عن الحريّة والحوار والعولمة والقضيَّة الفلسطينيَّة

عن الحريّة والحوار والعولمة والقضيَّة الفلسطينيَّة

في مقابلة للعلامة المرجع فضل الله (ره) مع تلفزيون "تيليه ليميير" عن الحريّة والحوار والعولمة والقضيَّة الفلسطينيَّة
 
مقدمة التلفزيون: محيط حباه الله بشخصيَّة متعدّدة الأبعاد؛ الفقهيّ منها والسياسيّ والثَّقافيّ.. حركيّ منفتح على قضايا عصره.. الدَّين والسياسة في نظره صنوان.. الحرّية والعدالة من مقوّمات الدّين.. وهل السياسة إلَّا من نُسغ هاتين الكلمتين في حياة الإنسان؟!
يعتمِدُ الأسلوب العلميَّ الموضوعيَّ في حواره مع الآخر المختلف، ملتزم غير متعصّب، لأنَّ الالتزام، بحسب رأيه، يُصرُّ على الفكرة، ولكنَّه يفتح النَّافذة للآخر ليناقش الفكرة.. يوازن ما بين العقل والقلب في خطابه وممارسته، بقوله: "افتح قلب النَّاس عليك، تنفتح عقولهم على كلماتك".
إنَّه شاهد عصره؛ العلَّامة المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله..
س: أهلاً وسهلاً بك سماحة السيّد.
ج: أهلاً وسهلاً بكم جميعاً.
العامليّ الإنسانيّ
س: سماحة السيَّد عامليّ الجذور، وأمَّا بعد..؟!
ج: وإنسانيّ الأفق، لأنَّ عاملة الَّتي تُمثّل مساحةً من لبنان المنفتح على الله وعلى الإنسان وعلى الحياة، كانت في كلّ تاريخها تنتجُ إنسانيَّة الإنسان، وقد تعلَّمْتُ من جذورها كيف يتجذَّر الإنسان في إنسانيَّته، ليحلّق، ليكون إنسان الله الَّذي يحملُ في قلبه وعقله الإنسانَ كلَّه، الإنسان الَّذي لا تقف الحواجز أمامه، لأنَّ الحواجز حالة طارئة، وتبقى كُلّ اهتزازات الإنسانيَّة في الإنسان، لتزيل كُلّ الحواجز الَّتي تنتصبُ لتحول بين لقاء إنسان وآخر.
 
تعلَّمتُ من جذوري العامليّة كيف يتجذَّر الإنسان في إنسانيَّته، ليحلّق في سماء الله، ويحمل في قلبه الإنسانَ كلَّه
حوارٌ أم صراع؟!
س: كيف ترون إلى حوار الحضارات بين الإسلام والمسيحيَّة؟ وهل ما تشهده المنطقة من صراع حضارات تقفُ وراءه اليهوديَّة، أم أنَّه صراع سياسيّ بفعل الحركة الصّهيونيَّة؟ وهل من نهاية لهذا الصّراع، وكيف؟
ج: هناك حوار بين الإسلام والمسيحيَّة منذ أن كان الإسلام، لأنَّ الإسلام عندما انطلق، لم ينطلق ليلغي الآخر، بل ليحتضنه، فالمسيحيَّة في جذورها الإلهيَّة، وامتداداتها الرّوحيَّة الإنسانيَّة، تماماً كما هي الموسويَّة في معناها التَّوراتيّ الأصيل، يمثّلان دينين ينفتحان على الله، ويريدان للإنسان أن ينفتح من خلالهما على الله.
ولذلك، فإنَّ شعار القرآن الّذي يمثّل كتاب الله في الإسلام {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}(1)، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}(2)، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(3)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(4).
لذلك، عندما انطلق الإسلام، إنّما انطلق حواريّاً، لأنَّه من خلال قاعدته الفكريَّة الإنسانيَّة، أراد للإنسان أن يؤمن من موقع فكرٍ يلتقي بالرّوح، وقلبٍ يلتقي بالعقل، لأنَّ مسألة الدّين ليست مسألة مجرَّدة، كما يدَّعي البعض، بل هي عقل يكتشف الروح، وروح تنبض بحركيَّة العقل.
وفي ضوء هذا، فقد بدأ الحوار بين الإسلام والمسيحيَّة من خلال التَّفاصيل الَّتي تختلف فيها اجتهادات المسيحيّين عن اجتهادات المسلمين في فهم الإنجيل والتَّوراة، كما في اختلاف المسلمين فيما بينهم في فهم القرآن، ونحن نعرفُ أنَّ الحِوار في الإسلام ينطلق من اللّقاء على أرض مشتركةٍ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا - فلنتوحَّد من خلال توحيد الله الَّذي نؤمن به جميعاً، وإنْ كنَّا نختلف في بعض التَّفاصيل - وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(5)، أن لا يكون الإنسان ربّاً للإنسان، مهما كانت ضخامة ثروته أو موقعه أو ما إلى ذلك...
ثمَّ تنطلق المسألة على أساس التَّفاصيل: هل صُلِبَ السيّد المسيح، أم شبّه لهم أنَّه صلب؟ هل هو الله أم هو رسول الله؟ وما إلى ذلك من التَّفاصيل الَّتي ربما اختلف فيها المسيحيّون فيما بينهم، ويختلف المسلمون والمسيحيّون حولها.
منهجيَّة القرآن في الحوار
أمَّا شعار القرآن، فهو: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6). ولذلك، عندما انطلق الحوار بين المسيحيَّة والإسلام، انطلق إنسانياً حضارياً، ولم يتحرّك من موقع عقدة، ولكنَّه تحرّك من موقع انفتاح على الحقيقة، ليكون المتحاوران مترافقين في رحلة البحث عن الحقيقة.
وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في منهجه الحواريّ، عندما لم يفرض المحاور المسلم نفسه على المحاور الآخر، مسيحيّاً كان أو غير مسيحيّ، بل انطلق من منهجيّة الشَّكّ المتبادل، وإن كان كلٌّ من الطَّرفين ملتزماً، لكنَّ الحوار لا يفرض أن تدخل التزامك في السَّاحة، بل عليك أن تكون الإنسان الَّذي يتقمَّص الشَّكَّ ليصل إلى الحقيقة، من خلال حركة الشّكّ الَّذي يُثير قلق المعرفة في نفسه، وهكذا قال تعالى: {إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(7)، قد أكون على هدى وقد أكون على ضلال، وقد تكون أنت على هدى وقد تكون على ضلال، لذلك هناك حقيقة ضائعة بيننا، فلنترافق من أجل أن نبحث عنها ونصل إليها.
أمَّا بعد أن تعقّدت الأوضاع في التَّاريخ، ودخل الآخرون من أجل تعقيد العلاقات بين النَّاس، ليركّزوا على الفواصل، وليدخل التَّخلّف، ولتتحرَّك العصبيَّة من خلال التخلّف، وليواجه الإنسان جهله في مقابل جهل الإنسان الآخر... فهنا اضطربت الأمور، وتحوَّلت المسألة لتكون حوار غريزة لغريزة، ومواجهة عقدة لعقدة، وهو ما خلق الكثير من العناصر النَّفسيَّة السلبيَّة بين فريق وآخر، ولا سيّما بعد أن دخلت السياسة في المسألة.
إنَّ الإسلام في الواقع الَّذي عاشه في مداه في المنطقة، لم يضطهد المسيحيَّة ولا اليهوديَّة، ولكنَّه عاش معهما.
عقدة الاستعلاء اليهوديّة!
س: وهل كان هناك حوار مع اليهوديَّة؟
ج: كان هناك حوار، ولكنَّه لم يكن يأخذ تلك الرّحابة الَّتي أخذها الحوار بين الإسلام والمسيحيَّة.
س: ألأنَّهم ظالمون؟
ج: إنَّه بسبب عقدة الاستعلاء اليهوديَّة على الإنسان، كما أنَّ اليهوديَّة ليست ديناً منفتحاً على الإنسان كلّه، فاليهوديَّة في ذهنيَّة اليهود على مدى التَّاريخ، لم تكن دين دعوة، وليست حركة تبشيريَّة، بل هي حركة تعيش لتختنق في داخل أوضاعها وكهوفها ومغاراتها. ولهذا لم تستطع اليهوديَّة أن تملك امتداداً كبيراً في العالم، بينما استطاعت المسيحيَّة، كما الإسلام، أن يملكا امتداداً في العالم يتجاوز المليارات. فعقدة الاستعلاء عند اليهود، تجعل اليهوديَّة لا تقبل بالآخر، وتتعاطى على أنّها هي الدّيانة المميَّزة.
لقد كان هناك حوار بين اليهوديّة كدين في الجانب المفهومي للفكر اليهودي وبين الإسلام، ولكنَّه ليس بهذه الضَّخامة، وهناك الكثير من الكتب، سواء كانت في زمن العصر العبّاسي أو بعد ذلك، ومنها كتب لعلماء من المسلمين الشّيعة، في مناقشة الفكر اليهوديّ وبعض ما توحي به التَّوراة وما إلى ذلك.
س: هل للحركة الصّهيونيَّة تأثير في عدم الحوار الإسلامي - اليهودي، أو المسيحي - اليهودي؟
ج: في تصوّري أنَّ اليهوديَّة بشكل عامّ ليست منفتحةً على الحوار، لأنَّ مسألة أن تحاور، هي مسألة أن تفكّر كيف يمتدّ فكرك في الآخر، فإذا كنت لا تفكّر أن يمتدّ فكرك في الآخر، بل تعمل عن أن يختنق في داخل ذاتك، فمن الطَّبيعيّ أن لا تشجّع الحوار، بينما ينطلق الإسلام والمسيحيَّة على أساس الامتداد، على أساس البشارة من جهة، والإنذار من جهة أخرى، وعلى أساس أن يجتذبا الإنسان إلى القيم الَّتي يؤمنان بها هنا وهناك. ومن خلال ذلك، فإنَّ من الطبيعيّ للإسلام والمسيحيَّة أن يديرا الحوار بينهما، وأن يديرا الحوار مع التيَّارات الأخرى، بما فيها التيَّارات الماديّة الَّتي لا تؤمن بدين، لأنَّ قضيَّة أن تمتدَّ في الإنسان، هي أن تواجه كلّ الحواجز الّتي تحول بينك وبين عقل الإنسان الآخر.
ليس هناك حقوق للطَّوائف بعيداً من حقّ الإنسان.. والطّائفيّة في أذهاننا مسألة عنوان متخلّف
دعوة الإرشاد الرَّسولي!
س: الإرشاد الرَّسولي حضّ المسيحيّين على الحوار مع الآخر المختلف. ما الخطوات العمليّة التي أرساها المسلمون لتطوير هذا الإرشاد وتثمينه؟
ج: لقد رحَّب المسلمون بما جاء في الإرشاد الرَّسوليّ، لأنَّه أطلق للمسيحيّين في لبنان فكرة "منفتحة" جدّاً على المنطقة، عندما قال لهم: لا تعتبروا أنفسكم طارئين على المنطقة، بل اعتبروا أنفسكم من قلب هذه المنطقة، ولذلك، فإنَّ عليكم أن تعيشوا مع النَّاس فيها، كما يعيش المواطن مع المواطن، وكما يعيش الأصيل مع الأصيل.
ولكنَّ التَّعقيدات اللّبنانيَّة الَّتي حركتها السياسة المنغلقة هنا وهناك، إضافةً إلى التَّدخّلات الخارجيَّة، ولا سيَّما الأوضاع الَّتي أحاطت بالوجود اليهوديّ في فلسطين وامتداداته إلى لبنان، واستغلاله للكثير من الثَّغرات المفتوحة في لبنان في العلاقات السياسيّة بين المسلمين والمسيحيّين، لعلَّها لم تترك ساحةً مفتوحةً للحوار بالطَّريقة الموضوعيَّة، ما جعل مسألة الحوار الإسلامي - المسيحي مسألةً في الدّيكور أكثر مـمَّا هي في الصّورة.
تعقيدات تمنع الحوار
س: هل ما وصل إليه الحوار كاف للتَّأسيس لمرحلة جديدة من العيش المشترك تطوى معها صفحة العنف؟
ج: إنَّني لا أتصوَّر أنَّ هناك حواراً إسلامياً مسيحياً بالمعنى الموضوعيّ للحوار الَّذي يؤسّس لقاعدة مشتركة تنفتح على خطوطٍ يمكن أن يدور من خلالها الحوار، لأنَّ التعقيدات السياسيَّة الَّتي تزيد في كلّ يوم من الدَّاخل والخارج منعت هذه الروحيَّة للحوار.
وإنَّني أزعم دائماً أنَّ الشَّعب اللّبنانيّ من المسلمين والمسيحيّين في حياتهم العاديَّة، قد حاور بعضهم بعضاً في الأمور الحيويَّة من حياتهم وأخذوا النَّتائج، وبقي هناك في الأبراج العاجيَّة، في المواقع السياسيَّة تارة، والدّينيَّة أخرى، من يتحدَّث عن شروط الحوار، ومَنْ يحاور مَنْ، وما إلى ذلك.
ونحن عندما ندخل إلى المناطق اللّبنانيَّة المختلطة في الجنوب والشّمال والبقاع وبيروت، فإنَّنا لا نجد هناك مشكلة كبيرة، إلَّا في ما يحدث من المشاكل الَّتي تحدث في المجتمع المتعدّد، سواء كانوا من دين واحد في مذهبيَّات مختلفة، أو من مذهب واحد في سياسات مختلفة، إنّنا نجد التجَّار من الطَّرفين، والمثقَّفين من الطَّرفين، والطلَّاب والرياضيّين، يلتقون كما لو لم يكن بينهم أيّ فاصل.
إنَّني أزعم أنَّ هناك حواراً شعبيّاً عندنا بين اللّبنانيّين على المستوى الإنسانيّ، ولكنَّ العقدة الَّتي تثار دائماً، هي في المواقع العالية - إن صحَّ التَّعبير - والَّتي تحاول أن تتحرَّك من دون قلوب مفتوحة.
مهمَّة وثيقة الطّائف
س: سماحة السيّد، أتعتقد أنَّ وثيقة الطَّائف والإرشاد الرَّسوليّ يكمل بعضهما بعضاً في التَّأسيس لمرحلة حواريّة صحيحة؟
ج: إنّني أتصوّر أنَّ وثيقة الطَّائف انطلقت لتكون وسيلةً من وسائل إغلاق ملفّ الحرب، ولم تكن وثيقةً منفتحة على كلّ الحاجات اللّبنانيَّة، فقد كان هناك مأزق يريد الجميع الخروج منه، وكانت وثيقة الطَّائف هي الحدّ الأدنى للخروج من هذا المأزق...
س: أي أنّ وظيفتها كانت إيقاف العنف، وجمع السّلاح من الشَّارع، وجعل العسكر يذهبون إلى بيوتهم...؟!
ج: أو إعطاء مناخ يتنفّس فيه الجميع معنى لبنانيَّتهم في معنى إنسانيَّتهم. ولكنّي أعتقد أنَّ من الممكن أن نتجاوز هذه الوثيقة، إذا استطعنا أن نحصل على روحيَّة المواطنيَّة، بأن نعيش على أساس أنَّنا مسؤولون جميعاً عن لبنان، وأن نتَّفق على صورة لبنان في معناه الإنسانيّ، وأن نواجه الأولويَّات بطريقة واقعيَّة، لأنَّ المشكلة أنَّ بعضنا يعيش في التَّاريخ، وبعضنا يعيش في المستقبل، ولكنَّ الحاضر ضائعٌ فيما بيننا، من خلال حيرته بين الماضي والمستقبل.
نحن نريد أن نكون مستقبليّين، ونريد أن نستخلص العبرة من الماضي، وأن نؤسّس للمستقبل في الواقع، ولكن علينا أن نفهم ماذا نريد.
بين التَّاريخ والحاضر؟
س: سماحة السيّد، كلّ العائلات الرّوحيَّة في لبنان تعيش في ذاكرتها التَّاريخيَّة...
ج: هناك فرقٌ بين أن تعيش تاريخيَّتك من حيث جذورك، وبين أن تعيش تاريخيَّتك بحيث تنقل مفردات التَّاريخ السياسيَّة الَّتي انطلقت بظروف موضوعيَّة محدَّدة، وتأتي بها إلى واقعك اليوم، فهناك فرق بين أن تجرّ التَّاريخ ليكون واقعك تاريخاً، وبين أن تستنطقه لتستفيد منه ما يبقى للحياة، لتعطي الواقع جرعةً منه.
مشكلة بعضنا أنّه يستغرقُ في التَّاريخ من دون أن يُحدِّق في المتغيّرات، فالعالم يتغيّر، وإذا كان كذلك، فلا يمكن أن تنقل القرن التَّاسع عشر إلى القرن الواحد والعشرين. المسألة، أنَّ لكلّ زمن - كما يقولون - دولةً ورجالاً، فعلينا أن لا نعيش في خصوصيَّة الزَّمن الَّذي مضى.. إنَّ بعض النَّاس يعتبرون أنَّه إذا كان هناك وضع قبل مائة سنة، فينبغي أن يكونوا في الوضع نفسه في المائة سنة الأخرى، ونحن نعرف أنَّ الحياة تتغيّر، فكيف كانت بريطانيا في الأربعينات؟ كانت سيّدة البحار، ولكن أين هي الآن؟! وكيف كانت أمريكا آنذاك، وكيف هي الآن؟ وكذلك بالنّسبة إلى الشّعوب في المنطقة الواحدة، وهكذا بالنّسبة إلى النّاس في البلد الواحد.
إنَّ الدّين لا يتعارض مع الحريّة إلّا إذا اقتربت من الإساءة إلى إنسانيَّة الآخرين وحرّيّاتهم
أولويَّة الالتزام بالوطن
س: سماحة السيّد، تفضّلت وقلت إنَّ علينا أن نبدأ بالمواطنة، فما هي الآليَّة ليكون عندنا المواطن الملتزم بوطنه، قبل التزامه بعشيرته، مثلاً؟

ج: إنَّك لا يمكنك أن تفرض عشيرتك على وطنك، لسبب بسيط جدّاً، وهو أنَّ عشيرتك تمثّل بعضاً من وطنك، وهناك عشائر أخرى ترتبط حياة عشيرتك بهم، ويرتبطون بعشيرتك. لذلك، لا بُدَّ أن نبحث عن صيغة تبقي كلّ عشيرة في موقعها، وأن تتعاون هذه العشائر على توظيف الجانب الخاصّ في الجانب العامّ، حتّى يمكن أن يعيشوا معاً، لأنَّك إذا أردت توظيف العامّ في الخاصّ، فإنَّ معنى ذلك أنَّك تريد أن تلغي الخاصّ.
س: سماحة السيّد، نفهم من كلامك أنَّك تدعو إلى كونفدراليَّة بين الطَّوائف؟
ج: ليس كذلك، أنا أبحث عن وطن يعيش فيه النَّاس كمواطنين.
س: ولكنَّ صيغة النّظام، سماحة السيّد، لا تسمح بتقديم المواطنيَّة على العشائريَّة؟
ج: لو أردنا أن نُحدّق في الواقع، يقولون إنَّ هناك طائفة مسيحيَّة وطائفة إسلاميَّة، فقل لي ماذا تمثّل المسيحيَّة بمعناها الدّيني القيميّ الروحيّ، وماذا يمثّل الإسلام بمعناه الروحيّ الدّيني والقيميّ، في ما يختلف فيه المسلمون والمسيحيّون في لبنان؟ فهل مشكلتنا في لبنان فيما نختلف فيه، أنَّك تؤمن بالسيّد المسيح وبأنّه صلب، بينما لا أؤمن بصلبه، وأؤمن بالنبيّ محمّد (ص) الّذي لا يؤمن به المسيحيّ؟ هل هذه مشكلتنا في لبنان؟ هل مشكلتنا في لبنان هي الأحوال الشَّخصيَّة؛ كيف يتزوَّج الإنسان مدنياً أو كنسياً أو إسلامياً؟! ليست هذه مشكلتنا.
إذاً، مسيحيَّتنا وإسلاميَّتنا في معناهما الفكريّ والقيميّ والروحيّ ليس له دورٌ في واقعنا اللّبنانيّ، بل إنَّ المسألة هي كيف يمكن أن ألبّي حاجاتك وتلبّي حاجاتي في الحياة، كيف نتعاون على أساس أن يكون إنساننا حرّاً، وإرادتنا حرّة، ويكون بلدنا حرّاً، وأن نؤنسن الأرض لتكون في خدمة الإنسان، ولا يكون الإنسان مستعبداً للأرض.
إذا اختلفنا في تقييمنا لمفردات الحريّة أو لمفردات العدالة، فإنَّ هذا أمر يختلف فيه النَّاس في كلّ بلدان العالم، لأنَّ الأمور تغيّرت، فمسألة الاستقلال اليوم تختلف عمّا كانت عليه قبل مائة سنة، وكذلك مسألة الحريّة... فقد نختلف في فهمنا لمثل هذه الأمور، وكذلك لمفردات العدالة، لكنَّ مشكلتنا في لبنان هي أنَّنا نختلف والعقدة وراء خلافاتنا، ولا نختلف بقلوب مفتوحة.
حقّ الإنسان أوّلاً
س: وكأنَّك تدعو إلى حقّ الإنسان في لبنان، بدل أن نفتّش عن حقوق الطَّوائف؟!
ج: أنا أعتقد أنَّه ليس هناك حقوق للطَّوائف بعيداً من حقّ الإنسان، إنّك عندما تكون طائفياً، فإنَّ طائفيَّتك لا تُحدّد لك ما تأكل وتشرب، وكيف تعيش وكيف تتعلّم... إنَّ الطَّائفيَّة في أذهاننا هي مسألة عنفوان متخلّف؛ أن أكون أنا الأعلى، أو تكون أنت الأعلى.
هذه مسألة تعيش في دائرة التخلّف والانحطاط الإنسانيّ، لأنَّنا عندما ندرس المسألة في الواقع، فليس هناك إنسان مطلق، أنت إنسان محدود تملك بعض الصّفات الَّتي لا أملكها، وأنا أملك بعض الصّفات الَّتي لا تملكها، فتعال لنتكامل، أعطيك ما عندي وتعطيني ما عندك، فالإنسانيَّة انطلقت في كلّ معانيها الحضاريَّة على هذا الأساس.
لذلك أتصوَّر أنَّنا في لبنان نحتاج إلى قلوب مفتوحة؛ أن ينبض الإنسان فينا، وأن تنبض المحبّة الإنسانيَّة فينا، لأحاورك وتحاورني في ما نختلف فيه، على أساس أنَّني أريد أن أفهم هل الحقيقة عندك أو ليست عندك، أو تفهم هل الحقيقة عندي أو ليست عندي. فنحن مشكلتنا أنَّنا نريد تسجيل النّقاط بعضنا على بعض، وليس أن نجمع النقاط.
نهج المحبّة والسّماح
س: يعني نحن بحاجة إلى محبَّة المسيح وإلى سماح الإسلام؟
ج: نحن نعتقد أنَّ المحبَّة مشتركة، فهناك حديثٌ نبويٌّ شريف يربط بين الإيمان والحبّ: "لا يؤْمِنُ أحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخيهِ مَا يُحبُّ لنَفْسِهِ"(8)، حتَّى إنَّ القرآن عندما أكَّد حقّ الإنسان في أن يردَّ العدوان بمثله، قال: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(9)، {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}(10)، ولذلك، نحن نعتبر أنَّ قيم التَّسامح والمحبّة والرَّحمة هي قيم أرادها الله للإنسان من خلال كلّ رسالاته.
الدّين والدّيمقراطيَّة
س: هل يتعارض الدّين مع الحريَّة والديمقراطيَّة؟
ج: إنَّ الدّين لا يتعارض مع الحريّة إلّا إذا اقتربت من الإساءة إلى إنسانيَّة الآخرين وحرّيّاتهم.. لقد خلقك الله حرّاً، وهي كلمة قالها الإمام عليّ (ع): "لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً"(11)، ولكن ينبغي لهذه الحريّة أن تكون الحريّة المسؤولة، وعلينا أن نتفاهم عليها، لأنَّه لا يمكن أن نتحدَّث عن الحريّة بالشّكل المطلق الّذي يؤدّي إلى فوضى، ولذلك يقول الَّذين ينظّرون للحريَّة: إنَّ حريّتك تنتهي عندما تبدأ حُريَّة غيرك.
فلو أردنا أخذ الحريّة بالمعنى الذّاتيّ، فقد أقول لنفسي: لماذا تنتهي حرَّيتي عندما تبدأ حُريَّة غيري؟ غيري ليس أولى منّي في هذا المجال، لكنَّ نظام الكون يحتاج إلى أن نضع حدوداً له، لأنَّ عالمنا هو عالم محدود وليس عالماً مطلقاً.
أمَّا مسألة الديمقراطيّة، فليست عندنا مشكلة معها عندما لا تصطدم بثوابتنا الّتي نعتقد أنَّ الله أوحى بها. أمَّا خارج ذلك، عندما نتحرَّك بالمسألة السياسيَّة أو الاجتماعيَّة، فلا مشكلة في أن نلجأ إلى الدّيمقراطيَّة، على أساس أنّها أقلّ الأنظمة سوءاً، كما يقول المنظّرون لها.
أنا لا أرى في الاستنساخ أو في علم الجينات أيّ خطٍّ سلبيٍّ يتعارض مع العقيدة
حكم الزّواج المدنيّ
س: سماحة السيّد، انطلاقاً من المبدأ الَّذي يقول إنَّ الدّين لا يتعارض مع الحريّة والدّيمقراطيّة، ما رأيكم في الزَّواج المدني؟
ج: الزواج المدني زواجٌ شرعيّ لمن يلتزمون العلمانيَّة فكراً وشريعةً ومنهجاً للحياة، لأنّ القاعدة الإسلاميّة تقول: "لكلّ قوم زواج يحتجزون به عن الزّنا". ولذلك، فإذا تزوَّج العلمانيَّان اللَّذان لا يلتزمان التزاماً عقيديّاً بخصوصيَّة دين معيَّن، فيما يشرِّعه هذا الدّين أو ذاك، بل كانا يلتزمان المنهج العلمانيّ كقاعدة فكريَّة وقانونيَّة، فإنّ زواجهما يكون شرعيّاً...
أمَّا أن يتزوَّج المسيحيّ الملتزم بالمسيحيَّة فكراً وشريعةً زواجاً مدنيّاً، فإنَّ المسيحيَّة في معناها الشَّرعيّ لا تجد هذا الزواج شرعيّاً، بحيث تُرتِّب عليه الآثار الشَّرعيَّة المسيحيّة، لأنه يفتقد السّرّ الَّذي لا يملكه إلَّا الكاهن، وكذلك في الإسلام، إذا كان الزوجان مسلمين، أو كان الزوج مسلماً أو الزوجة مسلمة، فمن الطبيعيّ أنَّ معنى التزامهما بالإسلام، أنهما يلتزمان قوانينه في كلّ قضايا العلاقات والمعاملات، فإذا لم يلتزما بالشّروط الإسلاميَّة للزّواج، فمن الطبيعيّ أن لا يكون زواجهما شرعيّاً... لذلك المسألة لا بدَّ أن تحدَّد على هذا الأساس.
ونحن نقول إنَّك عندما تلتزم بخطّ معيَّن، فعليك أن تتحرَّك بكلّ مفرداته، أمَّا أن تلتزم به كخطّ وقاعدة، ثمَّ تنحرف عنه في أمور أخرى، فمن الطبيعيّ أن تفقد بذلك الصّفة الشّرعيّة.
العولمة.. بين الشّمال والجنوب
س: ما مدى تأثير العولمة في السيادة والاستقلال؟ وهل سيبقى شمال وجنوب متفاوتان؟! ومن يحقّق العدالة؟
ج: إنّني أتصوّر أنَّ مسألة العولمة انطلقت من خلال جذورها الفكريَّة - إن صحَّ أنَّ لها جذوراً فكريّة - من الاقتصاد، ومن الموقع الأمريكيّ، باعتبار أنَّ هناك تخطيطاً لسيطرة الشَّركات الكبرى على مواقع الاقتصاد في العالم، ولا سيّما العالم الثَّالث.
س: يعني أنّنا نعيش حالة من العولمة تتعلَّق بالسياسة والاقتصاد بعيداً من عولمة العسكرتاريا؟
ج: إنَّ العولمة تحاول أن تزيل كلّ الحواجز، سواء كانت حواجز قوميَّة أو وطنيَّة أو محوريَّة، أن تزيل كلّ الحواجز أمام الشَّركات الكبرى أو اقتصاد الدّول الكبرى، ولا سيَّما في مناطق العالم الثَّالث الَّتي تملك الثَّروات الكبرى التي يتوقَّف عليها رخاء العالم.
ثمَّ ما لبثت السياسة أن تحوّلت إلى وسيلةٍ لتوسيع نفوذ العولمة الاقتصاديّة، وتحرّكت الثّقافة في الاتّجاه نفسه، فيما تقدَّمت الجوانب الأمنيّة والعسكريّة لتكون حارساً لمكاسب هذه العولمة، كلّما وُضعت أمامها الحواجز.. لذلك، فقد ولدت العولمة غير إنسانيَّة، بحسب واقع حركتها في عصرنا هذا.
غير أنّنا، حين نتطلَّع إلى تجاوز هذه الخصوصيَّة في حركة العولمة، نجد أنفسنا أمام مفهومٍ أوسع، وهو أنّنا إنسانيّون، فالإسلام في جوهره إنسانيّ، ينفتح على الإنسان كلّه، والمسيحيَّة كذلك تنفتح على الإنسان كلّه. لكنّ هذه الإنسانيّة الرَّحبة لا تُلغي خصوصيّات كلّ أمّةٍ أو جماعةٍ، بل تحفظ لها تمايزها في إطارٍ من التَّلاقي الإنسانيّ العام. وقد أكَّد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(12). فالإسلام يعترف بوجود الشّعوب والقبائل، وبما تمتلكه كلّ أمّةٍ من خصوصيّاتٍ وتجارب وإمكانات، غير أنَّ هذه التَّعدّديّة لا تُشكّل حاجزاً، بل تُغني المسيرة الإنسانيَّة من خلال التّعارف والتّلاقح والتّكامل بين مختلف الشّعوب في إطار القيم الإنسانيَّة المشتركة.
لذلك، نحن لسنا ضدّ العولمة بمعنى انفتاحها على الإنسان على نحوٍ تزيل الحواجز بين الإنسان والآخر، ولكنَّنا نتحفَّظ عن العولمة في صورتها الحاضرة الّتي لا تنسجم كثيراً مع السّيادة والاستقلال.
ومن الطّبيعيّ أنّها سوف تبقي الشّمال والجنوب، لسبب واحد، وهو أنَّ الشّمال أطلق العولمة من أجل أن يستغلّ الجنوب، ولذلك، فهو لا يسمح للجنوب بأن يساويه، وأن يستثمر ثرواته الموجودة في باطن الأرض أو سطحها ليستغني عن الشّمال في هذا المجال. ولذلك من الصّعب جدّاً أن تتحقَّق هناك عدالة في ظلّ العولمة الَّتي تشرف عليها الدّول الكبرى.
العولمة ومستقبل الأمَّة
س: سماحة السيّد، ما هو مستقبلنا كأمَّة في ظلّ العولمة وغيرها؟
ج: إنَّ مستقبلنا كأمّةٍ في ظلّ العولمة وسواها يتوقّف على قدرتنا على العمل، كما عملنا في مراحل سابقة واجهنا فيها ظروفاً شتّى، فعلينا أن نسعى جاهدين للحفاظ على استقلالنا وحرّيتنا في مواجهة القوى الكبرى، وأن نؤكّد خصوصيّاتنا وهويّتنا بالمقدار الممكن، وأن نبقى في حالة وعيٍ وصراعٍ إيجابيٍّ لتثبيت وجودنا وصياغة مستقبلنا.
الانتفاضة الفلسطينيّة ثورة إنسانيَّة من أروع ما عرف الإنسان من الثَّورات العفويّة
تأثير الإنترنت
س: ما هي إيجابيَّات الإنترنت وسلبيَّاته على أجيالنا ومجتمعاتنا المحافظة؟
ج: إنَّ الإنترنت، كغيره من وسائل الإعلام والتّواصل، أداة يمكن أن تكون خيراً أو شرّاً، بحسب طريقة تعاملنا معها. فعلينا أن نستفيد منه كما استفدنا من التّلفزيون والراديو وسائر الوسائل الحديثة، في سبيل خدمة القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة بشكل عام، ولا ينبغي أن نقف عند السلبيّات فحسب، وأن نندب حظّنا ونتحدَّث عن آثار الانحراف والانهيار الأخلاقي، بل علينا أن نعمل على التَّخفيف من السَّلبيَّات بالقدر الممكن، من خلال إنتاج الإيجابيّات.
إنّنا بحاجة إلى أن نتعامل مع نظام الاتّصالات كما نتعامل مع الهواء؛ فقد يكون عاصفاً أو ساكناً، بارداً أو حارّاً، لكنّنا لا نستطيع الاستغناء عنه، بل نحاول دائماً أن نكيّف أنفسنا معه ونخفّف من آثاره الضَّارّة. كذلك هو الإنترنت، لا يمكن تجاهله أو الانعزال عنه، بل يجب ترشيد استخدامه وتوجيهه نحو ما يخدم الإنسان والمجتمع.
وإذا كانت في كلّ مرحلة من التَّاريخ تيّاراتٌ مضادّة للقيم، ففي المقابل، هناك قوى الخير الَّتي تنهض في وجهها. وما نعيشه اليوم ليس قضاءً وقدراً محتوماً، بل هو تحدٍّ حضاريّ يمكننا أن نحوّله إلى فرصةٍ إيجابيّة إذا امتلكنا الوعي والإرادة.
قانون الاستنساخ.. والعقيدة؟!
س: فيما يتعلّق بعلم الأحياء، هناك ما يُعرف بالاستنساخ وبالهندسة الجينيّة، وهذان المجالان يبدوان وكأنَّ الإنسان يشارك الخالق في صنع الإنسان، فهل في ذلك مساس بالعقيدة؟
ج: أنا لا أرى في الاستنساخ أو في علم الجينات أيّ خطٍّ سلبيٍّ يتعارض مع العقيدة، لأنَّ عمليّة الخلق ليست مجرّد صناعة شكلٍ يشبه ما خلقه الله، فنحن نصنع في حياتنا أشياء كثيرة تحاكي بعض مظاهر خلق الله في الطَّبيعة، دون أن يعني ذلك أنَّنا نخلق، لكنّ الخلق الحقيقيّ هو ابتداع قانونٍ جديدٍ لم يخلقه الله، ونحن عندما واجهنا قضيَّة الاستنساخ، وجدنا أنَّ الذين قاموا بهذه العمليّة لم يبتدعوا قانوناً جديداً، بل استعملوا القوانين الَّتي أودعها الله في الخلق، فعملهم اقتصر على الشَّكل، أمَّا المضمون فهو واحد، وذلك لأنَّ المخلوق الحيّ، إنساناً كان أو حيواناً، يولد من خليّة تحتوي على (46) كروموزوماً، نصفها في النّطفة (23)، والنّصف الآخر في البويضة (23). فإذا تمّ تلقيح البويضة بالنّطفة، تكوّنت الخليّة الكاملة. أمَّا في عمليّة الاستنساخ، فقد أُفرِغت البويضة من كروموزوماتها، ثمَّ زُرعت فيها خليّة مكتملة من كائنٍ آخر، فنتج الكائن المستنسخ، أي أنّهم لم يخلقوا قانوناً جديداً للحياة، بل عملوا ضمن القانون الإلهيّ نفسه الَّذي سنّه الله في نظام الخلق.
إذاً، هم لم يخلقوا قانوناً، بل استهدوا قانون الله، ولذلك فهم ليسوا خالقين، لأنَّ الخلق، كما ذكرنا، هو خلق القانون. ونحن نعرف أنَّ كلَّ المكتشفين والمخترعين لم يستطيعوا أن يخلقوا قانوناً، بل إنّهم اكتشفوا القانون وصنعوا ما هو مماثل له. وهكذا في نظام الجينات، فقد استطعنا أن نطّلع من خلال هذا الاكتشاف على هندسة الجينات وأسرارها، وحاولنا أن نغيّر بالوسائل الَّتي ألهمنا الله إيّاها، على قاعدة {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(13)، ولم نخلق جينات جديدة، وإنّما حاولنا التحرّك في دائرة هذه الهندسة.
س: هل هي عمليّة تطوير إذاً؟
ج: بل الأفضل أن يقال إنّها عمليَّة استنساخ، أن تستنسخ نفس القانون، طبق الأصل، كما عندما تنسخ نصّاً وتنقله من دفتر إلى آخر، فأنت لم تبدع شيئاً، وإنما نقلت الصّورة.
أمَّا من النَّاحية العمليَّة الواقعيَّة، فإنّ الدّين لا يقف ضدّ مبدأ الاستنساخ في ذاته، بل يعارض النَّتائج السلبيّة الَّتي قد تترتّب عليه. فإذا كانت تلك النتائج السَّلبيّة تفوق إيجابيّاته وتؤدّي إلى مفاسد أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو إنسانيّة، فعندها يكون الحكم بعدم الجواز.
الموقف من الإعدام
س: سماحة السيّد، ما موقف الشَّرع من الإعدام والإجهاض والموت الرَّحيم؟
ج: إذا قلنا إنَّ كلّ مجرمٍ مريض، فالمفروض أن نغلق السّجون ونفتح المستشفيات النفسيّة، ونلغي كلّ العقوبات. ولكنّ الإنسانيّة لا يمكن أن تستمرّ بهذه الطَّريقة، لأنَّ بعض المرضى قد يوسّعون من دائرة مرضهم، بحيث يهدّدون أمن النَّاس وحياتهم.
إنّ قضيّة العقوبة في جوهرها وقائيّة؛ فالعقوبة لا تُفرض بدافع الانتقام، بل لحماية المجتمع من تكرار الجريمة، وردع المجرم نفسه وسواه عن ارتكابها في المستقبل.
وقد يقول البعض إنَّ المجرم قتل حياةً وأنت بالإعدام تقتل حياةً أخرى، ولكن أنا لا أقتل بدافع العقدة أو الانتقام، بل هو تنفيذٌ لتشريعٍ إلهيٍّ يهدف إلى حماية الحياة العامّة من الإجرام والعدوان، بعد أن يمنح الفرصة لإقناع وليّ الدَّم بأن يتنازل عن حقّه، أو إقناع الحقّ العامّ، إذا كان هناك حقّ عامّ، بأن يستبدل به شيئاً آخر، فإذا لم يتحقَّق ذلك، ينفّذ الإعدام لنمنع بذلك الجريمة الأكبر في هذا المجال.
وقد يرى بعض النَّاس أن نستبدل بالإعدام السّجن المؤبّد، لكنَّ السّجن المؤبّد قد يكون في كثير من الأحيان أكثر قسوةً من الإعدام نفسه، لأنّه يسلب الإنسان حياته معنويّاً ويتركه في عذابٍ دائم.
لذلك، فإنَّ الَّذين يرفضون الإعدام باسم الإنسانيَّة، إنّما ينظرون إلى الإنسان الفرد فقط، بينما يغفلون عن الإنسان المجتمع، أي عن حقّ الجماعة في الأمان والحماية. ولهذا نلاحظ أنَّ الدول الَّتي تطبّق قانون الإعدام، تقلّ فيها نسبة الجرائم، مقارنةً بتلك التي ألغته...
الإجهاض.. والموت الرَّحيم
أمَّا قضيَّة الإجهاض، فنحن ضدّه، لأنَّنا لا نملك السّلطة على الحياة، لأنَّ الحياة بيد الله، إلَّا في حالتين؛ الأولى: إذا فرضنا أنَّ الرّوح لم تنفخ بعد بالجنين، بحسب التَّعبير الفقهي، وكان الحمل يضرّ بالمرأة ضرراً بالغاً فوق العادة، وإن لم يصل إلى حدّ الموت، فهنا يجوز، وبعض الفقهاء لا يجوّزونه حتَّى في هذه الحالة. والحالة الثَّانية، هي الحالة الَّتي يُشكّل الحمل فيها خطراً على حياة الأمّ، ويكون الخيار بين أن تموت الأمّ أو يموت الجنين، فللأمّ الحقّ في الدّفاع عن نفسها في هذه الحالة.
س: هل للجنين من حقوق؟
ج: من حقّ الجنين على الأمّ أن تحمي حياته، فلا يجوز لها أن تمارس أيَّ عمل يمكن أن يؤدّي إلى سقوطه أو إلى إضعافه، ولا بدَّ أن تتغذَّى بالطَّريقة الَّتي تساعده على النّموّ نموّاً طبيعياً، وأن تمتنع عمَّا يُسبّب له المرض أو التّشوّه، وعلى الأب أيضاً أن يتحمَّل مسؤوليَّة الإنفاق على الأمّ لمصلحة الجنين.
أمّا الموت الرَّحيم، فلا نوافق عليه، لأنَّ الإنسان لا يملك حياته، فهي ملك الله، وليس للإنسان الحريّة في أن يطلب من الآخرين إنهاء حياته.
حقُّ المرأة في الإسلام
س: ما موقع المرأة في الإسلام، سماحة السيّد؟ وهل هي مساوية للرّجل في الحقوق؟
ج: المرأة إنسان كما الرَّجل إنسان. أمَّا المساواة، فهي لا تعني أن تكون المرأة ذكراً أو يكون الذَّكر أنثى، بل أن يتساويا في إنسانيَّتهما وحقوقهما الإنسانيَّة، والقرآن يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(14)، أي أنّ العلاقة بينهما تقوم على التَّوازن في الحقوق والواجبات..
ونحن نرى في فقهنا الإسلامي – وهو ما نرتئيه – أن ليس للرَّجل على المرأة في عقد الزواج إلّا الحقّ الجنسيّ، فلا يحقّ له أن يُلزمها بخدمة البيت، أو بإرضاع الأطفال وتربيتهم. ومن النَّاحية القانونيّة الإسلاميّة، للمرأة الحقّ أن تطلب الأجرة على إرضاع ولدها، كما يحقّ لها أن تتقاضى أجرةً على عملها في البيت، كما لو كانت عاملة في أيّ موقع آخر.
ولكنّ الإسلام أراد للرَّجل والمرأة أن يتحرّكا في حياتهما المشتركة على أساس المودّة والرَّحمة، لا على أساس موادّ القانون، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(15). فالمودّة والرَّحمة هما اللَّتان تدفعان المرأة لتعطي ما لا يجب عليها، وتدفعان الرَّجل ليقدّم ما لا يجب عليه، لتكون العلاقة بينهما إنسانيَّة متبادلة.
إنّ لبنان جميل بمنتهى الجمال.. فلا تشوّهوه بقبح العصبيّة والطّائفيّة والعشائريّة
تحطيم تماثيل بوذا!
س: ما موقفكم من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان؛ هل من دوافع سياسيَّة وراء العمل، أم أنَّه من قبيل التشدّد الأصوليّ؟ وهل للعزلة السياسيّة من دور؟!
ج: أعتقد أنَّها زوبعة في فنجان، لأنَّ الإسلام ضدّ الأصنام، ولكنَّه ليس ضدّ بقاء التَّماثيل الَّتي لا تتحوّل إلى رمز للعبادة، كما هي تماثيل بوذا الموجودة في أفغانستان الَّتي لم يسبق لأحد أن عبدها، بل هي مجرّد تماثيل فيها خصوصيَّات فنيَّة.
من هنا، فنحن لا نجد أنَّ التشريع الإسلاميّ يُحرّم بقاءها أو يوجب تدميرها. ولكن من يحكمون أفغانستان يرون رأياً آخر، لأنَّهم قد يملكون ضيقاً في الأفق في فهم التَّشريع الإسلاميّ، ولهذا لم يستجيبوا لنداء علماء المسلمين الَّذين ذهبوا إلى أفغانستان، وحاولوا إقناعهم بأنَّ الإسلام لا يمنع من بقاء هذه التَّماثيل، كما أنَّ المسلمين في مدى القرون الَّتي مرَّت على أفغانستان لم يعرضوا لهذه التَّماثيل بالسّوء، لأنّه ليس هناك من يعبدها أساساً في هذا المجال، كما أنَّ هذه التَّماثيل بقيت في مصر وإيران والعراق وأماكن أخرى.
إنّي أعتقد أنَّ المسالة قد تنطلق من خلال ضيق في الفهم الإسلاميّ، وربّما تنطلق من خلال العزلة السياسيَّة.
بقايا وثنيَّة
س: سماحة السيّد، هل تخلَّصَ إنساننا بشكل مطلق من وثنيَّته أو من بعض العادات الوثنيَّة؟
ج: أنا أرى أنَّ هناك بعض بقايا الوثنيَّة، فلا نزال نعيش - ولا سيَّما في الشَّرق - عبادة الشَّخص، فنحن نعطي الشَّخص الَّذي نحبّه أكثر مما يستحقّ، وأكثر مما يملك من طاقات في هذا المجال. وأعتقد أنَّ عمليَّة التَّعبير عن تقديرنا للشَّخص، بأن نصنع له التماثيل الَّتي نقف خاشعين أمامها، حتَّى لو كان الشَّخص مقدَّساً، يحملُ شيئاً من الوثنيَّة.
انتفاضة الحجارة
س: هل إنَّ حطّين تتمثَّل اليوم في انتفاضة الحجارة، أم أنَّ الانتفاضة تؤسّس لحطّين من نوع آخر وأشمل وأفعل؟
ج: إنَّ حطّين كانت موقعة من مواقع الصّراع التَّاريخيَّة، والَّتي تحقّق فيها الانتصار، وإني أعتقد أنَّ حركة الشَّعب الفلسطيني هي أعظم من حركة حطّين، لأنَّه شعب يتحرَّك بعفويَّة إحساسه بالحريّة والاستقلال، والرَّفض لكلّ هذه الوحشيَّة الصّهيونيَّة اللَّاإنسانيَّة، ولكلّ حركة الاستكبار العالميّ الَّذي يتحدَّث عن أمن إسرائيل، ولا يتحدَّث عن أمن الأطفال الفلسطينيّين والنساء والشيوخ والشَّباب.. إنّني أعتقد أنّها ثورة إنسانيَّة من أروع ما عرف الإنسان من الثَّورات العفويّة الَّتي تتحرَّك بطريقةٍ بسيطة بعيدة من كلّ نظريات الثَّورة، ومن كلّ ما يتحدَّث به النَّاس من تعقيدات النظريّات الثّوريَّة.
القضيَّة الفلسطينيَّة
س: هل إنَّ الموقف العربيَّ كلّه هو بحجم طموحات الانتفاضة؟
ج: بل إنّه دون هذه الطّموحات، لأنَّ أكثر العرب تعبوا من القضيَّة الفلسطينيَّة، وأصبحت المسألة عندهم هي كيف يتحرّرون من فلسطين، لا كيف يحررون فلسطين.
س: لكنّ هذا مؤسف وخطير؟
ج: بل هو خطيرٌ جدّاً، ولذلك نجد أنَّ كلّ هذه القمم العربيَّة ليست في مستوى خطورة القضيَّة الفلسطينيَّة.
س: سماحة السيّد، فلسطين تعني تاريخيّاً وحضاريّاً المسلمين والمسيحيّين. في رأيكم، ألا يمكن أن يكون هناك تفكير لإقامة لوبي عالمي، بالتَّفاهم مع المرجعيّة المسيحيّة الأعلى (البابا) والمرجعيَّات الإسلاميَّة، لتحرير فلسطين؟
ج: نحن دعونا إلى ذلك، ولذلك تحفَّظنا عن اعتراف الفاتيكان بإسرائيل، وهناك حوار جرى بيني وبين الكاردينال أرينز الَّذي التقيت به في الشَّام، وزارني بعد ذلك في لبنان، وكان الحوار بحضور السَّفير البابويّ والبطريرك الصّديق هزيم الَّذي كان المترجم بيني وبينه، قلت له: لو كان السيّد المسيح حاضراً، فمع من يكون؛ هل يكون مع الفلسطينيّين، أو مع اليهود الَّذين يشبهون لصوص الهيكل؟ فكان جوابه أنَّ هذه مسألة سياسيَّة، وبإمكانك أن تتحدَّث بها مع صديقك بوانتي، فقلت له: أنا أسألك عن ضميرك المسيحيّ، ولا أتحدَّث عن المسألة في نطاق البروتوكول أو ما أشبه، فتدخَّل السَّفير البابويّ آنذاك، وقال: إنَّ إسرائيل أمر واقع، فقلت له: إنَّ الشَّيطان أمر واقع، فهل نعترف بشرعيَّته؟!
لقد كنَّا ندعو دائماً إلى تعاون القيادات المسيحيَّة والإسلاميَّة، وإلى أن نتوحَّد على أساس الإيمان المشترك: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
- في مواجهة التيّارات المادّية، وعلى أساس الحريّة الإنسانيّة - وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(16)
ومن هنا، تحفّظنا عن اعتراف الفاتيكان بإسرائيل، لأنّنا نعتقد أنَّ السيّد المسيح لو كان بيننا اليوم، لما اعترف بشرعيّتها.
الألقاب الموروثة
س: ما رأيك في إلغاء الألقاب الموروثة من زمن بني عثمان؟
ج: إنّني في الوقت الّذي يحمّلني النَّاس بعض الألقاب، أعتقد أنَّ على الإنسان أن يخرج باسمه الَّذي أعطاه إيَّاه أبواه، وأن لا يتحرّك على درَّاجة من الألقاب.
التّيّارات الأصوليّة والحريّة
س: سماحة السيّد، يأخذ البعض على البلدان الَّتي تستلم فيها التيَّارات الأصوليَّة زمام السّلطة، أنّها تفسّر حقوق الإنسان ومبدأ الحريّة الدينيَّة من منظورٍ واحد، بحيث يقصد بالحريّة الدينيّة فرض الدّين الحقّ على جميع المواطنين؟!
ج: بالنسبة إليَّ، المسألة ليست بهذا الشَّكل والحجم، فعندما ننظر إلى نموذج إيران، نجد أنَّ الدين الإسلامي هو دين الدّولة فيها، ولكن لم يفرض هذا الدّين على الّذين يتدينون بغير الإسلام، فالمسيحيّون موجودون في إيران ولهم حقوقهم في إطار حقوق الأقلّيات، وكذلك اليهود والزرادشتيّون. فالمسألة ليست بهذه الدقّة.
نعم، قد توجد بعض الخلافات بين مفهوم الإسلام لحقوق الإنسان ومفهوم الأمم المتَّحدة، تماماً كما يختلف المفكّرون أنفسهم في تفسير حقوق الإنسان، لكن هذا لا يعني وجود قمع أو فرض شامل للدّين على الجميع.
س: سماحة السيّد، من اللّافت للنَّظر أنَّ بُؤر التفجّر في العالم هي حيثُ المسلمون، لماذا؟
ج: أنا أتصوّر أنَّ القضيّة ليست خصوصيَّة المسلمين، لأننا لا ننسى بؤر التفجّر التي كانت في أوروبا، ولكنَّ دخول أوروبا في عصر المؤسَّسات جمّد هذه الحروب. أمّا في البلاد الإسلاميّة، وحتى المسيحيَّة في بلدان العالم الثَّالث، فلا نزال نعيش بعيداً من نظام المؤسَّسات، فلا زال النظام قبليّاً وشخصانيّاً، إلى آخر ما هناك.
النّهوض بالشّارع العربيّ
س: بالعودة، سماحة السيّد، إلى القضيَّة المركزيَّة فلسطين، ما رؤية سماحتكم للنّهوض بالشَّارع العربيّ؟
ج: قبل أسبوعين تقريباً، وفي خطبة الجمعة، طلبت من الشَّارع العربي والإسلامي أن ينزل ليرفع صوته، ولا سيَّما في يوم القمّة العربيّة، ليسمع هؤلاء والعالم صوته، ليعرفوا أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة ليست قضيَّة أنظمة يمكن أن تقرّر مستقبلها، ولكنَّها قضيَّة الشعوب كلّها، وحتَّى تفهم أمريكا الَّتي تلتزم إسرائيل بالمطلق، أنَّ الخطر ليس فقط على إسرائيل، بل هو على الأنظمة المتحالفة معها، لأنَّ أمريكا كما تعمل على المحافظة على إسرائيل، عليها العمل من أجل المحافظة على الأنظمة المتحالفة معها.
لذلك، لا بدَّ أن يبقى الصَّوت الشَّعبيّ قويّاً، لتكون لدينا انتفاضة شعبيَّة سياسيَّة وإعلاميَّة إلى جانب الانتفاضة الجهاديَّة في فلسطين.
كلمة إلى اللّبنانيّين
س: في نهاية لقائنا ضمن برنامج "جذور، موقع وآفاق"، هل من كلمة توجّهونها إلى اللّبنانيّين حول الحوار الإسلامي المسيحي الهادف إلى قيام تفاهم عبر المكاشفة والشفافيَّة؟
ج: إنّي أقول لكلّ إخواني وأبنائي وبناتي اللّبنانيّين واللّبنانيّات، إنَّ عليكم إذا فكَّرتم في إسلامكم ومسيحيّتكم، أن تفكّروا في قيم الإسلام والمسيحيَّة، لتكتشفوا أنّه ليست هناك قيم مسيحيّة تبتعد عن القيم الإسلاميّة، وليست هناك قيم إسلاميّة تبتعد عن القيم المسيحيّة، فالصّدق مسيحيّ إسلاميّ كقيمة إيجابيَّة، والأمانة قيمةٌ مسيحيَّة إسلاميَّة، وهكذا... لذلك، لا تصدّقوا الّذين يريدون لكم أن تمارسوا مسيحيَّتكم وإسلامكم بغرائزكم، ولكن استمعوا إلى صوت السيّد المسيح (ع)، وإلى صوت النَّبيّ محمَّد (ص)، اللَّذين يريدان لكم أن تعيشوا الإسلام والمسيحيّة على أساس الكلمة السّواء، وعلى أساس القيم الروحيَّة من خلال عقولكم وقلوبكم.
أنا لا أدعو إلى حوار إسلاميّ مسيحيّ استهلكه السياسيّون، أو استهلكه بعض رجال الدّين بطريقة معقَّدة، ولكن أدعوكم إلى حوار إنساني - إنساني. لتكن مسيحيّتكم وجداناً إنسانيّاً فيكم، وليكن إسلامكم وجداناً إنسانيّاً فيكم، لأنَّ الوجدان الإنسانيّ عندما يلتقي مع وجدانٍ إنسانيّ آخر، فإنَّه قد يكتشف نقاط اللّقاء في الإنسانيَّة المشتركة في الفكر والقلب والروح والحياة.
إنَّ لبنان أمانة الله في أعناقنا جميعاً، كما هي المنطقة كلّها الَّتي نحن جزءٌ منها.. إنَّ لبنان جميل في منتهى الجمال، ولكنَّ أفضل الجمال فيه هو جمال إنسانه، فلا تشوّهوا جمال إنسانيَّتكم بكلّ قبح العصبيَّة، وكلّ قبح الطَّائفيَّة العشائريَّة المغلقة.. كونوا الملتزمين الَّذين يعتبرون الالتزام بالفكر انفتاحاً على أنَّ من حقّ الآخر أن يلتزم بفكر آخر، ويكون الحوار هو الَّذي يمكن أن ينفتح فيه فكرٌ على فكر، ليكون التَّفاهم أو ليكون اللّقاء.
لا تكونوا المتعصّبين، لأنَّ العصبيَّة تمثّل مغارة يدفن فيها الإنسان نفسه، إنَّ علينا حتَّى في المغاور والكهوف، أن نكتشف كلَّ الينابيع الَّتي تجري من هذه المغارة أو تلك لتعطى الخصب والرّخاء. لا تدخلوا المغاور والكهوف الموحشة المعزولة الَّتي توحي لكم بالعزلة عن العالم، ولكن انظروا حتَّى في المغاور والكهوف إلى كلّ الثَّغرات الَّتي تنفذ منها الشَّمس، ويتحرَّك فيها الهواء النَّقيّ.
لقد جرّبتم الحقد الَّذي جاء إليكم من كلّ الَّذين يصنعون مأساة الإنسان في الحقد، لقد جرَّبتم السّلاح، وجرّبتم التَّقسيم وكلَّ العصبيَّات، ولكنَّكم رأيتم أنَّها صنعت المأساة في كلّ كيانكم، وشرّدت كلَّ شبابكم.
تعالوا لنبعد كلَّ الَّذين يصنعون المأساة بالكلمة أو بالقول أو بالعصبيَّة.. تعالوا لننفتح على الله ولا نتقاتل باسمه، تعالوا لننفتح على الرّسالات ولا ندفنها في زوايانا المغلقة.. تعالوا إلى الصَّحو المبدع في إشراقة الشَّمس، وإلى الينابيع الَّتي تتحرَّك من وهناك لتعطينا الخصب والرّخاء.. تعالوا لنعيش في الهواء الطَّلق، نتكلَّم، نتحاور، نتعاون، ننشئ لبناناً جديداً يمكن أن يعطي الإنسان في العالم شيئاً من إنسانيَّته، وشيئاً من عقله وقلبه وحياته، ومن تطلّعات الحبّ والخير والحقّ والعدل للإنسان.
المحاور: شكراً سماحة المرجع السيّد، شكراً للمحيط، والمحيط كلّما مخرنا عبابه أكثر وأكثر، وقعنا على دُرٍّ نفيس، شكراً لهذا الينبوع الَّذي اتَّخذ من العقل شرعاً أعلى، ومن كان العقلُ شرعَه، لا يضلّ الطَّريق.
شكراً مرّة ثانية سماحة السيّد ضمن برنامج "جذور موقع وآفاق".
 
* مقابلة أجراها تلفزيون (tele lumiere) مع سماحته، بتاريخ: 27/04/2001م.
 
*** 

[1] آل عمران: 119 .

 [2] البقرة: 285 .

[3] آل عمران: 64 .

[4] العنكبوت: 46 .

[5] آل عمران: 64 .

[6] النّحل: 125 .

[7] سبأ: 24 .

[8] صحيح النسائي، ص 5032، يوجد في كتب مثل "الكافي"  للشيخ الكليني، و وسائل الشيعة"  للحرّ العاملي أحاديث تؤكّد المعاني المرادفة لهذا الحديث.

 [9] البقرة: 237 .

[10] النّحل: 126 .

[11] نهج البلاغة: ج3، ص 51.

 [12] الحجرات: 13 .

[13] العلق: 5 .

[14]  البقرة: 228 .

[15]  الرّوم: 21.

[16]  آل عمران 64

 
 
 
في مقابلة للعلامة المرجع فضل الله (ره) مع تلفزيون "تيليه ليميير" عن الحريّة والحوار والعولمة والقضيَّة الفلسطينيَّة
 
مقدمة التلفزيون: محيط حباه الله بشخصيَّة متعدّدة الأبعاد؛ الفقهيّ منها والسياسيّ والثَّقافيّ.. حركيّ منفتح على قضايا عصره.. الدَّين والسياسة في نظره صنوان.. الحرّية والعدالة من مقوّمات الدّين.. وهل السياسة إلَّا من نُسغ هاتين الكلمتين في حياة الإنسان؟!
يعتمِدُ الأسلوب العلميَّ الموضوعيَّ في حواره مع الآخر المختلف، ملتزم غير متعصّب، لأنَّ الالتزام، بحسب رأيه، يُصرُّ على الفكرة، ولكنَّه يفتح النَّافذة للآخر ليناقش الفكرة.. يوازن ما بين العقل والقلب في خطابه وممارسته، بقوله: "افتح قلب النَّاس عليك، تنفتح عقولهم على كلماتك".
إنَّه شاهد عصره؛ العلَّامة المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله..
س: أهلاً وسهلاً بك سماحة السيّد.
ج: أهلاً وسهلاً بكم جميعاً.
العامليّ الإنسانيّ
س: سماحة السيَّد عامليّ الجذور، وأمَّا بعد..؟!
ج: وإنسانيّ الأفق، لأنَّ عاملة الَّتي تُمثّل مساحةً من لبنان المنفتح على الله وعلى الإنسان وعلى الحياة، كانت في كلّ تاريخها تنتجُ إنسانيَّة الإنسان، وقد تعلَّمْتُ من جذورها كيف يتجذَّر الإنسان في إنسانيَّته، ليحلّق، ليكون إنسان الله الَّذي يحملُ في قلبه وعقله الإنسانَ كلَّه، الإنسان الَّذي لا تقف الحواجز أمامه، لأنَّ الحواجز حالة طارئة، وتبقى كُلّ اهتزازات الإنسانيَّة في الإنسان، لتزيل كُلّ الحواجز الَّتي تنتصبُ لتحول بين لقاء إنسان وآخر.
 
تعلَّمتُ من جذوري العامليّة كيف يتجذَّر الإنسان في إنسانيَّته، ليحلّق في سماء الله، ويحمل في قلبه الإنسانَ كلَّه
حوارٌ أم صراع؟!
س: كيف ترون إلى حوار الحضارات بين الإسلام والمسيحيَّة؟ وهل ما تشهده المنطقة من صراع حضارات تقفُ وراءه اليهوديَّة، أم أنَّه صراع سياسيّ بفعل الحركة الصّهيونيَّة؟ وهل من نهاية لهذا الصّراع، وكيف؟
ج: هناك حوار بين الإسلام والمسيحيَّة منذ أن كان الإسلام، لأنَّ الإسلام عندما انطلق، لم ينطلق ليلغي الآخر، بل ليحتضنه، فالمسيحيَّة في جذورها الإلهيَّة، وامتداداتها الرّوحيَّة الإنسانيَّة، تماماً كما هي الموسويَّة في معناها التَّوراتيّ الأصيل، يمثّلان دينين ينفتحان على الله، ويريدان للإنسان أن ينفتح من خلالهما على الله.
ولذلك، فإنَّ شعار القرآن الّذي يمثّل كتاب الله في الإسلام {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}(1)، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}(2)، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(3)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(4).
لذلك، عندما انطلق الإسلام، إنّما انطلق حواريّاً، لأنَّه من خلال قاعدته الفكريَّة الإنسانيَّة، أراد للإنسان أن يؤمن من موقع فكرٍ يلتقي بالرّوح، وقلبٍ يلتقي بالعقل، لأنَّ مسألة الدّين ليست مسألة مجرَّدة، كما يدَّعي البعض، بل هي عقل يكتشف الروح، وروح تنبض بحركيَّة العقل.
وفي ضوء هذا، فقد بدأ الحوار بين الإسلام والمسيحيَّة من خلال التَّفاصيل الَّتي تختلف فيها اجتهادات المسيحيّين عن اجتهادات المسلمين في فهم الإنجيل والتَّوراة، كما في اختلاف المسلمين فيما بينهم في فهم القرآن، ونحن نعرفُ أنَّ الحِوار في الإسلام ينطلق من اللّقاء على أرض مشتركةٍ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا - فلنتوحَّد من خلال توحيد الله الَّذي نؤمن به جميعاً، وإنْ كنَّا نختلف في بعض التَّفاصيل - وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(5)، أن لا يكون الإنسان ربّاً للإنسان، مهما كانت ضخامة ثروته أو موقعه أو ما إلى ذلك...
ثمَّ تنطلق المسألة على أساس التَّفاصيل: هل صُلِبَ السيّد المسيح، أم شبّه لهم أنَّه صلب؟ هل هو الله أم هو رسول الله؟ وما إلى ذلك من التَّفاصيل الَّتي ربما اختلف فيها المسيحيّون فيما بينهم، ويختلف المسلمون والمسيحيّون حولها.
منهجيَّة القرآن في الحوار
أمَّا شعار القرآن، فهو: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6). ولذلك، عندما انطلق الحوار بين المسيحيَّة والإسلام، انطلق إنسانياً حضارياً، ولم يتحرّك من موقع عقدة، ولكنَّه تحرّك من موقع انفتاح على الحقيقة، ليكون المتحاوران مترافقين في رحلة البحث عن الحقيقة.
وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في منهجه الحواريّ، عندما لم يفرض المحاور المسلم نفسه على المحاور الآخر، مسيحيّاً كان أو غير مسيحيّ، بل انطلق من منهجيّة الشَّكّ المتبادل، وإن كان كلٌّ من الطَّرفين ملتزماً، لكنَّ الحوار لا يفرض أن تدخل التزامك في السَّاحة، بل عليك أن تكون الإنسان الَّذي يتقمَّص الشَّكَّ ليصل إلى الحقيقة، من خلال حركة الشّكّ الَّذي يُثير قلق المعرفة في نفسه، وهكذا قال تعالى: {إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(7)، قد أكون على هدى وقد أكون على ضلال، وقد تكون أنت على هدى وقد تكون على ضلال، لذلك هناك حقيقة ضائعة بيننا، فلنترافق من أجل أن نبحث عنها ونصل إليها.
أمَّا بعد أن تعقّدت الأوضاع في التَّاريخ، ودخل الآخرون من أجل تعقيد العلاقات بين النَّاس، ليركّزوا على الفواصل، وليدخل التَّخلّف، ولتتحرَّك العصبيَّة من خلال التخلّف، وليواجه الإنسان جهله في مقابل جهل الإنسان الآخر... فهنا اضطربت الأمور، وتحوَّلت المسألة لتكون حوار غريزة لغريزة، ومواجهة عقدة لعقدة، وهو ما خلق الكثير من العناصر النَّفسيَّة السلبيَّة بين فريق وآخر، ولا سيّما بعد أن دخلت السياسة في المسألة.
إنَّ الإسلام في الواقع الَّذي عاشه في مداه في المنطقة، لم يضطهد المسيحيَّة ولا اليهوديَّة، ولكنَّه عاش معهما.
عقدة الاستعلاء اليهوديّة!
س: وهل كان هناك حوار مع اليهوديَّة؟
ج: كان هناك حوار، ولكنَّه لم يكن يأخذ تلك الرّحابة الَّتي أخذها الحوار بين الإسلام والمسيحيَّة.
س: ألأنَّهم ظالمون؟
ج: إنَّه بسبب عقدة الاستعلاء اليهوديَّة على الإنسان، كما أنَّ اليهوديَّة ليست ديناً منفتحاً على الإنسان كلّه، فاليهوديَّة في ذهنيَّة اليهود على مدى التَّاريخ، لم تكن دين دعوة، وليست حركة تبشيريَّة، بل هي حركة تعيش لتختنق في داخل أوضاعها وكهوفها ومغاراتها. ولهذا لم تستطع اليهوديَّة أن تملك امتداداً كبيراً في العالم، بينما استطاعت المسيحيَّة، كما الإسلام، أن يملكا امتداداً في العالم يتجاوز المليارات. فعقدة الاستعلاء عند اليهود، تجعل اليهوديَّة لا تقبل بالآخر، وتتعاطى على أنّها هي الدّيانة المميَّزة.
لقد كان هناك حوار بين اليهوديّة كدين في الجانب المفهومي للفكر اليهودي وبين الإسلام، ولكنَّه ليس بهذه الضَّخامة، وهناك الكثير من الكتب، سواء كانت في زمن العصر العبّاسي أو بعد ذلك، ومنها كتب لعلماء من المسلمين الشّيعة، في مناقشة الفكر اليهوديّ وبعض ما توحي به التَّوراة وما إلى ذلك.
س: هل للحركة الصّهيونيَّة تأثير في عدم الحوار الإسلامي - اليهودي، أو المسيحي - اليهودي؟
ج: في تصوّري أنَّ اليهوديَّة بشكل عامّ ليست منفتحةً على الحوار، لأنَّ مسألة أن تحاور، هي مسألة أن تفكّر كيف يمتدّ فكرك في الآخر، فإذا كنت لا تفكّر أن يمتدّ فكرك في الآخر، بل تعمل عن أن يختنق في داخل ذاتك، فمن الطَّبيعيّ أن لا تشجّع الحوار، بينما ينطلق الإسلام والمسيحيَّة على أساس الامتداد، على أساس البشارة من جهة، والإنذار من جهة أخرى، وعلى أساس أن يجتذبا الإنسان إلى القيم الَّتي يؤمنان بها هنا وهناك. ومن خلال ذلك، فإنَّ من الطبيعيّ للإسلام والمسيحيَّة أن يديرا الحوار بينهما، وأن يديرا الحوار مع التيَّارات الأخرى، بما فيها التيَّارات الماديّة الَّتي لا تؤمن بدين، لأنَّ قضيَّة أن تمتدَّ في الإنسان، هي أن تواجه كلّ الحواجز الّتي تحول بينك وبين عقل الإنسان الآخر.
ليس هناك حقوق للطَّوائف بعيداً من حقّ الإنسان.. والطّائفيّة في أذهاننا مسألة عنوان متخلّف
دعوة الإرشاد الرَّسولي!
س: الإرشاد الرَّسولي حضّ المسيحيّين على الحوار مع الآخر المختلف. ما الخطوات العمليّة التي أرساها المسلمون لتطوير هذا الإرشاد وتثمينه؟
ج: لقد رحَّب المسلمون بما جاء في الإرشاد الرَّسوليّ، لأنَّه أطلق للمسيحيّين في لبنان فكرة "منفتحة" جدّاً على المنطقة، عندما قال لهم: لا تعتبروا أنفسكم طارئين على المنطقة، بل اعتبروا أنفسكم من قلب هذه المنطقة، ولذلك، فإنَّ عليكم أن تعيشوا مع النَّاس فيها، كما يعيش المواطن مع المواطن، وكما يعيش الأصيل مع الأصيل.
ولكنَّ التَّعقيدات اللّبنانيَّة الَّتي حركتها السياسة المنغلقة هنا وهناك، إضافةً إلى التَّدخّلات الخارجيَّة، ولا سيَّما الأوضاع الَّتي أحاطت بالوجود اليهوديّ في فلسطين وامتداداته إلى لبنان، واستغلاله للكثير من الثَّغرات المفتوحة في لبنان في العلاقات السياسيّة بين المسلمين والمسيحيّين، لعلَّها لم تترك ساحةً مفتوحةً للحوار بالطَّريقة الموضوعيَّة، ما جعل مسألة الحوار الإسلامي - المسيحي مسألةً في الدّيكور أكثر مـمَّا هي في الصّورة.
تعقيدات تمنع الحوار
س: هل ما وصل إليه الحوار كاف للتَّأسيس لمرحلة جديدة من العيش المشترك تطوى معها صفحة العنف؟
ج: إنَّني لا أتصوَّر أنَّ هناك حواراً إسلامياً مسيحياً بالمعنى الموضوعيّ للحوار الَّذي يؤسّس لقاعدة مشتركة تنفتح على خطوطٍ يمكن أن يدور من خلالها الحوار، لأنَّ التعقيدات السياسيَّة الَّتي تزيد في كلّ يوم من الدَّاخل والخارج منعت هذه الروحيَّة للحوار.
وإنَّني أزعم دائماً أنَّ الشَّعب اللّبنانيّ من المسلمين والمسيحيّين في حياتهم العاديَّة، قد حاور بعضهم بعضاً في الأمور الحيويَّة من حياتهم وأخذوا النَّتائج، وبقي هناك في الأبراج العاجيَّة، في المواقع السياسيَّة تارة، والدّينيَّة أخرى، من يتحدَّث عن شروط الحوار، ومَنْ يحاور مَنْ، وما إلى ذلك.
ونحن عندما ندخل إلى المناطق اللّبنانيَّة المختلطة في الجنوب والشّمال والبقاع وبيروت، فإنَّنا لا نجد هناك مشكلة كبيرة، إلَّا في ما يحدث من المشاكل الَّتي تحدث في المجتمع المتعدّد، سواء كانوا من دين واحد في مذهبيَّات مختلفة، أو من مذهب واحد في سياسات مختلفة، إنّنا نجد التجَّار من الطَّرفين، والمثقَّفين من الطَّرفين، والطلَّاب والرياضيّين، يلتقون كما لو لم يكن بينهم أيّ فاصل.
إنَّني أزعم أنَّ هناك حواراً شعبيّاً عندنا بين اللّبنانيّين على المستوى الإنسانيّ، ولكنَّ العقدة الَّتي تثار دائماً، هي في المواقع العالية - إن صحَّ التَّعبير - والَّتي تحاول أن تتحرَّك من دون قلوب مفتوحة.
مهمَّة وثيقة الطّائف
س: سماحة السيّد، أتعتقد أنَّ وثيقة الطَّائف والإرشاد الرَّسوليّ يكمل بعضهما بعضاً في التَّأسيس لمرحلة حواريّة صحيحة؟
ج: إنّني أتصوّر أنَّ وثيقة الطَّائف انطلقت لتكون وسيلةً من وسائل إغلاق ملفّ الحرب، ولم تكن وثيقةً منفتحة على كلّ الحاجات اللّبنانيَّة، فقد كان هناك مأزق يريد الجميع الخروج منه، وكانت وثيقة الطَّائف هي الحدّ الأدنى للخروج من هذا المأزق...
س: أي أنّ وظيفتها كانت إيقاف العنف، وجمع السّلاح من الشَّارع، وجعل العسكر يذهبون إلى بيوتهم...؟!
ج: أو إعطاء مناخ يتنفّس فيه الجميع معنى لبنانيَّتهم في معنى إنسانيَّتهم. ولكنّي أعتقد أنَّ من الممكن أن نتجاوز هذه الوثيقة، إذا استطعنا أن نحصل على روحيَّة المواطنيَّة، بأن نعيش على أساس أنَّنا مسؤولون جميعاً عن لبنان، وأن نتَّفق على صورة لبنان في معناه الإنسانيّ، وأن نواجه الأولويَّات بطريقة واقعيَّة، لأنَّ المشكلة أنَّ بعضنا يعيش في التَّاريخ، وبعضنا يعيش في المستقبل، ولكنَّ الحاضر ضائعٌ فيما بيننا، من خلال حيرته بين الماضي والمستقبل.
نحن نريد أن نكون مستقبليّين، ونريد أن نستخلص العبرة من الماضي، وأن نؤسّس للمستقبل في الواقع، ولكن علينا أن نفهم ماذا نريد.
بين التَّاريخ والحاضر؟
س: سماحة السيّد، كلّ العائلات الرّوحيَّة في لبنان تعيش في ذاكرتها التَّاريخيَّة...
ج: هناك فرقٌ بين أن تعيش تاريخيَّتك من حيث جذورك، وبين أن تعيش تاريخيَّتك بحيث تنقل مفردات التَّاريخ السياسيَّة الَّتي انطلقت بظروف موضوعيَّة محدَّدة، وتأتي بها إلى واقعك اليوم، فهناك فرق بين أن تجرّ التَّاريخ ليكون واقعك تاريخاً، وبين أن تستنطقه لتستفيد منه ما يبقى للحياة، لتعطي الواقع جرعةً منه.
مشكلة بعضنا أنّه يستغرقُ في التَّاريخ من دون أن يُحدِّق في المتغيّرات، فالعالم يتغيّر، وإذا كان كذلك، فلا يمكن أن تنقل القرن التَّاسع عشر إلى القرن الواحد والعشرين. المسألة، أنَّ لكلّ زمن - كما يقولون - دولةً ورجالاً، فعلينا أن لا نعيش في خصوصيَّة الزَّمن الَّذي مضى.. إنَّ بعض النَّاس يعتبرون أنَّه إذا كان هناك وضع قبل مائة سنة، فينبغي أن يكونوا في الوضع نفسه في المائة سنة الأخرى، ونحن نعرف أنَّ الحياة تتغيّر، فكيف كانت بريطانيا في الأربعينات؟ كانت سيّدة البحار، ولكن أين هي الآن؟! وكيف كانت أمريكا آنذاك، وكيف هي الآن؟ وكذلك بالنّسبة إلى الشّعوب في المنطقة الواحدة، وهكذا بالنّسبة إلى النّاس في البلد الواحد.
إنَّ الدّين لا يتعارض مع الحريّة إلّا إذا اقتربت من الإساءة إلى إنسانيَّة الآخرين وحرّيّاتهم
أولويَّة الالتزام بالوطن
س: سماحة السيّد، تفضّلت وقلت إنَّ علينا أن نبدأ بالمواطنة، فما هي الآليَّة ليكون عندنا المواطن الملتزم بوطنه، قبل التزامه بعشيرته، مثلاً؟

ج: إنَّك لا يمكنك أن تفرض عشيرتك على وطنك، لسبب بسيط جدّاً، وهو أنَّ عشيرتك تمثّل بعضاً من وطنك، وهناك عشائر أخرى ترتبط حياة عشيرتك بهم، ويرتبطون بعشيرتك. لذلك، لا بُدَّ أن نبحث عن صيغة تبقي كلّ عشيرة في موقعها، وأن تتعاون هذه العشائر على توظيف الجانب الخاصّ في الجانب العامّ، حتّى يمكن أن يعيشوا معاً، لأنَّك إذا أردت توظيف العامّ في الخاصّ، فإنَّ معنى ذلك أنَّك تريد أن تلغي الخاصّ.
س: سماحة السيّد، نفهم من كلامك أنَّك تدعو إلى كونفدراليَّة بين الطَّوائف؟
ج: ليس كذلك، أنا أبحث عن وطن يعيش فيه النَّاس كمواطنين.
س: ولكنَّ صيغة النّظام، سماحة السيّد، لا تسمح بتقديم المواطنيَّة على العشائريَّة؟
ج: لو أردنا أن نُحدّق في الواقع، يقولون إنَّ هناك طائفة مسيحيَّة وطائفة إسلاميَّة، فقل لي ماذا تمثّل المسيحيَّة بمعناها الدّيني القيميّ الروحيّ، وماذا يمثّل الإسلام بمعناه الروحيّ الدّيني والقيميّ، في ما يختلف فيه المسلمون والمسيحيّون في لبنان؟ فهل مشكلتنا في لبنان فيما نختلف فيه، أنَّك تؤمن بالسيّد المسيح وبأنّه صلب، بينما لا أؤمن بصلبه، وأؤمن بالنبيّ محمّد (ص) الّذي لا يؤمن به المسيحيّ؟ هل هذه مشكلتنا في لبنان؟ هل مشكلتنا في لبنان هي الأحوال الشَّخصيَّة؛ كيف يتزوَّج الإنسان مدنياً أو كنسياً أو إسلامياً؟! ليست هذه مشكلتنا.
إذاً، مسيحيَّتنا وإسلاميَّتنا في معناهما الفكريّ والقيميّ والروحيّ ليس له دورٌ في واقعنا اللّبنانيّ، بل إنَّ المسألة هي كيف يمكن أن ألبّي حاجاتك وتلبّي حاجاتي في الحياة، كيف نتعاون على أساس أن يكون إنساننا حرّاً، وإرادتنا حرّة، ويكون بلدنا حرّاً، وأن نؤنسن الأرض لتكون في خدمة الإنسان، ولا يكون الإنسان مستعبداً للأرض.
إذا اختلفنا في تقييمنا لمفردات الحريّة أو لمفردات العدالة، فإنَّ هذا أمر يختلف فيه النَّاس في كلّ بلدان العالم، لأنَّ الأمور تغيّرت، فمسألة الاستقلال اليوم تختلف عمّا كانت عليه قبل مائة سنة، وكذلك مسألة الحريّة... فقد نختلف في فهمنا لمثل هذه الأمور، وكذلك لمفردات العدالة، لكنَّ مشكلتنا في لبنان هي أنَّنا نختلف والعقدة وراء خلافاتنا، ولا نختلف بقلوب مفتوحة.
حقّ الإنسان أوّلاً
س: وكأنَّك تدعو إلى حقّ الإنسان في لبنان، بدل أن نفتّش عن حقوق الطَّوائف؟!
ج: أنا أعتقد أنَّه ليس هناك حقوق للطَّوائف بعيداً من حقّ الإنسان، إنّك عندما تكون طائفياً، فإنَّ طائفيَّتك لا تُحدّد لك ما تأكل وتشرب، وكيف تعيش وكيف تتعلّم... إنَّ الطَّائفيَّة في أذهاننا هي مسألة عنفوان متخلّف؛ أن أكون أنا الأعلى، أو تكون أنت الأعلى.
هذه مسألة تعيش في دائرة التخلّف والانحطاط الإنسانيّ، لأنَّنا عندما ندرس المسألة في الواقع، فليس هناك إنسان مطلق، أنت إنسان محدود تملك بعض الصّفات الَّتي لا أملكها، وأنا أملك بعض الصّفات الَّتي لا تملكها، فتعال لنتكامل، أعطيك ما عندي وتعطيني ما عندك، فالإنسانيَّة انطلقت في كلّ معانيها الحضاريَّة على هذا الأساس.
لذلك أتصوَّر أنَّنا في لبنان نحتاج إلى قلوب مفتوحة؛ أن ينبض الإنسان فينا، وأن تنبض المحبّة الإنسانيَّة فينا، لأحاورك وتحاورني في ما نختلف فيه، على أساس أنَّني أريد أن أفهم هل الحقيقة عندك أو ليست عندك، أو تفهم هل الحقيقة عندي أو ليست عندي. فنحن مشكلتنا أنَّنا نريد تسجيل النّقاط بعضنا على بعض، وليس أن نجمع النقاط.
نهج المحبّة والسّماح
س: يعني نحن بحاجة إلى محبَّة المسيح وإلى سماح الإسلام؟
ج: نحن نعتقد أنَّ المحبَّة مشتركة، فهناك حديثٌ نبويٌّ شريف يربط بين الإيمان والحبّ: "لا يؤْمِنُ أحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخيهِ مَا يُحبُّ لنَفْسِهِ"(8)، حتَّى إنَّ القرآن عندما أكَّد حقّ الإنسان في أن يردَّ العدوان بمثله، قال: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(9)، {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}(10)، ولذلك، نحن نعتبر أنَّ قيم التَّسامح والمحبّة والرَّحمة هي قيم أرادها الله للإنسان من خلال كلّ رسالاته.
الدّين والدّيمقراطيَّة
س: هل يتعارض الدّين مع الحريَّة والديمقراطيَّة؟
ج: إنَّ الدّين لا يتعارض مع الحريّة إلّا إذا اقتربت من الإساءة إلى إنسانيَّة الآخرين وحرّيّاتهم.. لقد خلقك الله حرّاً، وهي كلمة قالها الإمام عليّ (ع): "لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً"(11)، ولكن ينبغي لهذه الحريّة أن تكون الحريّة المسؤولة، وعلينا أن نتفاهم عليها، لأنَّه لا يمكن أن نتحدَّث عن الحريّة بالشّكل المطلق الّذي يؤدّي إلى فوضى، ولذلك يقول الَّذين ينظّرون للحريَّة: إنَّ حريّتك تنتهي عندما تبدأ حُريَّة غيرك.
فلو أردنا أخذ الحريّة بالمعنى الذّاتيّ، فقد أقول لنفسي: لماذا تنتهي حرَّيتي عندما تبدأ حُريَّة غيري؟ غيري ليس أولى منّي في هذا المجال، لكنَّ نظام الكون يحتاج إلى أن نضع حدوداً له، لأنَّ عالمنا هو عالم محدود وليس عالماً مطلقاً.
أمَّا مسألة الديمقراطيّة، فليست عندنا مشكلة معها عندما لا تصطدم بثوابتنا الّتي نعتقد أنَّ الله أوحى بها. أمَّا خارج ذلك، عندما نتحرَّك بالمسألة السياسيَّة أو الاجتماعيَّة، فلا مشكلة في أن نلجأ إلى الدّيمقراطيَّة، على أساس أنّها أقلّ الأنظمة سوءاً، كما يقول المنظّرون لها.
أنا لا أرى في الاستنساخ أو في علم الجينات أيّ خطٍّ سلبيٍّ يتعارض مع العقيدة
حكم الزّواج المدنيّ
س: سماحة السيّد، انطلاقاً من المبدأ الَّذي يقول إنَّ الدّين لا يتعارض مع الحريّة والدّيمقراطيّة، ما رأيكم في الزَّواج المدني؟
ج: الزواج المدني زواجٌ شرعيّ لمن يلتزمون العلمانيَّة فكراً وشريعةً ومنهجاً للحياة، لأنّ القاعدة الإسلاميّة تقول: "لكلّ قوم زواج يحتجزون به عن الزّنا". ولذلك، فإذا تزوَّج العلمانيَّان اللَّذان لا يلتزمان التزاماً عقيديّاً بخصوصيَّة دين معيَّن، فيما يشرِّعه هذا الدّين أو ذاك، بل كانا يلتزمان المنهج العلمانيّ كقاعدة فكريَّة وقانونيَّة، فإنّ زواجهما يكون شرعيّاً...
أمَّا أن يتزوَّج المسيحيّ الملتزم بالمسيحيَّة فكراً وشريعةً زواجاً مدنيّاً، فإنَّ المسيحيَّة في معناها الشَّرعيّ لا تجد هذا الزواج شرعيّاً، بحيث تُرتِّب عليه الآثار الشَّرعيَّة المسيحيّة، لأنه يفتقد السّرّ الَّذي لا يملكه إلَّا الكاهن، وكذلك في الإسلام، إذا كان الزوجان مسلمين، أو كان الزوج مسلماً أو الزوجة مسلمة، فمن الطبيعيّ أنَّ معنى التزامهما بالإسلام، أنهما يلتزمان قوانينه في كلّ قضايا العلاقات والمعاملات، فإذا لم يلتزما بالشّروط الإسلاميَّة للزّواج، فمن الطبيعيّ أن لا يكون زواجهما شرعيّاً... لذلك المسألة لا بدَّ أن تحدَّد على هذا الأساس.
ونحن نقول إنَّك عندما تلتزم بخطّ معيَّن، فعليك أن تتحرَّك بكلّ مفرداته، أمَّا أن تلتزم به كخطّ وقاعدة، ثمَّ تنحرف عنه في أمور أخرى، فمن الطبيعيّ أن تفقد بذلك الصّفة الشّرعيّة.
العولمة.. بين الشّمال والجنوب
س: ما مدى تأثير العولمة في السيادة والاستقلال؟ وهل سيبقى شمال وجنوب متفاوتان؟! ومن يحقّق العدالة؟
ج: إنّني أتصوّر أنَّ مسألة العولمة انطلقت من خلال جذورها الفكريَّة - إن صحَّ أنَّ لها جذوراً فكريّة - من الاقتصاد، ومن الموقع الأمريكيّ، باعتبار أنَّ هناك تخطيطاً لسيطرة الشَّركات الكبرى على مواقع الاقتصاد في العالم، ولا سيّما العالم الثَّالث.
س: يعني أنّنا نعيش حالة من العولمة تتعلَّق بالسياسة والاقتصاد بعيداً من عولمة العسكرتاريا؟
ج: إنَّ العولمة تحاول أن تزيل كلّ الحواجز، سواء كانت حواجز قوميَّة أو وطنيَّة أو محوريَّة، أن تزيل كلّ الحواجز أمام الشَّركات الكبرى أو اقتصاد الدّول الكبرى، ولا سيَّما في مناطق العالم الثَّالث الَّتي تملك الثَّروات الكبرى التي يتوقَّف عليها رخاء العالم.
ثمَّ ما لبثت السياسة أن تحوّلت إلى وسيلةٍ لتوسيع نفوذ العولمة الاقتصاديّة، وتحرّكت الثّقافة في الاتّجاه نفسه، فيما تقدَّمت الجوانب الأمنيّة والعسكريّة لتكون حارساً لمكاسب هذه العولمة، كلّما وُضعت أمامها الحواجز.. لذلك، فقد ولدت العولمة غير إنسانيَّة، بحسب واقع حركتها في عصرنا هذا.
غير أنّنا، حين نتطلَّع إلى تجاوز هذه الخصوصيَّة في حركة العولمة، نجد أنفسنا أمام مفهومٍ أوسع، وهو أنّنا إنسانيّون، فالإسلام في جوهره إنسانيّ، ينفتح على الإنسان كلّه، والمسيحيَّة كذلك تنفتح على الإنسان كلّه. لكنّ هذه الإنسانيّة الرَّحبة لا تُلغي خصوصيّات كلّ أمّةٍ أو جماعةٍ، بل تحفظ لها تمايزها في إطارٍ من التَّلاقي الإنسانيّ العام. وقد أكَّد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(12). فالإسلام يعترف بوجود الشّعوب والقبائل، وبما تمتلكه كلّ أمّةٍ من خصوصيّاتٍ وتجارب وإمكانات، غير أنَّ هذه التَّعدّديّة لا تُشكّل حاجزاً، بل تُغني المسيرة الإنسانيَّة من خلال التّعارف والتّلاقح والتّكامل بين مختلف الشّعوب في إطار القيم الإنسانيَّة المشتركة.
لذلك، نحن لسنا ضدّ العولمة بمعنى انفتاحها على الإنسان على نحوٍ تزيل الحواجز بين الإنسان والآخر، ولكنَّنا نتحفَّظ عن العولمة في صورتها الحاضرة الّتي لا تنسجم كثيراً مع السّيادة والاستقلال.
ومن الطّبيعيّ أنّها سوف تبقي الشّمال والجنوب، لسبب واحد، وهو أنَّ الشّمال أطلق العولمة من أجل أن يستغلّ الجنوب، ولذلك، فهو لا يسمح للجنوب بأن يساويه، وأن يستثمر ثرواته الموجودة في باطن الأرض أو سطحها ليستغني عن الشّمال في هذا المجال. ولذلك من الصّعب جدّاً أن تتحقَّق هناك عدالة في ظلّ العولمة الَّتي تشرف عليها الدّول الكبرى.
العولمة ومستقبل الأمَّة
س: سماحة السيّد، ما هو مستقبلنا كأمَّة في ظلّ العولمة وغيرها؟
ج: إنَّ مستقبلنا كأمّةٍ في ظلّ العولمة وسواها يتوقّف على قدرتنا على العمل، كما عملنا في مراحل سابقة واجهنا فيها ظروفاً شتّى، فعلينا أن نسعى جاهدين للحفاظ على استقلالنا وحرّيتنا في مواجهة القوى الكبرى، وأن نؤكّد خصوصيّاتنا وهويّتنا بالمقدار الممكن، وأن نبقى في حالة وعيٍ وصراعٍ إيجابيٍّ لتثبيت وجودنا وصياغة مستقبلنا.
الانتفاضة الفلسطينيّة ثورة إنسانيَّة من أروع ما عرف الإنسان من الثَّورات العفويّة
تأثير الإنترنت
س: ما هي إيجابيَّات الإنترنت وسلبيَّاته على أجيالنا ومجتمعاتنا المحافظة؟
ج: إنَّ الإنترنت، كغيره من وسائل الإعلام والتّواصل، أداة يمكن أن تكون خيراً أو شرّاً، بحسب طريقة تعاملنا معها. فعلينا أن نستفيد منه كما استفدنا من التّلفزيون والراديو وسائر الوسائل الحديثة، في سبيل خدمة القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة بشكل عام، ولا ينبغي أن نقف عند السلبيّات فحسب، وأن نندب حظّنا ونتحدَّث عن آثار الانحراف والانهيار الأخلاقي، بل علينا أن نعمل على التَّخفيف من السَّلبيَّات بالقدر الممكن، من خلال إنتاج الإيجابيّات.
إنّنا بحاجة إلى أن نتعامل مع نظام الاتّصالات كما نتعامل مع الهواء؛ فقد يكون عاصفاً أو ساكناً، بارداً أو حارّاً، لكنّنا لا نستطيع الاستغناء عنه، بل نحاول دائماً أن نكيّف أنفسنا معه ونخفّف من آثاره الضَّارّة. كذلك هو الإنترنت، لا يمكن تجاهله أو الانعزال عنه، بل يجب ترشيد استخدامه وتوجيهه نحو ما يخدم الإنسان والمجتمع.
وإذا كانت في كلّ مرحلة من التَّاريخ تيّاراتٌ مضادّة للقيم، ففي المقابل، هناك قوى الخير الَّتي تنهض في وجهها. وما نعيشه اليوم ليس قضاءً وقدراً محتوماً، بل هو تحدٍّ حضاريّ يمكننا أن نحوّله إلى فرصةٍ إيجابيّة إذا امتلكنا الوعي والإرادة.
قانون الاستنساخ.. والعقيدة؟!
س: فيما يتعلّق بعلم الأحياء، هناك ما يُعرف بالاستنساخ وبالهندسة الجينيّة، وهذان المجالان يبدوان وكأنَّ الإنسان يشارك الخالق في صنع الإنسان، فهل في ذلك مساس بالعقيدة؟
ج: أنا لا أرى في الاستنساخ أو في علم الجينات أيّ خطٍّ سلبيٍّ يتعارض مع العقيدة، لأنَّ عمليّة الخلق ليست مجرّد صناعة شكلٍ يشبه ما خلقه الله، فنحن نصنع في حياتنا أشياء كثيرة تحاكي بعض مظاهر خلق الله في الطَّبيعة، دون أن يعني ذلك أنَّنا نخلق، لكنّ الخلق الحقيقيّ هو ابتداع قانونٍ جديدٍ لم يخلقه الله، ونحن عندما واجهنا قضيَّة الاستنساخ، وجدنا أنَّ الذين قاموا بهذه العمليّة لم يبتدعوا قانوناً جديداً، بل استعملوا القوانين الَّتي أودعها الله في الخلق، فعملهم اقتصر على الشَّكل، أمَّا المضمون فهو واحد، وذلك لأنَّ المخلوق الحيّ، إنساناً كان أو حيواناً، يولد من خليّة تحتوي على (46) كروموزوماً، نصفها في النّطفة (23)، والنّصف الآخر في البويضة (23). فإذا تمّ تلقيح البويضة بالنّطفة، تكوّنت الخليّة الكاملة. أمَّا في عمليّة الاستنساخ، فقد أُفرِغت البويضة من كروموزوماتها، ثمَّ زُرعت فيها خليّة مكتملة من كائنٍ آخر، فنتج الكائن المستنسخ، أي أنّهم لم يخلقوا قانوناً جديداً للحياة، بل عملوا ضمن القانون الإلهيّ نفسه الَّذي سنّه الله في نظام الخلق.
إذاً، هم لم يخلقوا قانوناً، بل استهدوا قانون الله، ولذلك فهم ليسوا خالقين، لأنَّ الخلق، كما ذكرنا، هو خلق القانون. ونحن نعرف أنَّ كلَّ المكتشفين والمخترعين لم يستطيعوا أن يخلقوا قانوناً، بل إنّهم اكتشفوا القانون وصنعوا ما هو مماثل له. وهكذا في نظام الجينات، فقد استطعنا أن نطّلع من خلال هذا الاكتشاف على هندسة الجينات وأسرارها، وحاولنا أن نغيّر بالوسائل الَّتي ألهمنا الله إيّاها، على قاعدة {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(13)، ولم نخلق جينات جديدة، وإنّما حاولنا التحرّك في دائرة هذه الهندسة.
س: هل هي عمليّة تطوير إذاً؟
ج: بل الأفضل أن يقال إنّها عمليَّة استنساخ، أن تستنسخ نفس القانون، طبق الأصل، كما عندما تنسخ نصّاً وتنقله من دفتر إلى آخر، فأنت لم تبدع شيئاً، وإنما نقلت الصّورة.
أمَّا من النَّاحية العمليَّة الواقعيَّة، فإنّ الدّين لا يقف ضدّ مبدأ الاستنساخ في ذاته، بل يعارض النَّتائج السلبيّة الَّتي قد تترتّب عليه. فإذا كانت تلك النتائج السَّلبيّة تفوق إيجابيّاته وتؤدّي إلى مفاسد أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو إنسانيّة، فعندها يكون الحكم بعدم الجواز.
الموقف من الإعدام
س: سماحة السيّد، ما موقف الشَّرع من الإعدام والإجهاض والموت الرَّحيم؟
ج: إذا قلنا إنَّ كلّ مجرمٍ مريض، فالمفروض أن نغلق السّجون ونفتح المستشفيات النفسيّة، ونلغي كلّ العقوبات. ولكنّ الإنسانيّة لا يمكن أن تستمرّ بهذه الطَّريقة، لأنَّ بعض المرضى قد يوسّعون من دائرة مرضهم، بحيث يهدّدون أمن النَّاس وحياتهم.
إنّ قضيّة العقوبة في جوهرها وقائيّة؛ فالعقوبة لا تُفرض بدافع الانتقام، بل لحماية المجتمع من تكرار الجريمة، وردع المجرم نفسه وسواه عن ارتكابها في المستقبل.
وقد يقول البعض إنَّ المجرم قتل حياةً وأنت بالإعدام تقتل حياةً أخرى، ولكن أنا لا أقتل بدافع العقدة أو الانتقام، بل هو تنفيذٌ لتشريعٍ إلهيٍّ يهدف إلى حماية الحياة العامّة من الإجرام والعدوان، بعد أن يمنح الفرصة لإقناع وليّ الدَّم بأن يتنازل عن حقّه، أو إقناع الحقّ العامّ، إذا كان هناك حقّ عامّ، بأن يستبدل به شيئاً آخر، فإذا لم يتحقَّق ذلك، ينفّذ الإعدام لنمنع بذلك الجريمة الأكبر في هذا المجال.
وقد يرى بعض النَّاس أن نستبدل بالإعدام السّجن المؤبّد، لكنَّ السّجن المؤبّد قد يكون في كثير من الأحيان أكثر قسوةً من الإعدام نفسه، لأنّه يسلب الإنسان حياته معنويّاً ويتركه في عذابٍ دائم.
لذلك، فإنَّ الَّذين يرفضون الإعدام باسم الإنسانيَّة، إنّما ينظرون إلى الإنسان الفرد فقط، بينما يغفلون عن الإنسان المجتمع، أي عن حقّ الجماعة في الأمان والحماية. ولهذا نلاحظ أنَّ الدول الَّتي تطبّق قانون الإعدام، تقلّ فيها نسبة الجرائم، مقارنةً بتلك التي ألغته...
الإجهاض.. والموت الرَّحيم
أمَّا قضيَّة الإجهاض، فنحن ضدّه، لأنَّنا لا نملك السّلطة على الحياة، لأنَّ الحياة بيد الله، إلَّا في حالتين؛ الأولى: إذا فرضنا أنَّ الرّوح لم تنفخ بعد بالجنين، بحسب التَّعبير الفقهي، وكان الحمل يضرّ بالمرأة ضرراً بالغاً فوق العادة، وإن لم يصل إلى حدّ الموت، فهنا يجوز، وبعض الفقهاء لا يجوّزونه حتَّى في هذه الحالة. والحالة الثَّانية، هي الحالة الَّتي يُشكّل الحمل فيها خطراً على حياة الأمّ، ويكون الخيار بين أن تموت الأمّ أو يموت الجنين، فللأمّ الحقّ في الدّفاع عن نفسها في هذه الحالة.
س: هل للجنين من حقوق؟
ج: من حقّ الجنين على الأمّ أن تحمي حياته، فلا يجوز لها أن تمارس أيَّ عمل يمكن أن يؤدّي إلى سقوطه أو إلى إضعافه، ولا بدَّ أن تتغذَّى بالطَّريقة الَّتي تساعده على النّموّ نموّاً طبيعياً، وأن تمتنع عمَّا يُسبّب له المرض أو التّشوّه، وعلى الأب أيضاً أن يتحمَّل مسؤوليَّة الإنفاق على الأمّ لمصلحة الجنين.
أمّا الموت الرَّحيم، فلا نوافق عليه، لأنَّ الإنسان لا يملك حياته، فهي ملك الله، وليس للإنسان الحريّة في أن يطلب من الآخرين إنهاء حياته.
حقُّ المرأة في الإسلام
س: ما موقع المرأة في الإسلام، سماحة السيّد؟ وهل هي مساوية للرّجل في الحقوق؟
ج: المرأة إنسان كما الرَّجل إنسان. أمَّا المساواة، فهي لا تعني أن تكون المرأة ذكراً أو يكون الذَّكر أنثى، بل أن يتساويا في إنسانيَّتهما وحقوقهما الإنسانيَّة، والقرآن يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(14)، أي أنّ العلاقة بينهما تقوم على التَّوازن في الحقوق والواجبات..
ونحن نرى في فقهنا الإسلامي – وهو ما نرتئيه – أن ليس للرَّجل على المرأة في عقد الزواج إلّا الحقّ الجنسيّ، فلا يحقّ له أن يُلزمها بخدمة البيت، أو بإرضاع الأطفال وتربيتهم. ومن النَّاحية القانونيّة الإسلاميّة، للمرأة الحقّ أن تطلب الأجرة على إرضاع ولدها، كما يحقّ لها أن تتقاضى أجرةً على عملها في البيت، كما لو كانت عاملة في أيّ موقع آخر.
ولكنّ الإسلام أراد للرَّجل والمرأة أن يتحرّكا في حياتهما المشتركة على أساس المودّة والرَّحمة، لا على أساس موادّ القانون، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(15). فالمودّة والرَّحمة هما اللَّتان تدفعان المرأة لتعطي ما لا يجب عليها، وتدفعان الرَّجل ليقدّم ما لا يجب عليه، لتكون العلاقة بينهما إنسانيَّة متبادلة.
إنّ لبنان جميل بمنتهى الجمال.. فلا تشوّهوه بقبح العصبيّة والطّائفيّة والعشائريّة
تحطيم تماثيل بوذا!
س: ما موقفكم من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان؛ هل من دوافع سياسيَّة وراء العمل، أم أنَّه من قبيل التشدّد الأصوليّ؟ وهل للعزلة السياسيّة من دور؟!
ج: أعتقد أنَّها زوبعة في فنجان، لأنَّ الإسلام ضدّ الأصنام، ولكنَّه ليس ضدّ بقاء التَّماثيل الَّتي لا تتحوّل إلى رمز للعبادة، كما هي تماثيل بوذا الموجودة في أفغانستان الَّتي لم يسبق لأحد أن عبدها، بل هي مجرّد تماثيل فيها خصوصيَّات فنيَّة.
من هنا، فنحن لا نجد أنَّ التشريع الإسلاميّ يُحرّم بقاءها أو يوجب تدميرها. ولكن من يحكمون أفغانستان يرون رأياً آخر، لأنَّهم قد يملكون ضيقاً في الأفق في فهم التَّشريع الإسلاميّ، ولهذا لم يستجيبوا لنداء علماء المسلمين الَّذين ذهبوا إلى أفغانستان، وحاولوا إقناعهم بأنَّ الإسلام لا يمنع من بقاء هذه التَّماثيل، كما أنَّ المسلمين في مدى القرون الَّتي مرَّت على أفغانستان لم يعرضوا لهذه التَّماثيل بالسّوء، لأنّه ليس هناك من يعبدها أساساً في هذا المجال، كما أنَّ هذه التَّماثيل بقيت في مصر وإيران والعراق وأماكن أخرى.
إنّي أعتقد أنَّ المسالة قد تنطلق من خلال ضيق في الفهم الإسلاميّ، وربّما تنطلق من خلال العزلة السياسيَّة.
بقايا وثنيَّة
س: سماحة السيّد، هل تخلَّصَ إنساننا بشكل مطلق من وثنيَّته أو من بعض العادات الوثنيَّة؟
ج: أنا أرى أنَّ هناك بعض بقايا الوثنيَّة، فلا نزال نعيش - ولا سيَّما في الشَّرق - عبادة الشَّخص، فنحن نعطي الشَّخص الَّذي نحبّه أكثر مما يستحقّ، وأكثر مما يملك من طاقات في هذا المجال. وأعتقد أنَّ عمليَّة التَّعبير عن تقديرنا للشَّخص، بأن نصنع له التماثيل الَّتي نقف خاشعين أمامها، حتَّى لو كان الشَّخص مقدَّساً، يحملُ شيئاً من الوثنيَّة.
انتفاضة الحجارة
س: هل إنَّ حطّين تتمثَّل اليوم في انتفاضة الحجارة، أم أنَّ الانتفاضة تؤسّس لحطّين من نوع آخر وأشمل وأفعل؟
ج: إنَّ حطّين كانت موقعة من مواقع الصّراع التَّاريخيَّة، والَّتي تحقّق فيها الانتصار، وإني أعتقد أنَّ حركة الشَّعب الفلسطيني هي أعظم من حركة حطّين، لأنَّه شعب يتحرَّك بعفويَّة إحساسه بالحريّة والاستقلال، والرَّفض لكلّ هذه الوحشيَّة الصّهيونيَّة اللَّاإنسانيَّة، ولكلّ حركة الاستكبار العالميّ الَّذي يتحدَّث عن أمن إسرائيل، ولا يتحدَّث عن أمن الأطفال الفلسطينيّين والنساء والشيوخ والشَّباب.. إنّني أعتقد أنّها ثورة إنسانيَّة من أروع ما عرف الإنسان من الثَّورات العفويّة الَّتي تتحرَّك بطريقةٍ بسيطة بعيدة من كلّ نظريات الثَّورة، ومن كلّ ما يتحدَّث به النَّاس من تعقيدات النظريّات الثّوريَّة.
القضيَّة الفلسطينيَّة
س: هل إنَّ الموقف العربيَّ كلّه هو بحجم طموحات الانتفاضة؟
ج: بل إنّه دون هذه الطّموحات، لأنَّ أكثر العرب تعبوا من القضيَّة الفلسطينيَّة، وأصبحت المسألة عندهم هي كيف يتحرّرون من فلسطين، لا كيف يحررون فلسطين.
س: لكنّ هذا مؤسف وخطير؟
ج: بل هو خطيرٌ جدّاً، ولذلك نجد أنَّ كلّ هذه القمم العربيَّة ليست في مستوى خطورة القضيَّة الفلسطينيَّة.
س: سماحة السيّد، فلسطين تعني تاريخيّاً وحضاريّاً المسلمين والمسيحيّين. في رأيكم، ألا يمكن أن يكون هناك تفكير لإقامة لوبي عالمي، بالتَّفاهم مع المرجعيّة المسيحيّة الأعلى (البابا) والمرجعيَّات الإسلاميَّة، لتحرير فلسطين؟
ج: نحن دعونا إلى ذلك، ولذلك تحفَّظنا عن اعتراف الفاتيكان بإسرائيل، وهناك حوار جرى بيني وبين الكاردينال أرينز الَّذي التقيت به في الشَّام، وزارني بعد ذلك في لبنان، وكان الحوار بحضور السَّفير البابويّ والبطريرك الصّديق هزيم الَّذي كان المترجم بيني وبينه، قلت له: لو كان السيّد المسيح حاضراً، فمع من يكون؛ هل يكون مع الفلسطينيّين، أو مع اليهود الَّذين يشبهون لصوص الهيكل؟ فكان جوابه أنَّ هذه مسألة سياسيَّة، وبإمكانك أن تتحدَّث بها مع صديقك بوانتي، فقلت له: أنا أسألك عن ضميرك المسيحيّ، ولا أتحدَّث عن المسألة في نطاق البروتوكول أو ما أشبه، فتدخَّل السَّفير البابويّ آنذاك، وقال: إنَّ إسرائيل أمر واقع، فقلت له: إنَّ الشَّيطان أمر واقع، فهل نعترف بشرعيَّته؟!
لقد كنَّا ندعو دائماً إلى تعاون القيادات المسيحيَّة والإسلاميَّة، وإلى أن نتوحَّد على أساس الإيمان المشترك: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
- في مواجهة التيّارات المادّية، وعلى أساس الحريّة الإنسانيّة - وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(16)
ومن هنا، تحفّظنا عن اعتراف الفاتيكان بإسرائيل، لأنّنا نعتقد أنَّ السيّد المسيح لو كان بيننا اليوم، لما اعترف بشرعيّتها.
الألقاب الموروثة
س: ما رأيك في إلغاء الألقاب الموروثة من زمن بني عثمان؟
ج: إنّني في الوقت الّذي يحمّلني النَّاس بعض الألقاب، أعتقد أنَّ على الإنسان أن يخرج باسمه الَّذي أعطاه إيَّاه أبواه، وأن لا يتحرّك على درَّاجة من الألقاب.
التّيّارات الأصوليّة والحريّة
س: سماحة السيّد، يأخذ البعض على البلدان الَّتي تستلم فيها التيَّارات الأصوليَّة زمام السّلطة، أنّها تفسّر حقوق الإنسان ومبدأ الحريّة الدينيَّة من منظورٍ واحد، بحيث يقصد بالحريّة الدينيّة فرض الدّين الحقّ على جميع المواطنين؟!
ج: بالنسبة إليَّ، المسألة ليست بهذا الشَّكل والحجم، فعندما ننظر إلى نموذج إيران، نجد أنَّ الدين الإسلامي هو دين الدّولة فيها، ولكن لم يفرض هذا الدّين على الّذين يتدينون بغير الإسلام، فالمسيحيّون موجودون في إيران ولهم حقوقهم في إطار حقوق الأقلّيات، وكذلك اليهود والزرادشتيّون. فالمسألة ليست بهذه الدقّة.
نعم، قد توجد بعض الخلافات بين مفهوم الإسلام لحقوق الإنسان ومفهوم الأمم المتَّحدة، تماماً كما يختلف المفكّرون أنفسهم في تفسير حقوق الإنسان، لكن هذا لا يعني وجود قمع أو فرض شامل للدّين على الجميع.
س: سماحة السيّد، من اللّافت للنَّظر أنَّ بُؤر التفجّر في العالم هي حيثُ المسلمون، لماذا؟
ج: أنا أتصوّر أنَّ القضيّة ليست خصوصيَّة المسلمين، لأننا لا ننسى بؤر التفجّر التي كانت في أوروبا، ولكنَّ دخول أوروبا في عصر المؤسَّسات جمّد هذه الحروب. أمّا في البلاد الإسلاميّة، وحتى المسيحيَّة في بلدان العالم الثَّالث، فلا نزال نعيش بعيداً من نظام المؤسَّسات، فلا زال النظام قبليّاً وشخصانيّاً، إلى آخر ما هناك.
النّهوض بالشّارع العربيّ
س: بالعودة، سماحة السيّد، إلى القضيَّة المركزيَّة فلسطين، ما رؤية سماحتكم للنّهوض بالشَّارع العربيّ؟
ج: قبل أسبوعين تقريباً، وفي خطبة الجمعة، طلبت من الشَّارع العربي والإسلامي أن ينزل ليرفع صوته، ولا سيَّما في يوم القمّة العربيّة، ليسمع هؤلاء والعالم صوته، ليعرفوا أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة ليست قضيَّة أنظمة يمكن أن تقرّر مستقبلها، ولكنَّها قضيَّة الشعوب كلّها، وحتَّى تفهم أمريكا الَّتي تلتزم إسرائيل بالمطلق، أنَّ الخطر ليس فقط على إسرائيل، بل هو على الأنظمة المتحالفة معها، لأنَّ أمريكا كما تعمل على المحافظة على إسرائيل، عليها العمل من أجل المحافظة على الأنظمة المتحالفة معها.
لذلك، لا بدَّ أن يبقى الصَّوت الشَّعبيّ قويّاً، لتكون لدينا انتفاضة شعبيَّة سياسيَّة وإعلاميَّة إلى جانب الانتفاضة الجهاديَّة في فلسطين.
كلمة إلى اللّبنانيّين
س: في نهاية لقائنا ضمن برنامج "جذور، موقع وآفاق"، هل من كلمة توجّهونها إلى اللّبنانيّين حول الحوار الإسلامي المسيحي الهادف إلى قيام تفاهم عبر المكاشفة والشفافيَّة؟
ج: إنّي أقول لكلّ إخواني وأبنائي وبناتي اللّبنانيّين واللّبنانيّات، إنَّ عليكم إذا فكَّرتم في إسلامكم ومسيحيّتكم، أن تفكّروا في قيم الإسلام والمسيحيَّة، لتكتشفوا أنّه ليست هناك قيم مسيحيّة تبتعد عن القيم الإسلاميّة، وليست هناك قيم إسلاميّة تبتعد عن القيم المسيحيّة، فالصّدق مسيحيّ إسلاميّ كقيمة إيجابيَّة، والأمانة قيمةٌ مسيحيَّة إسلاميَّة، وهكذا... لذلك، لا تصدّقوا الّذين يريدون لكم أن تمارسوا مسيحيَّتكم وإسلامكم بغرائزكم، ولكن استمعوا إلى صوت السيّد المسيح (ع)، وإلى صوت النَّبيّ محمَّد (ص)، اللَّذين يريدان لكم أن تعيشوا الإسلام والمسيحيّة على أساس الكلمة السّواء، وعلى أساس القيم الروحيَّة من خلال عقولكم وقلوبكم.
أنا لا أدعو إلى حوار إسلاميّ مسيحيّ استهلكه السياسيّون، أو استهلكه بعض رجال الدّين بطريقة معقَّدة، ولكن أدعوكم إلى حوار إنساني - إنساني. لتكن مسيحيّتكم وجداناً إنسانيّاً فيكم، وليكن إسلامكم وجداناً إنسانيّاً فيكم، لأنَّ الوجدان الإنسانيّ عندما يلتقي مع وجدانٍ إنسانيّ آخر، فإنَّه قد يكتشف نقاط اللّقاء في الإنسانيَّة المشتركة في الفكر والقلب والروح والحياة.
إنَّ لبنان أمانة الله في أعناقنا جميعاً، كما هي المنطقة كلّها الَّتي نحن جزءٌ منها.. إنَّ لبنان جميل في منتهى الجمال، ولكنَّ أفضل الجمال فيه هو جمال إنسانه، فلا تشوّهوا جمال إنسانيَّتكم بكلّ قبح العصبيَّة، وكلّ قبح الطَّائفيَّة العشائريَّة المغلقة.. كونوا الملتزمين الَّذين يعتبرون الالتزام بالفكر انفتاحاً على أنَّ من حقّ الآخر أن يلتزم بفكر آخر، ويكون الحوار هو الَّذي يمكن أن ينفتح فيه فكرٌ على فكر، ليكون التَّفاهم أو ليكون اللّقاء.
لا تكونوا المتعصّبين، لأنَّ العصبيَّة تمثّل مغارة يدفن فيها الإنسان نفسه، إنَّ علينا حتَّى في المغاور والكهوف، أن نكتشف كلَّ الينابيع الَّتي تجري من هذه المغارة أو تلك لتعطى الخصب والرّخاء. لا تدخلوا المغاور والكهوف الموحشة المعزولة الَّتي توحي لكم بالعزلة عن العالم، ولكن انظروا حتَّى في المغاور والكهوف إلى كلّ الثَّغرات الَّتي تنفذ منها الشَّمس، ويتحرَّك فيها الهواء النَّقيّ.
لقد جرّبتم الحقد الَّذي جاء إليكم من كلّ الَّذين يصنعون مأساة الإنسان في الحقد، لقد جرَّبتم السّلاح، وجرّبتم التَّقسيم وكلَّ العصبيَّات، ولكنَّكم رأيتم أنَّها صنعت المأساة في كلّ كيانكم، وشرّدت كلَّ شبابكم.
تعالوا لنبعد كلَّ الَّذين يصنعون المأساة بالكلمة أو بالقول أو بالعصبيَّة.. تعالوا لننفتح على الله ولا نتقاتل باسمه، تعالوا لننفتح على الرّسالات ولا ندفنها في زوايانا المغلقة.. تعالوا إلى الصَّحو المبدع في إشراقة الشَّمس، وإلى الينابيع الَّتي تتحرَّك من وهناك لتعطينا الخصب والرّخاء.. تعالوا لنعيش في الهواء الطَّلق، نتكلَّم، نتحاور، نتعاون، ننشئ لبناناً جديداً يمكن أن يعطي الإنسان في العالم شيئاً من إنسانيَّته، وشيئاً من عقله وقلبه وحياته، ومن تطلّعات الحبّ والخير والحقّ والعدل للإنسان.
المحاور: شكراً سماحة المرجع السيّد، شكراً للمحيط، والمحيط كلّما مخرنا عبابه أكثر وأكثر، وقعنا على دُرٍّ نفيس، شكراً لهذا الينبوع الَّذي اتَّخذ من العقل شرعاً أعلى، ومن كان العقلُ شرعَه، لا يضلّ الطَّريق.
شكراً مرّة ثانية سماحة السيّد ضمن برنامج "جذور موقع وآفاق".
 
* مقابلة أجراها تلفزيون (tele lumiere) مع سماحته، بتاريخ: 27/04/2001م.
 
*** 

[1] آل عمران: 119 .

 [2] البقرة: 285 .

[3] آل عمران: 64 .

[4] العنكبوت: 46 .

[5] آل عمران: 64 .

[6] النّحل: 125 .

[7] سبأ: 24 .

[8] صحيح النسائي، ص 5032، يوجد في كتب مثل "الكافي"  للشيخ الكليني، و وسائل الشيعة"  للحرّ العاملي أحاديث تؤكّد المعاني المرادفة لهذا الحديث.

 [9] البقرة: 237 .

[10] النّحل: 126 .

[11] نهج البلاغة: ج3، ص 51.

 [12] الحجرات: 13 .

[13] العلق: 5 .

[14]  البقرة: 228 .

[15]  الرّوم: 21.

[16]  آل عمران 64

 
 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية