خطُّ الرَّسولِ (ص) وأهلِ البيت (ع): الالتزامُ بنهجِ الوحدة

خطُّ الرَّسولِ (ص) وأهلِ البيت (ع): الالتزامُ بنهجِ الوحدة

يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92].
{وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون: 52].
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[آل عمران: 103].
في أجواءِ الولادةِ المباركة
في أجواء الولادة المباركة، ولادة النبوَّة في ميلاد النَّبيّ (ص)، وولادة الإمامة في ولادة الإمام جعفر الصَّادق (ع)، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش الأجواء فيما أرادته النّبوَّة في خطِّها الرساليّ، وأرادته الإمامة في امتداد خطِّ النبوَّة في خطِّها، وهو أن تجمع النَّاس على الحقّ، وأن توحِّدهم، وأن تنهج بهم النَّهج الأقوم والخطَّ المستقيم، من أجل أن يتعلَّم النَّاس أنَّ الالتزام بالقاعدة يفرض الالتزام بالخطِّ الَّذي ينطلق من القاعدة، فإذا كنَّا نلتزم بقاعدة الإسلام في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وما أنزل الله من كتب، وما بعث من رسل، فعلينا أن نلتقي على هذه القاعدة، لأنَّها القاعدة الَّتي أراد الله أن نتوحَّد عليها، ولأنَّ الله أراد للَّذين يؤمنون بهذه القاعدة، أن يكونوا الأمَّة الواحدة الَّتي تلتقي على عبادة الله في إخلاص العبوديَّة له سبحانه، وعلى تقوى الله في انطلاق التَّقوى في كلِّ مواقع الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة، وأن يعتصموا بحبل الله، لأنَّ القرآن، وهو قاعدة الإسلام، هو حبل الله، وأنَّ كلَّ هؤلاء إذا افترقوا وتنازعوا في شأنٍ يتَّصل ببعض جوانب العقيدة في علم الكلام، أو إذا اختلفوا في شأنٍ يتَّصل ببعض جوانب الشَّريعة في علم الفقه، أو إذا اختلفوا في بعض الوسائل والأساليب والمناهج، فإنَّ عليهم أن يردّوا الأمر إلى الله، ليفكِّروا فيما قاله سبحانه، ليفهموه ويناقشوه، وليسيروا إلى ما يلتقون عليه ويتَّفقون عليه فيه، وأن يردّوا الأمر إلى الرسول فيما قاله (ص)، لا أن يبتعدوا عن خطِّ الله وخطِّ الرَّسول في اتّباع أهوائهم ومطامعهم والمحافظة على مواقعهم.
وهكذا، عندما ننفتح على خطِّ الإمامة، فإنَّ أئمَّة أهل البيت (ع) أرادوا لأتباعهم أن يلتزموا وحدة المسلمين في الدَّائرة الإسلاميَّة العامَّة، وأن يلتزموا وحدة المسلمين في خطِّ أهل البيت (ع) في هذه الدَّائرة، وأن لا يعتبروا الخلافات الفرعيَّة، والاجتهادات المتنوّعة في التَّفاصيل، أساساً للفرقة والخلاف والنِّزاع والتَّباعد، لأنَّ ذلك سوف يسقط القاعدة، وسوف يضعف الأمَّة، وسوف يمكِّن الأعداء من السَّيطرة على ثقافتها ومقدَّراتها وثرواتها، وعلى مواقفها ومواقعها، وهذا ما جاءنا الحديث فيه عن أئمَّة أهل البيت (ع).
درسُ عليّ (ع): القوَّةُ بالوحدة
ونحن الآن نستذكر بعض ما قاله إمامنا إمام المتَّقين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) في خطبة القاصعة في نهج البلاغة.
تصوَّروا أنَّ عليّاً بينكم يخاطبكم، لأنّه إذا لم يخاطبكم بشخصه، فإنَّه يخاطبكم بكلامه، وهو حيّ بكلامه، ولذلك فإنَّ علينا أن نصغي إليه كما لو كان بيننا، لأنَّه لم يخاطب النَّاس آنذاك، لكنَّه خاطب كلَّ الأجيال في خطِّ الإسلام. يقول (ع):
"واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ، بِسُوءِ الأَفْعَالِ وذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ، فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِه شَأْنَهُمْ، وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَه عَنْهُمْ، ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِه عَلَيْهِمْ، وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَه مَعَهُمْ، ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْه حَبْلَهُمْ – ما الأشياء الَّتي أعطتهم العزّة والكرامة، وهزمت الأعداء، ومنحتهم العافية، وشملتهم به النّعمة؟ - مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، واللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ، والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا والتَّوَاصِي بِهَا. واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ - إشارة إلى ما يكسر الظَّهر وفقراته - وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ – ما الّذي يكسر ظهر الإنسان، كناية عن كسر القوّة وكسر الموقع؟ - مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وتَخَاذُلِ الأَيْدِي. وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُم... فانظروا كيف كانوا، حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً، والأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، والْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، والأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً. أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ، ومُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟! - لأنهم كانوا متَّحدين ومتآلفين ومتناصرين ومتعاونين - فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْه فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، واخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ والأَفْئِدَةُ، وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، وقَدْ خَلَعَ اللَّه عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِه، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِه، وبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ".
إنَّ الإمام (ع) يريدنا أن ندرس التَّأريخ، لندرس كيف تبنى الحضارات وكيف تسقط، كيف تقوى المجتمعات وكيف تضعف، ويعتبر أنَّ القوَّة بالوحدة وبالألفة، وبالتَّعاون والتَّناصر، وبالاجتماع على الفكر الواحد، والقضايا الواحدة، والتَّحدِّيات الواحدة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يمكن أن يحمي الأمَّة من أعدائها، عندما تحمي نفسها من أهوائها وأطماعها.
تأثيرُ الفرقةِ في الأمَّة
ونقرأ بعد ذلك في الأحاديث عن عليّ (ع)، بعد أن نضع أمامنا كلام الله، وعليّ (ع) تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله، وفي القرآن: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105].
يقول الإمام (ع) فيما يروى عنه: "وأيم الله، مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا، إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ باطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا، إلَّا ما شاءَ الله"، لأنَّ أهل الحقّ إذا اختلفوا وتنازعوا فيما بينهم، فإنَّ ذلك يجعل أهل الباطل المتوحِّدين، في موقع القوَّة الَّذي يستفيدون فيه من ضعف أهل الحقّ بالتخاذل والتفرّق والتمزق.
ويقول (ع): "إيّاكُم والتَّلَوُّنَ في دِينِ اللَّهِ - بحيث يكون دين الله ألواناً عندكم - فإنَّ جَماعَةً فيما تَكْرَهونَ مِن‌ الحقِّ، خَيرٌ مِن فُرقَةٍ فيما تُحِبّونَ مِن الباطِلِ، وإنّ اللَّهَ سُبحانَهُ لَم يُعْطِ أحَداً بفُرقَةٍ خَيراً، مِمّن مَضى ولا مِمّن بَقِي".
فالله لن يعطي الخير بالفرقة والاختلاف في أيّ موقع من المواقع، سواء كانت اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ما إلى ذلك، لأنَّها تختزن في داخلها كلّ الشّرّ، وتثير الحقد والبغضاء والعداوة والحرب وما إلى ذلك.
وهكذا جاء في الحديث عنه (ع) في نهج البلاغة: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَه – يخطّطها لكم - ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً – يعني أنَّ الشيطان لا يحلّ دينك دفعة واحدة، فهو يبدأ معك بفكرة معيّنة، مثلاً يوحي إليك بأنّه لا مانع في أن تغتاب النَّاس، ثمّ يقول لك إنّ هؤلاء الجماعة ضدّ مصالحك، فحاول أن تفتن بينهم؛ أن تفتن بين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، ثمّ يقول لك لا بأس في أن تكذب، اكذب كذبة بيضاء، ثمّ تتحوّل مع الوقت لتصبح سوداء، وهكذا. فالشَّيطان يستعين بمعصية على معصية، فإذا أطعته في معصية الله في جانب، فإنَّه يأخذ من طاعتك له قوَّة يستعين بها على أن يجعلك تعصي الله في جانب آخر، لأنَّه لمجرَّد أن يقتحم القلعة الإيمانيَّة في نفسك، ويصبح له موقع فيها، فإنّه يحاربك من الدّاخل، تماماً كما العدوّ الّذي عندما يصبح له موقع في بلادنا، ألا يحاربنا من الداخل؟ كذلك الشّيطان، يعمل على توسيع هذه الثَّغرة، ويوسّع هذا الموقف - يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ – أي أنّه يعطيكم الفرقة بدل الجماعة، وإذا تفرَّقتم، يحاول أن يستغلَّ الفرقة فيما بينكم - وبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ – بإيجاد الفتنة فيما بينكم - فاصدفوا عن نزغَاتِهِ ونفثَاتِهِ".
وهكذا يريد الإمام (ع) أن نكون الواعين لخطط الشَّيطان في هذا الجانب من حياتنا، حيث يحاول أن يستغلّ بعض الحسياسيات والحزبيات والمذهبيات، وبعض الوسائل والأساليب والعصبيات، من أجل أن يفرّق فيما بيننا، وربّما يعطي الفرقة عنوان الحقّ وعنوان التقوى، وعلينا أن ندرس الأمر دراسة واعية في هذا الاتجاه.
في مواجهةِ الاستكبارِ العالميّ
ثمّ يقول الإمام (ع)، وهو يشير إلى الفئات المضادَّة الَّتي كانت تقف ضدّ الخطّ الأصيل الّذي كان يمثّله (ع): "واللّهِ، لَأظُنُّ أنَّ هؤلاءِ القَومَ – الجماعة المضادّين - سَيُدالونَ مِنكُم باجْتِماعِهِم على باطِلِهم، وتَفَرُّقِكُم عن حقِّكُم".
أليست هذه الصّورة هي صورتنا الآن؛ صورتنا كمسلمين في مقابل الكافرين، وكمستضعفين في مقابل المستكبرين، وكمتحركين في الخطِّ الإسلاميّ الأصيل في الواقع الَّذي نعيشه؟! ما هي صورة واقعنا، أيُّها الأحبَّة؟! إنَّها صورة الأحزاب المتفرّقة حتَّى في الخطّ الإسلاميّ، صورة الشعوب المتمزّقة حتى في مواجهة الصهيونيَّة، والأعراق المختلفة حتى في مواجهة الاستكبار العالمي.
الاستكبار العالمي يقف موحَّداً وراء مصالحه عندنا. إن الدول السبع أو الثماني الكبار، وهي الدول التي تملك الثّروة العالميَّة، تجتمع في كلّ مرحلة من أجل أن تخطّط كيف تنظّم مصالحها فيما تطبق عليه من ثروات الشّعوب؛ أمريكا من جهة، واليابان من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا أخيراً من جهة، هؤلاء الدول الَّذين يعتبرونهم الدّول الأكثر ثروة والأكثر غنى، إنَّهم يجتمعون عندما تختلف مصالحهم أو تتضارب، ثمَّ يخرجون بقرارات تنظّم مصالحهم في كيف يمكن أن يضعفونا، وكيف يمكن أن يواجهوا كلَّ التيارات التي تعمل على أساس إطلاق نداءات الحريَّة ونداءات الاستقلال والاكتفاء الذاتي وما إلى ذلك.
وهكذا نجد أنَّ الكفر بجميع فرقه، وبجميع أوضاعه ومواقعه وأشكاله، يقف ضدّ الإسلام، إن هناك حرباً ثقافية ضدّ الإسلام كلّه، سواء كان إسلاماً سنيّاً أو إسلاماً شيعياً، وعلى المسلمين جميعاً أن يقفوا في مواجهة هذا التحدّي الكبير الَّذي يريد أن يقتلع الإسلام من جذوره الثقافيَّة، وبعد ذلك، عندما نتخفَّف من الخطر الكبير، عند ذلك يمكن أن نختلف في خصوصيَّاتنا المذهبيَّة.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، إنَّ خطَّ أهل البيت (ع) يتعرَّض لحرب مجنونة من أكثر من جهة، لذلك لا بدَّ لنا أن نجمّد الكثير من خلافاتنا، من أجل أن نتوحَّد في مواجهة هذا الخطر الَّذي يريد أن يجتثّ التَّفكير الأصيل الَّذي يمثّله أهل البيت (ع) في الإسلام من كلّ جذوره، أن نعمل على حماية خطّ الإسلام الأصيل العام، ثمَّ بعد ذلك نختلف في مسألة التفاصيل. وهكذا في كلِّ قضايانا السياسيَّة، سواء الَّتي تتَّصل بالواقع المحلّي أو بالواقع الإقليمي أو بالواقع الدولي.
أيُّها الأحبَّة، لن تستطيعوا أن تحصلوا على الخاصّ إلَّا من خلال العامّ، ولن تستطيعوا أن تحصلوا على الغنائم الفرديَّة إلَّا من خلال غنائم الأمَّة، لأنَّ الاستكبار عندما يجتاح الأمَّة، وعندما يجتاح الكفر الأمّة، فإنَّ ذلك يعني أنَّ الدَّائرة تدور على الجميع، لا فرق بين شخص وآخر.
الوحدةُ في مواجهةِ التحدّيات
أيُّها الأحبَّة، في مولد رسول الله (ص)، علينا أن ننطلق مع الوحدة الإسلاميَّة الواعية المنفتحة على قضايا الإسلام وعلى قضايا المسلمين. وفي مولد الإمام الصَّادق (ع)، علينا أن نعمل على الوحدة في ساحاتنا، حتَّى نستطيع أن نؤكّد الخطَّ هنا وهناك.
هذا هو نداء القرآن، هذا هو نداء الرَّسول (ص)، هذا هو نداء أهل البيت (ع)، إنَّ الواقع الذي نعيشه واقع خطير خطير، وصعب صعب، والتحديات كبيرة، لذلك سوف يحاسبنا الله غداً ماذا قدّمنا لهذه المرحلة، ماذا استطعنا أن نقدّم للإسلام وأهله، وأن نحرص على الواقع كلّه بالمزيد من تجميد الخلافات التي تسقط قوّتنا وتضعف أوضاعنا.
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]، هذا هو نداء المولد هنا وهناك، فهل نستجيب لهذا النّداء؟! الساحة أمامنا، والتحديات أمامنا، وعلينا أن نكون الأمّة الواحدة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 110].

الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في نظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، كما قال عليّ (ع) مخاطباً ولديه: "فإنّي سمعْتُ جدَّ كُما (ص) يقولُ: صلاحُ ذاتِ البينِ أفضلُ من عامّةِ الصَّلاةِ والصّيامِ".
علينا أن نعمل على الاستجابة لنداء الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]، أن نعمل على إصلاح الواقع كلِّه عندما يتباعد النَّاس، "صدقة يحبّها الله: إصلاحٌ بينَ النَّاسِ إذا تفاسَدُوا، وتقاربٌ بينَهم إذا تباعَدُوا"، ولا سيَّما، أيُّها الأحبَّة، في الأوضاع الصَّعبة الَّتي يواجهها النَّاس، وتترك تأثيرها على واقعهم، لتسقط قوَّتهم، وتصادر أوضاعهم وثرواتهم وما إلى ذلك.
ضغطٌ أمريكيٌّ في مجلسِ الأمن
إنَّنا نواجه الاستكبار العالميّ الَّذي لا يزال يعمل على تقوية الصهيونيَّة بكلّ مواقعها وتصرّفاتها، وها نحن، أيُّها الأحبَّة، في هذا الأسبوع، كنَّا نعيش التحرك الأمريكي في مجلس الأمن، فعندما طرحت مسألة توسيع بلديَّة القدس من أجل إضعاف الواقع الإسلاميّ العربيّ في مدينة القدس، بإضافة مجموعات كبيرة من اليهود كخطَّة لتهويد القدس، رأينا أنَّ أمريكا هدَّدت مجلس الأمن، أنَّه إذا أصدر قراراً بإدانة إسرائيل، فسوف تستخدم حقَّ النَّقد الفيتو الَّذي تملكه مع الدّول الدائمة العضويَّة وتسقط هذا القرار، وبذلك تحرك مجلس الأمن على أساس الضّغط الأمريكي، فأصدروا بياناً رئاسياً ليس له صفة القرار ولا صفة التَّنفيذ، بل مجرَّد كلام لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ومع ذلك، نجد أحد قادة الدول العربيَّة يقول إنها المرَّة الأولى التي يقف فيها المجلس إلى جانب الحقِّ العربي.
مشكلة العرب أنَّ العالم يخدّرهم بالكلمات، ولكنّه يعطي إسرائيل المزيد من المواقف، فالكلمة تخدّرنا، والكلمة تقيمنا وتقعدنا، ولكنّ إسرائيل تتصلّب في مواجهة أمريكا وفي مواجهة أوروبا والعرب، ولا يستطيع كلّ هؤلاء أن يحركوا ساكناً في مواجتهها، إمّا لأنّهم فريقها، أو لأنّهم الضّعفاء في مواجهتها.
مشكلة هذا العالم العربي أنّه استضعف نفسه وخدَّرها، وأنَّ الكثيرين من حكَّامه لا يزالون يحافظون على مواقعهم في الحكم الَّتي يخافون عليها أكثر مما يحافظون على مواقع أمَّتهم في حركة العزّة والكرامة، ولذلك فإنهم ينطلقون من ضعفٍ إلى ضعف.
تقاربٌ فرنسيٌّ عربيّ
وفي موازاة ذلك، نلاحظ من خلال زيارة الرئيس الأسد إلى فرنسا، أن الاتحاد الأوروبي، وفي مقدَّمه فرنسا، يتحرك للاقتراب من الموقف العربي في بعض المواقف، ولكنَّه لا يتحرَّك لسواد عيون العرب، لأنَّ الدول ليست جمعيات خيرية حتى يعطيك صدقة في سبيل الله؛ إنهم يتحركون من أجل مصالحهم، ولذلك قد يقفون في مواجهتنا إذا كانت مصالحهم تفرض عليهم ذلك، وعندما تقترب مصالحهم من مصالحنا، يعطونا بعض الكلمات أو بعض المواقف. لذلك، علينا أن نستجيب للمواقف الجيّدة، ولكن علينا أن لا نخدع بها، وأن لا نسقط أمامها. علينا أن ندرس مواقعنا في تحديد مواقفنا، وأن نعمل على أن نأخذ بأسباب القوَّة، وأن ندرس ما حجم مصالحنا مقارنةً بمصالح الآخرين.
ومن جهة أخرى، فإنَّ فرنسا والاتحاد الأوروبي لا يملكان أيَّ موقع للقوَّة في القضيَّة الفلسطينيَّة الإسرائيليَّة، أو القضيّة الإسرائيليّة العربيّة، باعتبار أنَّ الاتحاد الأوروبي يصرّح دائماً بأنّنا لسنا بديلاً من أمريكا، إنّ أمريكا هي التي تملك كلَّ الأوراق مع إسرائيل في عملية التسوية أو في حلّ مشكلة المنطقة. ولهذا، فإنهم قد يكونون وكلاء عن أمريكا في بعض المواقف، في تليين بعض المواقع، أو في السيطرة على بعضها في هذا المجال أو ذاك، ولكنَّ الاتحاد الأوروبي، وفرنسا في مقدَّمه، لن يستطيع أن يعطي شيئاً كبيراً في عملية الحلّ لمشكلة المنطقة في هذا المجال، ولكن ربما يعطي بعداً معنوياً للموقف العربي، وإذا كانت أمريكا تريد نوعاً من أنواع الإخراج لبعض مواقفها لتقترب من العرب بشكل تكتيكي، فربما تكون أوروبّا هي الوكيلة عنها في ذلك. لذلك، قد تكون العلاقات الأوروبيَّة العربيَّة مفيدة في بعض الجوانب، ولكن علينا أن لا نغرق في أحلام اليقظة، أو في أحلام الغفوة، لنتوهّم أنها قد تعطينا شيئاً كبيراً في هذا المجال.
حوارٌ إيرانيٌّ أوروبّي
ونلاحظ أنَّ الاتحاد الأوروبي الَّذي يتحرَّك من أجل مصالحه في المنطقة، قد قرَّر أن يقترب من الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، ليرسل وفداً في هذا اليوم، على أساس إقامة حوار جديّ مع الجمهوريَّة الإسلامية في إيران، للتمهيد لفتح صفحة جديدة في العلاقات الأوروبية الإيرانية، من خلال السياسة الحكيمة المنفتحة الواقعيَّة في إيران، والتي استطاعت من خلالها إسقاط محاولة أمريكا عزلها في المجال الدولي.
إننا نأمل المزيد من الإيجابيات في علاقة أوروبا بالدول العربية والإسلامية، لأنَّ ذلك يمثّل مصلحة الجميع، وإن كان علينا أن نتواضع في أحلامنا في هذا الجانب أو ذاك.
تعاونٌ إسرائيليّ تركيّ
وليس بعيداً من التدخل الأمريكي في المنطقة، استطاعت إسرائيل أن تقيم قاعدة جويَّة في تركيا على أساس التحالف التركي الإسرائيلي، تحت مظلَّة الولايات المتحدة الأمريكيَّة، على أساس أنَّ توثيق التعاون بين تركيا وإسرائيل، ربما يمثّل عنصر ضغط ثلاثيّ أمريكيّ تركي إسرائيلي على الدول العربيَّة والإسلاميَّة، ولا سيّما سوريا والجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، من أجل محاصرتهما عندما يراد أن يفرض الحصار عليهما، أو الاعتداء عليهما، ما يفرض المزيد من الاستعداد للمواجهة من أجل حماية المستقبل من العدوان.
فضيحةُ ملفّ الدّواء
وأخيراً، يبقى الواقع الداخلي اللبناني موضع سجال حول بعض الملفَّات الماليَّة، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بقضيَّة مكتب الدَّواء، والفضائح الَّتي يتحدَّث عنها الجميع، في إدخال أصناف غير خاضعة للمراقبة في المختبرات، ما يشكّل خطراً على صحَّة المواطن، على أساس أن تُدخِل بعض الجهات بعض الأدوية وتقدّمها بسعر رخيص، ولا نعرف كيف انطلقت، ومن أين، وكيف توضع في الصيدليّات، والكثير أيضاً من الذين يشتغلون في الصيدليات هم عمّال لا صيدليون، ولا يملكون ثقافة الصّيدلة، وربما تدخل سموم هذه الأدوية إلى أجساد المواطنين الَّذين يختارون الدَّواء من أجل الصحّة، فيكون شراؤهم الدواء موجباً لأمراض جديدة ومشاكل صحيَّة.
لذلك، لا تشتروا الدواء من موظَّف في صيدليَّة، هذه نصيحة بعض الأطبّاء المخلصين، إلا إذا كان الصيدلي بنفسه يتحمَّل مسؤوليَّة هذا الدواء. أمَّا أن تشتروا الدواء من الصيدليَّات على أساس هذا العامل أو ذاك، فحاولوا إذا أردتم الإخلاص لصحّتكم، أن تطلبوا من الصيدلي أن يتحمَّل مسؤوليَّة هذا الدَّواء من حيث ما هو مصدره، لأنَّ المشكلة أنَّ المختبرات الموضوعة لدى الدّولة، لا تشرف على الكثير من الأدوية الَّتي تدخل إلى هذا البلد. لذلك، إننا ندعو إلى ملاحقة هذا الأمر من قبل الدولة بكلّ مسؤوليَّة، قبل أن تنفذ السّموم الدولية إلى جسم المواطن.
أزمةٌ اقتصاديّة
كما أننا نلاحظ وجود أزمة حقيقيّة تعيشها الدَّولة على المستوى الاقتصاديّ، تجعلها عاجزة عن إعطاء الموظَّفين حقوقهم، ما يوحي بأنَّ السياسة الاقتصاديَّة كانت غير موفَّقة، وأنَّ الاستدانة لم تستطع حلَّ المشاكل الاقتصاديَّة، بل زادتها تعقيداً، الأمر الَّذي يفرض على المسؤولين مواجهة الموقف بالبحث عن خطَّة مدروسة لحلّ الأزمة المستعصية على صعيد الدَّولة والمواطنين، لأنَّ البلد لم يعد قادراً على تحمّل النَّتائج الصَّعبة في القضايا الحياتيَّة العامَّة.
احترام حريّة الصّحافة
ونشير في نهاية المطاف إلى بعض الإشارات، أنَّ الدولة قد تتَّخذ تدابيراستثنائيَّة للتَّأثير في حريَّة الصّحافة والتَّضييق عليها، بعد الأجواء المماثلة الَّتي سادت بعض الدول العربيَّة مؤخَّراً.
إنَّنا نؤكّد أنَّ حريَّة الصّحافة المسؤولة هي إحدى الحريَّات في لبنان، فلا يجوز التَّضييق عليها، مع تأكيدنا على الحريَّة المسؤولة سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً، وضرورة معالجة الملفَّات القلقة بروح المسؤوليَّة والعقلانيَّة، لا بروح الانفعال والعشوائيَّة.
أيُّها المسؤولون، إنَّ المرحلة الَّتي يمرّ بها البلد والمنطقة خطيرة خطيرة، فلا تلعبوا بالوطن، بالحساسيات الشخصية والخلفيّات الطائفيّة الضيّقة.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته في مسجد الحسنين في خارة حريك، بتاريخ: 17/07/1998م.
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92].
{وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون: 52].
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[آل عمران: 103].
في أجواءِ الولادةِ المباركة
في أجواء الولادة المباركة، ولادة النبوَّة في ميلاد النَّبيّ (ص)، وولادة الإمامة في ولادة الإمام جعفر الصَّادق (ع)، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش الأجواء فيما أرادته النّبوَّة في خطِّها الرساليّ، وأرادته الإمامة في امتداد خطِّ النبوَّة في خطِّها، وهو أن تجمع النَّاس على الحقّ، وأن توحِّدهم، وأن تنهج بهم النَّهج الأقوم والخطَّ المستقيم، من أجل أن يتعلَّم النَّاس أنَّ الالتزام بالقاعدة يفرض الالتزام بالخطِّ الَّذي ينطلق من القاعدة، فإذا كنَّا نلتزم بقاعدة الإسلام في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وما أنزل الله من كتب، وما بعث من رسل، فعلينا أن نلتقي على هذه القاعدة، لأنَّها القاعدة الَّتي أراد الله أن نتوحَّد عليها، ولأنَّ الله أراد للَّذين يؤمنون بهذه القاعدة، أن يكونوا الأمَّة الواحدة الَّتي تلتقي على عبادة الله في إخلاص العبوديَّة له سبحانه، وعلى تقوى الله في انطلاق التَّقوى في كلِّ مواقع الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة، وأن يعتصموا بحبل الله، لأنَّ القرآن، وهو قاعدة الإسلام، هو حبل الله، وأنَّ كلَّ هؤلاء إذا افترقوا وتنازعوا في شأنٍ يتَّصل ببعض جوانب العقيدة في علم الكلام، أو إذا اختلفوا في شأنٍ يتَّصل ببعض جوانب الشَّريعة في علم الفقه، أو إذا اختلفوا في بعض الوسائل والأساليب والمناهج، فإنَّ عليهم أن يردّوا الأمر إلى الله، ليفكِّروا فيما قاله سبحانه، ليفهموه ويناقشوه، وليسيروا إلى ما يلتقون عليه ويتَّفقون عليه فيه، وأن يردّوا الأمر إلى الرسول فيما قاله (ص)، لا أن يبتعدوا عن خطِّ الله وخطِّ الرَّسول في اتّباع أهوائهم ومطامعهم والمحافظة على مواقعهم.
وهكذا، عندما ننفتح على خطِّ الإمامة، فإنَّ أئمَّة أهل البيت (ع) أرادوا لأتباعهم أن يلتزموا وحدة المسلمين في الدَّائرة الإسلاميَّة العامَّة، وأن يلتزموا وحدة المسلمين في خطِّ أهل البيت (ع) في هذه الدَّائرة، وأن لا يعتبروا الخلافات الفرعيَّة، والاجتهادات المتنوّعة في التَّفاصيل، أساساً للفرقة والخلاف والنِّزاع والتَّباعد، لأنَّ ذلك سوف يسقط القاعدة، وسوف يضعف الأمَّة، وسوف يمكِّن الأعداء من السَّيطرة على ثقافتها ومقدَّراتها وثرواتها، وعلى مواقفها ومواقعها، وهذا ما جاءنا الحديث فيه عن أئمَّة أهل البيت (ع).
درسُ عليّ (ع): القوَّةُ بالوحدة
ونحن الآن نستذكر بعض ما قاله إمامنا إمام المتَّقين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) في خطبة القاصعة في نهج البلاغة.
تصوَّروا أنَّ عليّاً بينكم يخاطبكم، لأنّه إذا لم يخاطبكم بشخصه، فإنَّه يخاطبكم بكلامه، وهو حيّ بكلامه، ولذلك فإنَّ علينا أن نصغي إليه كما لو كان بيننا، لأنَّه لم يخاطب النَّاس آنذاك، لكنَّه خاطب كلَّ الأجيال في خطِّ الإسلام. يقول (ع):
"واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ، بِسُوءِ الأَفْعَالِ وذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ، فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِه شَأْنَهُمْ، وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَه عَنْهُمْ، ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِه عَلَيْهِمْ، وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَه مَعَهُمْ، ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْه حَبْلَهُمْ – ما الأشياء الَّتي أعطتهم العزّة والكرامة، وهزمت الأعداء، ومنحتهم العافية، وشملتهم به النّعمة؟ - مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، واللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ، والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا والتَّوَاصِي بِهَا. واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ - إشارة إلى ما يكسر الظَّهر وفقراته - وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ – ما الّذي يكسر ظهر الإنسان، كناية عن كسر القوّة وكسر الموقع؟ - مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وتَخَاذُلِ الأَيْدِي. وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُم... فانظروا كيف كانوا، حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً، والأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، والْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، والأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً. أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ، ومُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟! - لأنهم كانوا متَّحدين ومتآلفين ومتناصرين ومتعاونين - فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْه فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، واخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ والأَفْئِدَةُ، وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، وقَدْ خَلَعَ اللَّه عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِه، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِه، وبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ".
إنَّ الإمام (ع) يريدنا أن ندرس التَّأريخ، لندرس كيف تبنى الحضارات وكيف تسقط، كيف تقوى المجتمعات وكيف تضعف، ويعتبر أنَّ القوَّة بالوحدة وبالألفة، وبالتَّعاون والتَّناصر، وبالاجتماع على الفكر الواحد، والقضايا الواحدة، والتَّحدِّيات الواحدة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يمكن أن يحمي الأمَّة من أعدائها، عندما تحمي نفسها من أهوائها وأطماعها.
تأثيرُ الفرقةِ في الأمَّة
ونقرأ بعد ذلك في الأحاديث عن عليّ (ع)، بعد أن نضع أمامنا كلام الله، وعليّ (ع) تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله، وفي القرآن: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105].
يقول الإمام (ع) فيما يروى عنه: "وأيم الله، مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا، إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ باطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا، إلَّا ما شاءَ الله"، لأنَّ أهل الحقّ إذا اختلفوا وتنازعوا فيما بينهم، فإنَّ ذلك يجعل أهل الباطل المتوحِّدين، في موقع القوَّة الَّذي يستفيدون فيه من ضعف أهل الحقّ بالتخاذل والتفرّق والتمزق.
ويقول (ع): "إيّاكُم والتَّلَوُّنَ في دِينِ اللَّهِ - بحيث يكون دين الله ألواناً عندكم - فإنَّ جَماعَةً فيما تَكْرَهونَ مِن‌ الحقِّ، خَيرٌ مِن فُرقَةٍ فيما تُحِبّونَ مِن الباطِلِ، وإنّ اللَّهَ سُبحانَهُ لَم يُعْطِ أحَداً بفُرقَةٍ خَيراً، مِمّن مَضى ولا مِمّن بَقِي".
فالله لن يعطي الخير بالفرقة والاختلاف في أيّ موقع من المواقع، سواء كانت اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ما إلى ذلك، لأنَّها تختزن في داخلها كلّ الشّرّ، وتثير الحقد والبغضاء والعداوة والحرب وما إلى ذلك.
وهكذا جاء في الحديث عنه (ع) في نهج البلاغة: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَه – يخطّطها لكم - ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً – يعني أنَّ الشيطان لا يحلّ دينك دفعة واحدة، فهو يبدأ معك بفكرة معيّنة، مثلاً يوحي إليك بأنّه لا مانع في أن تغتاب النَّاس، ثمّ يقول لك إنّ هؤلاء الجماعة ضدّ مصالحك، فحاول أن تفتن بينهم؛ أن تفتن بين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، ثمّ يقول لك لا بأس في أن تكذب، اكذب كذبة بيضاء، ثمّ تتحوّل مع الوقت لتصبح سوداء، وهكذا. فالشَّيطان يستعين بمعصية على معصية، فإذا أطعته في معصية الله في جانب، فإنَّه يأخذ من طاعتك له قوَّة يستعين بها على أن يجعلك تعصي الله في جانب آخر، لأنَّه لمجرَّد أن يقتحم القلعة الإيمانيَّة في نفسك، ويصبح له موقع فيها، فإنّه يحاربك من الدّاخل، تماماً كما العدوّ الّذي عندما يصبح له موقع في بلادنا، ألا يحاربنا من الداخل؟ كذلك الشّيطان، يعمل على توسيع هذه الثَّغرة، ويوسّع هذا الموقف - يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ – أي أنّه يعطيكم الفرقة بدل الجماعة، وإذا تفرَّقتم، يحاول أن يستغلَّ الفرقة فيما بينكم - وبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ – بإيجاد الفتنة فيما بينكم - فاصدفوا عن نزغَاتِهِ ونفثَاتِهِ".
وهكذا يريد الإمام (ع) أن نكون الواعين لخطط الشَّيطان في هذا الجانب من حياتنا، حيث يحاول أن يستغلّ بعض الحسياسيات والحزبيات والمذهبيات، وبعض الوسائل والأساليب والعصبيات، من أجل أن يفرّق فيما بيننا، وربّما يعطي الفرقة عنوان الحقّ وعنوان التقوى، وعلينا أن ندرس الأمر دراسة واعية في هذا الاتجاه.
في مواجهةِ الاستكبارِ العالميّ
ثمّ يقول الإمام (ع)، وهو يشير إلى الفئات المضادَّة الَّتي كانت تقف ضدّ الخطّ الأصيل الّذي كان يمثّله (ع): "واللّهِ، لَأظُنُّ أنَّ هؤلاءِ القَومَ – الجماعة المضادّين - سَيُدالونَ مِنكُم باجْتِماعِهِم على باطِلِهم، وتَفَرُّقِكُم عن حقِّكُم".
أليست هذه الصّورة هي صورتنا الآن؛ صورتنا كمسلمين في مقابل الكافرين، وكمستضعفين في مقابل المستكبرين، وكمتحركين في الخطِّ الإسلاميّ الأصيل في الواقع الَّذي نعيشه؟! ما هي صورة واقعنا، أيُّها الأحبَّة؟! إنَّها صورة الأحزاب المتفرّقة حتَّى في الخطّ الإسلاميّ، صورة الشعوب المتمزّقة حتى في مواجهة الصهيونيَّة، والأعراق المختلفة حتى في مواجهة الاستكبار العالمي.
الاستكبار العالمي يقف موحَّداً وراء مصالحه عندنا. إن الدول السبع أو الثماني الكبار، وهي الدول التي تملك الثّروة العالميَّة، تجتمع في كلّ مرحلة من أجل أن تخطّط كيف تنظّم مصالحها فيما تطبق عليه من ثروات الشّعوب؛ أمريكا من جهة، واليابان من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا أخيراً من جهة، هؤلاء الدول الَّذين يعتبرونهم الدّول الأكثر ثروة والأكثر غنى، إنَّهم يجتمعون عندما تختلف مصالحهم أو تتضارب، ثمَّ يخرجون بقرارات تنظّم مصالحهم في كيف يمكن أن يضعفونا، وكيف يمكن أن يواجهوا كلَّ التيارات التي تعمل على أساس إطلاق نداءات الحريَّة ونداءات الاستقلال والاكتفاء الذاتي وما إلى ذلك.
وهكذا نجد أنَّ الكفر بجميع فرقه، وبجميع أوضاعه ومواقعه وأشكاله، يقف ضدّ الإسلام، إن هناك حرباً ثقافية ضدّ الإسلام كلّه، سواء كان إسلاماً سنيّاً أو إسلاماً شيعياً، وعلى المسلمين جميعاً أن يقفوا في مواجهة هذا التحدّي الكبير الَّذي يريد أن يقتلع الإسلام من جذوره الثقافيَّة، وبعد ذلك، عندما نتخفَّف من الخطر الكبير، عند ذلك يمكن أن نختلف في خصوصيَّاتنا المذهبيَّة.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، إنَّ خطَّ أهل البيت (ع) يتعرَّض لحرب مجنونة من أكثر من جهة، لذلك لا بدَّ لنا أن نجمّد الكثير من خلافاتنا، من أجل أن نتوحَّد في مواجهة هذا الخطر الَّذي يريد أن يجتثّ التَّفكير الأصيل الَّذي يمثّله أهل البيت (ع) في الإسلام من كلّ جذوره، أن نعمل على حماية خطّ الإسلام الأصيل العام، ثمَّ بعد ذلك نختلف في مسألة التفاصيل. وهكذا في كلِّ قضايانا السياسيَّة، سواء الَّتي تتَّصل بالواقع المحلّي أو بالواقع الإقليمي أو بالواقع الدولي.
أيُّها الأحبَّة، لن تستطيعوا أن تحصلوا على الخاصّ إلَّا من خلال العامّ، ولن تستطيعوا أن تحصلوا على الغنائم الفرديَّة إلَّا من خلال غنائم الأمَّة، لأنَّ الاستكبار عندما يجتاح الأمَّة، وعندما يجتاح الكفر الأمّة، فإنَّ ذلك يعني أنَّ الدَّائرة تدور على الجميع، لا فرق بين شخص وآخر.
الوحدةُ في مواجهةِ التحدّيات
أيُّها الأحبَّة، في مولد رسول الله (ص)، علينا أن ننطلق مع الوحدة الإسلاميَّة الواعية المنفتحة على قضايا الإسلام وعلى قضايا المسلمين. وفي مولد الإمام الصَّادق (ع)، علينا أن نعمل على الوحدة في ساحاتنا، حتَّى نستطيع أن نؤكّد الخطَّ هنا وهناك.
هذا هو نداء القرآن، هذا هو نداء الرَّسول (ص)، هذا هو نداء أهل البيت (ع)، إنَّ الواقع الذي نعيشه واقع خطير خطير، وصعب صعب، والتحديات كبيرة، لذلك سوف يحاسبنا الله غداً ماذا قدّمنا لهذه المرحلة، ماذا استطعنا أن نقدّم للإسلام وأهله، وأن نحرص على الواقع كلّه بالمزيد من تجميد الخلافات التي تسقط قوّتنا وتضعف أوضاعنا.
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]، هذا هو نداء المولد هنا وهناك، فهل نستجيب لهذا النّداء؟! الساحة أمامنا، والتحديات أمامنا، وعلينا أن نكون الأمّة الواحدة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 110].

الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في نظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، كما قال عليّ (ع) مخاطباً ولديه: "فإنّي سمعْتُ جدَّ كُما (ص) يقولُ: صلاحُ ذاتِ البينِ أفضلُ من عامّةِ الصَّلاةِ والصّيامِ".
علينا أن نعمل على الاستجابة لنداء الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]، أن نعمل على إصلاح الواقع كلِّه عندما يتباعد النَّاس، "صدقة يحبّها الله: إصلاحٌ بينَ النَّاسِ إذا تفاسَدُوا، وتقاربٌ بينَهم إذا تباعَدُوا"، ولا سيَّما، أيُّها الأحبَّة، في الأوضاع الصَّعبة الَّتي يواجهها النَّاس، وتترك تأثيرها على واقعهم، لتسقط قوَّتهم، وتصادر أوضاعهم وثرواتهم وما إلى ذلك.
ضغطٌ أمريكيٌّ في مجلسِ الأمن
إنَّنا نواجه الاستكبار العالميّ الَّذي لا يزال يعمل على تقوية الصهيونيَّة بكلّ مواقعها وتصرّفاتها، وها نحن، أيُّها الأحبَّة، في هذا الأسبوع، كنَّا نعيش التحرك الأمريكي في مجلس الأمن، فعندما طرحت مسألة توسيع بلديَّة القدس من أجل إضعاف الواقع الإسلاميّ العربيّ في مدينة القدس، بإضافة مجموعات كبيرة من اليهود كخطَّة لتهويد القدس، رأينا أنَّ أمريكا هدَّدت مجلس الأمن، أنَّه إذا أصدر قراراً بإدانة إسرائيل، فسوف تستخدم حقَّ النَّقد الفيتو الَّذي تملكه مع الدّول الدائمة العضويَّة وتسقط هذا القرار، وبذلك تحرك مجلس الأمن على أساس الضّغط الأمريكي، فأصدروا بياناً رئاسياً ليس له صفة القرار ولا صفة التَّنفيذ، بل مجرَّد كلام لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ومع ذلك، نجد أحد قادة الدول العربيَّة يقول إنها المرَّة الأولى التي يقف فيها المجلس إلى جانب الحقِّ العربي.
مشكلة العرب أنَّ العالم يخدّرهم بالكلمات، ولكنّه يعطي إسرائيل المزيد من المواقف، فالكلمة تخدّرنا، والكلمة تقيمنا وتقعدنا، ولكنّ إسرائيل تتصلّب في مواجهة أمريكا وفي مواجهة أوروبا والعرب، ولا يستطيع كلّ هؤلاء أن يحركوا ساكناً في مواجتهها، إمّا لأنّهم فريقها، أو لأنّهم الضّعفاء في مواجهتها.
مشكلة هذا العالم العربي أنّه استضعف نفسه وخدَّرها، وأنَّ الكثيرين من حكَّامه لا يزالون يحافظون على مواقعهم في الحكم الَّتي يخافون عليها أكثر مما يحافظون على مواقع أمَّتهم في حركة العزّة والكرامة، ولذلك فإنهم ينطلقون من ضعفٍ إلى ضعف.
تقاربٌ فرنسيٌّ عربيّ
وفي موازاة ذلك، نلاحظ من خلال زيارة الرئيس الأسد إلى فرنسا، أن الاتحاد الأوروبي، وفي مقدَّمه فرنسا، يتحرك للاقتراب من الموقف العربي في بعض المواقف، ولكنَّه لا يتحرَّك لسواد عيون العرب، لأنَّ الدول ليست جمعيات خيرية حتى يعطيك صدقة في سبيل الله؛ إنهم يتحركون من أجل مصالحهم، ولذلك قد يقفون في مواجهتنا إذا كانت مصالحهم تفرض عليهم ذلك، وعندما تقترب مصالحهم من مصالحنا، يعطونا بعض الكلمات أو بعض المواقف. لذلك، علينا أن نستجيب للمواقف الجيّدة، ولكن علينا أن لا نخدع بها، وأن لا نسقط أمامها. علينا أن ندرس مواقعنا في تحديد مواقفنا، وأن نعمل على أن نأخذ بأسباب القوَّة، وأن ندرس ما حجم مصالحنا مقارنةً بمصالح الآخرين.
ومن جهة أخرى، فإنَّ فرنسا والاتحاد الأوروبي لا يملكان أيَّ موقع للقوَّة في القضيَّة الفلسطينيَّة الإسرائيليَّة، أو القضيّة الإسرائيليّة العربيّة، باعتبار أنَّ الاتحاد الأوروبي يصرّح دائماً بأنّنا لسنا بديلاً من أمريكا، إنّ أمريكا هي التي تملك كلَّ الأوراق مع إسرائيل في عملية التسوية أو في حلّ مشكلة المنطقة. ولهذا، فإنهم قد يكونون وكلاء عن أمريكا في بعض المواقف، في تليين بعض المواقع، أو في السيطرة على بعضها في هذا المجال أو ذاك، ولكنَّ الاتحاد الأوروبي، وفرنسا في مقدَّمه، لن يستطيع أن يعطي شيئاً كبيراً في عملية الحلّ لمشكلة المنطقة في هذا المجال، ولكن ربما يعطي بعداً معنوياً للموقف العربي، وإذا كانت أمريكا تريد نوعاً من أنواع الإخراج لبعض مواقفها لتقترب من العرب بشكل تكتيكي، فربما تكون أوروبّا هي الوكيلة عنها في ذلك. لذلك، قد تكون العلاقات الأوروبيَّة العربيَّة مفيدة في بعض الجوانب، ولكن علينا أن لا نغرق في أحلام اليقظة، أو في أحلام الغفوة، لنتوهّم أنها قد تعطينا شيئاً كبيراً في هذا المجال.
حوارٌ إيرانيٌّ أوروبّي
ونلاحظ أنَّ الاتحاد الأوروبي الَّذي يتحرَّك من أجل مصالحه في المنطقة، قد قرَّر أن يقترب من الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، ليرسل وفداً في هذا اليوم، على أساس إقامة حوار جديّ مع الجمهوريَّة الإسلامية في إيران، للتمهيد لفتح صفحة جديدة في العلاقات الأوروبية الإيرانية، من خلال السياسة الحكيمة المنفتحة الواقعيَّة في إيران، والتي استطاعت من خلالها إسقاط محاولة أمريكا عزلها في المجال الدولي.
إننا نأمل المزيد من الإيجابيات في علاقة أوروبا بالدول العربية والإسلامية، لأنَّ ذلك يمثّل مصلحة الجميع، وإن كان علينا أن نتواضع في أحلامنا في هذا الجانب أو ذاك.
تعاونٌ إسرائيليّ تركيّ
وليس بعيداً من التدخل الأمريكي في المنطقة، استطاعت إسرائيل أن تقيم قاعدة جويَّة في تركيا على أساس التحالف التركي الإسرائيلي، تحت مظلَّة الولايات المتحدة الأمريكيَّة، على أساس أنَّ توثيق التعاون بين تركيا وإسرائيل، ربما يمثّل عنصر ضغط ثلاثيّ أمريكيّ تركي إسرائيلي على الدول العربيَّة والإسلاميَّة، ولا سيّما سوريا والجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، من أجل محاصرتهما عندما يراد أن يفرض الحصار عليهما، أو الاعتداء عليهما، ما يفرض المزيد من الاستعداد للمواجهة من أجل حماية المستقبل من العدوان.
فضيحةُ ملفّ الدّواء
وأخيراً، يبقى الواقع الداخلي اللبناني موضع سجال حول بعض الملفَّات الماليَّة، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بقضيَّة مكتب الدَّواء، والفضائح الَّتي يتحدَّث عنها الجميع، في إدخال أصناف غير خاضعة للمراقبة في المختبرات، ما يشكّل خطراً على صحَّة المواطن، على أساس أن تُدخِل بعض الجهات بعض الأدوية وتقدّمها بسعر رخيص، ولا نعرف كيف انطلقت، ومن أين، وكيف توضع في الصيدليّات، والكثير أيضاً من الذين يشتغلون في الصيدليات هم عمّال لا صيدليون، ولا يملكون ثقافة الصّيدلة، وربما تدخل سموم هذه الأدوية إلى أجساد المواطنين الَّذين يختارون الدَّواء من أجل الصحّة، فيكون شراؤهم الدواء موجباً لأمراض جديدة ومشاكل صحيَّة.
لذلك، لا تشتروا الدواء من موظَّف في صيدليَّة، هذه نصيحة بعض الأطبّاء المخلصين، إلا إذا كان الصيدلي بنفسه يتحمَّل مسؤوليَّة هذا الدواء. أمَّا أن تشتروا الدواء من الصيدليَّات على أساس هذا العامل أو ذاك، فحاولوا إذا أردتم الإخلاص لصحّتكم، أن تطلبوا من الصيدلي أن يتحمَّل مسؤوليَّة هذا الدَّواء من حيث ما هو مصدره، لأنَّ المشكلة أنَّ المختبرات الموضوعة لدى الدّولة، لا تشرف على الكثير من الأدوية الَّتي تدخل إلى هذا البلد. لذلك، إننا ندعو إلى ملاحقة هذا الأمر من قبل الدولة بكلّ مسؤوليَّة، قبل أن تنفذ السّموم الدولية إلى جسم المواطن.
أزمةٌ اقتصاديّة
كما أننا نلاحظ وجود أزمة حقيقيّة تعيشها الدَّولة على المستوى الاقتصاديّ، تجعلها عاجزة عن إعطاء الموظَّفين حقوقهم، ما يوحي بأنَّ السياسة الاقتصاديَّة كانت غير موفَّقة، وأنَّ الاستدانة لم تستطع حلَّ المشاكل الاقتصاديَّة، بل زادتها تعقيداً، الأمر الَّذي يفرض على المسؤولين مواجهة الموقف بالبحث عن خطَّة مدروسة لحلّ الأزمة المستعصية على صعيد الدَّولة والمواطنين، لأنَّ البلد لم يعد قادراً على تحمّل النَّتائج الصَّعبة في القضايا الحياتيَّة العامَّة.
احترام حريّة الصّحافة
ونشير في نهاية المطاف إلى بعض الإشارات، أنَّ الدولة قد تتَّخذ تدابيراستثنائيَّة للتَّأثير في حريَّة الصّحافة والتَّضييق عليها، بعد الأجواء المماثلة الَّتي سادت بعض الدول العربيَّة مؤخَّراً.
إنَّنا نؤكّد أنَّ حريَّة الصّحافة المسؤولة هي إحدى الحريَّات في لبنان، فلا يجوز التَّضييق عليها، مع تأكيدنا على الحريَّة المسؤولة سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً، وضرورة معالجة الملفَّات القلقة بروح المسؤوليَّة والعقلانيَّة، لا بروح الانفعال والعشوائيَّة.
أيُّها المسؤولون، إنَّ المرحلة الَّتي يمرّ بها البلد والمنطقة خطيرة خطيرة، فلا تلعبوا بالوطن، بالحساسيات الشخصية والخلفيّات الطائفيّة الضيّقة.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته في مسجد الحسنين في خارة حريك، بتاريخ: 17/07/1998م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية