تفسير
26/01/2024

s-2-a-183-184-185

s-2-a-183-184-185

‏معاني المفردات ‏

{الصِّيامُ}‏ ‏‏في اللُّغة: الإمساك عن الفعل أو الكلام أو أيِّ شي‏ءٍ آخر‏(1)‏. وهو في الشّرع: إمساكٌ «عن أشياء مخصوصةٍ على وجهٍ مخصوصٍ ممّن هو على صفاتٍ مخصوصةٍ في زمانٍ مخصوصٍ»‏(2)‏. ‏

{فعِدّةٌ}: فِعلةٌ من العدِّ، وهي بمعنى المعدود، كالطّحن بمعنى المطحون. ‏

{يُطِيقُونهُ}: من الطّوق، ويطيقونه أي: يُجعل كالطّوق في أعناقهم، كنايةً عن تحمُّل الصّوم بمشقّةٍ شديدةٍ وجهدٍ كبيرٍ. ‏

{فِدْيةٌ}: ما يقي به الإنسان نفسه من مالٍ يبذله في عبادةٍ قصّر فيها. والفدية: ما يُبذل، والفداء: اسم لذلك المبذول.‏

{والْفُرْقانِ}: هو ما يفرق بين الحقِّ والباطل. والفرقان: كلام الله تعالى. والفرقان: يوم بدر؛ فإنّه أوّل يوم فُرِق فيه بين الحقِّ والباطل، وهو ما جاء في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمنْتُمْ بِاللّهِ و ما أنْزلْنا على‏ عبْدِنا يوْم الْفُرْقانِ يوْم اِلْتقى الْجمْعانِ}[الأنفال: 41]. ‏

‏تشريع الصِّيام ‏

‏هذا تشريعٌ عباديٌّ جديدٌ أراد الله لعباده أن يتعبّدوا له فيه، من أجل أن يحقِّقوا لأنفسهم البناء الرُّوحيّ والعمليّ من خلال ذلك، كما هو الحال في العبادات الأخرى الّتي لم يجعلها الله استغراقاً في ذاته أو غيبوبةً في قدسه، ليبتعدوا بذلك عن حياتهم، بل جعلها انطلاقةً في وعي الإنسان لعلاقته بربِّه، من حيث هي عبوديّةٌ ومسؤوليّةٌ وانفتاحٌ، لتؤكِّد له إنسانيّته الصّافية النّقيّة البعيدة عن كلِّ خبثٍ وزيفٍ ورياءٍ، وعن كلِّ ضعفٍ وحقدٍ وانحرافٍ، والقريبة من المعاني الرُّوحيّة الّتي تبني للإنسان حياته على الصُّورة الّتي يحبُّها الله ويرضاها، فهي تلتقي بالحياة من خلال التقائه بالله. ‏

‏وفي هذا الإطار، اعتُبرت العبادات الإسلاميّة من ركائز الإسلام؛ باعتبار علاقتها ببناء الشّخصيّة الإسلاميّة للإنسان، في ما يفكِّر ويعمل ويمارس من علاقاتٍ عامّةٍ وخاصّةٍ، وفي ما يخطِّط له من غاياتٍ، وما يستخدم من وسائل، وذلك من خلال تعدُّد أساليبها وتنوُّعها، وفي ما تثيره من مشاعر، وما تحرِّكه من نوازع وأفكار. ‏

‏وقد نلاحظ في روعة التّشريع العباديِّ في الإسلام: أنّه حرّك العبادة في إطار العطاء، فاعتبر العطاء عبادةً؛ وأطلقها في الحياة، فقرّر أنّ العمل في سبيل طلب الحلال عبادة؛ وأثارها في خطِّ الدِّفاع عن الإنسان وقيمه الكبيرة في الحياة، فالجهاد في سبيل الله عبادةٌ يتعبّد فيها الإنسان لربِّه؛ وأفسح المجال للنِّيّة الخالصة في داخل الإنسان، لتعطي كلّ عملٍ يقصد به الإنسان وجه ربِّه، في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياة الذّاتيّة والعامّة، صفة العبادة الّتي تقرِّبه إلى الله. ‏

‏وكان الصّوم إحدى العبادات الّتي بُنِي عليها الإسلام، حسب ما ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام ؛ فقد فرضه الله على المؤمنين في الإسلام، كما فرضه على المؤمنين قبلهم في الشّرائع السّابقة. فقد ورد في (قاموس الكتاب المقدّس) - ما مضمونه - أنّ الصّوم بشكلٍ عامٍّ وفي جميع الأوقات كان متداولاً في أوقات الأحزان والنّوائب بين جميع الطّوائف والملل والمذاهب. وكان اليهود يصومون لدى التّوبة والتّضرُّع إلى الله، حينما تُتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام الله، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصّوم والتّوبة، وليحصلوا على رضا حضرة القدس الإلهيِّ. والصّوم الأعظم مع الكفّارة كان، على ما يبدو، خاصّاً بيومٍ من أيام السّنة بين طائفةٍ من اليهود. طبعاً كانت هناك أيّامٌ أخرى مؤقّتة للصّوم بمناسبة ذكرى حصار وتخريب أورشليم، وغيرها‏(3)‏. ‏

‏ويظهر من التّوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، فقد جاء فيها: «أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلةً لا آكل خبزاً ولا أشرب ماءً»‏(4)‏. ‏

‏وقد صام السّيِّد المسيح عليه السلام أيضاً أربعين يوماً، كما يظهر من الإنجيل، حيث ورد فيه: «ثم أصعد يسوع إلى البرِّيّة... فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً»‏(5)‏. ‏

‏ويبدو من نصوص إنجيل لوقا أنّ حواريِّي السّيِّد المسيح صاموا أيضاً‏(6)‏. ‏

‏وجاء في (قاموس الكتاب المقدس) أنّ البارزين في كنيسة أنطاكية من أنبياء ومعلِّمين قرّروا لأنفسهم صوماً مشتركاً ووضعوا بذلك أساس الصّوم الجماعيِ‏‏(7)‏. ‏

‏وقد لا نجد تفصيلاتٍ وافيةً عن طبيعة هذا الصّوم المفروض على السّابقين في شرائعهم، ولكنّنا نجد في القرآن الكريم حديثاً عن صوم الصّمت، في ما حدّثنا الله به من قصّة زكريّا عليه السلام: {قال ربِّ اِجْعلْ لِي آيةً قال آيتُك ألاّ تُكلِّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إِلاّ رمْزاً و اُذْكُرْ ربّك كثِيراً و سبِّحْ بِالْعشِيِّ و الْإِبْكارِ}[آل عمران: 41]، وفي ما حدّثنا به من قصّة مريم عليها السلام: {فكُلِي و اِشْربِي و قرِّي عيْناً فإِمّا تريِنّ مِن الْبشرِ أحداً فقُولِي إِنِّي نذرْتُ لِلرّحْمنِ صوْماً فلنْ أُكلِّم الْيوْم إِنْسِيّاً}[مريم: 26]. ‏

‏وقد نجد لدى بعض المنتسبين إلى الدِّيانات السّابقة من اليهود والنّصارى نوعاً من الصّوم الّذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات، كاللُّحوم ونحوها، في بعض أيّام السّنة. ‏

‏وقد يُخيّل لبعض النّاس أنّ تشبيه الصّوم المكتوب علينا بما كُتب على الّذين من قبلنا يوحي بوحدة الصّوم عندنا وعندهم. ولكنّ ذلك غير ثابتٍ؛ لأنّ التّشبيه يكفي فيه أن يكون وارداً لبيان أصل التّشريع من دون دخولٍ في تفاصيله. ‏

‏وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا كُتِب عليْكُمُ الصِّيامُ}؛ إذ لا بُدّ لكم من القيام به فرضاً واجباً، كعبادةٍ شرعيّةٍ تتقرّبون بها إلى الله، وتحقِّقون ‏

‏فيها الكثير من المنافع الرُّوحيّة والأخلاقيّة والجسديّة، {كما كُتِب على الّذِين مِنْ قبْلِكُمْ}، فلستم أوّل الأُمم الّتي يفرض عليها هذا النّوع من الإمساك العمليِّ؛ لأنّ القضيّة ليست حالةً خاصّةً في ظرفٍ خاصٍّ يتّصل بكم بشكلٍ خاصٍّ، بل هي حالةٌ عامّةٌ في الإنسان كلِّه، من حيث علاقة التّرك المخصوص لبعض الأشياء في توازن حياته، كما هي علاقة الفعل الخاصِّ في الجوانب الأخرى منها. وربّما اختلف الصّوم في طبيعته ومفرداته بين أُمّةٍ وأخرى، ولكنّ المبدأ واحدٌ. ‏

‏الصّوم والتّقوى ‏

‏وقد ختمت الآية بيان الصّوم بقوله تعالى: {لعلّكُمْ تتّقُون}، للإيحاء بأنّ التّقوى هي غايةٌ للصّوم أو نتيجةٌ له؛ نظراً لما يثيره في داخل الإنسان من الرّقابة الذّاتيّة الدّاخليّة الّتي تمنعه من ممارسة كثير من الأشياء المعتادة له من شهواته ومطاعمه ومشاربه، انطلاقاً من وعيه التّامِّ للإشراف الإلهيِّ عليه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. ‏

‏وهذا ما تعبِّر عنه مفردة: «التّقوى»، بما تمثِّله من الانضباط أمام ما يريده الله منه وما لا يريده، وذلك بأن لا يفقده الله حيث يريده ولا يجده حيث ينهاه. وبذلك يكون هذا الصّوم الصّغير مقدِّمةً للصّوم الكبير. وذلك يتوافق مع ما ورد به الحديث الشّريف: «رُبّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطش، ورُبّ قائمٍ حظُّه من قيامه السّهر»‏(8)‏، في من لا يمنعه صومه من الممارسات المحرّمة الأخرى في شهر رمضان وفي غيره. ‏

‏الأيّام المعدودات ‏

{أيّاماً معْدُوداتٍ}. هناك قولان في المقصود بهذه الأيّام: ‏

‏«أحدهما: إنّها غير شهر رمضان، وكان ثلاثة أيّام من كلِّ شهرٍ، ثمّ نُسخ. عن معاذ، وعطا، وعن ابن عبّاس. وروي: ثلاثة أيّام من كلِّ شهرٍ، وصوم عاشوراء. عن قتادة. ثمّ قيل: إنّه كان تطوُّعاً. وقيل: بل كان واجباً. واتّفق هؤلاء على أنّ ذلك منسوخٌ بصوم شهر رمضان. ‏

‏والآخر: إنّ المعنيّ بالمعدودات شهر رمضان. عن ابن عبّاس، والحسن، واختاره الجبائيُّ، وأبو مسلم، وعليه أكثر المفسِّرين، قالوا: أوجب سبحانه الصّوم أوّلاً فأجمله، ولم يبيِّن أنّها يومٌ أو يومان أم أكثر، ثمّ بيّن أنّها أيّامٌ معلوماتٌ وأبهم، ثمّ بيّنه بقوله: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}. قال القاضي: وهذا أولى؛ لأنّه إذا أمكن حمله على معنًى من غير إثبات نسخٍ كان أولى، ولأنّ ما قالوه زيادة لا دليل عليه»‏(9)‏. ‏

‏وعلى كلِّ حال، فإنّ قوله تعالى: {معْدُوداتٍ}يوحي بالرّحمة الإلهيّة الّتي لم تفرض على الإنسان إلاّ أيّاماً محدّدةً بالنِّسبة إلى ما لم تفرض عليه فيه الصِّيام. ويمكن أن يكون المقصود المماثلة مع الّذين فرض عليهم الصِّيام من الأُمم السّابقة، في أنّ الفرض محدّدٌ بفترةٍ زمنيّةٍ ما، وإن كان قد يختلف العدد بين أُمّةٍ وأخرى. والله العالم. ‏

‏حكم المرض والسّفر ‏

{فمنْ كان مِنْكُمْ مرِيضاً أوْ على‏ سفرٍ فعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخر}، فليس على المريض صيامٌ في شهر رمضان. والظّاهر - من مناسبة الحكم والموضوع - أنّ المراد به المريض الّذي يضرُّ به الصّوم؛ لأنّ ذلك ما يُعتبر عسراً على المكلّف، فلا يشمل الاستثناء حالة الصّوم الّذي ينفع المريض، أو الّذي لا يترك أيّ أثرٍ ضارٍّ على صحّته. وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة المتعدِّدة في هذا الشّأن. ‏

‏أمّا السّفر المستلزم للإفطار، فلم تبيِّنه الآية، وإنّما أطلقت العنوان. ولكن، تمّ تحديد السّفر الموجب للقصر والإفطار من خلال ما ورد في السُّنّة الشّريفة، والّتي اختلف فقهاء المسلمين بشأنها، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ «أقلّ ما تقصر فيه الصّلاة مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها من أقصر أيّام السّنة في البلاد المعتدلة، بسير الإبل ومشي الأقدام»، ولا يجب أن يكون السّير متواصلاً، بل المعتبر هو «السّير الوسط مع الاستراحات العاديّة». «وقال الجمهور غير الحنفيّة»: إنّ تقديره «يومان معتدلان، أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام... ويُقدّر بالمسافة ذهاباً بأربعة بُردُ، أو ستّة عشر فرسخاً»‏(10)‏. ‏

‏وقد ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تحديد مسافة القصر والإفطار بثمانية فراسخ ذهاباً، أو بأربعة فراسخ ذهاباً وأربعة إياباً. وفي روايات أخرى عنهم تحديد السّفر زماناً ببياض يومٍ. وبعض الرِّوايات تحدِّد أنّ الثّمانية فراسخ هي ما يُقطع في بياض يومٍ‏‏(11)‏؛ فالأمران متلازمان. ‏

‏ولكن، قد أُثير مؤخّراً البحث في تحديد السّفر؛ بسبب أنّ وسائل النّقل الحديثة قد قرّبت المسافات بين البلاد من حيثُ الزّمن، وأصبحت تُقطع الثّمانية فراسخ بأقلّ من بياض يومٍ بكثير، ومن هنا وقع الكلام في أنّه هل الأصل في تحديد السّفر هو التّحديد الزّمنيُّ، وبالتّالي هو يختلف باختلاف الوسائل، أو هو التّحديد بالمسافة كحُكمٍ تعبُّديٍّ لا يختلف باختلافها؟ وما هي علاقة ما ورد في السُّنّة بعنوان السّفر الّذي أُطلق في القرآن الكريم؟ ومحلُّ ذلك كلِّه في بابه في الفقه. ‏

‏الإفطار في السّفر رخصةٌ أم عزيمةٌ؟ ‏

‏ذهب جمعٌ من الصّحابة كعبد الرّحمن بن عوف، وعمر بن الخطّاب، وعبدالله‏بن‏عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزُّبير‏(12)‏ إلى أنّه عزيمةٌ، وهو المرويُّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ‏(13)‏، وهو الظّاهر من الآية الكريمة في قوله تعالى: {فعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخر}؛ فإنّ الظّاهر منها هو أنّ صيام الأيّام المعدودات فرض غير المسافر والمريض، أمّا هما فإنّ فرضهما هو أيّامٌ أُخر في غير شهر رمضان؛ لأنّ السِّياق جرى مجرى العزيمة والفرض. ‏

‏وذهب أكثر أهل السُّنّة، إلى أنّه رخصةٌ، وقدّروا في الآية كلمة «فأفطر»، فقالوا: إنّ تقديرها: فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فأفطر فعدّةٌ من أيّامٍ أُخر‏(14)‏. ‏

‏ولكنّ هذا ضعيفٌ؛ بأنّ التّقدير خلاف الظّاهر، ولا يُصار إليه إلاّ بدليل، ولا دليل في الآية عليه؛ وبأنّ هذا التّقدير لا يمنع من العزيمة؛ لأنّ الحديث عن الإفطار لا يعني إلاّ جوازه في مقابل التّحريم، ولا يعني ذلك في مقابل الإلزام. ‏

‏الفدية بدل الإفطار ‏

{وعلى الّذِين يُطِيقُونهُ فِدْيةٌ طعامُ مِسْكِينٍ}. والفدية هي البدل الماليُّ عن الصّوم. والظّاهر من الآية -بمقتضى السِّياق - هو حالة الّذين يستطيعون الصّوم بجهدٍ ومشقّةٍ، وهم الشُّيوخ الّذين يُجهدهم الصّوم، فإنّ مثل هؤلاء لا يُكلّفون بالصّوم ولا يُكلّفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية. وقد ورد ذلك في (تفسير العيّاشي) عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: «الشّيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش»‏(15)‏. ‏

‏وقد ذهب بعضهم إلى أنّ هذه الفقرة تدلُّ على الرُّخصة؛ على أساس تخيير الله للقادرين بين الصّوم وبين الإفطار ودفع الفدية، ثمّ نُسخت بقوله تعالى: {فمنْ شهِد مِنْكُمُ الشّهْر فلْيصُمْهُ}(16)‏. ولكنّ ذلك مردودٌ بدراسة الآيات الّتي تدلُّ على وحدة الفرض والسِّياق، ولا يحتاج ذلك إلاّ إلى ذوقٍ سليمٍ وحسٍّ مرهف. ‏

‏معنى التّطوُّع ‏

{فمنْ تطوّع خيْراً فهُو خيْرٌ لهُ}. ربّما كان المقصود منه التّطوُّع بالزِّيادة على الفدية، بأن يُعطي الزِّيادة على ما وجب عليه؛ لما ورد في بعض الأحاديث، من تحديد الفدية بمُدّين من الطّعام‏‏(17)‏، المحمول على الأفضليّة. ‏

‏وفسّرها صاحب (الميزان) بإيتاء الصّوم عن رضاً ورغبةٍ؛ لأنّ كلمة «التّطوُّع» لا تعني الاختيار في مقابل الإلزام لتدلّ على الاستحباب، بل تدلُّ على الطّوع في مقابل الكُره، وذلك بأن يأتي الإنسان به عن رغبةٍ ورضاً وقناعةٍ‏(18)‏. ‏

‏ولكنّ هذا خلاف الظّاهر؛ لظهور كلمة «التّطوُّع» في الفعل الّذي يأتي به الإنسان من دون إلزامٍ؛ باعتبار أنّ الإلزام يوحي بالضّغط والكره، بينما الاستحباب لا يوحي إلاّ بالتّوسعة والتّخفيف. وأمّا ما ذكره من أنّ استعمال الكلمة في الفعل المستحبِّ اصطلاحٌ جديدٌ، فهو غير دقيقٍ؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة استعمال الكلمة في المعنى، بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة في ما يُفهم من مدلول الواجب والمستحب. ‏

{وأنْ تصُومُوا خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون}. الظّاهر منها - بقرينة السِّياق - هو أنّها خطابٌ للّذين يُجهدهم القضاء فتُباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنّ الفدية -وإن كانت جائزةً - إلاّ أنّ الصّوم خيرٌ لهم إن كانوا يعلمون ما فيه من النّتائج الرُّوحيّة والعمليّة. ‏

‏وهناك احتمالٌ بأنّ الفقرة واردةٌ في الحديث عن الصّوم، بأنّه خيرٌ للنّاس في ذاته بحسب فلسفة الصّوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى النّاس. وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة في كثير من موارد التّشريع، كما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِذا نُودِي لِلصّلاةِ مِنْ يوْمِ الْجُمُعةِ فاسْعوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللّهِ و ذرُوا الْبيْع ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون}[الجمعة: 6]، وكما في قوله تعالى: {وإِبْراهِيم إِذْ قال لِقوْمِهِ اُعْبُدُوا اللّه و اِتّقُوهُ ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون}[العنكبوت: 16]. وبهذا يبطل قول من قال: إنّ الصّوم كان في بداية التّشريع واجباً تخييريّاً، وكان المسلمون مخيّرين بين الصّوم والفدية، ثمّ نسخ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصّوم فأصبح واجباً عينيّاً؛ فإنّه لا دليل عليه، مع أنّه خلاف الظّاهر. ‏

‏نزول القرآن في شهر رمضان ‏

{شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}. في هذا التّأكيد القرآنيِّ على نزول القرآن في شهر رمضان، في هذه الآية، وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدُّخان والقدر، إيحاءٌ بأنّ عظمة هذا الشّهر مستمدّةٌ من مناسبة نزول القرآن فيه. ‏

‏وقد اختلف المفسِّرون في تحليل مسألة نزول القرآن في شهر رمضان وذلك في أقوال‏‏(19)‏: ‏

‏ القول الأوّل: إنّ القرآن أُنزل إلى السّماء الدُّنيا دفعةً واحدةً، في رمضان، ثمّ أُنزل على النّبيِّ نُجوماً. وقد نُسب هذا القول إلى ابن عبّاس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وروى في (تفسير العيّاشي) عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام أنّه سُئل «عن قوله في {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، كيف أُنزل فيه القرآن، وإنّما أُنزل القرآن في طول عشرين سنة من أوّله إلى آخره، فقال عليه السلام: نزل القرآن جملةً واحدةً في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ أُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة»‏(20)‏. ‏

‏وهذا الإنزال التّدريجيُّ على النّبيِّ فيه قولان: ‏

‏ 1 - إنّ الإنزال كان يتمُّ على حسب الحاجة الفعليّة إلى التّشريع أو التّبشير أو الإنذار أو التّذكير. ‏

‏ 2 - إنّ الإنزال كان يتمُّ بحسب حاجات كلِّ سنةٍ، أو كلِّ شهرٍ، بحيث ينزل من القرآن ما يُحتاج إليه إلى سنةٍ، أو إلى شهرٍ، ممّا تختزنه الأحداث والظُّروف خلال الفترة الزّمنيّة المحدّدة. ‏

‏ القول الثّاني: إنّ ابتداء نزول القرآن هو في شهر رمضان. ‏

‏ القول الثّالث: إنّ الضّمير في: {فِيهِ}راجعٌ إلى شهر رمضان، كما يُقال: إنّ الله أنزل في فلانٍ قُرآناً. ثمّ إنّ التّقدير أحد أمرين: إمّا أُنزل في فضله القرآن، أو أُنزل في إيجاب الصّوم فيه القرآن. ‏

‏ القول الرّابع: التّفريق بين ما أُنزل على قلب النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم دفعةً، وبين ما أُنزل عليه تدريجيّاً. وهو ما ذهب إليه العلاّمة الطّباطبائيُّ، يقول رحمه الله: «والّذي يعطيه التّدبُّر في آيات الكتاب أمرٌ آخر؛ فإنّ الآيات النّاطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلةٍ منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدّالِّ على الدّفعة، دون التّنزيل، كقوله تعالى: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، وقوله تعالى: {حم * `و الْكِتابِ الْمُبِينِ * `إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}[الدُّخان: 1 - 3]، وقوله تعالى: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}[القدر: 1]. واعتبار الدّفعة إمّا بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب، أو البعض النّازل منه، كقوله تعالى: {كماءٍ أنْزلْناهُ مِن السّماءِ}[يونس: 24]؛ فإنّ المطر إنّما ينزل تدريجاً. لكنّ النّظر - ها هنا - معطوفٌ إلى أخذه مجموعاً واحداً؛ ولذلك عبّر بالإنزال دون التّنزيل... وإمّا لكون الكتاب ذا حقيقةٍ أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العاديِّ الّذي يقضى فيه بالتّفرُّق والتّفصيل والانبساط والتّدريج، هو المصحِّح لكونه واحداً غير تدريجيٍّ، ونازلاً بالإنزال دون التّنزيل». ويعتبر أنّ «هذا الاحتمال الثّاني هو اللاّئح من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: {كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ}[هود: 1]، فإنّ هذا الإحكام مقابل التّفصيل... وأوضح منه قوله تعالى: {ولقدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فصّلْناهُ على‏ عِلْمٍ هُدىً و رحْمةً لِقوْمٍ يُؤْمِنُون*`هلْ ينْظُرُون إِلاّ تأْوِيلهُ يوْم يأْتِي تأْوِيلُهُ يقُولُ الّذِين نسُوهُ مِنْ قبْلُ قدْ جاءتْ رُسُلُ ربِّنا بِالْحقِّ}[الأعراف: 52 - 53]، وقوله تعالى: {وما كان هذا الْقُرْآنُ أنْ يُفْترى‏ مِنْ دُونِ اللّهِ و لكِنْ تصْدِيق الّذِي بيْن يديْهِ و تفْصِيل الْكِتابِ لا ريْب فِيهِ مِنْ ربِّ الْعالمِين}[يونس: 37]، إلى أن قال: {بلْ كذّبُوا بِما لمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و لمّا يأْتِهِمْ تأْوِيلُهُ}[يونس: 39]؛ فإنّ الآيات الشّريفة، وخاصّةً ما في سورة يونس ظاهرة الدّلالة على أنّ التّفصيل أمرٌ طارٍ على الكتاب، فنفس الكتاب شي‏ءٌ، والتّفصيل الّذي يعرضه شي‏ءٌ آخر، وأنّهم إنّما كذّبوا بالتّفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشي‏ءٍ يؤول إليه هذا التّفصيل، وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة، ويضطرُّون إلى علمه...». وينتهي رحمه الله إلى أنّ «الكتاب المبين، الّذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التّفصيل، أمرٌ وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزلة اللِّباس لذاك. ثمّ إنّ هذا المعنى - أعني: كون القرآن في مرتبة التّنزيل بالنِّسبة إلى الكتاب المبين، ونحن نسمِّيه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللِّباس من المتلبِّس، وبمنزلة المثال من الحقيقة، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام، هو المصحِّح لأن يُطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب... وهذا الّذي ذكرناه هو الموجب لأن يُحمل قوله: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم دفعةً، كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدّعوة النّبويّة»‏(21)‏. ‏

‏ولعلّ السّبب في هذا الاختلاف، والكامن وراء هذه الأقوال، هوإشكالان: ‏

‏الإشكال الأوّل: منافاة الآية لواقع النُّزول التّدريجيِّ‏

‏السّبب الأوّل هو أنّ هذه الآية، وغيرها كقوله تعالى: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}[القدر: 1]، وكقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}[الدُّخان: 3]، ظاهرةٌ في نزول القرآن دفعةً واحدةً، بينما تدلُّ آياتٌ أخرى على أنّه نزل تدريجاً، كقوله تعالى: {وقال الّذِين كفرُوا لوْ لا نُزِّل عليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلةً واحِدةً كذلِك لِنُثبِّت بِهِ فُؤادك}[الفرقان: 32]، وقوله تعالى: {وقُرْآناً فرقْناهُ لِتقْرأهُ على النّاسِ على‏ مُكْثٍ و نزّلْناهُ تنْزِيلاً}[الإسراء: 106]. ‏

‏ونحن نستقرب أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال؛ وذلك لعدّة أمور: ‏

‏ أ- إنّ كلمة «القرآن» تُطلق على القليل والكثير، بما يشمل السُّورة والآية والمجموع، فليس ما يمنع من إطلاق القرآن على جزءٍ منه، وهو أوّل ما أُنزل. والدّليل على إطلاق القرآن على ذلك كلِّه هو نفس قوله تعالى: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، أو {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}؛ حيث لا يُمكن أن يُراد من ذلك إنزال كلِّ القرآن؛ لأنّ كلا الآيتين جزءٌ منه، فلو كان الإخبار في الآية إخباراً عن كلِّ القرآن لزم كون الآيتين خارجتين عنه. ‏

‏ بـ- إنّ القرآن كان يواكب حركة الأحداث الإسلاميّة، ليُعطي الحدث الموقف الإسلاميّ، تعليقاً أو توجيهاً أو رفضاً، حتّى أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما كان يُواجه مشكلةً يقول: «أنتظر أمر ربِّي»‏(22)‏. ‏

‏ جـ- إنّ قوله تعالى: {وقال الّذِين كفرُوا لوْ لا نُزِّل عليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلةً واحِدةً كذلِك لِنُثبِّت بِهِ فُؤادك}[الفرقان: 32] دالٌّ صراحةً على أنّ القرآن لم يكن له نُزولٌ دفعيٌّ ثمّ تدريجيٌّ؛ لأنّ الهدف من القرآن هو تثبيت النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم في مواجهة التّحدِّيات الّتي كان يُطلقها الكُفّار والمنافقون ضدّ حركة الإسلام، في دعوته وشريعته ومنهجه في الحياة؛ بل إنّ قوله تعالى: {وإِذا بدّلْنا آيةً مكان آيةٍ و اللّهُ أعْلمُ بِما يُنزِّلُ قالُوا إِنّما أنْت مُفْترٍ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون*`قُلْ نزّلهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ ربِّك بِالْحقِّ لِيُثبِّت الّذِين آمنُوا و هُدىً و بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِين}[النّحل: 101 - 102]، يؤكِّد أنّ دور الإنزال التّدريجيِّ يتّصل بواقع حياة المسلمين، وليس الرّسول فحسب. ‏

‏وبذلك يكون أصل الإشكال المذكور لا موجب له؛ لأنّ هذا القول يرفع المنافاة بين ما ذُكر من الآيات. ‏

‏وأمّا ما ذكروه من أقوال، فلا يصمد أمام النّقد؛ فأمّا القول الأوّل، فمُضافاً إلى ضعف مستنده، فإنّ التّتبُّع لما ورد في القرآن الكريم يجعلنا نخلص إلى أنّه النُّور الّذي يهدي به الله عباده، وكتاب الهدى الّذي يؤمِّنهم من الضّلال، وغرضه تثبيت النّبيِّ والّذين آمنوا، أي: هو كتاب المواكبة للواقع، والمعالج لمشاكله ومسائله، وبالتّالي لا نفهم خصوصيّته - من جهة إنزاله - من جهة كونه كلماتٍ وآياتٍ وسوراً. وعليه، فلا نفهم ضرورةً لإنزاله دفعةً ثمّ تدريجاً؛ فإنّه -بعد ضعف مستنده - يغدو بلا دليل عليه. والله العالم. ‏

‏وأمّا القول الثّالث، فيناسبه أن يكون الحديث عنه من خارج القرآن؛ لأنّ الحديث عن إيجاب الصّوم في القرآن يكون واقعه نزول القرآن فيه، فلا حاجة للحديث عنه ثانياً بذلك. وكذلك لو أُريد أنّه أُنزل في فضله القرآن؛ فإنّ فضله إذا كان إيجاب الصّوم فيه، راجعٌ إلى ما ذكرناه آنفاً، وإذا كان نزول القرآن فيه، رجع الإشكال. ‏

‏أمّا ما ذهب إليه العلاّمة الطّباطبائيُّ من أنّ ثمّة مُنزليْن، أحدهما أُنزل دفعةً واحدةً على قلب النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، والآخر نزل تدريجاً، وأنّ ما أُنزل في شهر رمضان، أو في ليلة القدر، هو الأوّل، فلا يصمد أمام النّقد، ونثير ذلك في نقاط: ‏

‏أوّلاً: ليس من فرقٍ بين الإنزال والتّنزيل؛ لأنّ الإنزال أعمُّ، فيُمكن أن يُقال أنزله دفعةً، وأنزله تدريجاً، وأصله: الانحطاط من علوٍّ. وقال في (تاج العروس): «ونزّله تنزيلاً، وأنزله إنزالاً... واستنزله، بمعنًى واحد»‏(23)‏. وعليه، فلا يدلُّ قوله: «أنزلنا» على الإنزال الدّفعيِّ. ‏

‏ ثانياً: إنّ الكتاب المبين هو وصفٌ للقرآن في دلالاته الّتي توضح الحقائق الّتي يُريد الله سبحانه بيانها للنّاس، وليس حقيقةً أخرى، ولا سيّما أنّ ما زعم كونه أُنزل دفعةً واحدةً هو الكتاب الّذي هو أصل القرآن المُنْزلِ تدريجاً، في حين أنّ الآية الّتي نحن بصددها، أي: قوله تعالى: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، دالةٌ -بحسب رأيه - على الإنزال دفعةً واحدةً، وأنّ المقصود الكتاب، واستعمال القرآن في مورده مجازٌ. كلُّ ذلك يدلُّ على أنّ الكتاب والقرآن، في الاستعمال القرآنيِّ، واحدٌ، وأنّ التّكلُّف الّذي ارتكبه العلاّمة الطّباطبائيُّ بلا موجبٍ ولا دليل. كما أنّ مثل قوله تعالى: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}[آل عمران: 7]، يؤيِّد ما ذكرناه؛ حيث لا معنى لاشتمال الكتاب - الّذي يرى الطّباطبائيُّ أنّه أُنزل دفعةً - على المتشابهات، بل هو من خصوصيّات القرآن الكريم، فتأمّل. ‏

‏ ثالثاً: إنّ ما استدلّ به من آياتٍ لا ينهض دليلاً على مطلوبه، فمثل قوله تعالى: {أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ}، لا تدلُّ {ثُمّ}فيه على التّعقُّب الزّمانيِّ، بل المقصود هو أنّ الله يُعطي الفكرة العامّة ثمّ يفصِّلها ويشرحها. ‏

‏ رابعاً: يبدو من كلامه رحمه الله أنّ الكتاب له خصوصيّةٌ بالنِّسبة للنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم وليس لسائر النّاس، وذلك حيث قال: «وهذا ما ذكرناه هو الموجب لأن يُحمل قوله: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم دفعةً، كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدّعوة النّبويّة». ولكنّنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ: «الكتاب» بما لا يوحي بالخصوصيّة للنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم بالنِّسبة إليه، بل هو دالٌّ على ما ذكرناه من أنّه والقرآن بمعنًى واحد. من ذلك قوله تعالى: {إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ و الْهُدى‏ مِنْ بعْدِ ما بيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِك يلْعنُهُمُ اللّهُ و يلْعنُهُمُ اللاّعِنُون}[البقرة: 159]. ‏

‏وقد اتّضح من كلِّ ما ذكرناه أنّ الإشكال الّذي ذكره صاحب تفسير (الميزان) على القول الّذي استقربناه، وهو أنّ المقصود أوّل ما أُنزل، والّذي قال فيه إنّ «قوله تعالى: {أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}غير صريح الدّلالة على أنّ المراد بالقرآن أوّل نازلٍ منه، ولا قرينة تدلُّ عليه في الكلام، فحمله عليه تفسيرٌ من غير دليل. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {والْكِتابِ الْمُبِينِ*`إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِين}[الدُّخان: 2 - 3]، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}[القدر: 1]؛ فإنّ ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أوّل إنزاله، أو إنزال أوّل بعضٍ من أبعاضه، ولا قرينة في الكلام تدلُّ على ذلك»‏(24)‏، هذا الإشكال غير واردٍ، بل ما ذكره لا دليل عليه، بل الدّليل على خلافه. والله العالم. ‏

‏الإشكال الثّاني: وحدة زمان البعثة والنُّزول ‏

‏السّبب الثّاني الكامن وراء محاولة التّوجيه بالإنزال الدّفعيِّ الّذي تُظهر الآية أنّه في شهر رمضان، والإنزال التّدريجيِّ الّذي دلّت عليه آياتٌ آخرى، هو اعتبار أنّ نزول القرآن وبعثة النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم كانا في زمانٍ واحدٍ، مع أنّ المعروف أنّ البعثة كانت في السّابع والعشرين من شهر رجب، وأنّ أوّل ما أُنزل: {اِقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق}[العلق: 1]، فيقتضي الجمع بين الأمرين أن نحمل النُّزول في شهر رمضان على النُّزول الدّفعيِّ، وأنّ الإنزال التّدريجيّ بدأ في السّابع والعشرين من رجب. ‏

‏ولكن، يُمكن حلُّ هذا الإشكال بأحد طريقين: الأوّل: إنكار توقيت البعثة في شهر رجب. ‏

‏الثّاني: التّفريق بين البعثة وبين نزول القرآن. ‏

‏ولكنّ الطّريق الأوّل يصطدم باشتهار كون البعثة في رجب بين المُسلمين، وقد روى الفريقان، من السُّنّة‏(25)‏ والشِّيعة، الرِّوايات في ذلك؛ فقد ورد عن أبي إسحاق بن عبدالله، عن أبي الحسن عليِّ بن محمّد عليهما السلام أنّه قال له: «الأيّام الّتي يُصام فيهنّ... أربعة: أوّلهنّ يوم السّابع والعشرين من رجب، يوم بعث الله محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم إلى خلقه رحمةً للعالمين»‏(26)‏. ‏

‏وروى الكلينيُّ، عن أبي الحسن الأوّل - الإمام موسى الكاظم عليه السلام - أنّه قال: «بعث الله عزّ وجلّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم رحمةً للعالمين في سبعٍ وعشرين من رجب»‏(27)‏. ‏

‏وفي روايةٍ عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: «ولا تدع صيام يوم سبعٍ وعشرين من رجب؛ فإنّه هو اليوم الّذي أُنزلت فيه النُّبوّة على محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم »‏(28)‏، وغيرها‏(29)‏. ‏

‏وعلى هذا، فإنّ وضوح تاريخ البعثة يدفعنا إلى الطّريق الثّاني؛ إلاّ أنّ إشكالاً آخر يواجه هذا الطّريق، وهو أنّ ما روي في شأن البعثة ينصُّ على أنّ البعثة ونزول ‏

‏القرآن متلازمان، وأنّه قد اشتهر - تبعاً للمرويِّ - أنّ أوّل ما أُنزل: {اِقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق}[العلق: 1]. فقد جاء في (الدُّرّ المنثور) للسّيوطيِّ: «أخرج عبد الرّزّاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاريُّ، ومسلم، وابن جرير، وابن الأنباريِّ في المصاحف، وابنمردويه، والبيهقيُّ، من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزُّبير، عن عائشة أُمِّ المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من الوحي الرُّؤيا الصّالحة في النّوم، فكان لا يرى رؤياً إلاّ جاءت مثل فلق الصُّبح، ثمّ حُبِّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التّعبُّد اللّيالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتّى جاءه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ منِّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منِّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّالثة حتّى بلغ منِّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: {اِقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق * `خلق الْإِنْسان مِنْ علقٍ * `اِقْرأْ و ربُّك الْأكْرمُ * `الّذِي علّم بِالْقلمِ}[العلق: 1 - 4] الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد... وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً... فانطلقت به خديجة حتّى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، ابن عمِّ خديجة، وكان امرءاً قد تنصّر في الجاهليّة... فأخبره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا النّاموس الّذي أنزل الله على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً...»‏(30)‏. وقد وردت روايات أخرى تصوِّر المبعث بصورٍ أخرى متّفقة على أنّ أوّل ما أنزل هو: {اِقْرأْ}. ‏

‏إلاّ أنّ ثمّة إشكالاتٍ كبيرةً على مضمون هذه الرِّواية؛ حيث لا يُعقل أن يبعث الله النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأفضل رسالاته ثمّ يحوجه إلى أن يثبت نبوّته لنفسه - لا للآخرين - بواسطة خديجة أو ورقة، من دون أن يُظهر له البرهان الواضح من قبل الله - تعالى شأنه -؛ أو أن يكون صلى الله عليه و آله و سلم في موقف الخائف المرتعب الّذي يخشى على نفسه لولا أن تثبِّته خديجة؛ أو الإنسان السّاذج الّذي لا يعرف ماذا يصنع إلاّ اللُّجوء إلى خديجة الّتي تصوِّرها الرِّوايات الأخرى أنّها تعلم من دلائل الوحي وعلائم النُّبوّة وطبائع الملائكة وعاداتهم ما لا يعلم، فضلاً عن أن يكون ورقة هو الّذي يُثبت له ذلك. مع الاستغراب جدّاً من قول ورقة - حسب الرِّواية -: «ليتني أكون فيها جذعاً»، مع أنّ البعثة تقتضي منه الإسلام الآن؛ لأنّه قد دخل بها زمان نبوّته صلى الله عليه و آله و سلم . ‏

‏ثمّ يتساءل المتأمِّل عن الموجب لهذا العُنف الموجّه من الملك ضدّ النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم في تبليغ الوحي، حيث تقول الرِّواية: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منِّي الجهد، ثمّ أرسلني»؟! ‏

‏أضف إلى ذلك أنّ عائشة لم تكن قد وُلدت حين المبعث، فروايتها إمّا عن النّبيِّ أو عن غيره، ولم يتّضح لنا المرويُّ عنه تحديداً. ‏

‏كلُّ ذلك يجعلنا لا نثق بصدور مثل هذه الرِّوايات. وقد قال في (مجمع البيان) -تعليقاً على بعض هذه الرِّوايات-: «وفي هذا ما فيه؛ لأنّ الله تعالى، لا يوحي إلى الرّسول إلاّ بالبراهين النّيِّرة والآيات البيِّنة الدّالّة على أنّ ما يُوحى إليه إنّما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شي‏ءٍ سواها، ولا يفزع، ولا يفرق»‏(31)‏. ‏

‏إنّنا نعتقد أنّ هذه الرِّواية من الأحاديث الموضوعة الّتي استُهدف منها الإساءة إلى النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، بتصويره الإنسان الّذي لا يعي الدّور الموكل إليه إلاّ بالاستعانة بزوجته، أو بورقة بن نوفل، وتالياً إدخال الشّكِّ بالإسلام نفسه، بعد إبعاد الثِّقة عن شخص النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم . ‏

‏وعليه، فليس ثمّة دليلٌ يمنع من التّفكيك بين بعثة النّبيِّ بالنُّبوّة وبين نزول القرآن على قلبه صلى الله عليه و آله و سلم ، ولا سيّما مع اشتهار تحديد السّابع والعشرين من رجب زماناً للبعثة النّبويّة بين المسلمين، مع ما رافق ذلك من اشتهار استحباب صيام ذلك اليوم تحت ذلك العنوان. والله العالم. ‏

‏القرآن كتاب هداية ‏

{هُدىً لِلنّاسِ و بيِّناتٍ مِن الْهُدى‏ و الْفُرْقانِ}. هذه هي قيمة القرآن وأهمِّيّته في حياة النّاس، فهو كتاب هدًى {يهْدِي بِهِ اللّهُ منِ اِتّبع رِضْوانهُ سُبُل السّلامِ و يُخْرِجُهُمْ مِن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ}[المائدة: 16]، وهو كتاب البيِّنات الّتي توضح للنّاس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كلّ شبهةٍ، ويفرق بين الحقِّ والباطل. وقد بيّنّا في بداية تفسير سورة البقرة أنّ معنى كون القرآن هدًى هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها، فلا مجال للإشكال بأنّ هناك من لا يهتدي بالقرآن؛ لأنّ الهدى هنا بمعنى الشّأنيّة لا بمعنى الفعليّة، فراجع. ‏

‏شهود الشّهر شرطٌ للصّوم ‏

{فمنْ شهِد مِنْكُمُ الشّهْر فلْيصُمْهُ و منْ كان مرِيضاً أوْ على‏ سفرٍ فعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخر}. هذا تأكيدٌ على الحكم الّذي استفدناه من الآية السّابقة ولكن بشكل أوضح؛ فإنّ المراد من الشُّهود الحضور في مقابل السّفر، أمّا المريض والمسافر، فيجب عليهما الصّوم في أيّامٍ أُخر في غير شهر رمضان، ولا يجب عليهما في هذا الشّهر، ولا يشرع لهما. ‏

‏وقد ذكر البعض أنّ المراد بشهود الشّهر رؤية الهلال‏‏(32)‏، لتكون الآية دالةً على أنّ الصّوم مشروطٌ بالرُّؤية، كما جاء في الحديث الشّريف عن النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»‏(33)‏. ولكن لا دليل في الآية على ذلك، بل ربّما كان ذكر السّفر في مقابل ذلك دليلاً على أنّ المراد به الحضور في البلد. وقد جاء في رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال لمّا سئل عن هذه: «ما أبْينها لمن عقِلها، قال: من شهد رمضان فليصمه، ومن سافر فيه فليفطر»‏(34)‏. وقد روي أيضاً - كما في (مجمع البيان) - «عن عليٍّ، وابن عبّاس، ومجاهد، وجماعةٍ من المفسِّرين أنّهم قالوا: من شهد الشّهر، بأن دخل عليه الشّهر وهو حاضرٌ، فعليه أن يصوم الشّهر كلّه»‏(35)‏. وهذا دليلٌ على أنّ المراد به الحضور في البلد. ‏

‏ ‏

‏بين القضاء واليُسر ‏

{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْر و لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}. هذا بيانٌ للحكمة في تشريع القضاء على المسافر والمريض، وأنّ الله أراد من خلال ذلك بناء أمر الإنسان في ما يفعله وفي ما يتركه على أساس التّيسير؛ لأنّ الله قد أرسل نبيّه بالشّريعة السّهلة السّمحة. ‏

‏وقد حاول البعض أن يستفيدوا من هذه الفقرة من الآية أنّ الإفطار في السّفر رخصةٌ لا عزيمة‏(36)‏. ولكن لا دليل لهم في ذلك؛ لأنّه يمكن أن يكون اليُسر في إسقاط الصّوم عنهم، وإن كان ذلك إلزاميّاً. ‏

‏قاعدة نفي العسر والحرج ‏

‏وربّما يُستفاد من هذه الآية قاعدةٌ فقهيّةٌ حاكمةٌ على أدلّة الأحكام العامّة، وهي قاعدة اليسر، أو نفي العسر؛ فهي دالةٌ على أنّ الله يريد - في كلِّ تشريعاته - أن ييسِّر للنّاس حياتهم في ما يفعلون وفي ما يتركون، ما يوحي بأنّ كلّ حكمٍ يوقع النّاس في العسر فهو غير مجعولٍ في الشّريعة، حتّى لو كان الدّليل الدّالُّ عليه يدلُّ على ذلك بإطلاقه وعمومه. وهذا هو الأساس في فتاوى الفقهاء في انتقال الإنسان من حالةٍ في الصّلاة إلى حالةٍ أخرى، حيث يرفع الإلزام عن الحالة المستلزمة للمشقّة والعسر، كالقيام بالنِّسبة إلى الجلوس، والوضوء بالنِّسبة إلى التّيمُّم ونحو ذلك. ‏

{ولِتُكْمِلُوا الْعِدّة}، في صيام الأيّام الّتي فاتت المكلّف في شهر رمضان، ليكمل له بذلك الصِّيام الّذي فرضه عليه. {ولِتُكبِّرُوا اللّه على‏ ما هداكُمْ}. فسّره المفسِّرون بالتّكبيرات الّتي يكبِّرها المصلُّون في صلاة العيد. ولعلّ الظّاهر أنّها تعليلٌ للتّشريع العباديِّ في الصّوم الّذي يوحي بالتّذلُّل، والخضوع، والانقياد، والوعي الرُّوحيِّ للرُّبوبيّة الشّاملة والألوهيّة العظيمة في موقع العظمة والكبرياء، وعلى هدايته لدينه الّذي به يعرف ربّه في توحيده، وقدرته، وكلّ مواقع العظمة عنده، ليحسّ الإنسان بأنّ الله هو كلُّ شي‏ءٍ في وجوده وفي حركته، ولا شي‏ء لأيِّ مخلوقٍ إلاّ من خلاله؛ فهو الّذي يمنحهم القوّة والعظمة والغنى والسّعة في حياتهم، ولا يملكون، في ذواتهم، نفعاً ولا ضرّاً. وهذا ما يجعل المؤمن واعياً لمقام ربِّه، ومنفتحاً على مسؤوليّته في توحيده في العبادة والطّاعة، فيكبِّر الله على ذلك كلِّه، في روحه وعقله وشعوره ولسانه وعمله. ‏

{ولعلّكُمْ تشْكُرُون}، على ما رزقكم الله من الفرصة في طاعته وفي القيام بما يصلح أمر دينكم ودنياكم، فإنّ ذلك من النِّعم الّتي تستحقُّ الشُّكر، وأيُّ نعمةٍ أفضل من النِّعمة الّتي تهيِّئ للإنسان سعادة الدّارين؟ ‏


‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏(1) ‏‏انظر: الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 291.‏

‏(2) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان في تفسير القرآن، ط 1، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1409 هـ-، ج 2، ص 115. ‏

‏(3) ‏‏مجموعةٌ من المؤلِّفين، قاموس الكتاب المقدّس، تقديم د. فيليب حتِّي، مكتبة المشعل الإنجيليّة، بيروت - لبنان، (د ت)، ج 2، ص 562 - 563.‏

‏(4) ‏‏العهد القديم، سفر التّثنية، الأصحاح 9، الفقرة 9.‏

‏(5) ‏‏إنجيل متّى، الأصحاح 4، الفقرة 1 - 2.‏

‏(6) ‏‏إنجيل لوقا، الأصحاح 5، الفقرة 33 - 35. ‏

‏(7) ‏‏قاموس الكتاب المقدّس، م. ن، ص 563. ‏

‏(8) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، الأمالي، تحقيق قسم الدِّراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة، ط 1، دار الثّقافة، قم - إيران، 1414 هـ-، ص 166، ح 277.‏

‏(9) ‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 9. ‏

‏(10) ‏‏الزُّحيلي، د. وهبة، الفقه الإسلاميُّ وأدلّته، دار الفكر، دمشق - سوريا، 1427 هـ-، ج 2، ص 1342 - 1344.‏

‏(11) ‏‏راجع: الحرُّ العاملي، وسائل الشِّيعة، م. س، ج 8، ص 451 - 463، باب (1) و (2) من أبواب صلاة المسافر. ‏

‏(12) ‏‏رُوي عن عمر بن الخطّاب أنّه «أمر رجلاً صام في السّفر أن يعيد صومه. وروى يوسف بن الحكم قال: سألت ابن عمر عن الصّوم في السّفر، فقال: أرأيت لو تصدّقت على رجلٍ صدقةً فردّها عليك، ألا تغضب! فإنّها صدقةٌ من الله تصدّق بها عليكم. وروى عبد الرّحمن بن عوف قال: قال رسول الله: الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر. وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: الإفطار في السّفر عزيمةٌ». انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 10.‏

‏(13) ‏‏قال الشّيخ الطّبرسي في: م. ن: «وروى أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: الصّائم في شهر رمضان في السّفر كالمفطر فيه في الحضر. وعنه عليه السلام قال: لو أنّ رجلاً مات صائماً في السّفر لما صلّيت عليه، وعنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من سافر أفطر وقصّر، إلاّ أن يكون رجلاً سفره إلى صيد أو في معصية الله». وروى العيّاشيُّ في: تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 81، ح 190، «عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يصوم في السّفر تطوُّعاً ولا فريضةً، يكذبون على رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم ، نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بكراع الغميم عند صلاة الفجر (الهجير)، فدعا رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم بإناءٍ فشرب وأمر النّاس أن يفطروا، فقال قومٌ: قد توجّه النّهار، ولو صمنا يومنا هذا! فسمّاهم رسول الله: العصاة، فلم يزالوا يُسمّون بذلك الاسم حتّى قبض رسول الله».‏

‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏(14) ‏‏انظر مثلاً: الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 210. ‏

‏(15) ‏‏العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 78، ح 176.‏

‏(16) ‏‏الجصّاص، أحكام القرآن، م. س، ج 1، ص 215 - 216.‏

‏(17) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 4، ص 238، ح 698.‏

‏(18) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 13. ‏

‏(19) ‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 14.‏

‏(20) ‏‏العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص‏80، ح 184.‏

‏(21) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 16 - 18.‏

‏(22) ‏‏انظر: القمِّي، تفسير القمِّي، م. س، ج 1، ص 273، وج 2، ص 195. بلفظ: «أنتظر أمر الله». الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 2، ص 297.‏

‏(23) ‏‏الزُّبيديُّ، السّيِّد محمّد مرتضى الحسيني (ت 1205 هـ-)، تاج العروس من جواهر القاموس، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1994 م - 1414 هـ-، ج 15، ص 728. ‏

‏(24) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 16. ‏

‏(25) ‏‏مثل ما روي عن أبي هريرة: قال: «من صام يوم سبعة وعشرين من رجب كُتب له صيام ستِّين شهراً، وهو اليوم الّذي نزل فيه جبريل على النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم بالرِّسالة أوّل يومٍ هبط فيه». انظر: الخطيب البغدادي، أبوبكر أحمدبن علي (ت 463 هـ-)، تاريخ بغداد، ط 1، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1417 هـ- - 1997 م، ج 8، 284. ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك، ط 1، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت- لبنان، 1412هـ- 1992 م، ج 2، ص 349.‏

‏(26) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 4، ص 305، ح 922.‏

‏(27) ‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 149، ح 2.‏

‏(28) ‏‏م. ن، ص 148، ح 1. ‏

‏(29) ‏‏راجع: الحرُّ العاملي، وسائل الشِّيعة، م. س، ج 10، ص 447 - 449، باب (15) استحباب صوم النِّصف من رجب ويوم المبعث. ‏

‏(30) ‏‏السّيوطي، جلال الدِّين عبد الرّحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ-)، الدُّرُّ المنثور في التّفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت - لبنان، (لا ت)، ج 6، ص 368. ‏

‏(31) ‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 10، ص 174‏

‏(32) ‏‏انظر: الجصّاص، أحكام القرآن، م. س، ج 1، ص 229. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 2، ص‏123.‏

‏(33) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 4، ص 161، ح 454. وانظره أيضاً في: البخاري، الجامع الصّحيح، م. س، ج 2، ص 229.‏

‏(34) ‏‏العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 81، ح 187.‏

‏(35) ‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 16. ‏

‏(36) ‏‏انظر: الجصّاص، أحكام القرآن، م. س، ج 1، ص 259.‏

‏معاني المفردات ‏

{الصِّيامُ}‏ ‏‏في اللُّغة: الإمساك عن الفعل أو الكلام أو أيِّ شي‏ءٍ آخر‏(1)‏. وهو في الشّرع: إمساكٌ «عن أشياء مخصوصةٍ على وجهٍ مخصوصٍ ممّن هو على صفاتٍ مخصوصةٍ في زمانٍ مخصوصٍ»‏(2)‏. ‏

{فعِدّةٌ}: فِعلةٌ من العدِّ، وهي بمعنى المعدود، كالطّحن بمعنى المطحون. ‏

{يُطِيقُونهُ}: من الطّوق، ويطيقونه أي: يُجعل كالطّوق في أعناقهم، كنايةً عن تحمُّل الصّوم بمشقّةٍ شديدةٍ وجهدٍ كبيرٍ. ‏

{فِدْيةٌ}: ما يقي به الإنسان نفسه من مالٍ يبذله في عبادةٍ قصّر فيها. والفدية: ما يُبذل، والفداء: اسم لذلك المبذول.‏

{والْفُرْقانِ}: هو ما يفرق بين الحقِّ والباطل. والفرقان: كلام الله تعالى. والفرقان: يوم بدر؛ فإنّه أوّل يوم فُرِق فيه بين الحقِّ والباطل، وهو ما جاء في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمنْتُمْ بِاللّهِ و ما أنْزلْنا على‏ عبْدِنا يوْم الْفُرْقانِ يوْم اِلْتقى الْجمْعانِ}[الأنفال: 41]. ‏

‏تشريع الصِّيام ‏

‏هذا تشريعٌ عباديٌّ جديدٌ أراد الله لعباده أن يتعبّدوا له فيه، من أجل أن يحقِّقوا لأنفسهم البناء الرُّوحيّ والعمليّ من خلال ذلك، كما هو الحال في العبادات الأخرى الّتي لم يجعلها الله استغراقاً في ذاته أو غيبوبةً في قدسه، ليبتعدوا بذلك عن حياتهم، بل جعلها انطلاقةً في وعي الإنسان لعلاقته بربِّه، من حيث هي عبوديّةٌ ومسؤوليّةٌ وانفتاحٌ، لتؤكِّد له إنسانيّته الصّافية النّقيّة البعيدة عن كلِّ خبثٍ وزيفٍ ورياءٍ، وعن كلِّ ضعفٍ وحقدٍ وانحرافٍ، والقريبة من المعاني الرُّوحيّة الّتي تبني للإنسان حياته على الصُّورة الّتي يحبُّها الله ويرضاها، فهي تلتقي بالحياة من خلال التقائه بالله. ‏

‏وفي هذا الإطار، اعتُبرت العبادات الإسلاميّة من ركائز الإسلام؛ باعتبار علاقتها ببناء الشّخصيّة الإسلاميّة للإنسان، في ما يفكِّر ويعمل ويمارس من علاقاتٍ عامّةٍ وخاصّةٍ، وفي ما يخطِّط له من غاياتٍ، وما يستخدم من وسائل، وذلك من خلال تعدُّد أساليبها وتنوُّعها، وفي ما تثيره من مشاعر، وما تحرِّكه من نوازع وأفكار. ‏

‏وقد نلاحظ في روعة التّشريع العباديِّ في الإسلام: أنّه حرّك العبادة في إطار العطاء، فاعتبر العطاء عبادةً؛ وأطلقها في الحياة، فقرّر أنّ العمل في سبيل طلب الحلال عبادة؛ وأثارها في خطِّ الدِّفاع عن الإنسان وقيمه الكبيرة في الحياة، فالجهاد في سبيل الله عبادةٌ يتعبّد فيها الإنسان لربِّه؛ وأفسح المجال للنِّيّة الخالصة في داخل الإنسان، لتعطي كلّ عملٍ يقصد به الإنسان وجه ربِّه، في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياة الذّاتيّة والعامّة، صفة العبادة الّتي تقرِّبه إلى الله. ‏

‏وكان الصّوم إحدى العبادات الّتي بُنِي عليها الإسلام، حسب ما ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام ؛ فقد فرضه الله على المؤمنين في الإسلام، كما فرضه على المؤمنين قبلهم في الشّرائع السّابقة. فقد ورد في (قاموس الكتاب المقدّس) - ما مضمونه - أنّ الصّوم بشكلٍ عامٍّ وفي جميع الأوقات كان متداولاً في أوقات الأحزان والنّوائب بين جميع الطّوائف والملل والمذاهب. وكان اليهود يصومون لدى التّوبة والتّضرُّع إلى الله، حينما تُتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام الله، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصّوم والتّوبة، وليحصلوا على رضا حضرة القدس الإلهيِّ. والصّوم الأعظم مع الكفّارة كان، على ما يبدو، خاصّاً بيومٍ من أيام السّنة بين طائفةٍ من اليهود. طبعاً كانت هناك أيّامٌ أخرى مؤقّتة للصّوم بمناسبة ذكرى حصار وتخريب أورشليم، وغيرها‏(3)‏. ‏

‏ويظهر من التّوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، فقد جاء فيها: «أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلةً لا آكل خبزاً ولا أشرب ماءً»‏(4)‏. ‏

‏وقد صام السّيِّد المسيح عليه السلام أيضاً أربعين يوماً، كما يظهر من الإنجيل، حيث ورد فيه: «ثم أصعد يسوع إلى البرِّيّة... فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً»‏(5)‏. ‏

‏ويبدو من نصوص إنجيل لوقا أنّ حواريِّي السّيِّد المسيح صاموا أيضاً‏(6)‏. ‏

‏وجاء في (قاموس الكتاب المقدس) أنّ البارزين في كنيسة أنطاكية من أنبياء ومعلِّمين قرّروا لأنفسهم صوماً مشتركاً ووضعوا بذلك أساس الصّوم الجماعيِ‏‏(7)‏. ‏

‏وقد لا نجد تفصيلاتٍ وافيةً عن طبيعة هذا الصّوم المفروض على السّابقين في شرائعهم، ولكنّنا نجد في القرآن الكريم حديثاً عن صوم الصّمت، في ما حدّثنا الله به من قصّة زكريّا عليه السلام: {قال ربِّ اِجْعلْ لِي آيةً قال آيتُك ألاّ تُكلِّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إِلاّ رمْزاً و اُذْكُرْ ربّك كثِيراً و سبِّحْ بِالْعشِيِّ و الْإِبْكارِ}[آل عمران: 41]، وفي ما حدّثنا به من قصّة مريم عليها السلام: {فكُلِي و اِشْربِي و قرِّي عيْناً فإِمّا تريِنّ مِن الْبشرِ أحداً فقُولِي إِنِّي نذرْتُ لِلرّحْمنِ صوْماً فلنْ أُكلِّم الْيوْم إِنْسِيّاً}[مريم: 26]. ‏

‏وقد نجد لدى بعض المنتسبين إلى الدِّيانات السّابقة من اليهود والنّصارى نوعاً من الصّوم الّذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات، كاللُّحوم ونحوها، في بعض أيّام السّنة. ‏

‏وقد يُخيّل لبعض النّاس أنّ تشبيه الصّوم المكتوب علينا بما كُتب على الّذين من قبلنا يوحي بوحدة الصّوم عندنا وعندهم. ولكنّ ذلك غير ثابتٍ؛ لأنّ التّشبيه يكفي فيه أن يكون وارداً لبيان أصل التّشريع من دون دخولٍ في تفاصيله. ‏

‏وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا كُتِب عليْكُمُ الصِّيامُ}؛ إذ لا بُدّ لكم من القيام به فرضاً واجباً، كعبادةٍ شرعيّةٍ تتقرّبون بها إلى الله، وتحقِّقون ‏

‏فيها الكثير من المنافع الرُّوحيّة والأخلاقيّة والجسديّة، {كما كُتِب على الّذِين مِنْ قبْلِكُمْ}، فلستم أوّل الأُمم الّتي يفرض عليها هذا النّوع من الإمساك العمليِّ؛ لأنّ القضيّة ليست حالةً خاصّةً في ظرفٍ خاصٍّ يتّصل بكم بشكلٍ خاصٍّ، بل هي حالةٌ عامّةٌ في الإنسان كلِّه، من حيث علاقة التّرك المخصوص لبعض الأشياء في توازن حياته، كما هي علاقة الفعل الخاصِّ في الجوانب الأخرى منها. وربّما اختلف الصّوم في طبيعته ومفرداته بين أُمّةٍ وأخرى، ولكنّ المبدأ واحدٌ. ‏

‏الصّوم والتّقوى ‏

‏وقد ختمت الآية بيان الصّوم بقوله تعالى: {لعلّكُمْ تتّقُون}، للإيحاء بأنّ التّقوى هي غايةٌ للصّوم أو نتيجةٌ له؛ نظراً لما يثيره في داخل الإنسان من الرّقابة الذّاتيّة الدّاخليّة الّتي تمنعه من ممارسة كثير من الأشياء المعتادة له من شهواته ومطاعمه ومشاربه، انطلاقاً من وعيه التّامِّ للإشراف الإلهيِّ عليه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. ‏

‏وهذا ما تعبِّر عنه مفردة: «التّقوى»، بما تمثِّله من الانضباط أمام ما يريده الله منه وما لا يريده، وذلك بأن لا يفقده الله حيث يريده ولا يجده حيث ينهاه. وبذلك يكون هذا الصّوم الصّغير مقدِّمةً للصّوم الكبير. وذلك يتوافق مع ما ورد به الحديث الشّريف: «رُبّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطش، ورُبّ قائمٍ حظُّه من قيامه السّهر»‏(8)‏، في من لا يمنعه صومه من الممارسات المحرّمة الأخرى في شهر رمضان وفي غيره. ‏

‏الأيّام المعدودات ‏

{أيّاماً معْدُوداتٍ}. هناك قولان في المقصود بهذه الأيّام: ‏

‏«أحدهما: إنّها غير شهر رمضان، وكان ثلاثة أيّام من كلِّ شهرٍ، ثمّ نُسخ. عن معاذ، وعطا، وعن ابن عبّاس. وروي: ثلاثة أيّام من كلِّ شهرٍ، وصوم عاشوراء. عن قتادة. ثمّ قيل: إنّه كان تطوُّعاً. وقيل: بل كان واجباً. واتّفق هؤلاء على أنّ ذلك منسوخٌ بصوم شهر رمضان. ‏

‏والآخر: إنّ المعنيّ بالمعدودات شهر رمضان. عن ابن عبّاس، والحسن، واختاره الجبائيُّ، وأبو مسلم، وعليه أكثر المفسِّرين، قالوا: أوجب سبحانه الصّوم أوّلاً فأجمله، ولم يبيِّن أنّها يومٌ أو يومان أم أكثر، ثمّ بيّن أنّها أيّامٌ معلوماتٌ وأبهم، ثمّ بيّنه بقوله: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}. قال القاضي: وهذا أولى؛ لأنّه إذا أمكن حمله على معنًى من غير إثبات نسخٍ كان أولى، ولأنّ ما قالوه زيادة لا دليل عليه»‏(9)‏. ‏

‏وعلى كلِّ حال، فإنّ قوله تعالى: {معْدُوداتٍ}يوحي بالرّحمة الإلهيّة الّتي لم تفرض على الإنسان إلاّ أيّاماً محدّدةً بالنِّسبة إلى ما لم تفرض عليه فيه الصِّيام. ويمكن أن يكون المقصود المماثلة مع الّذين فرض عليهم الصِّيام من الأُمم السّابقة، في أنّ الفرض محدّدٌ بفترةٍ زمنيّةٍ ما، وإن كان قد يختلف العدد بين أُمّةٍ وأخرى. والله العالم. ‏

‏حكم المرض والسّفر ‏

{فمنْ كان مِنْكُمْ مرِيضاً أوْ على‏ سفرٍ فعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخر}، فليس على المريض صيامٌ في شهر رمضان. والظّاهر - من مناسبة الحكم والموضوع - أنّ المراد به المريض الّذي يضرُّ به الصّوم؛ لأنّ ذلك ما يُعتبر عسراً على المكلّف، فلا يشمل الاستثناء حالة الصّوم الّذي ينفع المريض، أو الّذي لا يترك أيّ أثرٍ ضارٍّ على صحّته. وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة المتعدِّدة في هذا الشّأن. ‏

‏أمّا السّفر المستلزم للإفطار، فلم تبيِّنه الآية، وإنّما أطلقت العنوان. ولكن، تمّ تحديد السّفر الموجب للقصر والإفطار من خلال ما ورد في السُّنّة الشّريفة، والّتي اختلف فقهاء المسلمين بشأنها، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ «أقلّ ما تقصر فيه الصّلاة مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها من أقصر أيّام السّنة في البلاد المعتدلة، بسير الإبل ومشي الأقدام»، ولا يجب أن يكون السّير متواصلاً، بل المعتبر هو «السّير الوسط مع الاستراحات العاديّة». «وقال الجمهور غير الحنفيّة»: إنّ تقديره «يومان معتدلان، أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام... ويُقدّر بالمسافة ذهاباً بأربعة بُردُ، أو ستّة عشر فرسخاً»‏(10)‏. ‏

‏وقد ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تحديد مسافة القصر والإفطار بثمانية فراسخ ذهاباً، أو بأربعة فراسخ ذهاباً وأربعة إياباً. وفي روايات أخرى عنهم تحديد السّفر زماناً ببياض يومٍ. وبعض الرِّوايات تحدِّد أنّ الثّمانية فراسخ هي ما يُقطع في بياض يومٍ‏‏(11)‏؛ فالأمران متلازمان. ‏

‏ولكن، قد أُثير مؤخّراً البحث في تحديد السّفر؛ بسبب أنّ وسائل النّقل الحديثة قد قرّبت المسافات بين البلاد من حيثُ الزّمن، وأصبحت تُقطع الثّمانية فراسخ بأقلّ من بياض يومٍ بكثير، ومن هنا وقع الكلام في أنّه هل الأصل في تحديد السّفر هو التّحديد الزّمنيُّ، وبالتّالي هو يختلف باختلاف الوسائل، أو هو التّحديد بالمسافة كحُكمٍ تعبُّديٍّ لا يختلف باختلافها؟ وما هي علاقة ما ورد في السُّنّة بعنوان السّفر الّذي أُطلق في القرآن الكريم؟ ومحلُّ ذلك كلِّه في بابه في الفقه. ‏

‏الإفطار في السّفر رخصةٌ أم عزيمةٌ؟ ‏

‏ذهب جمعٌ من الصّحابة كعبد الرّحمن بن عوف، وعمر بن الخطّاب، وعبدالله‏بن‏عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزُّبير‏(12)‏ إلى أنّه عزيمةٌ، وهو المرويُّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ‏(13)‏، وهو الظّاهر من الآية الكريمة في قوله تعالى: {فعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخر}؛ فإنّ الظّاهر منها هو أنّ صيام الأيّام المعدودات فرض غير المسافر والمريض، أمّا هما فإنّ فرضهما هو أيّامٌ أُخر في غير شهر رمضان؛ لأنّ السِّياق جرى مجرى العزيمة والفرض. ‏

‏وذهب أكثر أهل السُّنّة، إلى أنّه رخصةٌ، وقدّروا في الآية كلمة «فأفطر»، فقالوا: إنّ تقديرها: فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فأفطر فعدّةٌ من أيّامٍ أُخر‏(14)‏. ‏

‏ولكنّ هذا ضعيفٌ؛ بأنّ التّقدير خلاف الظّاهر، ولا يُصار إليه إلاّ بدليل، ولا دليل في الآية عليه؛ وبأنّ هذا التّقدير لا يمنع من العزيمة؛ لأنّ الحديث عن الإفطار لا يعني إلاّ جوازه في مقابل التّحريم، ولا يعني ذلك في مقابل الإلزام. ‏

‏الفدية بدل الإفطار ‏

{وعلى الّذِين يُطِيقُونهُ فِدْيةٌ طعامُ مِسْكِينٍ}. والفدية هي البدل الماليُّ عن الصّوم. والظّاهر من الآية -بمقتضى السِّياق - هو حالة الّذين يستطيعون الصّوم بجهدٍ ومشقّةٍ، وهم الشُّيوخ الّذين يُجهدهم الصّوم، فإنّ مثل هؤلاء لا يُكلّفون بالصّوم ولا يُكلّفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية. وقد ورد ذلك في (تفسير العيّاشي) عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: «الشّيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش»‏(15)‏. ‏

‏وقد ذهب بعضهم إلى أنّ هذه الفقرة تدلُّ على الرُّخصة؛ على أساس تخيير الله للقادرين بين الصّوم وبين الإفطار ودفع الفدية، ثمّ نُسخت بقوله تعالى: {فمنْ شهِد مِنْكُمُ الشّهْر فلْيصُمْهُ}(16)‏. ولكنّ ذلك مردودٌ بدراسة الآيات الّتي تدلُّ على وحدة الفرض والسِّياق، ولا يحتاج ذلك إلاّ إلى ذوقٍ سليمٍ وحسٍّ مرهف. ‏

‏معنى التّطوُّع ‏

{فمنْ تطوّع خيْراً فهُو خيْرٌ لهُ}. ربّما كان المقصود منه التّطوُّع بالزِّيادة على الفدية، بأن يُعطي الزِّيادة على ما وجب عليه؛ لما ورد في بعض الأحاديث، من تحديد الفدية بمُدّين من الطّعام‏‏(17)‏، المحمول على الأفضليّة. ‏

‏وفسّرها صاحب (الميزان) بإيتاء الصّوم عن رضاً ورغبةٍ؛ لأنّ كلمة «التّطوُّع» لا تعني الاختيار في مقابل الإلزام لتدلّ على الاستحباب، بل تدلُّ على الطّوع في مقابل الكُره، وذلك بأن يأتي الإنسان به عن رغبةٍ ورضاً وقناعةٍ‏(18)‏. ‏

‏ولكنّ هذا خلاف الظّاهر؛ لظهور كلمة «التّطوُّع» في الفعل الّذي يأتي به الإنسان من دون إلزامٍ؛ باعتبار أنّ الإلزام يوحي بالضّغط والكره، بينما الاستحباب لا يوحي إلاّ بالتّوسعة والتّخفيف. وأمّا ما ذكره من أنّ استعمال الكلمة في الفعل المستحبِّ اصطلاحٌ جديدٌ، فهو غير دقيقٍ؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة استعمال الكلمة في المعنى، بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة في ما يُفهم من مدلول الواجب والمستحب. ‏

{وأنْ تصُومُوا خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون}. الظّاهر منها - بقرينة السِّياق - هو أنّها خطابٌ للّذين يُجهدهم القضاء فتُباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنّ الفدية -وإن كانت جائزةً - إلاّ أنّ الصّوم خيرٌ لهم إن كانوا يعلمون ما فيه من النّتائج الرُّوحيّة والعمليّة. ‏

‏وهناك احتمالٌ بأنّ الفقرة واردةٌ في الحديث عن الصّوم، بأنّه خيرٌ للنّاس في ذاته بحسب فلسفة الصّوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى النّاس. وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة في كثير من موارد التّشريع، كما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِذا نُودِي لِلصّلاةِ مِنْ يوْمِ الْجُمُعةِ فاسْعوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللّهِ و ذرُوا الْبيْع ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون}[الجمعة: 6]، وكما في قوله تعالى: {وإِبْراهِيم إِذْ قال لِقوْمِهِ اُعْبُدُوا اللّه و اِتّقُوهُ ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلمُون}[العنكبوت: 16]. وبهذا يبطل قول من قال: إنّ الصّوم كان في بداية التّشريع واجباً تخييريّاً، وكان المسلمون مخيّرين بين الصّوم والفدية، ثمّ نسخ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصّوم فأصبح واجباً عينيّاً؛ فإنّه لا دليل عليه، مع أنّه خلاف الظّاهر. ‏

‏نزول القرآن في شهر رمضان ‏

{شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}. في هذا التّأكيد القرآنيِّ على نزول القرآن في شهر رمضان، في هذه الآية، وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدُّخان والقدر، إيحاءٌ بأنّ عظمة هذا الشّهر مستمدّةٌ من مناسبة نزول القرآن فيه. ‏

‏وقد اختلف المفسِّرون في تحليل مسألة نزول القرآن في شهر رمضان وذلك في أقوال‏‏(19)‏: ‏

‏ القول الأوّل: إنّ القرآن أُنزل إلى السّماء الدُّنيا دفعةً واحدةً، في رمضان، ثمّ أُنزل على النّبيِّ نُجوماً. وقد نُسب هذا القول إلى ابن عبّاس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وروى في (تفسير العيّاشي) عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام أنّه سُئل «عن قوله في {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، كيف أُنزل فيه القرآن، وإنّما أُنزل القرآن في طول عشرين سنة من أوّله إلى آخره، فقال عليه السلام: نزل القرآن جملةً واحدةً في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ أُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة»‏(20)‏. ‏

‏وهذا الإنزال التّدريجيُّ على النّبيِّ فيه قولان: ‏

‏ 1 - إنّ الإنزال كان يتمُّ على حسب الحاجة الفعليّة إلى التّشريع أو التّبشير أو الإنذار أو التّذكير. ‏

‏ 2 - إنّ الإنزال كان يتمُّ بحسب حاجات كلِّ سنةٍ، أو كلِّ شهرٍ، بحيث ينزل من القرآن ما يُحتاج إليه إلى سنةٍ، أو إلى شهرٍ، ممّا تختزنه الأحداث والظُّروف خلال الفترة الزّمنيّة المحدّدة. ‏

‏ القول الثّاني: إنّ ابتداء نزول القرآن هو في شهر رمضان. ‏

‏ القول الثّالث: إنّ الضّمير في: {فِيهِ}راجعٌ إلى شهر رمضان، كما يُقال: إنّ الله أنزل في فلانٍ قُرآناً. ثمّ إنّ التّقدير أحد أمرين: إمّا أُنزل في فضله القرآن، أو أُنزل في إيجاب الصّوم فيه القرآن. ‏

‏ القول الرّابع: التّفريق بين ما أُنزل على قلب النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم دفعةً، وبين ما أُنزل عليه تدريجيّاً. وهو ما ذهب إليه العلاّمة الطّباطبائيُّ، يقول رحمه الله: «والّذي يعطيه التّدبُّر في آيات الكتاب أمرٌ آخر؛ فإنّ الآيات النّاطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلةٍ منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدّالِّ على الدّفعة، دون التّنزيل، كقوله تعالى: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، وقوله تعالى: {حم * `و الْكِتابِ الْمُبِينِ * `إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}[الدُّخان: 1 - 3]، وقوله تعالى: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}[القدر: 1]. واعتبار الدّفعة إمّا بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب، أو البعض النّازل منه، كقوله تعالى: {كماءٍ أنْزلْناهُ مِن السّماءِ}[يونس: 24]؛ فإنّ المطر إنّما ينزل تدريجاً. لكنّ النّظر - ها هنا - معطوفٌ إلى أخذه مجموعاً واحداً؛ ولذلك عبّر بالإنزال دون التّنزيل... وإمّا لكون الكتاب ذا حقيقةٍ أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العاديِّ الّذي يقضى فيه بالتّفرُّق والتّفصيل والانبساط والتّدريج، هو المصحِّح لكونه واحداً غير تدريجيٍّ، ونازلاً بالإنزال دون التّنزيل». ويعتبر أنّ «هذا الاحتمال الثّاني هو اللاّئح من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: {كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ}[هود: 1]، فإنّ هذا الإحكام مقابل التّفصيل... وأوضح منه قوله تعالى: {ولقدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فصّلْناهُ على‏ عِلْمٍ هُدىً و رحْمةً لِقوْمٍ يُؤْمِنُون*`هلْ ينْظُرُون إِلاّ تأْوِيلهُ يوْم يأْتِي تأْوِيلُهُ يقُولُ الّذِين نسُوهُ مِنْ قبْلُ قدْ جاءتْ رُسُلُ ربِّنا بِالْحقِّ}[الأعراف: 52 - 53]، وقوله تعالى: {وما كان هذا الْقُرْآنُ أنْ يُفْترى‏ مِنْ دُونِ اللّهِ و لكِنْ تصْدِيق الّذِي بيْن يديْهِ و تفْصِيل الْكِتابِ لا ريْب فِيهِ مِنْ ربِّ الْعالمِين}[يونس: 37]، إلى أن قال: {بلْ كذّبُوا بِما لمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و لمّا يأْتِهِمْ تأْوِيلُهُ}[يونس: 39]؛ فإنّ الآيات الشّريفة، وخاصّةً ما في سورة يونس ظاهرة الدّلالة على أنّ التّفصيل أمرٌ طارٍ على الكتاب، فنفس الكتاب شي‏ءٌ، والتّفصيل الّذي يعرضه شي‏ءٌ آخر، وأنّهم إنّما كذّبوا بالتّفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشي‏ءٍ يؤول إليه هذا التّفصيل، وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة، ويضطرُّون إلى علمه...». وينتهي رحمه الله إلى أنّ «الكتاب المبين، الّذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التّفصيل، أمرٌ وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزلة اللِّباس لذاك. ثمّ إنّ هذا المعنى - أعني: كون القرآن في مرتبة التّنزيل بالنِّسبة إلى الكتاب المبين، ونحن نسمِّيه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللِّباس من المتلبِّس، وبمنزلة المثال من الحقيقة، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام، هو المصحِّح لأن يُطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب... وهذا الّذي ذكرناه هو الموجب لأن يُحمل قوله: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم دفعةً، كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدّعوة النّبويّة»‏(21)‏. ‏

‏ولعلّ السّبب في هذا الاختلاف، والكامن وراء هذه الأقوال، هوإشكالان: ‏

‏الإشكال الأوّل: منافاة الآية لواقع النُّزول التّدريجيِّ‏

‏السّبب الأوّل هو أنّ هذه الآية، وغيرها كقوله تعالى: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}[القدر: 1]، وكقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}[الدُّخان: 3]، ظاهرةٌ في نزول القرآن دفعةً واحدةً، بينما تدلُّ آياتٌ أخرى على أنّه نزل تدريجاً، كقوله تعالى: {وقال الّذِين كفرُوا لوْ لا نُزِّل عليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلةً واحِدةً كذلِك لِنُثبِّت بِهِ فُؤادك}[الفرقان: 32]، وقوله تعالى: {وقُرْآناً فرقْناهُ لِتقْرأهُ على النّاسِ على‏ مُكْثٍ و نزّلْناهُ تنْزِيلاً}[الإسراء: 106]. ‏

‏ونحن نستقرب أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال؛ وذلك لعدّة أمور: ‏

‏ أ- إنّ كلمة «القرآن» تُطلق على القليل والكثير، بما يشمل السُّورة والآية والمجموع، فليس ما يمنع من إطلاق القرآن على جزءٍ منه، وهو أوّل ما أُنزل. والدّليل على إطلاق القرآن على ذلك كلِّه هو نفس قوله تعالى: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، أو {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}؛ حيث لا يُمكن أن يُراد من ذلك إنزال كلِّ القرآن؛ لأنّ كلا الآيتين جزءٌ منه، فلو كان الإخبار في الآية إخباراً عن كلِّ القرآن لزم كون الآيتين خارجتين عنه. ‏

‏ بـ- إنّ القرآن كان يواكب حركة الأحداث الإسلاميّة، ليُعطي الحدث الموقف الإسلاميّ، تعليقاً أو توجيهاً أو رفضاً، حتّى أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما كان يُواجه مشكلةً يقول: «أنتظر أمر ربِّي»‏(22)‏. ‏

‏ جـ- إنّ قوله تعالى: {وقال الّذِين كفرُوا لوْ لا نُزِّل عليْهِ الْقُرْآنُ جُمْلةً واحِدةً كذلِك لِنُثبِّت بِهِ فُؤادك}[الفرقان: 32] دالٌّ صراحةً على أنّ القرآن لم يكن له نُزولٌ دفعيٌّ ثمّ تدريجيٌّ؛ لأنّ الهدف من القرآن هو تثبيت النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم في مواجهة التّحدِّيات الّتي كان يُطلقها الكُفّار والمنافقون ضدّ حركة الإسلام، في دعوته وشريعته ومنهجه في الحياة؛ بل إنّ قوله تعالى: {وإِذا بدّلْنا آيةً مكان آيةٍ و اللّهُ أعْلمُ بِما يُنزِّلُ قالُوا إِنّما أنْت مُفْترٍ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون*`قُلْ نزّلهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ ربِّك بِالْحقِّ لِيُثبِّت الّذِين آمنُوا و هُدىً و بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِين}[النّحل: 101 - 102]، يؤكِّد أنّ دور الإنزال التّدريجيِّ يتّصل بواقع حياة المسلمين، وليس الرّسول فحسب. ‏

‏وبذلك يكون أصل الإشكال المذكور لا موجب له؛ لأنّ هذا القول يرفع المنافاة بين ما ذُكر من الآيات. ‏

‏وأمّا ما ذكروه من أقوال، فلا يصمد أمام النّقد؛ فأمّا القول الأوّل، فمُضافاً إلى ضعف مستنده، فإنّ التّتبُّع لما ورد في القرآن الكريم يجعلنا نخلص إلى أنّه النُّور الّذي يهدي به الله عباده، وكتاب الهدى الّذي يؤمِّنهم من الضّلال، وغرضه تثبيت النّبيِّ والّذين آمنوا، أي: هو كتاب المواكبة للواقع، والمعالج لمشاكله ومسائله، وبالتّالي لا نفهم خصوصيّته - من جهة إنزاله - من جهة كونه كلماتٍ وآياتٍ وسوراً. وعليه، فلا نفهم ضرورةً لإنزاله دفعةً ثمّ تدريجاً؛ فإنّه -بعد ضعف مستنده - يغدو بلا دليل عليه. والله العالم. ‏

‏وأمّا القول الثّالث، فيناسبه أن يكون الحديث عنه من خارج القرآن؛ لأنّ الحديث عن إيجاب الصّوم في القرآن يكون واقعه نزول القرآن فيه، فلا حاجة للحديث عنه ثانياً بذلك. وكذلك لو أُريد أنّه أُنزل في فضله القرآن؛ فإنّ فضله إذا كان إيجاب الصّوم فيه، راجعٌ إلى ما ذكرناه آنفاً، وإذا كان نزول القرآن فيه، رجع الإشكال. ‏

‏أمّا ما ذهب إليه العلاّمة الطّباطبائيُّ من أنّ ثمّة مُنزليْن، أحدهما أُنزل دفعةً واحدةً على قلب النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، والآخر نزل تدريجاً، وأنّ ما أُنزل في شهر رمضان، أو في ليلة القدر، هو الأوّل، فلا يصمد أمام النّقد، ونثير ذلك في نقاط: ‏

‏أوّلاً: ليس من فرقٍ بين الإنزال والتّنزيل؛ لأنّ الإنزال أعمُّ، فيُمكن أن يُقال أنزله دفعةً، وأنزله تدريجاً، وأصله: الانحطاط من علوٍّ. وقال في (تاج العروس): «ونزّله تنزيلاً، وأنزله إنزالاً... واستنزله، بمعنًى واحد»‏(23)‏. وعليه، فلا يدلُّ قوله: «أنزلنا» على الإنزال الدّفعيِّ. ‏

‏ ثانياً: إنّ الكتاب المبين هو وصفٌ للقرآن في دلالاته الّتي توضح الحقائق الّتي يُريد الله سبحانه بيانها للنّاس، وليس حقيقةً أخرى، ولا سيّما أنّ ما زعم كونه أُنزل دفعةً واحدةً هو الكتاب الّذي هو أصل القرآن المُنْزلِ تدريجاً، في حين أنّ الآية الّتي نحن بصددها، أي: قوله تعالى: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، دالةٌ -بحسب رأيه - على الإنزال دفعةً واحدةً، وأنّ المقصود الكتاب، واستعمال القرآن في مورده مجازٌ. كلُّ ذلك يدلُّ على أنّ الكتاب والقرآن، في الاستعمال القرآنيِّ، واحدٌ، وأنّ التّكلُّف الّذي ارتكبه العلاّمة الطّباطبائيُّ بلا موجبٍ ولا دليل. كما أنّ مثل قوله تعالى: {هُو الّذِي أنْزل عليْك الْكِتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتابِ و أُخرُ مُتشابِهاتٌ}[آل عمران: 7]، يؤيِّد ما ذكرناه؛ حيث لا معنى لاشتمال الكتاب - الّذي يرى الطّباطبائيُّ أنّه أُنزل دفعةً - على المتشابهات، بل هو من خصوصيّات القرآن الكريم، فتأمّل. ‏

‏ ثالثاً: إنّ ما استدلّ به من آياتٍ لا ينهض دليلاً على مطلوبه، فمثل قوله تعالى: {أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ}، لا تدلُّ {ثُمّ}فيه على التّعقُّب الزّمانيِّ، بل المقصود هو أنّ الله يُعطي الفكرة العامّة ثمّ يفصِّلها ويشرحها. ‏

‏ رابعاً: يبدو من كلامه رحمه الله أنّ الكتاب له خصوصيّةٌ بالنِّسبة للنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم وليس لسائر النّاس، وذلك حيث قال: «وهذا ما ذكرناه هو الموجب لأن يُحمل قوله: {شهْرُ رمضان الّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ}، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم دفعةً، كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدّعوة النّبويّة». ولكنّنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ: «الكتاب» بما لا يوحي بالخصوصيّة للنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم بالنِّسبة إليه، بل هو دالٌّ على ما ذكرناه من أنّه والقرآن بمعنًى واحد. من ذلك قوله تعالى: {إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ و الْهُدى‏ مِنْ بعْدِ ما بيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِك يلْعنُهُمُ اللّهُ و يلْعنُهُمُ اللاّعِنُون}[البقرة: 159]. ‏

‏وقد اتّضح من كلِّ ما ذكرناه أنّ الإشكال الّذي ذكره صاحب تفسير (الميزان) على القول الّذي استقربناه، وهو أنّ المقصود أوّل ما أُنزل، والّذي قال فيه إنّ «قوله تعالى: {أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ}غير صريح الدّلالة على أنّ المراد بالقرآن أوّل نازلٍ منه، ولا قرينة تدلُّ عليه في الكلام، فحمله عليه تفسيرٌ من غير دليل. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {والْكِتابِ الْمُبِينِ*`إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُباركةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِين}[الدُّخان: 2 - 3]، وقوله: {إِنّا أنْزلْناهُ فِي ليْلةِ الْقدْرِ}[القدر: 1]؛ فإنّ ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أوّل إنزاله، أو إنزال أوّل بعضٍ من أبعاضه، ولا قرينة في الكلام تدلُّ على ذلك»‏(24)‏، هذا الإشكال غير واردٍ، بل ما ذكره لا دليل عليه، بل الدّليل على خلافه. والله العالم. ‏

‏الإشكال الثّاني: وحدة زمان البعثة والنُّزول ‏

‏السّبب الثّاني الكامن وراء محاولة التّوجيه بالإنزال الدّفعيِّ الّذي تُظهر الآية أنّه في شهر رمضان، والإنزال التّدريجيِّ الّذي دلّت عليه آياتٌ آخرى، هو اعتبار أنّ نزول القرآن وبعثة النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم كانا في زمانٍ واحدٍ، مع أنّ المعروف أنّ البعثة كانت في السّابع والعشرين من شهر رجب، وأنّ أوّل ما أُنزل: {اِقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق}[العلق: 1]، فيقتضي الجمع بين الأمرين أن نحمل النُّزول في شهر رمضان على النُّزول الدّفعيِّ، وأنّ الإنزال التّدريجيّ بدأ في السّابع والعشرين من رجب. ‏

‏ولكن، يُمكن حلُّ هذا الإشكال بأحد طريقين: الأوّل: إنكار توقيت البعثة في شهر رجب. ‏

‏الثّاني: التّفريق بين البعثة وبين نزول القرآن. ‏

‏ولكنّ الطّريق الأوّل يصطدم باشتهار كون البعثة في رجب بين المُسلمين، وقد روى الفريقان، من السُّنّة‏(25)‏ والشِّيعة، الرِّوايات في ذلك؛ فقد ورد عن أبي إسحاق بن عبدالله، عن أبي الحسن عليِّ بن محمّد عليهما السلام أنّه قال له: «الأيّام الّتي يُصام فيهنّ... أربعة: أوّلهنّ يوم السّابع والعشرين من رجب، يوم بعث الله محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم إلى خلقه رحمةً للعالمين»‏(26)‏. ‏

‏وروى الكلينيُّ، عن أبي الحسن الأوّل - الإمام موسى الكاظم عليه السلام - أنّه قال: «بعث الله عزّ وجلّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم رحمةً للعالمين في سبعٍ وعشرين من رجب»‏(27)‏. ‏

‏وفي روايةٍ عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: «ولا تدع صيام يوم سبعٍ وعشرين من رجب؛ فإنّه هو اليوم الّذي أُنزلت فيه النُّبوّة على محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم »‏(28)‏، وغيرها‏(29)‏. ‏

‏وعلى هذا، فإنّ وضوح تاريخ البعثة يدفعنا إلى الطّريق الثّاني؛ إلاّ أنّ إشكالاً آخر يواجه هذا الطّريق، وهو أنّ ما روي في شأن البعثة ينصُّ على أنّ البعثة ونزول ‏

‏القرآن متلازمان، وأنّه قد اشتهر - تبعاً للمرويِّ - أنّ أوّل ما أُنزل: {اِقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق}[العلق: 1]. فقد جاء في (الدُّرّ المنثور) للسّيوطيِّ: «أخرج عبد الرّزّاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاريُّ، ومسلم، وابن جرير، وابن الأنباريِّ في المصاحف، وابنمردويه، والبيهقيُّ، من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزُّبير، عن عائشة أُمِّ المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من الوحي الرُّؤيا الصّالحة في النّوم، فكان لا يرى رؤياً إلاّ جاءت مثل فلق الصُّبح، ثمّ حُبِّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التّعبُّد اللّيالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتّى جاءه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ منِّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منِّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّالثة حتّى بلغ منِّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: {اِقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق * `خلق الْإِنْسان مِنْ علقٍ * `اِقْرأْ و ربُّك الْأكْرمُ * `الّذِي علّم بِالْقلمِ}[العلق: 1 - 4] الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد... وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً... فانطلقت به خديجة حتّى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، ابن عمِّ خديجة، وكان امرءاً قد تنصّر في الجاهليّة... فأخبره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا النّاموس الّذي أنزل الله على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً...»‏(30)‏. وقد وردت روايات أخرى تصوِّر المبعث بصورٍ أخرى متّفقة على أنّ أوّل ما أنزل هو: {اِقْرأْ}. ‏

‏إلاّ أنّ ثمّة إشكالاتٍ كبيرةً على مضمون هذه الرِّواية؛ حيث لا يُعقل أن يبعث الله النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأفضل رسالاته ثمّ يحوجه إلى أن يثبت نبوّته لنفسه - لا للآخرين - بواسطة خديجة أو ورقة، من دون أن يُظهر له البرهان الواضح من قبل الله - تعالى شأنه -؛ أو أن يكون صلى الله عليه و آله و سلم في موقف الخائف المرتعب الّذي يخشى على نفسه لولا أن تثبِّته خديجة؛ أو الإنسان السّاذج الّذي لا يعرف ماذا يصنع إلاّ اللُّجوء إلى خديجة الّتي تصوِّرها الرِّوايات الأخرى أنّها تعلم من دلائل الوحي وعلائم النُّبوّة وطبائع الملائكة وعاداتهم ما لا يعلم، فضلاً عن أن يكون ورقة هو الّذي يُثبت له ذلك. مع الاستغراب جدّاً من قول ورقة - حسب الرِّواية -: «ليتني أكون فيها جذعاً»، مع أنّ البعثة تقتضي منه الإسلام الآن؛ لأنّه قد دخل بها زمان نبوّته صلى الله عليه و آله و سلم . ‏

‏ثمّ يتساءل المتأمِّل عن الموجب لهذا العُنف الموجّه من الملك ضدّ النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم في تبليغ الوحي، حيث تقول الرِّواية: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منِّي الجهد، ثمّ أرسلني»؟! ‏

‏أضف إلى ذلك أنّ عائشة لم تكن قد وُلدت حين المبعث، فروايتها إمّا عن النّبيِّ أو عن غيره، ولم يتّضح لنا المرويُّ عنه تحديداً. ‏

‏كلُّ ذلك يجعلنا لا نثق بصدور مثل هذه الرِّوايات. وقد قال في (مجمع البيان) -تعليقاً على بعض هذه الرِّوايات-: «وفي هذا ما فيه؛ لأنّ الله تعالى، لا يوحي إلى الرّسول إلاّ بالبراهين النّيِّرة والآيات البيِّنة الدّالّة على أنّ ما يُوحى إليه إنّما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شي‏ءٍ سواها، ولا يفزع، ولا يفرق»‏(31)‏. ‏

‏إنّنا نعتقد أنّ هذه الرِّواية من الأحاديث الموضوعة الّتي استُهدف منها الإساءة إلى النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، بتصويره الإنسان الّذي لا يعي الدّور الموكل إليه إلاّ بالاستعانة بزوجته، أو بورقة بن نوفل، وتالياً إدخال الشّكِّ بالإسلام نفسه، بعد إبعاد الثِّقة عن شخص النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم . ‏

‏وعليه، فليس ثمّة دليلٌ يمنع من التّفكيك بين بعثة النّبيِّ بالنُّبوّة وبين نزول القرآن على قلبه صلى الله عليه و آله و سلم ، ولا سيّما مع اشتهار تحديد السّابع والعشرين من رجب زماناً للبعثة النّبويّة بين المسلمين، مع ما رافق ذلك من اشتهار استحباب صيام ذلك اليوم تحت ذلك العنوان. والله العالم. ‏

‏القرآن كتاب هداية ‏

{هُدىً لِلنّاسِ و بيِّناتٍ مِن الْهُدى‏ و الْفُرْقانِ}. هذه هي قيمة القرآن وأهمِّيّته في حياة النّاس، فهو كتاب هدًى {يهْدِي بِهِ اللّهُ منِ اِتّبع رِضْوانهُ سُبُل السّلامِ و يُخْرِجُهُمْ مِن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ}[المائدة: 16]، وهو كتاب البيِّنات الّتي توضح للنّاس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كلّ شبهةٍ، ويفرق بين الحقِّ والباطل. وقد بيّنّا في بداية تفسير سورة البقرة أنّ معنى كون القرآن هدًى هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها، فلا مجال للإشكال بأنّ هناك من لا يهتدي بالقرآن؛ لأنّ الهدى هنا بمعنى الشّأنيّة لا بمعنى الفعليّة، فراجع. ‏

‏شهود الشّهر شرطٌ للصّوم ‏

{فمنْ شهِد مِنْكُمُ الشّهْر فلْيصُمْهُ و منْ كان مرِيضاً أوْ على‏ سفرٍ فعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخر}. هذا تأكيدٌ على الحكم الّذي استفدناه من الآية السّابقة ولكن بشكل أوضح؛ فإنّ المراد من الشُّهود الحضور في مقابل السّفر، أمّا المريض والمسافر، فيجب عليهما الصّوم في أيّامٍ أُخر في غير شهر رمضان، ولا يجب عليهما في هذا الشّهر، ولا يشرع لهما. ‏

‏وقد ذكر البعض أنّ المراد بشهود الشّهر رؤية الهلال‏‏(32)‏، لتكون الآية دالةً على أنّ الصّوم مشروطٌ بالرُّؤية، كما جاء في الحديث الشّريف عن النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»‏(33)‏. ولكن لا دليل في الآية على ذلك، بل ربّما كان ذكر السّفر في مقابل ذلك دليلاً على أنّ المراد به الحضور في البلد. وقد جاء في رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال لمّا سئل عن هذه: «ما أبْينها لمن عقِلها، قال: من شهد رمضان فليصمه، ومن سافر فيه فليفطر»‏(34)‏. وقد روي أيضاً - كما في (مجمع البيان) - «عن عليٍّ، وابن عبّاس، ومجاهد، وجماعةٍ من المفسِّرين أنّهم قالوا: من شهد الشّهر، بأن دخل عليه الشّهر وهو حاضرٌ، فعليه أن يصوم الشّهر كلّه»‏(35)‏. وهذا دليلٌ على أنّ المراد به الحضور في البلد. ‏

‏ ‏

‏بين القضاء واليُسر ‏

{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْر و لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}. هذا بيانٌ للحكمة في تشريع القضاء على المسافر والمريض، وأنّ الله أراد من خلال ذلك بناء أمر الإنسان في ما يفعله وفي ما يتركه على أساس التّيسير؛ لأنّ الله قد أرسل نبيّه بالشّريعة السّهلة السّمحة. ‏

‏وقد حاول البعض أن يستفيدوا من هذه الفقرة من الآية أنّ الإفطار في السّفر رخصةٌ لا عزيمة‏(36)‏. ولكن لا دليل لهم في ذلك؛ لأنّه يمكن أن يكون اليُسر في إسقاط الصّوم عنهم، وإن كان ذلك إلزاميّاً. ‏

‏قاعدة نفي العسر والحرج ‏

‏وربّما يُستفاد من هذه الآية قاعدةٌ فقهيّةٌ حاكمةٌ على أدلّة الأحكام العامّة، وهي قاعدة اليسر، أو نفي العسر؛ فهي دالةٌ على أنّ الله يريد - في كلِّ تشريعاته - أن ييسِّر للنّاس حياتهم في ما يفعلون وفي ما يتركون، ما يوحي بأنّ كلّ حكمٍ يوقع النّاس في العسر فهو غير مجعولٍ في الشّريعة، حتّى لو كان الدّليل الدّالُّ عليه يدلُّ على ذلك بإطلاقه وعمومه. وهذا هو الأساس في فتاوى الفقهاء في انتقال الإنسان من حالةٍ في الصّلاة إلى حالةٍ أخرى، حيث يرفع الإلزام عن الحالة المستلزمة للمشقّة والعسر، كالقيام بالنِّسبة إلى الجلوس، والوضوء بالنِّسبة إلى التّيمُّم ونحو ذلك. ‏

{ولِتُكْمِلُوا الْعِدّة}، في صيام الأيّام الّتي فاتت المكلّف في شهر رمضان، ليكمل له بذلك الصِّيام الّذي فرضه عليه. {ولِتُكبِّرُوا اللّه على‏ ما هداكُمْ}. فسّره المفسِّرون بالتّكبيرات الّتي يكبِّرها المصلُّون في صلاة العيد. ولعلّ الظّاهر أنّها تعليلٌ للتّشريع العباديِّ في الصّوم الّذي يوحي بالتّذلُّل، والخضوع، والانقياد، والوعي الرُّوحيِّ للرُّبوبيّة الشّاملة والألوهيّة العظيمة في موقع العظمة والكبرياء، وعلى هدايته لدينه الّذي به يعرف ربّه في توحيده، وقدرته، وكلّ مواقع العظمة عنده، ليحسّ الإنسان بأنّ الله هو كلُّ شي‏ءٍ في وجوده وفي حركته، ولا شي‏ء لأيِّ مخلوقٍ إلاّ من خلاله؛ فهو الّذي يمنحهم القوّة والعظمة والغنى والسّعة في حياتهم، ولا يملكون، في ذواتهم، نفعاً ولا ضرّاً. وهذا ما يجعل المؤمن واعياً لمقام ربِّه، ومنفتحاً على مسؤوليّته في توحيده في العبادة والطّاعة، فيكبِّر الله على ذلك كلِّه، في روحه وعقله وشعوره ولسانه وعمله. ‏

{ولعلّكُمْ تشْكُرُون}، على ما رزقكم الله من الفرصة في طاعته وفي القيام بما يصلح أمر دينكم ودنياكم، فإنّ ذلك من النِّعم الّتي تستحقُّ الشُّكر، وأيُّ نعمةٍ أفضل من النِّعمة الّتي تهيِّئ للإنسان سعادة الدّارين؟ ‏


‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏(1) ‏‏انظر: الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 291.‏

‏(2) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان في تفسير القرآن، ط 1، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1409 هـ-، ج 2، ص 115. ‏

‏(3) ‏‏مجموعةٌ من المؤلِّفين، قاموس الكتاب المقدّس، تقديم د. فيليب حتِّي، مكتبة المشعل الإنجيليّة، بيروت - لبنان، (د ت)، ج 2، ص 562 - 563.‏

‏(4) ‏‏العهد القديم، سفر التّثنية، الأصحاح 9، الفقرة 9.‏

‏(5) ‏‏إنجيل متّى، الأصحاح 4، الفقرة 1 - 2.‏

‏(6) ‏‏إنجيل لوقا، الأصحاح 5، الفقرة 33 - 35. ‏

‏(7) ‏‏قاموس الكتاب المقدّس، م. ن، ص 563. ‏

‏(8) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، الأمالي، تحقيق قسم الدِّراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة، ط 1، دار الثّقافة، قم - إيران، 1414 هـ-، ص 166، ح 277.‏

‏(9) ‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 9. ‏

‏(10) ‏‏الزُّحيلي، د. وهبة، الفقه الإسلاميُّ وأدلّته، دار الفكر، دمشق - سوريا، 1427 هـ-، ج 2، ص 1342 - 1344.‏

‏(11) ‏‏راجع: الحرُّ العاملي، وسائل الشِّيعة، م. س، ج 8، ص 451 - 463، باب (1) و (2) من أبواب صلاة المسافر. ‏

‏(12) ‏‏رُوي عن عمر بن الخطّاب أنّه «أمر رجلاً صام في السّفر أن يعيد صومه. وروى يوسف بن الحكم قال: سألت ابن عمر عن الصّوم في السّفر، فقال: أرأيت لو تصدّقت على رجلٍ صدقةً فردّها عليك، ألا تغضب! فإنّها صدقةٌ من الله تصدّق بها عليكم. وروى عبد الرّحمن بن عوف قال: قال رسول الله: الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر. وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: الإفطار في السّفر عزيمةٌ». انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 10.‏

‏(13) ‏‏قال الشّيخ الطّبرسي في: م. ن: «وروى أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: الصّائم في شهر رمضان في السّفر كالمفطر فيه في الحضر. وعنه عليه السلام قال: لو أنّ رجلاً مات صائماً في السّفر لما صلّيت عليه، وعنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من سافر أفطر وقصّر، إلاّ أن يكون رجلاً سفره إلى صيد أو في معصية الله». وروى العيّاشيُّ في: تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 81، ح 190، «عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يصوم في السّفر تطوُّعاً ولا فريضةً، يكذبون على رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم ، نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بكراع الغميم عند صلاة الفجر (الهجير)، فدعا رسول‏الله صلى الله عليه و آله و سلم بإناءٍ فشرب وأمر النّاس أن يفطروا، فقال قومٌ: قد توجّه النّهار، ولو صمنا يومنا هذا! فسمّاهم رسول الله: العصاة، فلم يزالوا يُسمّون بذلك الاسم حتّى قبض رسول الله».‏

‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏(14) ‏‏انظر مثلاً: الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 210. ‏

‏(15) ‏‏العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 78، ح 176.‏

‏(16) ‏‏الجصّاص، أحكام القرآن، م. س، ج 1، ص 215 - 216.‏

‏(17) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 4، ص 238، ح 698.‏

‏(18) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 13. ‏

‏(19) ‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 14.‏

‏(20) ‏‏العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص‏80، ح 184.‏

‏(21) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 16 - 18.‏

‏(22) ‏‏انظر: القمِّي، تفسير القمِّي، م. س، ج 1، ص 273، وج 2، ص 195. بلفظ: «أنتظر أمر الله». الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 2، ص 297.‏

‏(23) ‏‏الزُّبيديُّ، السّيِّد محمّد مرتضى الحسيني (ت 1205 هـ-)، تاج العروس من جواهر القاموس، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1994 م - 1414 هـ-، ج 15، ص 728. ‏

‏(24) ‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 16. ‏

‏(25) ‏‏مثل ما روي عن أبي هريرة: قال: «من صام يوم سبعة وعشرين من رجب كُتب له صيام ستِّين شهراً، وهو اليوم الّذي نزل فيه جبريل على النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم بالرِّسالة أوّل يومٍ هبط فيه». انظر: الخطيب البغدادي، أبوبكر أحمدبن علي (ت 463 هـ-)، تاريخ بغداد، ط 1، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1417 هـ- - 1997 م، ج 8، 284. ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك، ط 1، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت- لبنان، 1412هـ- 1992 م، ج 2، ص 349.‏

‏(26) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 4، ص 305، ح 922.‏

‏(27) ‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 149، ح 2.‏

‏(28) ‏‏م. ن، ص 148، ح 1. ‏

‏(29) ‏‏راجع: الحرُّ العاملي، وسائل الشِّيعة، م. س، ج 10، ص 447 - 449، باب (15) استحباب صوم النِّصف من رجب ويوم المبعث. ‏

‏(30) ‏‏السّيوطي، جلال الدِّين عبد الرّحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ-)، الدُّرُّ المنثور في التّفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت - لبنان، (لا ت)، ج 6، ص 368. ‏

‏(31) ‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 10، ص 174‏

‏(32) ‏‏انظر: الجصّاص، أحكام القرآن، م. س، ج 1، ص 229. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 2، ص‏123.‏

‏(33) ‏‏الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 4، ص 161، ح 454. وانظره أيضاً في: البخاري، الجامع الصّحيح، م. س، ج 2، ص 229.‏

‏(34) ‏‏العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 81، ح 187.‏

‏(35) ‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 16. ‏

‏(36) ‏‏انظر: الجصّاص، أحكام القرآن، م. س، ج 1، ص 259.‏

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية