ليست هناك أيَّة ظروف سياسيَّة وأمنيَّة ملائمة لذلك. وقد عرفت إسرائيل أنَّ الشَّعب اللّبنانيّ قد واجه كلَّ أساليبها، واستطاع أن يهزم كلَّ أساليبها، وأن يصمدَ أمام ذلك.
أيُّها الأحبَّة، إنَّها عمليَّة غارات وهميَّة أُريد من خلالها عرض عضلات إسرائيليَّة للقوَّة، لا من أجل النَّاس هنا، ولكن من أجل أن يقولوا لناسهم الَّذين يطالبونهم بالانسحاب من دون قيد أو شرط، إنَّنا لا نزال نملك القوَّة الَّتي تخيف اللّبنانيّين بطريقة وبأخرى. ولكنَّ هذا العمل هو عمل الجبان، وليس عمل الَّذي يملك القوَّة.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نشعر أنَّ إسرائيل قد عاشت الآن مأزقاً كبيراً بفعل ضربات المقاومة، ونحن نعرف أنَّ المجاهدين يعرفون كيف يتعاملون مع التَّهديدات العسكريَّة الإسرائيليَّة، في الوقت الَّذي يقف الشَّعب اللّبنانيّ وحكومته في عهدها الجديد، ضدّ كلّ الأساليب الصّهيونيَّة الضَّاغطة، ومع مقاومته الباسلة.
لبنان: بينَ التَّخطيطِ والتَّنفيذ
أمَّا على المستوى الدَّاخليّ، فقد سمعنا كلاماً جيّداً، وسنسمع، كما قيل لنا، كلاماً جيّداً في البيان الوزاريّ المستقبليّ، ولكن نحن ننتظر الكثير من العمل، لأنَّنا في كلّ تاريخ لبنان، سمعنا الكثير من الكلام، ورأينا القليل من العمل، ورأينا كثيراً من الكلام يبتعد عن هدفه وينحرف عن معانيه. لذلك، نحن نأمل أن يُترجَمَ هذا الكلام الَّذي سمعناه والَّذي سنسمعه، إلى سياسة اقتصاديَّة واستراتيجيَّة شاملة، في تخطيطٍ دقيقٍ على أساس دراسة الأولويَّات.
ونتساءل: لماذا لا تعود وزارة التَّخطيط لدراسة المشاكل المتراكمة في البلد، والَّتي لا تُحلّ إلَّا بالتَّخطيط والتطلّع إلى المستقبل، من خلال رصد الماضي وإمكانات الحاضر؟! إنَّنا نريد لكلّ الفعاليَّات الاقتصاديَّة والسياسيَّة في البلد، من موالين ومعارضين وخبراء، أن يتكاملوا من أجل عمليَّة الإنقاذ والتَّغيير، ونريد للحكومة اللُّبنانيَّة أن تعلن للّبنانيّين حجم الدّيون المتراكمة وكيفيَّة سدادها والخطَّة المرسومة لذلك، لتنال بذلك، بالصَّراحة مع الشَّعب في كلّ نقاط الضّعف، وفي كلّ نقاط القوّة، في كلّ السلبيَّات والإيجابيَّات، لتنال ثقة الشَّعب كلّه، لا ثقة المجلس النيابيّ فحسب، فإنَّ النَّاس يبحثون عمَّا يؤكّد لهم الثّقة بالعهد الجديد، من خلال الخطط الواقعيَّة والوقائع والإدارة القويَّة الفاعلة، ليتكامل الشَّعب والحكم والحكومة من أجل لبنان جديد قائم على أساس الحريَّة المسؤولة والعدالة، وتحرير البلد من الاحتلال الإسرائيليّ على أساس وحدة المسارين اللّبناني والسوري.
والحمد لله ربّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته في مسجد الإمامين الحسنين (ع)، بتاريخ: 11/12/1998م.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية