تفسير
26/01/2024

s-2-a-178-179

s-2-a-178-179

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{كُتِب}: فُرِض، وأصل الكتابة: الخطُّ الدّال على معنًى، فسُمِّي به ما دلّ على الفرض، قال الشّاعر: ‏

‏كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذُّيول‏(1)

{الْقِصاصُ}: «يُقال: قصّ أثره، أي: تلاه شيئاً بعد شي‏ءٍ، ومنه: القصاص؛ لأنّه يتلو أصل الجناية ويتبعه. وقيل: هو أن يفعل بالثّاني مثل ما فعله هو بالأوّل مع مراعاة المماثلة، ومنه أُخذ القصص، كأنّه يتّبع آثارهم شيئاً بعد شي‏ءٍ»‏(2)‏. ‏

{الْحُرُّ}: نقيض العبد، والحرُّ من كلِّ شي‏ءٍ أكْرمُهُ. ‏

{عُفِي}: «العفو: التّرك. وعفت الدّار أي: تُركت حتّى درست. والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها. وقيل: معنى العفو - ها هنا -: ترك القود بقبول الدِّية من أخيه»‏(3)‏. ‏

{أخِيهِ}: جمع الأخ: «الأخوة إذا كانوا لأب، وإخوان إذا لم يكونوا لأب»‏(4)‏. ‏

{وأداءٌ}: التّأدية: تبليغ الغاية. ‏

‏ القصاص علاج الجريمة الحاسم ‏

‏في هذا الفصل من القرآن، نلتقي بالجوِّ التّشريعيِّ الّذي بدأه القرآن في هذه السُّورة ليُشرِّع للنّاس الأحكام الّتي تتّصل بحياتهم العامّة في الواقع الجنائيِّ، وفي واقع العلاقات المتنوِّعة الّتي تحكم تصرُّفاتهم تجاه أنفسهم، وتجاه ربِّهم، وتجاه غيرهم من الّذين يرتبطون بهم في الحياة. ‏

‏فمن هذه الأحكام، حكم القصاص الّذي تعرّضت له هاتان الآيتان في موضوع جناية القتل الّتي تُعتبر من الجرائم الكبيرة في حياة النّاس؛ لأنّها تمثِّل الاعتداء على الحياة، وبذلك كانت تشكِّل خطراً عظيماً على مسار الوجود الإنسانيِّ، ما جعل من قضيّة معالجتها ومواجهتها قضيّةً حيويّةً في مجالات النّظرة الواقعيّة للمشكلة في إطار التّشريع، ليمكن من خلالها المحافظة على سلامة الفرد والمجتمع. فكان القصاص هو العلاج الحاسم للجريمة من وجهة النّظر الإسلاميّة، كحقٍّ يملكه وليُّ المقتول، فله أن يقتل القاتل جزاءً على جريمته، وله أن يعفو عنه في مقابل الدِّية الّتي يدفعها إلى أولياء المقتول، وله أن يعفو عنه من دون مقابل. ‏

‏التّماثل في القصاص ‏

‏الظُّهور الأوّليُّ للآية هو لزوم التّماثل في القصاص، وأنّ القصاص إنّما يجب إذا كان القاتل والمقتول متساويين في الحرِّيّة والعبوديّة، والذُّكورة والأنوثة. ومقتضى ثبوت هذا المعنى أنّه لو قتل الحرُّ العبد لم يُقتل به، ولو قتل الرّجلُ امرأةً لم يُقتل بها. ‏

‏وعليه، تكون قضيّة المماثلة مرتكزةً على أنّ النّاس تختلف أوضاعهم القانونيّة تبعاً لاختلاف صفاتهم الجسديّة أو المعنويّة، وهذا ما يفرض الاختلاف في تقييم العقوبة، وإلاّ كانت القضيّة تمثِّل إلغاءً للاختلاف في الوضع التّشريعيِّ القانونيِّ. ‏

‏وقد أُشكل على هذا المعنى بإشكالات: ‏

‏ الإشكال الأوّل: المنافاة بينه وبين ما ورد في سورة المائدة، من قوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أنّ النّفْس بِالنّفْسِ}[المائدة: 45] الدّالِّ بإطلاقه أنّ كلّ نفسٍ مقتولةٌ قصاصاً بأيِّ نفسٍ، سواءً تماثلا في الحرِّيّة والعبوديّة أو تخالفا، وكذلك بالنِّسبة للذُّكورة والأُنوثة. ‏

‏وقد أُجيب عن ذلك بعدّة إجابات: ‏

‏ الأولى: إنّ قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ و الْعبْدُ بِالْعبْدِ و الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏}منسوخٌ بقوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أنّ النّفْس بِالنّفْسِ}[المائدة: 45]، وعليه فيُحلُّ التّعارض‏‏(5)‏. ‏

‏ولكن قد يُقال: إنّ النّسخ لا بُدّ أن يثبت بدليل، فلو لم يثبت، فأصالة عدم النّسخ تكون هي الجارية في المقام. وعليه، فلو أمكن الجمع في دلالة الآيتين بوجهٍ مقبولٍ، فإنّه لا مبرِّر للقول بالنّسخ حينئذٍ، مع عدم الدّليل عليه. نعم، لو انحصر رفع الإشكال بالنّسخ أمكن القول به، واعتُبر ذلك دليلاً عندئذٍ. ‏

‏على أنّ القول بالنّسخ - هنا - يرتكز على أن تكون الآية واردةً في مقام بيان الحُكم مطلقاً، أي بما يشمل اختلاف النّوع بالنِّسبة إلى القاتل والمقتول، فاضطرّ الّذين ذهبوا إلى القول بالنّسخ أن يلتمسوا ما يرفع الإشكال، بعد أن ثبت، من خلال السُّنّة، أنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد مثلاً. وسيأتي الكلام حول دلالة الآية في ما يأتي. ‏

‏ الثّانية: إنّ {أنّ النّفْس بِالنّفْسِ}حكايةُ ما كان واجباً ومكتوباً في التّوراة، حيث صُدِّر ذلك بقوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها}أي: في التّوراة، وليس معلوماً ثبوته في شريعة الإسلام‏‏(6)‏. ‏

‏ولكنّ هذا الوجه محلُّ نقاشٍ، وذلك لعدّة أمور: ‏

‏ أ - إنّ الآية مذيّلةٌ بقوله تعالى: {ومنْ لمْ يحْكُمْ بِما أنْزل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون}، ما يوحي بأنّ هذا الحُكم هو كذلك في شرعنا أيضاً. ‏

‏ ب - ما قاله تعالى في الآية السّابقة: {وكيْف يُحكِّمُونك و عِنْدهُمُ التّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ}[المائدة: 43]؛ فإنّ الإطلاق في قوله: {فِيها حُكْمُ اللّهِ}قد يفيد استمرار الحُكم في شرعنا أيضاً. ‏

‏ ج - التّعقيب بقوله: {وأنْزلْنا إِليْك الْكِتاب بِالْحقِّ مُصدِّقاً لِما بيْن يديْهِ مِن الْكِتابِ و مُهيْمِناً عليْهِ فاحْكُمْ بيْنهُمْ بِما أنْزل اللّهُ}[المائدة: 48]؛ فإنّ تصديق القرآن للكتب السّابقة قد يُستفاد منه أنّ الأصل إقرار ما ورد فيها، وإلاّ فلا بُدّ أن يقيم دليلاً على العكس. ‏

‏ الثّالثة: التّخصيص؛ فإنّ آية البقرة خاصّةٌ، وآية المائدة عامّةٌ لكلِّ نفسٍ، فتُخصّص هذه بتلك، والتّخصيص إذا أمكن فهو أولى من النّسخ. وقد ذهب السّيِّد الخوئيُّ رحمه الله إلى هذا الوجه، وقال ما نصُّه: «والحقُّ: إنّ الآية الأولى»، أي: آية البقرة، «محكمةٌ ولم يرد عليها ناسخٌ؛ والوجه في ذلك أنّ الآية الثّانية مطلقةٌ من حيث العبد، والحرُّ، والذّكر، والأنثى؛ فلا صراحة لها في حكم العبد، وحكم الأنثى. وعلى كلٍّ، فإن لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصيّة القاتل والمقتول، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط، على ما هو مفاد قوله تعالى: {فمنِ اِعْتدى‏ عليْكُمْ فاعْتدُوا عليْهِ بِمِثْلِ ما اِعْتدى‏ عليْكُمْ}[البقرة: 194]، ‏

‏كانت مهملةً ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخةً للآية الأولى. وإن كانت في مقام البيان من هذه النّاحية، وكانت ظاهرةً في الإطلاق وظاهرةً في ثبوت الحكم في هذه الأُمّة أيضاً، ولم تكن للإخبار عن ثبوت ذلك في التّوراة فقط، كانت الآية الأولى مقيِّدةً لإطلاقها، وقرينةً على بيان المراد منها؛ فإنّ المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخاً للمقيّد وإن كان متأخِّراً عنه، بل يكون المقيّد قرينةً على التّصرُّف في ظهور المطلق، على ما هو الحال في المقيِّد المتأخِّر. وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحرِّ بالعبد»‏(7)‏. ‏

‏تدقيقٌ أصوليٌّ في تأخُّر العامِّ على الخاصِّ ‏

‏ونلاحظ على ما ذكره السّيِّد الخوئيُّ رحمه الله من أنّ «المُطلق لا يصلح لأن يكون ناسخاً للمقيّد وإن كان متأخِّراً عنه»: أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من باب اعتبار العقلاء - في محاوراتهم - المقيّد قرينةً على المراد من الكلام المطلق، ويقولون إنّ شأن المشرِّع أن يُلقي العامّ إلى النّاس ثمّ يُتبعه بالخاصِّ، فيُفهم أنّ العموم ليس مُراداً بمقدار ما يدلُّ الخاصُّ على نفيه. ولا يخفى أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ فإنّه مع تأخُّر المُطلق أو العامِّ على المقيّد أو الخاصِّ زماناً، لا يُجعل الكلام الأوّل - في نظر العقلاء - قرينةً على المُراد من الثّاني الأعمِّ، بل يفهمون عدول المتكلِّم عن كلامه الأوّل إلى الإطلاق أو العموم، ما لم ينصب قرينةً تُرجع السّامع إلى الأوّل، ولا سيّما مع تطاول الأمد الزّمنيِّ بين الكلامين، حيث قد يغيب الكلام الأوّل عن ذهن السّامع، فيحتاج إلى التّذكير به لو كان مُراداً. ‏

‏ولا يبعد أنّ العُرف يفهم من تأخُّر العامِّ عن الخاصِّ أنّ الخاصّ هو من مصاديق العامِّ، فتكون دلالته من ضمن دلالة العامِّ، وبالتّالي يكون المقصود، في المقام، أنّ الحُرّ يُقتل بالحرِّ بلحاظ {النّفْس بِالنّفْسِ}، وكذلك العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، وتكون الآية ساكتةً عن حُكم المخالفة. ‏

‏ الإشكال الثّاني: ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، من قوله: «المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم»‏(8)

‏وأجاب عنها السّيِّد الخوئيُّ رحمه الله بأنّها «على تقدير تسليمها، مخصّصةٌ بالآية؛ فإنّ دلالة الرِّواية على جواز قتل الحرِّ بالعبد إنّما هي بالعموم. ومن البيِّن أنّ حجيّة العامِّ موقوفةٌ على عدم ورود المخصِّص عليه، المتقدِّم منه والمتأخِّر»‏(9)‏. ‏

‏ الإشكال الثّالث: ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بطريق الحسن عن سمرة: «من قتل عبده قتلناه به»‏(10)‏. ‏

‏وأجاب عنه السّيِّد الخوئيُ‏‏(11)‏ - مضافاً إلى ضعف سند الحديث - بأنّه معارضٌ بما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أنّ رجلاً قتل عبده متعمِّداً، فجلده النّبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم ونفاه سنةً، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده منه‏‏(12)‏. وبما رواه ابن عبّاس، عن النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، وبما رواه جابر عن عامر عن عليٍّ عليه السلام أنّه لا يُقتل حرٌّ بعبدٍ. وبما رواه عمروبن شعيب عن أبيه عن جدِّه، أنّ أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحرّ بقتل العبد‏(13)‏. ‏

‏ الإشكال الرّابع: ورود بعض الرِّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تؤيِّد حصر القصاص بحالة المماثلة في الحرِّيّة والعبوديّة. من ذلك ما رُوي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام ، في آية البقرة: «لا يُقتل حرٌّ بعبدٍ، ولكن يُضرب ضرباً شديداً، ويغرم دية العبد. وإن قتل رجلٌ امرأةً فأراد أولياء المقتول أن يقتلوا أدُّوا نصف ديته إلى أهلالرّجل»‏(14)‏. وأهل البيت عليهم السلام ، هم الأعلم بالقرآن، فينبغي تفسير الآية بحصر القصاص بصورة المماثلة، فلا يُقتل الحُرُّ بالعبد، ولا الرّجل بالأنثى‏(15)‏. ‏

‏إلاّ أنّك خبيرٌ بأنّ ما ورد عنهم عليهم السلام أثبت أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة‏(16)‏. نعم، ورد أنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد. ‏

‏ولا يبعد أن يُقال: إنّ الآية الكريمة ليست منسوخةً؛ لأنّه لا دليل على النّسخ. كما لا ينحصر حلُّ ما أُشكل به بالقول به. كما أنّه لا مُساعد على حمل المُطلق - وهو آية المائدة - على المقيّد - وهو آية البقرة -؛ فإنّ القول بالتّقييد -هنا- ليس عُرفيّاً. وعليه، فمن القريب أنّ الآية تُبيِّن الحكم في النّوع، بمعنى أنّها تُبيِّن حكم الحرِّ لو قتل حُرّاً، والعبد لو قتل عبداً، والأنثى لو قتلت أنثى، أو - بتعبيرٍ آخر - تُبيِّن أنّ القاتل يُقتل، في مقابل غير القاتل. فليس هناك أيّة منافاةٍ بين هذه الآية وبين آية المائدة. ‏

‏وممّا يؤكِّد عدم تعرُّض الآية للحُكم مع اختلاف النّوع، هو ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام ، من أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة، ما يُعتبر قرينةً على عدم إرادة بيان الحُكم في ما لو تخالف النّوع بين القاتل والمقتول. نعم، غاية الأمر في قتل الرّجل بالمرأة، هو وجوب دفع نصف ديته، ووجوب دفع نصف الدِّية هو حكمٌ خاصٌّ مُرتبطٌ بنظام التّفاضل الماليِّ العامِّ في الإسلام؛ حيث إنّ المرأة - من النّاحية الماليّة- هي نصف الرّجل، كما ثبت في باب الإرث. ‏

‏أمّا أنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد، فقد يكون مرتبطاً بأحكام العبيد في الإسلام، فهو حكمٌ خاصٌّ غير مستفادٍ من الآية. ‏

‏وممّا قد يؤيِّد الّذي ذهبنا إليه، ما ورد عن الشُّعبيِّ، أنّها «نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية، فقالوا: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبفلانة فلان ابن فلان، فأنزل الله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ و الْعبْدُ بِالْعبْدِ و الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏}»‏(17)‏. ‏

‏وما عن قتادة، قوله: «كان أهل الجاهليّة فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشّيطان، فكان الحيُّ إذا كان فيهم عدّةٌ ومنعةٌ، فقتل عبدُ قومٍ آخرين عبداً لهم، قالوا: لا نقتل به إلاّ حرّاً؛ تعزُّزاً لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قُتلت لهم امرأةٌ قتلتها امرأةُ قومٍ آخرين، قالوا: لا نقتل بها إلاّ رجلاً، فأنزل الله هذه الآية، يُخبرهم أنّ العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي»‏(18)‏. ‏

‏وعن قتادة - أيضاً - أنّه قال في الآية: «لم يكن لمن قبلنا دية، إنّما هو القتل أو العفو إلى أهله، فنزلت هذه الآية في قومٍ كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قُتل من الحيِّ الكثير عبدٌ، قالوا: لا نقتل به إلاّ حرّاً، وإذا قُتلت منهم امرأةٌ قالوا: لا نقتل بها إلاّ رجلاً...»‏(19)‏. ‏

‏وأخيراً، قد يثور أمامنا أنّ اعتبار التّفاوت في القصاص بين الأنواع المذكورة في الآية، منافٍ لقوله تعالى: {ولكُمْ فِي الْقِصاصِ حياةٌ يا أُولِي الْألْبابِ}؛ فإنّ عدم الاقتصاص في ما لو كان القاتل للمرأة رجلاً، أو كان القاتل للعبد حُرّاً، ينافي حكمة القصاص؛ من حيث قد يكون ذلك مؤدِّياً إلى انتشار الفساد في العباد والبلاد. ‏

‏على أنّ هذه المنافاة - لو تمّت - فإنّه ينبغي عندئذٍ التّأمُّل مليّاً؛ لجهة ورود تلك الأحاديث الّتي تنفي قتل الحُرِّ بالعبد ومخالفتها للكتاب. وعلى الأقلِّ، ينبغي عدم الأخذ بإطلاقها لصورة ترتُّب مفاسد كبيرةٍ على عدم القتل، بما تنتفي معه حكمة التّشريع، بل يناقضها. والله تعالى أعلم. ‏

‏وبناءً على ما قدّمناه، فلا يأتي الإشكال الّذي ينسب إلى التّشريع الإسلاميِّ الطّبقيّة في مسألة القصاص؛ لأنّ هذا ليس وارداً في حساب الآية؛ فإنّ أقصى ما هناك أنّ خصوصيّاتٍ روعيت في حالاتٍ خاصّةٍ مرتبطةٍ بطبيعة نظام العبيد والإماء، أو بالنِّظام الماليِّ في قضيّة الدِّية، ولذلك، يُقتل الغنيُّ بالفقير، والشّريفُ يُقتل بالحقير، والقويُّ يُقتلُ بالضّعيف. ‏

‏يبقى أن نُشير إلى أنّ مسألة التّماثل الظّاهرة بدواً من الآية لم يُلتزم بها في الفقه الإسلاميِّ، فقد نُقل الخلاف بين المُسلمين، «فقال مالك والشّافعيُّ وابن حنبل: إنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد. وقال أبو حنيفة: بل يُقتل الحُرُّ بعبد غيره، ولا يُقتل بعبده. واتّفق الأربعة على أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة وبالعكس. وقال الإماميّة: إذا قتل الحُرُّ عبداً لا يُقتل به، بل يُضرب ضرباً شديداً ويُغرم دية العبد، وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان وليُّ المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدِّية، إن رضيت هي، وبين أن يقتلها، فإن اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئاً. وإذا قتل الرّجل امرأةً كان وليُّها بالخيار بين أن يأخذ الدِّية إن رضي القاتل، وبين أن يقتله الولي، على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرّجل 500 دينار»‏(20)‏. ‏

‏ إمكان العفو ‏

‏إنّ الآية تؤكِّد إفساح المجال للعفو عن القاتل من قبل وليِّ المقتول، وتعتبر العفو مُلزماً له في نطاق العلاقة المرتكزة على المعروف والوفاء بالحقِّ الّذي يتمثِّل بالدِّية، ليؤدّى إليه بإحسان، فلا يجوز له العودة إلى المطالبة بحقِّه بالقصاص؛ لأنّ الحقّ قد سقط بالعفو فلا يرجع من جديد، فإذا عاد وليُّ القتيل للانتقام فإنّه يُعتبر قاتلاً معتدياً، ويستحقُّ العذاب الأليم في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏وتشير الآية الكريمة إلى أنّ تشريع العفو في موقع تشريع القصاص، تخفيفٌ من الله لعباده، ورحمةٌ بهم؛ حيث لم يحصر التّشريع في زاويةٍ ضيِّقةٍ لا يملك الإنسان معها أمر التّحرُّك بمرونةٍ، في ما قد تفرضه طبيعة النّفس أو إدارة العلاقات فيما بين النّاس. ‏

‏الآيات في سياقها التّفسيريِّ ‏

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا كُتِب عليْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ و الْعبْدُ بِالْعبْدِ و الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏}، فقد فرضه الله عليكم قانوناً يحفظ لكم قوّة احترام حياتكم؛ ليخلِّصكم من شريعة الغاب الّتي تتحوّل الحياة معها إلى فوضى لا يأمن الإنسان فيها على حياته، أو يعيش النّاس بعيداً عن الضّوابط القانونيّة في شريعة الأخذ بالثّأر الّتي قد يقتل فيها أولياء المقتول عدداً كبيراً من النّاس، ولا سيّما إذا كان المقتول شريفاً في الموقع الاجتماعيِّ، وكان القاتل وضيعاً، حيث لا يرضى الأولياء بأن يكون القاتل بدلاً من القتيل، وربّما أدّى الواقع غير المتوازن إلى حروبٍ طاحنةٍ بين القبائل يسقط فيها الكثير من القتلى؛ الأمر الّذي يجعل إيجابيّات هذا التّشريع أكثر من سلبيّاته، بينما تكون السّلبيّات في إهماله وإلغائه كبيرةً جدّاً، فلا تمثِّل الإيجابيِّات أمامها شيئاً. ‏

‏ولا بُدّ في القتل الّذي يستوجب القصاص من أن يكون عمداً بحيث يُقْدِمُ القاتل عليه قاصداً له، سواءً كان قاصداً للفعل القاتل والقتل، أو كان قاصداً للفعل القاتل وإن لم يقصد القتل بعنوانه، كمن طعن إنساناً في قلبه، ولكنّه لم يقصد قتله، فإنّ طبيعة السّبب القطعيِّ للموت تمثِّل قصداً للقتل بشكلٍ ذاتيٍّ، من خلال ما يختزنه الفعل في علاقة السّبب بالمسبّب. ‏

{فمنْ عُفِي لهُ}‎ ‎‏أي: للقاتل، {مِنْ أخِيهِ}، قيل: إنّ المقصود منه القتيل؛ بحيث يكون المراد: فمن عُفي له من قِبل أخيه المقتول؛ فإنّ وليّ الدّم عندما يعفو فكأنّ المقتول قد عفا. ‏

‏وقيل: المراد بالأخ: العافي، الّذي هو وليُّ الدّم، سمّاه الله أخاً للقاتل؛ ليُشفق عليه، بأن يقبل الدِّية أو يعفو بالكلِّيّة، أو لا يقتله على طريق المشقّة، ولا يبغضه‏‏(21)‏. ‏

‏وعلى كلِّ حال، يدلُّ استعمال القرآن للفظ «الأخ» على أنّ القتل لا يُخرج القاتل عن أُخوّة الإيمان. وقد يُقال - بناءً على إرجاع الضّمير إلى المقتول - بأنّ التّعبير عن المقتول بالأخ يختزن الإيحاء التّربويّ للقاتل أخاه ظُلماً وعدواناً، أنّ المقتول لم ينزع عن نفسه صفة الأخوّة الإيمانيّة الّتي نزعها القاتل عن نفسه، على طريقة ما قصّه الله من أمر ابني آدم، {إِذْ قرّبا قُرْباناً فتُقُبِّل مِنْ أحدِهِما و لمْ يُتقبّلْ مِن الْآخرِ قال لأقْتُلنّك قال إِنّما يتقبّلُ اللّهُ مِن الْمُتّقِين * `لئِنْ بسطْت إِليّ يدك لِتقْتُلنِي ما أنا بِباسِطٍ يدِي إِليْك لِأقْتُلك}[المائدة: 27 - 28]. ‏

‏والّذي نستقربه أن يكون المراد من الأخ - هنا - هو صاحب الحقِّ، الّذي له القتل أو العفو. ‏

{شيْ‏ءٌ}. قال في (مجمع البيان): «وقوله: شي‏ءٌ، دليلٌ على أنّ بعض الأولياء إذا عفى سقط القود؛ لأنّ شيئاً من الدّم قد بطل بعفو البعض»‏(22)‏. ‏

‏وعلّق عليه الأردبيليُّ في (زبدة البيان) فقال: «وأنت تعلم أنّ عفو بعض الورثة لا يُسقط القود الثّابت لباقي الورثة، على ما هو في كتب الأصحاب، وادّعى الإجماع عليه الشّهيد الثّاني في شرح الشّرايع، ولا دلالة في الآية عليه؛ إذ معناها - الله يعلم -: أن ليس من العافي إلاّ الاتِّباع، ومن المعفوِّ له إلاّ الأداء بالإحسان، ولا يُفهم منه حكم غير العافي، فما كان له باقٍ غيرُ ساقط، وهو ظاهرٌ». ثمّ عاد فأكّد في آخر كلامه أنّ هذا الوجه «غير منطبقٍ على كلام الأصحاب؛ إذ المشهور عندهم جواز القود للبعض مع رضا البعض بالدِّية والعفو، فيؤدِّي حصص الباقين. نعم، نُقل في الإسقاط روايةٌ، والعمل بها والقائل غير معلومٍ. ويُحتمل أن يكون إشارةً إلى أنّ كلّ العفو وبعضه مساوٍ في الحكم، وهو اتِّباعٌ بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسانٍ»‏(23)‏. ‏

{فاتِّباعٌ بِالْمعْرُوفِ و أداءٌ إِليْهِ بِإِحْسانٍ}، وهذا هو السُّلوك البديل الّذي شجّع عليه القرآن بطريقة الإيحاء، وهو عفو صاحب الحقِّ عن حقِّه من موقع قدرته -من خلال التّشريع -، ليكون من باب العفو عند المقدرة؛ باعتبار أنّ القضيّة إذا انطلقت من اختيار أولياء الدّم فإنّها لا تُضعف الهدف، ولا تلغيه، على أساس انطلاقه من تأكيد المبدأ، في الوقت الّذي يمكن للعفو أن يحقِّق نتائج إيجابيّةً في المسألة الاجتماعيّة، وفي القيمة الأخلاقيّة الّتي ترتفع بصاحب الحقِّ إلى مستوى الإنسان الّذي يملك القوّة الرُّوحيّة في الانتصار على نوازعه الذّاتيّة أو العائليّة، فيتحرّك للانفتاح على القاتل من موقع المحبّة الإنسانيّة الّتي تتجاوز الجريمة لتتذكّر أخوّة هذا الإنسان من النّاحية الإيمانيّة، ممّا يوحي به التّعبير بكلمة {أخِيهِ}في الآية، لتكون النّتيجة عفواً من دون بدل، وهذه هي قمّة العطاء والسُّموِّ الرُّوحيِّ، أو المطالبة بالدِّية، وهي تمثِّل التّعبير عن هبة الحياة للقاتل بعد أن ملكها وليُّ الدّم في التّشريع، والاكتفاء بالتّعويض عمّا لحق بالخسارة من جهةٍ، وإيجاد بديلٍ واقعيٍّ يمتصُّ المشاعر السّلبيّة من جهةٍ أخرى، لينطلق الصُّلح من خلال الواقعيّة الذّاتيّة الإنسانيّة. ‏

‏وقد أراد الله لمن عليه الحقُّ، أن يؤدِّي الحقّ من دون مماطلةٍ ولا تعقيدٍ، ليتحسّس المعروف في العفو عنه، وينطلق الأداء بإحسانٍ. كما ينبغي لمن يملك الحقّ أن لا يُعسِر أخاه إذا كان قد اتّفق معه على الدِّية. وقد جاء هذا التّفسير في رواية (الكافي) عن الحلبيِّ عن الصّادق عليه السلام ، قال: «سألته عن قول الله عزّ وجلّ: {فمنْ عُفِي لهُ مِنْ أخِيهِ شيْ‏ءٌ فاتِّباعٌ بِالْمعْرُوفِ و أداءٌ إِليْهِ بِإِحْسانٍ}قال: ينبغي للّذي له الحقُّ أن لا يُعسِر أخاه إذا كان قد صالحه على ديةٍ، وينبغي للّذي عليه الحقُّ أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدِّي إليه بإحسان»‏(24)‏. ‏

{ذلِك تخْفِيفٌ مِنْ ربِّكُمْ}. والإشارةُ إلى تشريع العفو بدلاً من القصاص، فقد أراده الله تخفيفاً على النّاس، فلا ينغلقوا على الأخذ بحقِّهم في قتل القاتل بعيداً عن التّسامح والعفو اللّذين قد يفتحان للإنسان أكثر من نافذةٍ على الحلول الهادئة السِّلميّة الّتي تنزع عن النّفس كلّ المؤثِّرات السّلبيّة، في عمليّة احتواءٍ لكلِّ الآثار النّفسيّة المؤلمة، لتلتقي الأوضاع الاجتماعيّة على الطّريقة الحكيمة الّتي يتخفّف فيها الإنسان من ذاتيّات الألم والانتقام في شخصيّته. وذلك هو التّخفيف الإلهيُّ من حدّة الحلِّ الحاسم. {ورحْمةٌ}لهم، في هذا الأسلوب الرّحيم في العفو، واستبدال القتل بالتّعويض المادِّيِّ، والاكتفاء به عن العنف القاسي. ‏

{فمنِ اِعْتدى‏ بعْد ذلِك فلهُ عذابٌ ألِيمٌ}. ربّما كان ذلك حديثاً عمّا كان يفعله بعض أهل الجاهليّة في الانتقام من القاتل بقتله بعد العفو وأخذ الدِّية، حيث يجمعون بين التّعويض المادِّيِّ والقصاص الجسديِّ، كتعبيرٍ عن الثّأر المزدوج الّذي يؤكِّد عنفوان وليِّ الدّم وإخلاصه للقتيل ضدّ القاتل وأهله، ليكون ذلك انتقاماً منه ومن أهله، ما يحقِّق لهم شفاء الغيظ بأعمق المشاعر الدّاخليّة. وهذا يمثِّل حالةً من حالات الاعتداء على النّفس كما لو كان عدواناً ابتدائيّاً؛ لأنّ العفو الّذي يرتكز الصُّلح عليه مع الدِّية أو بدونها يمثِّل محو آثار الجريمة واعتبارها شيئاً لا امتداد له في المستقبل، في آثاره المضادّة على طريقة ردِّ الفعل، ما يجعل من هذا القتل عدواناً غير مسبوقٍ بشي‏ءٍ، فلوليِّ الدّم قتله قصاصاً، أو العفو مع الدِّية أو بدونها. ‏

{ولكُمْ}‎ ‎‏أيُّها النّاس، {فِي الْقِصاصِ}، الّذي يجتثُّ جذور الجريمة من عمق النّفس المفجوعة في الحالة الشُّعوريّة الّتي تتطلّب الثّأر وتستسقي الدّم، لتقتصر على التّنفيس عن مشاعرها بقتل القاتل وعدم تجاوزه إلى غيره، وليكون ذلك عمليّة ردعٍ لكلِّ من تُسوِّل له نفسه أن يقوم بجريمةٍ جديدةٍ ضدّ إنسانٍ جديدٍ عندما يجد أنّ التّشريع يفسح في المجال لوليِّ الدّم أن يقتصّ منه، وليحمي المقتصّ من أيِّ أثرٍ سلبيٍّ. ‏

‏وهذه هي الوسيلة المثلى للسّيطرة على الجريمة المستقبلة الّتي يختزنها الواقع الاجتماعيُّ في تعقيداته الفرديّة والاجتماعيّة بشكلٍ جنينيٍّ، من دون أن يكون المال أو السِّجن كافياً في تحقيق ذلك. ‏

{حياةٌ}، من خلال حصول الحياة على رصيدٍ كبير في المستقبل الإنسانيِّ؛ حيث يغلق على الموت العدوانيِّ أبواب النّوازع الذّاتيّة في حرِّيّة الحركة للعدوان، ما يفسح في المجال لامتداد الحياة بشكلٍ طبيعيٍّ، حتّى يكون قتل القاتل بمثابة المُنتج للحياة الّتي لولا ذلك لماتت وسقطت تحت تأثير الجريمة المرتقبة. إنّها العمليّة الجراحيّة الّتي تستأصل العضو الّذي يشكِّل الخطر على الحياة، لتمتدّ الحياة من خلاله، ولو ببعض النُّقصان في مفردات الواقع. ‏

{يا أُولِي الْألْبابِ لعلّكُمْ تتّقُون}، أي: يا ذوي العقول الّذين لا تفكِّرون بعواطفكم ومشاعركم، بل تفكِّرون بعقولكم الّتي تدفعكم إلى الدُّخول في عمليّة الموازنة والمقارنة بين المصالح والمفاسد في الجوانب السّلبيّة والإيجابيّة. ‏

‏ القصاص في الرِّسالات السّماويّة ‏

‏ولم يكن هذا الحكم بالقصاص، حكماً إسلاميّاً في خطِّ سير الدِّيانات، بل هو حكمٌ دينيٌّ تلتقي فيه كلُّ الدِّيانات. وقد جاء القرآن ليحدِّثنا في آياتٍ أخرى أنّ هذا التّشريع من أحكام التّوراة، وذلك في قوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أنّ النّفْس بِالنّفْسِ و الْعيْن بِالْعيْنِ و الْأنْف بِالْأنْفِ و الْأُذُن بِالْأُذُنِ و السِّنّ بِالسِّنِّ و الْجُرُوح قِصاصٌ فمنْ تصدّق بِهِ فهُو كفّارةٌ لهُ و منْ لمْ يحْكُمْ بِما أنْزل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون}[المائدة: 45]. ‏

‏وقد أعطى الفكرة حجمها الطّبيعيّ، في تعليقه على قصّة ابني آدم، قابيل وهابيل، في قوله تعالى: {مِنْ أجْلِ ذلِك كتبْنا على‏ بنِي إِسْرائِيل أنّهُ منْ قتل نفْساً بِغيْرِ نفْسٍ أوْ فسادٍ فِي الْأرْضِ فكأنّما قتل النّاس جمِيعاً و منْ أحْياها فكأنّما أحْيا النّاس جمِيعاً و لقدْ جاءتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبيِّناتِ ثُمّ إِنّ كثِيراً مِنْهُمْ بعْد ذلِك فِي الْأرْضِ لمُسْرِفُون}[المائدة: 32]؛ فقد نستوحي منها أنّ القاعدة الّتي تحكم التّشريع هي إبعاد الحياة عن مواقع الخطر، فلا مجال للتّلاعب بالحياة كمبدأ، وذلك بالمستوى الّذي يجعل الاعتداء على حياة الفرد اعتداءً على حياة النّاس كلِّهم؛ لأنّه يمثِّل الاعتداء على المبدأ، فلا فرق في قيمة الحياة وقدسيّتها بين فردٍ وآخر، كما أنّ الحفاظ على حياة الفرد يمثِّل في القيمة المحافظة على حياة النّاس جميعاً؛ لأنّه يمثِّل احترام الحياة كمبدأ، ما يؤدِّي إلى امتداده في حياة الآخرين. ‏

‏مفهوم التّسامح في التّشريع المسيحيِّ ‏

‏أمّا المسيحيّة فقد يُخيّلُ للبعض أنّها لا تعترف بالقصاص كمبدأ، بل إنّها شرّعت بدلاً منه العفو والتّسامح، فقد ورد عن السّيِّد المسيح عليه السلام أنّه قال: «من ضربك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً»‏(25)‏. وقد نقل بعض المفسِّرين أنّ النّصرانيّة قد فرضت الدِّية كفريضةٍ حتميّةٍ بدلاً من القصاص‏‏(26)‏. ‏

‏ولكنّ هذه النِّسبة غير دقيقةٍ في ما نظن؛ لأنّ الحديث عن التّسامح والعفو في المسيحيّة لم ينطلق ليكون قاعدةً وحيدةً في التّعامل الاجتماعيِّ مع الجريمة والمجرمين، بل انطلق من أجل أن يخفِّف الجوّ القانونيّ المادِّيّ الّذي سار عليه النّاس في ذلك العصر الّذي رافق إرسال السّيِّد المسيح، فاعتبرت العلاقات القائمة بين النّاس خاضعةً للعوامل الذّاتيّة الّتي لا تجد في السّاحة أيّ أساسٍ روحيٍّ للتّنازل عن الحقِّ؛ لأنّ المقاييس الرُّوحيّة لم تكن واردةً في حساب العلاقات الخاصّة والعامّة، كما حدّثنا القرآن في أكثر من حديثٍ عن واقع بني إسرائيل. فكانت شريعة التّسامح تحاول أن لا تجعل الإنسان ذاتيّاً في المطالبة بحقوقه، فلا تكون القيمة كلُّ القيمة أن يأخذ الإنسان بحقِّه، سواءٌ في ذلك الميزان الفرديُّ أو الاجتماعيُّ؛ بل تريد التّأكيد على أنّ القيمة الرُّوحيّة الكبرى هي أن يتنازل عن حقِّه، ليتحقّق للإنسان التّوازن الدّاخليُّ والعمليُّ بين أسلوب المطالبة بالحقِّ، من خلال كون الشّريعة مرتكزةً على أساس تشريع الحقِّ القانونيِّ، وبين أسلوب التّنفيذ للحقِّ، من خلال اعتبار التّسامح قيمةً روحيّةً في حساب علاقة الإنسان بالله والإنسان. ‏

‏ولا تختلف المسيحيّة في هذا عن الإسلام الّذي شرّع الحقوق في جميع المجالات الإنسانيّة للعلاقات العامّة والخاصّة، ولكنّه قرن ذلك بالدّعوة إلى التّسامح والعفو والصّبر، معتبراً ذلك خيراً وأقرب للتّقوى. ‏

‏نظرةٌ خاطئةٌ إلى اليهوديّة والمسيحيّة ‏

‏ومن هذا المنطلق نريد أن نشير في هذا الاتِّجاه إلى رفض التّحليل الّذي يتحدّث به بعض الكُتّاب الإسلاميِّين، عن اعتبار اليهوديّة قريبةً إلى المادِّيّة في التّشريع، في مقابل اعتبار النّصرانيّة قريبةً إلى الرُّوحيّة في المفهوم، ليخلص من ذلك إلى الحديث عن عظمة الإسلام؛ لأنّه حقّق التّوازن التّشريعيّ والمفهوميّ والعمليّ بين المادّة والرُّوح، فلم يمِلْ إلى أحدهما أكثر من الآخر، انطلاقاً من واقعيّة الإنسان الّذي كان كيانه مزيجاً من المادّة والرُّوح. ‏

‏إنّنا نرفض هذا الاتِّجاه التّحليليّ في تقييم الدِّيانات؛ لأنّنا نلاحظ في حديث القرآن عن الرِّسالات السّابقة أنّها تسير في خطٍّ واحدٍ من ملاحظة مصلحة الإنسان، وذلك من خلال التّركيز على علاقته بالله، الّتي تمثِّل الجانب الرُّوحيّ الّذي يلتقي في نطاقه بالإنسان في جانبه المادِّيِّ، فلا يبتعد أحدهما عن الآخر في قليلٍ أو في كثير. ‏

‏وقد نستفيد ذلك من الآية الكريمة الّتي يقدِّم الله إلينا فيها صورة عيسى بن مريم عليهما السلام في بيانه الّذي قدّمه إلى بني إسرائيل في بداية رسالته: {وإِذْ قال عِيسى اِبْنُ مرْيم يا بنِي إِسْرائِيل إِنِّي رسُولُ اللّهِ إِليْكُمْ مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و مُبشِّراً بِرسُولٍ يأْتِي مِنْ بعْدِي اِسْمُهُ أحْمدُ فلمّا جاءهُمْ بِالْبيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الصّف: 6]. وجاء في آيةٍ أخرى قوله تعالى: {ومُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ و جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ}[آل عمران: 50]؛ فإنّ هاتين الآيتين تؤكِّدان على أنّ النّصرانيّة لم تأت لتنسخ الخطّ العامّ الّذي ارتكزت عليه شريعة التّوراة، بل تحرّكت في اتِّجاه إقرارها بشكلٍ عامٍّ مع بعض الاستثناءات في جانب التّحليل والتّحريم ممّا اقتضاه التّطوُّر الزّمنيُّ لمواجهة المشاكل المستجدّة ممّا لم يعد التّشريع فيه عمليّاً في مستوى الحلِّ الواقعيِّ للأشياء. ‏

‏وقد نستطيع استيحاء الفكرة الّتي قرّرناها، في شموليّة هذا التّشريع لكلِّ الدِّيانات، من خلال الآية الكريمة الّتي أرادت أن تفلسف التّشريع بالتّأكيد على قيمة الحياة في جانبها السّلبيِّ والإيجابيِّ، فإنّ مثل ذلك لا يختصُّ بزمانٍ أو بمكانٍ، بل إنّه يشمل الحياة كلّها. فلا بُدّ منه في كلِّ موقف يُراد من خلاله تعميق الإحساس بقيمة الحياة في الجانب الفكريِّ والعمليِّ من حياة الإنسان. ‏

‏وفي ضوء ذلك لا نستطيع الموافقة على أنّ النّصرانيّة تكتفي بالدِّية فلا تتجاوزها إلى القصاص؛ لأنّ الدِّية لا تنسجم مع تقرير مبدأ احترام الحياة كحلٍّ للمشكلة، بل يمكن أن تكون - كما شرّعها الإسلام - بديلاً عن القصاص في مجالات العفو والتّسامح، لا بديلاً مطلقاً في كلِّ الأحوال. ‏

‏وقد يتحدّث البعض عن وجود هذا التّشريع في غير الدِّيانات من الشّرائع الّتي كانت مطروحةً لدى بعض الشُّعوب، كشريعة حمورابي وغيره. ولكنّنا لا نستبعد أنّ كثيراً من تلك الشّرائع كانت مستمدّةً من الرِّسالات السّماويّة الّتي حدّثنا القرآن أنّها كانت السّبّاقة في معالجة قضايا الإنسان ومشاكله العامّة والخاصّة. ‏

‏ فلسفة تشريع القصاص ‏

‏ونحن هنا، في حركة التّفسير، نريد دراسة التّشريع في الإطار الإسلاميِّ، من خلال امتداده في الحياة، هل هو من التّشريعات الصّالحة للحياة، مع التّطوُّرات الجديدة الّتي طرأت على أساليب العقوبات، وعلى تطوُّر الحياة في مواجهة العلاقات الاجتماعيّة والتّكوين الجديد للمجتمعات؟ أم أنّه من التّشريعات الّتي تجاوزها الزّمن فلم تعد صالحةً لمعالجة مشاكله المتنوِّعة المعقّدة؟ ‏

‏ربّما يحتاج الجواب إلى مزيدٍ من التّفصيل والتّبسيط في آنٍ، فنقول: ‏

‏لا بُدّ لنا عند دراسة أيِّ حكمٍ شرعيٍّ، من الانطلاق من نقطةٍ أساسيّةٍ، وهي أنّ التّشريعات الإسلاميّة لا تتحرّك من قاعدة القيم الّتي تعيش في السّماء بعيداً عن الأرض؛ لأنّ الإسلام ليس ديناً مثاليّاً يطرح القيم العليا والأهداف الكبيرة الّتي يتطلّع إليها النّاس وهم مسحورون بها، من دون أن يستطيعوا الاقتراب منها فضلاً عن الوصول إليها، تماماً كأيّة لوحةٍ فنِّيّةٍ لا يملُّ الإنسان من التّطلُّع إليها، والتّحديق فيها، في وقفةٍ جماليّةٍ رائعةٍ، بل هو دينٌ يتحرّك من قاعدة القيم الّتي تعيش في الأرض في ساحة الواقع الإنسانيِّ الّذي يتعامل مع الإنسان كبشرٍ يملك في داخله الكثير من الغرائز والشّهوات والعناصر المتضادّة، لا كملاكٍ يُحلِّق في أجواء الرُّوح المتحرِّكة في نطاق التّجريد والمجرّدات. إنّه يتعامل معه كبشرٍ، ليقرِّبه من أجواء الملاك، من دون أن يُفقِده خصائص بشريّته؛ ليبقى يعيش في الأرض حتّى وهو يتطلّع إلى السّماء. وإذا كانت الأرض ليست سماءً، وإذا كان الإنسان يعيش في الأرض، فلا بُدّ للتّشريع من أن يكون للأرض لا للسّماء. وبذلك لا بُدّ له من أن يتأثّر في طبيعة تكوينه من مراعاة النّوازع الأرضيّة في طبيعتها المادِّيّة، وملاحظة الأساليب الواقعيّة في الوصول بالإنسان إلى القيم الرُّوحيّة. ‏

‏والنّزعة الواقعيّة في طبيعة التّشريع وحركته، هي النُّقطة الّتي ينبغي لنا أن نواجهها في فهم التّشريع، هذه النّزعة الّتي تواجه الإنسان من موقع نقاط الضّعف ونقاط القوّة. ولا بُدّ لنا من أن نبدأ أوّلاً بتقديم الصُّورة التّوضيحيّة، وذلك بأن نتصوّر مجتمعاً لا قصاص فيه، فنجد القتلى تتساقط كنتيجةٍ لعقدةٍ أو نزوةٍ أو مزاجٍ أو خلافٍ طارئٍ، ويقف المجتمع جامداً أمام القاتلين، ليحمي لهم حياتهم، فلا يُمكِّن أحداً من الاعتداء على حياتهم، بل يكتفي المجتمع بالسّجن والغرامة وغير ذلك، كما تفعل بعض المجتمعات الأوروبيّة الّتي ألغت عقوبة الإعدام. إنّنا نريد أن نتصوّر هذا المجتمع، ونتصوّر إلى جانب ذلك، أنّ المجتمع يريد أن يضمن حياته وسلامته ونظامه، فهل يستطيع تحقيق هذا الضّمان بإلغاء عقوبة الإعدام أو بتثبيت هذه العقوبة وتأكيدها؟ ‏

‏إنّ الجواب - في نظرنا - هو في التّأكيد على النُّقطة الثّانية من السُّؤال، وهي اعتبار الإعدام للقاتل أساساً لمنع الجريمة، وذلك من دون حاجةٍ إلى فلسفةٍ فكريّةٍ مجرّدةٍ، بل يكفي، لأجل ذلك، القيام بعمليّة مسحٍ ميدانيٍّ للجريمة في حياة النّاس، وذلك من خلال القيام بعمليّةٍ استقرائيّةٍ لتبيُّن الأمر. ‏

‏من النّاحية الاستقرائيّة نلاحظ أنّ البلدان الّتي تطبِّق عقوبة الإعدام، تمنع الجريمة في مجتمعاتها بنسبةٍ كبيرةٍ جدّاً قد تقارب المئة في المئة، في الوقت الّذي قد تكون متخلِّفةً أو بدائيّةً في ثقافتها أو في نظامها، بينما نجد بلداناً أخرى بلغت الحدّ الأعلى من الحضارة والرُّقيِّ في المقياس العامِّ المعاصر، وشرّعت إلغاء عقوبة الإعدام، ومع ذلك لا تزال ترزح تحت عب‏ء الجرائم اليوميّة الّتي تتصاعد وتتنوّع باستمرار في دوافعها الذّاتيّة والاجتماعيّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة. وقد نلاحظ في هذا المجال: أنّ القضيّة قد تتطوّر إلى الحياة العامّة للمواطن من خلال اهتزاز حالة الأمن جرّاء نموِّ الجريمة الّتي تصاعدت كنتيجةٍ واقعيّةٍ لشعور المجرم بالأمن، فنجد الإنسان لا يستطيع التّجوُّل في بعض السّاعات في بعض البلدان المتحضِّرة إلاّ إذا كان مسلّحاً أو خاضعاً لحراسةٍ مشدّدةٍ، بينما نجده يشعر بالأمن المطلق في بلدانٍ متخلِّفةٍ تطبِّق عقوبة الإعدام بنسبةٍ جيِّدةٍ. ‏

‏إنّنا نضع أمامنا مجتمعاً متحضِّراً ومتقدِّماً في أرقى مجالات التّقدُّم المعاصرة، ومضموناً بكلِّ أنواع الضّمان الصِّحِّيِّ والاجتماعيِّ والثّقافيِّ وغير ذلك، ونضع إلى جانبه مجتمعاً متخلِّفاً بدائيّاً لا يملك الفرد فيه أيّ نوعٍ من أنواع الضّمان، ثمّ نجد الجريمة تتّسع في المجتمع الأوّل حتّى تصل إلى مستوى الكارثة، مع إلغاء عقوبة الإعدام، ونجدها تتقلّص في المجتمع الثّاني، وهي لا تصل إلى أيِّ مستوًى مهما كان متدنِّياً، على أساس تنفيذه لعقوبات الإعدام، فماذا يُفسِّر لنا ذلك؟ ‏

‏ التّوازن الدّاخليُّ للإنسان ‏

‏أمّا من النّاحية الفكريّة الّتي تنفذ إلى دراسة الإنسان من موقع إنسانيّته الواقعيّة، فنلاحظ: أنّ الإنسان ليس مخلوقاً على أساسٍ هندسيٍّ في عواطفه ومشاعره وأفكاره ونوازعه، كما هو الحيوان الأعجم الّذي خلق الله له غرائز منظّمةً بشكلٍ دقيقٍ لا يملك فيه أيّ لونٍ من ألوان الاختيار في أغلب الحالات، بل إنّ الإنسان مخلوقٌ على أساس ما لديه من غرائز وشهوات متحرِّكةٍ متنقِّلةٍ في أكثر من اتِّجاهٍ، بحيث يستطيع أن يوسِّعها ويُضيِّقها ويعمِّقها، ما يجعل منه مخلوقاً معقّداً في أغلب القضايا. فإذا كان الإنسان كذلك، فما الّذي يحتاجه لكي ينطلق في الحياة ويمارس عمليّة الانضباط في انطلاقته تلك؟ ‏

‏إنّنا نشعر بحاجته إلى عنصرين: هما العقل والإرادة، ولا بُدّ للعقل من العلم والتّجربة والمعاناة، ولا بُدّ للإرادة، الّتي تحوِّل الفكر إلى ممارسة، من تربيّةٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ. ومن الملحوظ أنّ المجتمع يحتاج إلى جهدٍ كبير في هذا السّبيل؛ لأنّ حركة الإرادة ترتبط بالحرمان الّذي يحتاج الفرد إلى أن يتحمّله، وتلتقي بالصُّعوبات الّتي يواجهها، وبالتّحدِّيات الّتي تواجهه، وبكثيرٍ من المشاكل الّتي تتجمّع في أجواء العمل، ما يسبِّب للإنسان الكثير من الجهد والمشقّة والتّعب. فلا بُدّ من التّربية الطّويلة المستمرّة الّتي تدفعه إلى أن يقف المواقف الصّعبة الّتي ترفضها نفسه، وذلك بالتّركيز على العامل الدّاخليِّ الّذي يوحي للذّات بالمفهوم في نطاق القيمة، لتكون القيمة عنصراً ذاتيّاً تندفع الذّات إليه بعفويّةٍ وبساطةٍ في حركةٍ تلقائيّةٍ، وليكون ذلك بمثابة القاعدة النّفسيّة الّتي تلتقي فيها العاطفة بالفكر. ‏

‏ دور العوامل الخارجيّة في التّوازن ‏

‏ولا بُدّ - بالإضافة إلى ذلك - من العامل الخارجيِّ الّذي يحمي الإرادة من نقاط الضّعف الدّاخليّة؛ لأنّ الإنسان قد يستسلم إلى حالات الضّعف الّتي تهزم إرادته في مجالات الصِّراع، في ما لو تُرِك لمفاهيمه بعيداً عن النّتائج السّلبيّة والإيجابيّة الّتي تترتّب عليها. ‏

‏ومن هنا، كان للثّواب والعقاب دورٌ كبيرٌ في إيجاد الضّوابط الفرديّة والاجتماعيّة ضدّ الانحراف، سواءٌ منه الثّواب والعقاب في الإطار الاجتماعيِّ، من خلال التّقاليد الضّاغطة على الفرد الّتي قد توقف الإنسان عند حدٍّ معيّنٍ من السُّلوك في حالة توجُّه الإرادة إلى الانحراف، لأنّه يخاف من سطوة المجتمع، أو ما كان منهما في الإطار القانونيِّ في ظل سيطرة القانون، أو في الإطار الأخرويِّ في ظل ثواب الله وعقابه؛ وذلك باعتبار أنّ المفاهيم والقيم المعنويّة قد تسقط أمام نوازع الذّات الدّاخليّة، أو مطامعها الخارجيّة، فتأتي الضّوابط الاجتماعيّة والقانونيّة والأخرويّة لتحفظ الإرادة من الانسحاق والانهيار في مواطن الضّعف؛ لأنّها تخلق في داخل النّفس جوّاً داخليّاً وبيئةً خارجيّةً تشكِّل أرضاً خصبةً للنُّموِّ والقوّة والحركة. ‏

‏ولا فرق في الحاجة إلى ذلك بين الشُّعوب المتخلِّفة والشُّعوب المتحضِّرة؛ لأنّ التّخلُّف والتّحضُّر لا يختلفان في هذا المجال، وإنّما يختلفان في طبيعة الوعي للحياة والحركة، وفي أسلوبهما العمليِّ؛ أمّا الانحراف، وأمّا الجريمة والضّعف الذّاتيُّ، فإنّهما يلتقيان فيه، ولكن بأسلوبٍ مختلفٍ، فللحضارة أساليبها المتقدِّمة في الانحراف وفي الجريمة، وللتّخلُّف أساليبه البدائيّة في ذلك. وقد يختلفان في طبيعة مواطن الانحراف تبعاً لحاجتهما إلى ذلك، ولكنّ الإنسان يظلُّ في حاجة إلى السّوط الّذي يلوِّح له بالعقوبة، ليستقيم على الخطِّ، وليبقى في الجوِّ الطّبيعيِّ السّليم. ‏

‏ولسنا نقرِّر ذلك من وجهة نظرٍ فكريّةٍ مجرّدةٍ، ولكنّ القراءة الواعية لتاريخ الشُّعوب المتحضِّرة، ولحركتها المعاصرة، تُعرِّفنا أنّ الحضارة قد استطاعت أن تعطي الجريمة مفهوماً حضاريّاً بأساليب حضاريّةٍ لا يرقى إليها ما تعارف لدى الشُّعوب المتخلِّفة من مفاهيم وأساليب. وعلى ضوء ذلك، أقامت المدنيّات نظاماً تفصيليّاً للعقوبات بالمستوى الّذي لا تعرفه قوانين الشُّعوب البدائيّة، تبعاً للطّبيعة المعقّدة المتنوِّعة لجرائم الحضارة. ‏

‏إذاً فلا بُدّ من العقوبة. ولكن كيف نعاقب القاتل؟ بالسّجن؟ أم بالضّرب؟ أم بالقتل؟ من خلال كلِّ ذلك نعرف أنّ موقع التّشريع الإسلاميِّ هو في حركة العدالة في الحياة. ‏

‏ عقوبة الإعدام شبهاتٌ وردودٌ ‏

‏ربّما يطرح البعض من المفكِّرين أفكاراً حول رفض عقوبة الإعدام كحلٍّ للمشكلة، من خلال التّساؤل عن إنسانيّة هذه العقوبة وانسجامها مع الخطِّ الأفضل للحياة. ويمكن أن نثير هذه الأفكار ضمن ثلاث نقاط: ‏

‏ 1- إنّه لا يجوز أن نعالج الجريمة بجريمةٍ مماثلةٍ، أو نحلّ المشكلة بمشكلةٍ مثلها، فإذا كانت فظاعة الجريمة الأولى ناشئةً من فظاعة فكرة إعدام الحياة، فإنّ العقوبة تتحرّك في الاتِّجاه نفسه؛ فإنّنا نقوم حينئذٍ بالعمل نفسه الّذي يتمثّل في إعدام حياةٍ ثانيةٍ تفرض قدسيّةُ الحياة حمايتها والمحافظة عليها في كلِّ موقعٍ من مواقعها مهما أمكن ذلك. ‏

‏ 2- إنّ عقوبة القصاص لا تنسجم مع النّتيجة الّتي نخرج بها في دراستنا لشخصيّة المجرم؛ فإنّ الجريمة لا تنشأ من عقدةٍ متأصِّلةٍ ذاتيّةٍ في نفسه، بل تنشأ من خلال ظروفٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ طارئةٍ في محيط حياته، فتشكِّل لديه عقدةً نفسيّةً تتحكّم في سلوكه وتضغط على واقعه الفرديِّ والاجتماعيِّ. وفي جميع الأحوال تُعتبر الجريمة لدى المجرم حالةً مرضيّةً، وإذا كانت كذلك فلا بُدّ للمشترع من مواجهتها في هذا الموقع، تماماً كما يواجه حالةً مرضيّةً نفسيّةً أو جسديّةً، وعلاجها بقتل المرض لا بقتل المريض، وذلك باتِّباع الأساليب الّتي تشفيه من مرضه، ليتحوّل إلى عنصرٍ صحيحٍ فاعلٍ يشارك في خدمة المجتمع. ‏

‏3- إنّ الرّحمة الّتي انطلق الإسلام بها من خلال رسوله وفي رسالته، فكان الرّسول رحمةً للعالمين، وكانت الرِّسالة باباً من أبواب الرّحمة، ومن فوق ذلك كانت الصِّفة البارزة الّتي يصف الله بها نفسه هي الرّحمن الرّحيم، إنّ هذه الرّحمة الّتي تعبِّر عن عمق المعاني الإنسانيّة للشّريعة، لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أن يفتح أمامه باب العفو والتّسامح والتّراجع عن الخطأ. ‏

‏لعلّ هذه النِّقاط من أبرز الأمور الّتي أُثيرت حول تشريع عقوبة الإعدام في الإسلام. ‏

‏أمّا تعليقنا عليها فبتأكيد عدّة ملاحظاتٍ: ‏

‏ أوّلاً:‏‏ إنّ الكثير من هذه الأفكار هي نتيجةٌ للنّزعة الفرديّة في فلسفة الحياة، النّزعة الّتي تستغرق في الفرد لتعتبره كلّ شي‏ءٍ، فهو الأساس الّذي يحصل المجتمع على سلامته وتطوُّره من خلاله؛ وبذلك كان التّركيز على سلامة القاتل كفردٍ لا بُدّ لنا من أن نحمي حياته، أو كمريضٍ لا بُدّ لنا من معالجته، أو كإنسانٍ لا بُدّ لنا من أن نرحمه. وتبقى النّتائج العمليّة الخطيرة الّتي تنعكس على حياة المجتمع من خلال تصرُّفات هذا الفرد وأمثاله، تتفاعل من دون أن تثير اهتماماً أو تحرِّك واقعاً، في مجال التّشريع، أو في مجال العمل. ‏

‏ ثانياً:‏‏ إنّ الإسلام يتحرّك في مفاهيمه وتشريعاته من موقع التّفكير الإنسانيِّ الواقعيِّ الّذي يعمل على حماية الفرد، حتّى من نفسه، وعلى حماية المجتمع، حتّى من أفراده، فلم يترك للفرد الحرِّيّة حتّى في مجال الإساءة إلى حياته الخاصّة، ولم يعط المجتمع حرِّيّة الاعتداء على الفرد. وعلى ضوء ذلك، كان احترامه للفرد في المجالات الّتي لا تهدِّد المجتمع في سلامته؛ لأنّ سلامة المجتمع أكثر أهمِّيّةً من سلامة الفرد في حالات التّزاحم. ‏

‏وبذلك كان إعدام القاتل عقوبةً ذات اتِّجاهين: فهي من جهةٍ ترتبط بحصر المشكلة في إطارها المحدود بالنِّسبة إلى أولياء المقتول؛ لأنّها تُنفِّس عنهم المشاعر الحادّة الّتي يمكن أن تنفجر في مساحةٍ أكبر، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: {ولا تقْتُلُوا النّفْس الّتِي حرّم اللّهُ إِلاّ بِالْحقِّ و منْ قُتِل مظْلُوماً فقدْ جعلْنا لِولِيِّهِ سُلْطاناً فلا يُسْرِفْ فِي الْقتْلِ إِنّهُ كان منْصُوراً}[الإسراء: 33]؛ وهي من جهةٍ أخرى تمثِّل عنصراً رادعاً للآخرين الّذين يفكِّرون في القيام بجريمة القتل ضدّ أفرادٍ آخرين، أو الّذين يستسلمون لبعض حالات الانفعال الّتي يفقدون معها التّوازن في التّصرُّف، فإنّ هذه العقوبة تصلح لأن تدفع بالإنسان إلى التّفكير طويلاً قبل الإقدام على الجريمة. ‏

‏وربّما نضيف إلى الموضوع بُعداً ثالثاً، وهو التّشديد على الموقف المبدئيِّ ضدّ الظُّلم، بالتّحرُّك لمعاقبة الظّالمين، كأسلوبٍ عمليٍّ من أساليب إزالته من الأرض. ‏

‏ ثالثاً:‏‏ إنّ التّركيز على العقليّة الفرديّة في العمل وفي التّشريع، لازمُه إعادة النّظر في كثير من المبادئ الّتي يسير عليها النّاس في مختلف أوضاعهم، فنحن نرى أنّ الأُمّة تضحِّي بالآلاف من الجنود من أجل الحفاظ على عزّتها وكرامتها وسلامتها، وذلك في الحالات الّتي تتعرّض فيها للخطر من القوى الظّالمة الغاشمة الّتي تريد أن تستعبدها وتستعمرها. ولا يمكن الانسجام مع ذلك إلاّ على أساس التّفكير الاجتماعيِّ الّذي يفرض نفسه على الحياة في حالات الحرب والسِّلم؛ لأنّ التّفكير الفرديّ لا يوافق على أن تضحِّي بنفسك من أجل الآخرين. ولا فرق في هذا المجال بين أن يُضحِّي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين باختياره، وبين أن يُضحِّي المجتمع بالفرد، إذا كانت التّضحية به شرطاً لسلامة المجتمع، في ما إذا كان عنصراً فاسداً أو عضواً مشلولاً. ‏

‏أمّا السّلبيّات الّتي تحدث من خلال ذلك، فإنّها طبيعيّةٌ في كلِّ تشريعٍ تتقدّم فيه الإيجابيّات على السّلبيّات؛ لأنّنا لا نجد أيّ حلٍّ لأيّة مشكلةٍ، إلاّ ونجد هناك مشاكل صغيرةً تتجمّع في طريق الحلِّ. ‏

‏إنّ الإسلام يرى القضيّة، على النّحو التّالي: إنّ إعدام القاتل قد يُفقدنا عدّة أفرادٍ من المجتمع، ولكنّه يحمي لنا حياة المجتمع كلِّه في الحاضر والمستقبل، سواءٌ منهم الّذين يفكِّرون بالقتل، أو الّذين يفكِّر الآخرون أن يقتلوهم، ما يجعل المعادلة سليمةً من ناحية العدالة. وهذا ما عبّرت عنه الآية تعبيراً دقيقاً في قوله تعالى: {ولكُمْ فِي الْقِصاصِ حياةٌ يا أُولِي الْألْبابِ}. ‏

‏رابعاً: إنّ الفكرة الّتي تقول: إنّ إعدام القاتل يضيف إلى الجريمة جريمةً ثانيةً، لأنّنا نقوم بما يقوم به المجرم من الاعتداء على الحياة، فهو قد أعدم حياة المقتول، ونحن نعدم حياة القاتل، إنّ هذه الفكرة مغلوطةٌ لسببٍ بسيطٍ جدّاً، وهو أنّ القاتل قد أعدم حياة المقتول بغير حقٍّ؛ لأنّ هذا هو المفروض في موضوع القصاص؛ فقد كانت تلك الحياة وديعةً مسالمةً بريئةً، فهي حياةٌ محترمةٌ تبعث على الاحترام؛ أمّا حياة القاتل فهي حياةٌ باغيةٌ ظالمةٌ معتديةٌ، فليست القضيّة واحدةً في الحساب؛ لأنّ مثل هذه الحياة لا تبعث على الاحترام والتّقدير. ‏

‏ولعلّ من الطّريف أن ننقل في هذا المجال الحوار الّذي دار بين شاعرٍ مشكِّكٍ وشاعرٍ مؤمنٍ حول موضوع قطع يد السّارق، وقطع يد غير السّارق، فإنّ الأولى تُقطع بسرقة ربع دينار، بينما تُدفع دية الأخرى خمسمئة دينار. ‏

‏قال الأوّل: ‏

‏يدٌ بخمس مئين عسجد وُدِيتْ ما بالُها قُطِعتْ في رُبْع دينار‏

‏تحكُّمٌ ما لنا إلاّ السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النّار‏

‏فأجابه الثّاني: ‏

‏عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ذُلُّ الخيانةِ فانْظُرْ حكمة الباري‏‏(27)

‏خامساً:‏‏ إنّ الفكرة الّتي تنظر إلى الجريمة من حيث هي مرضٌ نفسيٌّ يحتاج إلى علاج، كأيِّ مرضٍ آخر من الأمراض النّفسيّة الّتي قد تفرض علينا أن نفتح مصحّاتٍ للعلاج النّفسيِّ، هذه الفكرة غير دقيقةٍ أوّلاً، وغير مانعةٍ - ثانياً - من البقاء في نطاق هذا التّشريع كعلاجٍ حاسمٍ يفرض نفسه على الواقع؛ أمّا أنّ الفكرة غير دقيقةٍ، فلأنّ الجريمة ليست نتيجة مرضٍ نفسيٍّ في كلِّ حالاتها، بل قد تكون ناشئةً من حالاتٍ طارئةٍ، كوضعٍ انفعاليٍّ يتحرّك في اتِّجاه العدوان، أو من أوضاع لاشعوريّةٍ، وقد تكون استهتاراً بالحياة وبالآخرين، كنتيجةٍ لفقدان الضّوابط الرّادعة في المجتمع، وقد تكون - كما تفرض الفكرة - ناشئةً من عقدةٍ في الطُّفولة، أو في العلاقات العامّة والخاصّة، الّتي قد تترك آثارها السّلبيّة على حياة الفرد ونفسيّته. ‏

‏وأمّا أنّها غير مانعةٍ من بقاء التّشريع كحلٍّ يفرض نفسه، فلأنّنا في مواجهتنا للعقدة النّفسيّة المرضيّة نقف أمام طرحين للحلِّ: الطّرح الفرديِّ، والطّرح الاجتماعيِّ؛ أمّا الطّرح الفرديُّ فإنّه ينظر إلى حالة الفرد كحالةٍ تستوجب العلاج من أجل الحصول على الصِّحّة النّفسيّة الّتي تبقيه في المستقبل كعنصرٍ حيٍّ فاعلٍ في الحياة، وربّما كان هذا أمراً سليماً جدّاً من وجهة نظرٍ إنسانيّةٍ فرديّةٍ، ولكنّه لا يُعتبر سليماً من ناحيةٍ اجتماعيّةٍ؛ لأنّ هذا الأسلوب سوف يشجِّع المجرمين على الجريمة بشكلٍ عامٍّ؛ لأنّه يعلم - مقدّماً - أنّه سيواجه الكثير من أسلوب الرِّعاية والحماية والتّكريم، ما يدفعه إلى المزيد من الاستهتار بالجريمة وإلى العزم على مواصلتها. ‏

‏وقد لا نحتاج في تأكيد هذا الموضوع إلى المزيد من التّحليل الفكريِّ، بل يكفينا الالتفات إلى الحالات الّتي تُطبّق فيها قواعد العلاج النّفسيِّ في بعض السُّجون الحديثة في الدُّول المتقدِّمة، حيث يبادر المجرم إلى إعادة الجريمة فور خروجه من السِّجن؛ لأنّ هناك أكثر من عاملٍ داخليٍّ أو خارجيٍّ يعتبر نقطة ضعفٍ في حياة هذا الشّخص أو ذاك. ‏

‏ولعلّ طبيعة التّعقيد الاجتماعيِّ في العلاقات تفرض كثيراً من التّأثيرات، ما يجعل من عمليّة التّوجيه - بعيداً عن هذه الأجواء - جهداً ضائعاً؛ لأنّ المناعة الّتي يشعر بها الإنسان خارج نطاق التّجربة لا تفيده عندما يعيش في قلب التّجربة، الّتي توحي بالانحراف. ‏

‏وعلى ضوء هذا، فإنّ الطّرح الفرديّ للحلِّ لا يُعتبر سليماً من ناحيةٍ اجتماعيّةٍ. أمّا الطّرح الاجتماعيُّ، فإنّ قيمته أن يجعل الحقّ للمجتمع - ممثّلاً بأولياء المقتول، أو بالسُّلطة الشّرعيّة - في الاقتصاص من القاتل، من دون أن يغلق الباب عن البدائل السِّلميّة للقضيّة، وذلك بالعفو من دون مقابل، أو بالعفو على أساس دفع الدِّية، لتكون بمثابة التّعويض المادِّيِّ عن الخسارة الّتي تلحق بالورثة من خلال ضياع الفرصة الّتي كانت تمنحهم الاكتفاء المادِّيّ بوجود القتيل. وبذلك استطاعت العدالة الإسلاميّة أن تقف في الموقع المتوازن الّذي لا يتنكّر للسّلامة العامّة في التّشريع، ولا يلغي حقّ العفو وإمكانات السّلامة للقاتل في بعض الحالات. ‏

‏ سادساً:‏‏ إنّ الجريمة قد تكون مرضاً، ولكنّ ذلك لا يلغي طبيعة الاختيار في التّصرُّف؛ لأنّ العُقد النّفسيّة قد تشكِّل لوناً من ألوان الدّوافع الشِّرِّيرة في النّفس، ولكنّها لا تسيطر على الإنسان بالمستوى الّذي يفقد معه إرادته واختياره، وإذا وُجدت الإرادة وُجدت المسؤوليّة الّتي تفرض نفسها عليه، ما يجعل للفعل الصّادر عنه صفة الجريمة الخاضعة للعقاب؛ ولكن ما هو مستوى العقوبة؟ ‏

‏إنّنا نعتقد أنّ المعالجة المرضيّة لن تنفع في هذا المجال بالنِّسبة إلى المجرم، بل لا بُدّ لنا من الانطلاق في المعالجة في جوانب أخرى لدى غير المجرمين، فنربِّي أفراد المجتمع على الأُسس الصّحيحة الّتي تمنع من وجود أفراد مجرمين. أمّا المجرم، فلا مجال لإلغاء مسؤوليّته في العقوبة الشّديدة الّتي هي الإعدام؛ لأنّ الإلغاء إذا كان يعتمد على النّاحية المرضيّة، فينبغي أن نلغي العقوبة رأساً؛ على أساس أنّ العُقدة تُعفي من المسؤوليّة. وقد تمتدُّ القضيّة إلى أبعد من ذلك فنقرِّر إلغاء العقوبات رأساً؛ لأنّ أيّ انحرافٍ في أيِّ جانبٍ من الجوانب لا بُدّ من أن ينشأ من انحرافٍ مرضيٍّ في داخل النّفس، من دون فرقٍ بين الجريمة الكبيرة والجريمة الصّغيرة، حتّى الحبس، لا يعود له مجالٌ في هذا المقام، بل لا بُدّ من إدخاله المصحّ، كأيِّ مريضٍ آخر. ‏

‏إنّها مشكلة التّفكير الفرديِّ الّذي لا ينظر إلى المشكلة من خلال حجمها الكبير، بل ينظر إليها من خلال النِّطاق المحدود الّذي تتحرّك فيه. ‏

‏سابعاً:‏‏ إنّ الرّحمة الّتي يثيرها الإسلام في مفهومه الرُّوحيِّ والعمليِّ، لا تعني الانفعال الّذي يرتبط بالشّفقة، بل تعني مواجهة الواقع بما يحقِّق مصلحة الإنسان في المستوى الشّامل، تماماً كما هي الحال عندما يضطرُّ الجرّاح إلى بتر أحد الأعضاء لحماية الحياة للجسد كلِّه؛ فإنّ ذلك يمثِّل الرّحمة للإنسان المريض. إنّ الرّحمة للّذين يعيشون الحياة من موقع الرّحمة لحركة الحياة، لا للّذين يقضون على الحياة ويطعنونها في الصّميم. ‏

‏إنّ التّشريع لا يتعامل مع العاطفة، بل يتعامل مع المصلحة العامّة للإنسان، ولهذا جاءت الآية لتقرِّر الحقيقة الشّاملة في قوله تعالى: {ولكُمْ فِي الْقِصاصِ حياةٌ يا أُولِي الْألْبابِ لعلّكُمْ تتّقُون}. ‏

‏ولعلّ في الإشارة إلى أولي الألباب دعوةً إلى العقل لكي يتحرّك في داخل ذوي العقول، ليعرف كيف يحفظ التّشريع حياة النّاس على أساسٍ من التّقوى والإيمان، بعيداً عن كلِّ عاطفةٍ وانفعالٍ ذاتيٍّ. ‏

‏هذا ما أردنا الإشارة إليه في تفسير هاتين الآيتين، والله أعلم بحقائق أحكامه وأسرار آياته، وهو حسبنا ونعم الوكيل.‏

‎ ‎


‏ ‏

‏الهوامش: ‏

‏(1)‏‏ابن أبي ربيعة، عمر بن عبدالله (ت 93 هـ-)، ديوان عمر بن أبي ربيعة، ط 2، تحقيق الدُّكتور فايز محمد، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1416 هـ- - 1996 م، ص 304.‏

‏(2)‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 488.‏

‏(3)‏‏م. ن. وانظر: الجصّاص، أبو بكر أحمد بن علي الرّازي (ت 370 هـ-)، أحكام القرآن، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت - لبنان، 1415 هـ- - 1994 م، ج 1، ص 187. الفراهيدي، أبو عبد الرّحمن الخليل بن أحمد (ت 175 هـ-)، العين، ط 2، تحقيق الدُّكتور مهدي مخزومي والدُّكتور إبراهيم السّامرائي، مؤسسة دار الهجرة، 1410 هـ-. ‏

‏(4)‏‏الفراهيدي، العين، م. س، ج 4، ص 320. ‏

‏(5)‏‏انظر: الطّبري، أبو جعفر محمّد بن جرير (ت 310 هـ-)، جامع البيان عن تأويل القرآن، ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطّار، دار الفكر، بيروت، 1415 هـ- - 1995 م، ج 6، ص 351، وحكاه عن سفيان عن ابن عبّاس. ابن أبي حاتم الرّازي، عبد الرّحمن بن محمد بن إدريس (ت 327 هـ-)، تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطّيِّب، المكتبة العصريّة، صيدا - لبنان، (د ت)، ج 1، ص 293 - 294، ح 1576، وحكاه عن عطاء عن سعيد. ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدِّين عبد الرّحمن بن علي‏بن محمد الجوزي القرشي (ت‏597 هـ-)، نواسخ القرآن، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، (د ت)، ص‏56. لكن ورد في: القمِّي، علي بن إبراهيم بن هاشم (ت ق 4 هـ-)، تفسير القمِّي، ط 3، مؤسّسة دار الكتاب للطِّباعة والنّشر، قم - إيران، 1404 هـ-، ج 1، ص 13 و 64 - 65 و 169، التّصريح بأنّ آية المائدة منسوخةٌ بآية البقرة، أي أنّ الأمر بعكس الوجه المذكور!‏

‏(6)‏‏ابن الجوزي، نواسخ القرآن، م. س، ص 57. ‏

‏(7)‏‏الخوئي، السّيِّد أبو القاسم (ت 1992 م)، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت - لبنان، 1975م، ص 293 - 294. ‏

‏(8)‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 1، ص 403، ح 1.‏

‏(9)‏‏السّيِّد الخوئي، البيان، م. س، ص 294.‏

‏(10)‏‏ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبدالله النُّمري (ت 436 هـ-)، الاستيعاب، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 2000 م، ج 8، ص 176. ولكنّ الحديث مرويٌّ بكثرةٍ بصيغةٍ أخرى هي المشهورة وهي: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه»، بإسقاط «به» بعد «قتلناه»، راجع: ابن أبي شيبة، المصنّف، م.س، ج 6، ص 368، باب 116 من كتاب الدِّيات، ح 1.‏

‏(11)‏‏السّيِّد الخوئي، م. ن. ‏

‏(12)‏‏ابن أبي شيبة، م. ن، ج 6، ص 369، باب 117 من كتاب الدِّيات، ح 2. ‏

‏(13)‏‏م. ن، ص 369، باب 118 من كتاب الدِّيات، ح 1.‏‎P‎

‏(14)‏‏العيّاشي، محمّد بن مسعود بن عياش السُّلمي السّمرقندي (ت 320 هـ-)، تفسير العيّاشي، تحقيق هاشم الرّسول المحلاتي، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، طهران، ج 1، ص 75، ح 158.‏

‏(15)‏‏السّيِّد الخوئي، البيان، م. س، ص 295.‏

‏(16)‏‏راجع: الحرُّ العاملي، الشّيخ محمّد بن الحسن (ت 1104 هـ-)، تفصيل وسائل الشِّيعة إلى تحصيل مسائل الشّريعة، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التُّراث، ط 2، قم - إيران، 1414 هـ-، ج 29، ص‏80- 87، باب (33) حكم الرّجل يُقتل بالمرأة والمرأة تُقتل بالرّجل. ‏

‏(17)‏‏الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 141، ح 2108.‏

‏(18)‏‏م. ن، ح 2109.‏

‏(19)‏‏م. ن. ‏

‏(20)‏‏الشّيخ مغنيّة، محمد جواد (ت 1400 هـ-)، التّفسير الكاشف، ط 1، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، 1424هـ- - 2003 م، ج 1، ص 276.‏

‏(21)‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 490. الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص‏146- 149. الثعلبي، أحمد بن محمّد بن إبراهيم (ت 427 هـ-)، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ط1، تحقيق الإمام أبي محمّد بن عاشور، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1422هـ- - 2002م، ج‏2، ص 54.‏

‏(22)‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 490.‏

‏(23)‏‏الأردبيلي، أحمد بن محمّد (ت 993 هـ-)، زبدة البيان في أحكام القرآن، المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، طهران - إيران، (د ت)، ص 668. ‏

‏(24)‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 7، ص 358، ح 1.‏

‏(25)‏‏إنجيل متّى، الأصحاح 5، الفقرة 39. والفقرة بتمامها مع الّتي قبلها: «سمعتم أنّه قيل: عينٌ بعين وسنٌ بسنٍّ. (39) أمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشّرّ، بل من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً».‏

‏(26)‏‏انظر: السّيِّد رضا، محمد رشيد (ت 1935م)، تفسير القرآن الحكيم (الشهير بتفسير المنار)، ط 2، دار المنار، مصر، 1366 هـ-، ج 2، ص 123. السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 435. ‏

‏(27)‏‏أمّا البيتان الأوّلان فهناك اتِّفاقٌ على أنّهما لأبي العلاء المعرِّي (ت 449 هـ-)، ونسب في: الصّفدي، صلاح الدِّين خليل بن أيبك (ت 764 هـ-)، الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1420 هـ- - 2000 م، ج 7، ص 74، الرّدّ الشِّعريّ عليه إلى الشّيخ علم الدِّين السّخاوي (ت 643 هـ-)، لكن بلفظٍ آخر هو: صيانة العرض أغلاها وأرخصها * صيانة المال فافهم حكمة الباري. وفي: الشّهيد الأوّل، أبو عبدالله محمّد بن مكي العاملي (ت‏786هـ-)، القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، تحقيق الدكتور السّيِّد عبد الهادي الحكيم، منشورات مكتبة المفيد،قم - إيران، (دت)، ج 1، ص 142، نسب إلى السّيِّد المرتضى رحمه الله الرّدّ عليه بلفظٍ آخر هو: حراسة الدّم أغلاها وأرخصها * حراسة المال فانظر حكمة الباري. ورُدّ عليه بألفاظٍ أخرى، منها اللّفظ المذكور في الأعلى، الّذي نسبه في: المناوي، محمّد عبد الرّؤوف (ت‏1031 هـ-)، فيض القدير شرح الجامع الصّغير من أحاديث البشير النّذير، ط1، ضبطه وصحّحه أحمد عبد السّلام، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1415 هـ- - 1994 م، ج 1، ص 299، إلى القاضي عبد الوهاب المالكي. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‎ ‎

‏ ‏

‏ معاني المفردات ‏

{كُتِب}: فُرِض، وأصل الكتابة: الخطُّ الدّال على معنًى، فسُمِّي به ما دلّ على الفرض، قال الشّاعر: ‏

‏كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذُّيول‏(1)

{الْقِصاصُ}: «يُقال: قصّ أثره، أي: تلاه شيئاً بعد شي‏ءٍ، ومنه: القصاص؛ لأنّه يتلو أصل الجناية ويتبعه. وقيل: هو أن يفعل بالثّاني مثل ما فعله هو بالأوّل مع مراعاة المماثلة، ومنه أُخذ القصص، كأنّه يتّبع آثارهم شيئاً بعد شي‏ءٍ»‏(2)‏. ‏

{الْحُرُّ}: نقيض العبد، والحرُّ من كلِّ شي‏ءٍ أكْرمُهُ. ‏

{عُفِي}: «العفو: التّرك. وعفت الدّار أي: تُركت حتّى درست. والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها. وقيل: معنى العفو - ها هنا -: ترك القود بقبول الدِّية من أخيه»‏(3)‏. ‏

{أخِيهِ}: جمع الأخ: «الأخوة إذا كانوا لأب، وإخوان إذا لم يكونوا لأب»‏(4)‏. ‏

{وأداءٌ}: التّأدية: تبليغ الغاية. ‏

‏ القصاص علاج الجريمة الحاسم ‏

‏في هذا الفصل من القرآن، نلتقي بالجوِّ التّشريعيِّ الّذي بدأه القرآن في هذه السُّورة ليُشرِّع للنّاس الأحكام الّتي تتّصل بحياتهم العامّة في الواقع الجنائيِّ، وفي واقع العلاقات المتنوِّعة الّتي تحكم تصرُّفاتهم تجاه أنفسهم، وتجاه ربِّهم، وتجاه غيرهم من الّذين يرتبطون بهم في الحياة. ‏

‏فمن هذه الأحكام، حكم القصاص الّذي تعرّضت له هاتان الآيتان في موضوع جناية القتل الّتي تُعتبر من الجرائم الكبيرة في حياة النّاس؛ لأنّها تمثِّل الاعتداء على الحياة، وبذلك كانت تشكِّل خطراً عظيماً على مسار الوجود الإنسانيِّ، ما جعل من قضيّة معالجتها ومواجهتها قضيّةً حيويّةً في مجالات النّظرة الواقعيّة للمشكلة في إطار التّشريع، ليمكن من خلالها المحافظة على سلامة الفرد والمجتمع. فكان القصاص هو العلاج الحاسم للجريمة من وجهة النّظر الإسلاميّة، كحقٍّ يملكه وليُّ المقتول، فله أن يقتل القاتل جزاءً على جريمته، وله أن يعفو عنه في مقابل الدِّية الّتي يدفعها إلى أولياء المقتول، وله أن يعفو عنه من دون مقابل. ‏

‏التّماثل في القصاص ‏

‏الظُّهور الأوّليُّ للآية هو لزوم التّماثل في القصاص، وأنّ القصاص إنّما يجب إذا كان القاتل والمقتول متساويين في الحرِّيّة والعبوديّة، والذُّكورة والأنوثة. ومقتضى ثبوت هذا المعنى أنّه لو قتل الحرُّ العبد لم يُقتل به، ولو قتل الرّجلُ امرأةً لم يُقتل بها. ‏

‏وعليه، تكون قضيّة المماثلة مرتكزةً على أنّ النّاس تختلف أوضاعهم القانونيّة تبعاً لاختلاف صفاتهم الجسديّة أو المعنويّة، وهذا ما يفرض الاختلاف في تقييم العقوبة، وإلاّ كانت القضيّة تمثِّل إلغاءً للاختلاف في الوضع التّشريعيِّ القانونيِّ. ‏

‏وقد أُشكل على هذا المعنى بإشكالات: ‏

‏ الإشكال الأوّل: المنافاة بينه وبين ما ورد في سورة المائدة، من قوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أنّ النّفْس بِالنّفْسِ}[المائدة: 45] الدّالِّ بإطلاقه أنّ كلّ نفسٍ مقتولةٌ قصاصاً بأيِّ نفسٍ، سواءً تماثلا في الحرِّيّة والعبوديّة أو تخالفا، وكذلك بالنِّسبة للذُّكورة والأُنوثة. ‏

‏وقد أُجيب عن ذلك بعدّة إجابات: ‏

‏ الأولى: إنّ قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ و الْعبْدُ بِالْعبْدِ و الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏}منسوخٌ بقوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أنّ النّفْس بِالنّفْسِ}[المائدة: 45]، وعليه فيُحلُّ التّعارض‏‏(5)‏. ‏

‏ولكن قد يُقال: إنّ النّسخ لا بُدّ أن يثبت بدليل، فلو لم يثبت، فأصالة عدم النّسخ تكون هي الجارية في المقام. وعليه، فلو أمكن الجمع في دلالة الآيتين بوجهٍ مقبولٍ، فإنّه لا مبرِّر للقول بالنّسخ حينئذٍ، مع عدم الدّليل عليه. نعم، لو انحصر رفع الإشكال بالنّسخ أمكن القول به، واعتُبر ذلك دليلاً عندئذٍ. ‏

‏على أنّ القول بالنّسخ - هنا - يرتكز على أن تكون الآية واردةً في مقام بيان الحُكم مطلقاً، أي بما يشمل اختلاف النّوع بالنِّسبة إلى القاتل والمقتول، فاضطرّ الّذين ذهبوا إلى القول بالنّسخ أن يلتمسوا ما يرفع الإشكال، بعد أن ثبت، من خلال السُّنّة، أنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد مثلاً. وسيأتي الكلام حول دلالة الآية في ما يأتي. ‏

‏ الثّانية: إنّ {أنّ النّفْس بِالنّفْسِ}حكايةُ ما كان واجباً ومكتوباً في التّوراة، حيث صُدِّر ذلك بقوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها}أي: في التّوراة، وليس معلوماً ثبوته في شريعة الإسلام‏‏(6)‏. ‏

‏ولكنّ هذا الوجه محلُّ نقاشٍ، وذلك لعدّة أمور: ‏

‏ أ - إنّ الآية مذيّلةٌ بقوله تعالى: {ومنْ لمْ يحْكُمْ بِما أنْزل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون}، ما يوحي بأنّ هذا الحُكم هو كذلك في شرعنا أيضاً. ‏

‏ ب - ما قاله تعالى في الآية السّابقة: {وكيْف يُحكِّمُونك و عِنْدهُمُ التّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ}[المائدة: 43]؛ فإنّ الإطلاق في قوله: {فِيها حُكْمُ اللّهِ}قد يفيد استمرار الحُكم في شرعنا أيضاً. ‏

‏ ج - التّعقيب بقوله: {وأنْزلْنا إِليْك الْكِتاب بِالْحقِّ مُصدِّقاً لِما بيْن يديْهِ مِن الْكِتابِ و مُهيْمِناً عليْهِ فاحْكُمْ بيْنهُمْ بِما أنْزل اللّهُ}[المائدة: 48]؛ فإنّ تصديق القرآن للكتب السّابقة قد يُستفاد منه أنّ الأصل إقرار ما ورد فيها، وإلاّ فلا بُدّ أن يقيم دليلاً على العكس. ‏

‏ الثّالثة: التّخصيص؛ فإنّ آية البقرة خاصّةٌ، وآية المائدة عامّةٌ لكلِّ نفسٍ، فتُخصّص هذه بتلك، والتّخصيص إذا أمكن فهو أولى من النّسخ. وقد ذهب السّيِّد الخوئيُّ رحمه الله إلى هذا الوجه، وقال ما نصُّه: «والحقُّ: إنّ الآية الأولى»، أي: آية البقرة، «محكمةٌ ولم يرد عليها ناسخٌ؛ والوجه في ذلك أنّ الآية الثّانية مطلقةٌ من حيث العبد، والحرُّ، والذّكر، والأنثى؛ فلا صراحة لها في حكم العبد، وحكم الأنثى. وعلى كلٍّ، فإن لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصيّة القاتل والمقتول، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط، على ما هو مفاد قوله تعالى: {فمنِ اِعْتدى‏ عليْكُمْ فاعْتدُوا عليْهِ بِمِثْلِ ما اِعْتدى‏ عليْكُمْ}[البقرة: 194]، ‏

‏كانت مهملةً ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخةً للآية الأولى. وإن كانت في مقام البيان من هذه النّاحية، وكانت ظاهرةً في الإطلاق وظاهرةً في ثبوت الحكم في هذه الأُمّة أيضاً، ولم تكن للإخبار عن ثبوت ذلك في التّوراة فقط، كانت الآية الأولى مقيِّدةً لإطلاقها، وقرينةً على بيان المراد منها؛ فإنّ المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخاً للمقيّد وإن كان متأخِّراً عنه، بل يكون المقيّد قرينةً على التّصرُّف في ظهور المطلق، على ما هو الحال في المقيِّد المتأخِّر. وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحرِّ بالعبد»‏(7)‏. ‏

‏تدقيقٌ أصوليٌّ في تأخُّر العامِّ على الخاصِّ ‏

‏ونلاحظ على ما ذكره السّيِّد الخوئيُّ رحمه الله من أنّ «المُطلق لا يصلح لأن يكون ناسخاً للمقيّد وإن كان متأخِّراً عنه»: أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من باب اعتبار العقلاء - في محاوراتهم - المقيّد قرينةً على المراد من الكلام المطلق، ويقولون إنّ شأن المشرِّع أن يُلقي العامّ إلى النّاس ثمّ يُتبعه بالخاصِّ، فيُفهم أنّ العموم ليس مُراداً بمقدار ما يدلُّ الخاصُّ على نفيه. ولا يخفى أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ فإنّه مع تأخُّر المُطلق أو العامِّ على المقيّد أو الخاصِّ زماناً، لا يُجعل الكلام الأوّل - في نظر العقلاء - قرينةً على المُراد من الثّاني الأعمِّ، بل يفهمون عدول المتكلِّم عن كلامه الأوّل إلى الإطلاق أو العموم، ما لم ينصب قرينةً تُرجع السّامع إلى الأوّل، ولا سيّما مع تطاول الأمد الزّمنيِّ بين الكلامين، حيث قد يغيب الكلام الأوّل عن ذهن السّامع، فيحتاج إلى التّذكير به لو كان مُراداً. ‏

‏ولا يبعد أنّ العُرف يفهم من تأخُّر العامِّ عن الخاصِّ أنّ الخاصّ هو من مصاديق العامِّ، فتكون دلالته من ضمن دلالة العامِّ، وبالتّالي يكون المقصود، في المقام، أنّ الحُرّ يُقتل بالحرِّ بلحاظ {النّفْس بِالنّفْسِ}، وكذلك العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، وتكون الآية ساكتةً عن حُكم المخالفة. ‏

‏ الإشكال الثّاني: ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، من قوله: «المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم»‏(8)

‏وأجاب عنها السّيِّد الخوئيُّ رحمه الله بأنّها «على تقدير تسليمها، مخصّصةٌ بالآية؛ فإنّ دلالة الرِّواية على جواز قتل الحرِّ بالعبد إنّما هي بالعموم. ومن البيِّن أنّ حجيّة العامِّ موقوفةٌ على عدم ورود المخصِّص عليه، المتقدِّم منه والمتأخِّر»‏(9)‏. ‏

‏ الإشكال الثّالث: ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بطريق الحسن عن سمرة: «من قتل عبده قتلناه به»‏(10)‏. ‏

‏وأجاب عنه السّيِّد الخوئيُ‏‏(11)‏ - مضافاً إلى ضعف سند الحديث - بأنّه معارضٌ بما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أنّ رجلاً قتل عبده متعمِّداً، فجلده النّبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم ونفاه سنةً، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده منه‏‏(12)‏. وبما رواه ابن عبّاس، عن النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، وبما رواه جابر عن عامر عن عليٍّ عليه السلام أنّه لا يُقتل حرٌّ بعبدٍ. وبما رواه عمروبن شعيب عن أبيه عن جدِّه، أنّ أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحرّ بقتل العبد‏(13)‏. ‏

‏ الإشكال الرّابع: ورود بعض الرِّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تؤيِّد حصر القصاص بحالة المماثلة في الحرِّيّة والعبوديّة. من ذلك ما رُوي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام ، في آية البقرة: «لا يُقتل حرٌّ بعبدٍ، ولكن يُضرب ضرباً شديداً، ويغرم دية العبد. وإن قتل رجلٌ امرأةً فأراد أولياء المقتول أن يقتلوا أدُّوا نصف ديته إلى أهلالرّجل»‏(14)‏. وأهل البيت عليهم السلام ، هم الأعلم بالقرآن، فينبغي تفسير الآية بحصر القصاص بصورة المماثلة، فلا يُقتل الحُرُّ بالعبد، ولا الرّجل بالأنثى‏(15)‏. ‏

‏إلاّ أنّك خبيرٌ بأنّ ما ورد عنهم عليهم السلام أثبت أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة‏(16)‏. نعم، ورد أنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد. ‏

‏ولا يبعد أن يُقال: إنّ الآية الكريمة ليست منسوخةً؛ لأنّه لا دليل على النّسخ. كما لا ينحصر حلُّ ما أُشكل به بالقول به. كما أنّه لا مُساعد على حمل المُطلق - وهو آية المائدة - على المقيّد - وهو آية البقرة -؛ فإنّ القول بالتّقييد -هنا- ليس عُرفيّاً. وعليه، فمن القريب أنّ الآية تُبيِّن الحكم في النّوع، بمعنى أنّها تُبيِّن حكم الحرِّ لو قتل حُرّاً، والعبد لو قتل عبداً، والأنثى لو قتلت أنثى، أو - بتعبيرٍ آخر - تُبيِّن أنّ القاتل يُقتل، في مقابل غير القاتل. فليس هناك أيّة منافاةٍ بين هذه الآية وبين آية المائدة. ‏

‏وممّا يؤكِّد عدم تعرُّض الآية للحُكم مع اختلاف النّوع، هو ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام ، من أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة، ما يُعتبر قرينةً على عدم إرادة بيان الحُكم في ما لو تخالف النّوع بين القاتل والمقتول. نعم، غاية الأمر في قتل الرّجل بالمرأة، هو وجوب دفع نصف ديته، ووجوب دفع نصف الدِّية هو حكمٌ خاصٌّ مُرتبطٌ بنظام التّفاضل الماليِّ العامِّ في الإسلام؛ حيث إنّ المرأة - من النّاحية الماليّة- هي نصف الرّجل، كما ثبت في باب الإرث. ‏

‏أمّا أنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد، فقد يكون مرتبطاً بأحكام العبيد في الإسلام، فهو حكمٌ خاصٌّ غير مستفادٍ من الآية. ‏

‏وممّا قد يؤيِّد الّذي ذهبنا إليه، ما ورد عن الشُّعبيِّ، أنّها «نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية، فقالوا: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبفلانة فلان ابن فلان، فأنزل الله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ و الْعبْدُ بِالْعبْدِ و الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏}»‏(17)‏. ‏

‏وما عن قتادة، قوله: «كان أهل الجاهليّة فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشّيطان، فكان الحيُّ إذا كان فيهم عدّةٌ ومنعةٌ، فقتل عبدُ قومٍ آخرين عبداً لهم، قالوا: لا نقتل به إلاّ حرّاً؛ تعزُّزاً لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قُتلت لهم امرأةٌ قتلتها امرأةُ قومٍ آخرين، قالوا: لا نقتل بها إلاّ رجلاً، فأنزل الله هذه الآية، يُخبرهم أنّ العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي»‏(18)‏. ‏

‏وعن قتادة - أيضاً - أنّه قال في الآية: «لم يكن لمن قبلنا دية، إنّما هو القتل أو العفو إلى أهله، فنزلت هذه الآية في قومٍ كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قُتل من الحيِّ الكثير عبدٌ، قالوا: لا نقتل به إلاّ حرّاً، وإذا قُتلت منهم امرأةٌ قالوا: لا نقتل بها إلاّ رجلاً...»‏(19)‏. ‏

‏وأخيراً، قد يثور أمامنا أنّ اعتبار التّفاوت في القصاص بين الأنواع المذكورة في الآية، منافٍ لقوله تعالى: {ولكُمْ فِي الْقِصاصِ حياةٌ يا أُولِي الْألْبابِ}؛ فإنّ عدم الاقتصاص في ما لو كان القاتل للمرأة رجلاً، أو كان القاتل للعبد حُرّاً، ينافي حكمة القصاص؛ من حيث قد يكون ذلك مؤدِّياً إلى انتشار الفساد في العباد والبلاد. ‏

‏على أنّ هذه المنافاة - لو تمّت - فإنّه ينبغي عندئذٍ التّأمُّل مليّاً؛ لجهة ورود تلك الأحاديث الّتي تنفي قتل الحُرِّ بالعبد ومخالفتها للكتاب. وعلى الأقلِّ، ينبغي عدم الأخذ بإطلاقها لصورة ترتُّب مفاسد كبيرةٍ على عدم القتل، بما تنتفي معه حكمة التّشريع، بل يناقضها. والله تعالى أعلم. ‏

‏وبناءً على ما قدّمناه، فلا يأتي الإشكال الّذي ينسب إلى التّشريع الإسلاميِّ الطّبقيّة في مسألة القصاص؛ لأنّ هذا ليس وارداً في حساب الآية؛ فإنّ أقصى ما هناك أنّ خصوصيّاتٍ روعيت في حالاتٍ خاصّةٍ مرتبطةٍ بطبيعة نظام العبيد والإماء، أو بالنِّظام الماليِّ في قضيّة الدِّية، ولذلك، يُقتل الغنيُّ بالفقير، والشّريفُ يُقتل بالحقير، والقويُّ يُقتلُ بالضّعيف. ‏

‏يبقى أن نُشير إلى أنّ مسألة التّماثل الظّاهرة بدواً من الآية لم يُلتزم بها في الفقه الإسلاميِّ، فقد نُقل الخلاف بين المُسلمين، «فقال مالك والشّافعيُّ وابن حنبل: إنّ الحُرّ لا يُقتل بالعبد. وقال أبو حنيفة: بل يُقتل الحُرُّ بعبد غيره، ولا يُقتل بعبده. واتّفق الأربعة على أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة وبالعكس. وقال الإماميّة: إذا قتل الحُرُّ عبداً لا يُقتل به، بل يُضرب ضرباً شديداً ويُغرم دية العبد، وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان وليُّ المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدِّية، إن رضيت هي، وبين أن يقتلها، فإن اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئاً. وإذا قتل الرّجل امرأةً كان وليُّها بالخيار بين أن يأخذ الدِّية إن رضي القاتل، وبين أن يقتله الولي، على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرّجل 500 دينار»‏(20)‏. ‏

‏ إمكان العفو ‏

‏إنّ الآية تؤكِّد إفساح المجال للعفو عن القاتل من قبل وليِّ المقتول، وتعتبر العفو مُلزماً له في نطاق العلاقة المرتكزة على المعروف والوفاء بالحقِّ الّذي يتمثِّل بالدِّية، ليؤدّى إليه بإحسان، فلا يجوز له العودة إلى المطالبة بحقِّه بالقصاص؛ لأنّ الحقّ قد سقط بالعفو فلا يرجع من جديد، فإذا عاد وليُّ القتيل للانتقام فإنّه يُعتبر قاتلاً معتدياً، ويستحقُّ العذاب الأليم في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏وتشير الآية الكريمة إلى أنّ تشريع العفو في موقع تشريع القصاص، تخفيفٌ من الله لعباده، ورحمةٌ بهم؛ حيث لم يحصر التّشريع في زاويةٍ ضيِّقةٍ لا يملك الإنسان معها أمر التّحرُّك بمرونةٍ، في ما قد تفرضه طبيعة النّفس أو إدارة العلاقات فيما بين النّاس. ‏

‏الآيات في سياقها التّفسيريِّ ‏

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا كُتِب عليْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ و الْعبْدُ بِالْعبْدِ و الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏}، فقد فرضه الله عليكم قانوناً يحفظ لكم قوّة احترام حياتكم؛ ليخلِّصكم من شريعة الغاب الّتي تتحوّل الحياة معها إلى فوضى لا يأمن الإنسان فيها على حياته، أو يعيش النّاس بعيداً عن الضّوابط القانونيّة في شريعة الأخذ بالثّأر الّتي قد يقتل فيها أولياء المقتول عدداً كبيراً من النّاس، ولا سيّما إذا كان المقتول شريفاً في الموقع الاجتماعيِّ، وكان القاتل وضيعاً، حيث لا يرضى الأولياء بأن يكون القاتل بدلاً من القتيل، وربّما أدّى الواقع غير المتوازن إلى حروبٍ طاحنةٍ بين القبائل يسقط فيها الكثير من القتلى؛ الأمر الّذي يجعل إيجابيّات هذا التّشريع أكثر من سلبيّاته، بينما تكون السّلبيّات في إهماله وإلغائه كبيرةً جدّاً، فلا تمثِّل الإيجابيِّات أمامها شيئاً. ‏

‏ولا بُدّ في القتل الّذي يستوجب القصاص من أن يكون عمداً بحيث يُقْدِمُ القاتل عليه قاصداً له، سواءً كان قاصداً للفعل القاتل والقتل، أو كان قاصداً للفعل القاتل وإن لم يقصد القتل بعنوانه، كمن طعن إنساناً في قلبه، ولكنّه لم يقصد قتله، فإنّ طبيعة السّبب القطعيِّ للموت تمثِّل قصداً للقتل بشكلٍ ذاتيٍّ، من خلال ما يختزنه الفعل في علاقة السّبب بالمسبّب. ‏

{فمنْ عُفِي لهُ}‎ ‎‏أي: للقاتل، {مِنْ أخِيهِ}، قيل: إنّ المقصود منه القتيل؛ بحيث يكون المراد: فمن عُفي له من قِبل أخيه المقتول؛ فإنّ وليّ الدّم عندما يعفو فكأنّ المقتول قد عفا. ‏

‏وقيل: المراد بالأخ: العافي، الّذي هو وليُّ الدّم، سمّاه الله أخاً للقاتل؛ ليُشفق عليه، بأن يقبل الدِّية أو يعفو بالكلِّيّة، أو لا يقتله على طريق المشقّة، ولا يبغضه‏‏(21)‏. ‏

‏وعلى كلِّ حال، يدلُّ استعمال القرآن للفظ «الأخ» على أنّ القتل لا يُخرج القاتل عن أُخوّة الإيمان. وقد يُقال - بناءً على إرجاع الضّمير إلى المقتول - بأنّ التّعبير عن المقتول بالأخ يختزن الإيحاء التّربويّ للقاتل أخاه ظُلماً وعدواناً، أنّ المقتول لم ينزع عن نفسه صفة الأخوّة الإيمانيّة الّتي نزعها القاتل عن نفسه، على طريقة ما قصّه الله من أمر ابني آدم، {إِذْ قرّبا قُرْباناً فتُقُبِّل مِنْ أحدِهِما و لمْ يُتقبّلْ مِن الْآخرِ قال لأقْتُلنّك قال إِنّما يتقبّلُ اللّهُ مِن الْمُتّقِين * `لئِنْ بسطْت إِليّ يدك لِتقْتُلنِي ما أنا بِباسِطٍ يدِي إِليْك لِأقْتُلك}[المائدة: 27 - 28]. ‏

‏والّذي نستقربه أن يكون المراد من الأخ - هنا - هو صاحب الحقِّ، الّذي له القتل أو العفو. ‏

{شيْ‏ءٌ}. قال في (مجمع البيان): «وقوله: شي‏ءٌ، دليلٌ على أنّ بعض الأولياء إذا عفى سقط القود؛ لأنّ شيئاً من الدّم قد بطل بعفو البعض»‏(22)‏. ‏

‏وعلّق عليه الأردبيليُّ في (زبدة البيان) فقال: «وأنت تعلم أنّ عفو بعض الورثة لا يُسقط القود الثّابت لباقي الورثة، على ما هو في كتب الأصحاب، وادّعى الإجماع عليه الشّهيد الثّاني في شرح الشّرايع، ولا دلالة في الآية عليه؛ إذ معناها - الله يعلم -: أن ليس من العافي إلاّ الاتِّباع، ومن المعفوِّ له إلاّ الأداء بالإحسان، ولا يُفهم منه حكم غير العافي، فما كان له باقٍ غيرُ ساقط، وهو ظاهرٌ». ثمّ عاد فأكّد في آخر كلامه أنّ هذا الوجه «غير منطبقٍ على كلام الأصحاب؛ إذ المشهور عندهم جواز القود للبعض مع رضا البعض بالدِّية والعفو، فيؤدِّي حصص الباقين. نعم، نُقل في الإسقاط روايةٌ، والعمل بها والقائل غير معلومٍ. ويُحتمل أن يكون إشارةً إلى أنّ كلّ العفو وبعضه مساوٍ في الحكم، وهو اتِّباعٌ بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسانٍ»‏(23)‏. ‏

{فاتِّباعٌ بِالْمعْرُوفِ و أداءٌ إِليْهِ بِإِحْسانٍ}، وهذا هو السُّلوك البديل الّذي شجّع عليه القرآن بطريقة الإيحاء، وهو عفو صاحب الحقِّ عن حقِّه من موقع قدرته -من خلال التّشريع -، ليكون من باب العفو عند المقدرة؛ باعتبار أنّ القضيّة إذا انطلقت من اختيار أولياء الدّم فإنّها لا تُضعف الهدف، ولا تلغيه، على أساس انطلاقه من تأكيد المبدأ، في الوقت الّذي يمكن للعفو أن يحقِّق نتائج إيجابيّةً في المسألة الاجتماعيّة، وفي القيمة الأخلاقيّة الّتي ترتفع بصاحب الحقِّ إلى مستوى الإنسان الّذي يملك القوّة الرُّوحيّة في الانتصار على نوازعه الذّاتيّة أو العائليّة، فيتحرّك للانفتاح على القاتل من موقع المحبّة الإنسانيّة الّتي تتجاوز الجريمة لتتذكّر أخوّة هذا الإنسان من النّاحية الإيمانيّة، ممّا يوحي به التّعبير بكلمة {أخِيهِ}في الآية، لتكون النّتيجة عفواً من دون بدل، وهذه هي قمّة العطاء والسُّموِّ الرُّوحيِّ، أو المطالبة بالدِّية، وهي تمثِّل التّعبير عن هبة الحياة للقاتل بعد أن ملكها وليُّ الدّم في التّشريع، والاكتفاء بالتّعويض عمّا لحق بالخسارة من جهةٍ، وإيجاد بديلٍ واقعيٍّ يمتصُّ المشاعر السّلبيّة من جهةٍ أخرى، لينطلق الصُّلح من خلال الواقعيّة الذّاتيّة الإنسانيّة. ‏

‏وقد أراد الله لمن عليه الحقُّ، أن يؤدِّي الحقّ من دون مماطلةٍ ولا تعقيدٍ، ليتحسّس المعروف في العفو عنه، وينطلق الأداء بإحسانٍ. كما ينبغي لمن يملك الحقّ أن لا يُعسِر أخاه إذا كان قد اتّفق معه على الدِّية. وقد جاء هذا التّفسير في رواية (الكافي) عن الحلبيِّ عن الصّادق عليه السلام ، قال: «سألته عن قول الله عزّ وجلّ: {فمنْ عُفِي لهُ مِنْ أخِيهِ شيْ‏ءٌ فاتِّباعٌ بِالْمعْرُوفِ و أداءٌ إِليْهِ بِإِحْسانٍ}قال: ينبغي للّذي له الحقُّ أن لا يُعسِر أخاه إذا كان قد صالحه على ديةٍ، وينبغي للّذي عليه الحقُّ أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدِّي إليه بإحسان»‏(24)‏. ‏

{ذلِك تخْفِيفٌ مِنْ ربِّكُمْ}. والإشارةُ إلى تشريع العفو بدلاً من القصاص، فقد أراده الله تخفيفاً على النّاس، فلا ينغلقوا على الأخذ بحقِّهم في قتل القاتل بعيداً عن التّسامح والعفو اللّذين قد يفتحان للإنسان أكثر من نافذةٍ على الحلول الهادئة السِّلميّة الّتي تنزع عن النّفس كلّ المؤثِّرات السّلبيّة، في عمليّة احتواءٍ لكلِّ الآثار النّفسيّة المؤلمة، لتلتقي الأوضاع الاجتماعيّة على الطّريقة الحكيمة الّتي يتخفّف فيها الإنسان من ذاتيّات الألم والانتقام في شخصيّته. وذلك هو التّخفيف الإلهيُّ من حدّة الحلِّ الحاسم. {ورحْمةٌ}لهم، في هذا الأسلوب الرّحيم في العفو، واستبدال القتل بالتّعويض المادِّيِّ، والاكتفاء به عن العنف القاسي. ‏

{فمنِ اِعْتدى‏ بعْد ذلِك فلهُ عذابٌ ألِيمٌ}. ربّما كان ذلك حديثاً عمّا كان يفعله بعض أهل الجاهليّة في الانتقام من القاتل بقتله بعد العفو وأخذ الدِّية، حيث يجمعون بين التّعويض المادِّيِّ والقصاص الجسديِّ، كتعبيرٍ عن الثّأر المزدوج الّذي يؤكِّد عنفوان وليِّ الدّم وإخلاصه للقتيل ضدّ القاتل وأهله، ليكون ذلك انتقاماً منه ومن أهله، ما يحقِّق لهم شفاء الغيظ بأعمق المشاعر الدّاخليّة. وهذا يمثِّل حالةً من حالات الاعتداء على النّفس كما لو كان عدواناً ابتدائيّاً؛ لأنّ العفو الّذي يرتكز الصُّلح عليه مع الدِّية أو بدونها يمثِّل محو آثار الجريمة واعتبارها شيئاً لا امتداد له في المستقبل، في آثاره المضادّة على طريقة ردِّ الفعل، ما يجعل من هذا القتل عدواناً غير مسبوقٍ بشي‏ءٍ، فلوليِّ الدّم قتله قصاصاً، أو العفو مع الدِّية أو بدونها. ‏

{ولكُمْ}‎ ‎‏أيُّها النّاس، {فِي الْقِصاصِ}، الّذي يجتثُّ جذور الجريمة من عمق النّفس المفجوعة في الحالة الشُّعوريّة الّتي تتطلّب الثّأر وتستسقي الدّم، لتقتصر على التّنفيس عن مشاعرها بقتل القاتل وعدم تجاوزه إلى غيره، وليكون ذلك عمليّة ردعٍ لكلِّ من تُسوِّل له نفسه أن يقوم بجريمةٍ جديدةٍ ضدّ إنسانٍ جديدٍ عندما يجد أنّ التّشريع يفسح في المجال لوليِّ الدّم أن يقتصّ منه، وليحمي المقتصّ من أيِّ أثرٍ سلبيٍّ. ‏

‏وهذه هي الوسيلة المثلى للسّيطرة على الجريمة المستقبلة الّتي يختزنها الواقع الاجتماعيُّ في تعقيداته الفرديّة والاجتماعيّة بشكلٍ جنينيٍّ، من دون أن يكون المال أو السِّجن كافياً في تحقيق ذلك. ‏

{حياةٌ}، من خلال حصول الحياة على رصيدٍ كبير في المستقبل الإنسانيِّ؛ حيث يغلق على الموت العدوانيِّ أبواب النّوازع الذّاتيّة في حرِّيّة الحركة للعدوان، ما يفسح في المجال لامتداد الحياة بشكلٍ طبيعيٍّ، حتّى يكون قتل القاتل بمثابة المُنتج للحياة الّتي لولا ذلك لماتت وسقطت تحت تأثير الجريمة المرتقبة. إنّها العمليّة الجراحيّة الّتي تستأصل العضو الّذي يشكِّل الخطر على الحياة، لتمتدّ الحياة من خلاله، ولو ببعض النُّقصان في مفردات الواقع. ‏

{يا أُولِي الْألْبابِ لعلّكُمْ تتّقُون}، أي: يا ذوي العقول الّذين لا تفكِّرون بعواطفكم ومشاعركم، بل تفكِّرون بعقولكم الّتي تدفعكم إلى الدُّخول في عمليّة الموازنة والمقارنة بين المصالح والمفاسد في الجوانب السّلبيّة والإيجابيّة. ‏

‏ القصاص في الرِّسالات السّماويّة ‏

‏ولم يكن هذا الحكم بالقصاص، حكماً إسلاميّاً في خطِّ سير الدِّيانات، بل هو حكمٌ دينيٌّ تلتقي فيه كلُّ الدِّيانات. وقد جاء القرآن ليحدِّثنا في آياتٍ أخرى أنّ هذا التّشريع من أحكام التّوراة، وذلك في قوله تعالى: {وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أنّ النّفْس بِالنّفْسِ و الْعيْن بِالْعيْنِ و الْأنْف بِالْأنْفِ و الْأُذُن بِالْأُذُنِ و السِّنّ بِالسِّنِّ و الْجُرُوح قِصاصٌ فمنْ تصدّق بِهِ فهُو كفّارةٌ لهُ و منْ لمْ يحْكُمْ بِما أنْزل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون}[المائدة: 45]. ‏

‏وقد أعطى الفكرة حجمها الطّبيعيّ، في تعليقه على قصّة ابني آدم، قابيل وهابيل، في قوله تعالى: {مِنْ أجْلِ ذلِك كتبْنا على‏ بنِي إِسْرائِيل أنّهُ منْ قتل نفْساً بِغيْرِ نفْسٍ أوْ فسادٍ فِي الْأرْضِ فكأنّما قتل النّاس جمِيعاً و منْ أحْياها فكأنّما أحْيا النّاس جمِيعاً و لقدْ جاءتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبيِّناتِ ثُمّ إِنّ كثِيراً مِنْهُمْ بعْد ذلِك فِي الْأرْضِ لمُسْرِفُون}[المائدة: 32]؛ فقد نستوحي منها أنّ القاعدة الّتي تحكم التّشريع هي إبعاد الحياة عن مواقع الخطر، فلا مجال للتّلاعب بالحياة كمبدأ، وذلك بالمستوى الّذي يجعل الاعتداء على حياة الفرد اعتداءً على حياة النّاس كلِّهم؛ لأنّه يمثِّل الاعتداء على المبدأ، فلا فرق في قيمة الحياة وقدسيّتها بين فردٍ وآخر، كما أنّ الحفاظ على حياة الفرد يمثِّل في القيمة المحافظة على حياة النّاس جميعاً؛ لأنّه يمثِّل احترام الحياة كمبدأ، ما يؤدِّي إلى امتداده في حياة الآخرين. ‏

‏مفهوم التّسامح في التّشريع المسيحيِّ ‏

‏أمّا المسيحيّة فقد يُخيّلُ للبعض أنّها لا تعترف بالقصاص كمبدأ، بل إنّها شرّعت بدلاً منه العفو والتّسامح، فقد ورد عن السّيِّد المسيح عليه السلام أنّه قال: «من ضربك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً»‏(25)‏. وقد نقل بعض المفسِّرين أنّ النّصرانيّة قد فرضت الدِّية كفريضةٍ حتميّةٍ بدلاً من القصاص‏‏(26)‏. ‏

‏ولكنّ هذه النِّسبة غير دقيقةٍ في ما نظن؛ لأنّ الحديث عن التّسامح والعفو في المسيحيّة لم ينطلق ليكون قاعدةً وحيدةً في التّعامل الاجتماعيِّ مع الجريمة والمجرمين، بل انطلق من أجل أن يخفِّف الجوّ القانونيّ المادِّيّ الّذي سار عليه النّاس في ذلك العصر الّذي رافق إرسال السّيِّد المسيح، فاعتبرت العلاقات القائمة بين النّاس خاضعةً للعوامل الذّاتيّة الّتي لا تجد في السّاحة أيّ أساسٍ روحيٍّ للتّنازل عن الحقِّ؛ لأنّ المقاييس الرُّوحيّة لم تكن واردةً في حساب العلاقات الخاصّة والعامّة، كما حدّثنا القرآن في أكثر من حديثٍ عن واقع بني إسرائيل. فكانت شريعة التّسامح تحاول أن لا تجعل الإنسان ذاتيّاً في المطالبة بحقوقه، فلا تكون القيمة كلُّ القيمة أن يأخذ الإنسان بحقِّه، سواءٌ في ذلك الميزان الفرديُّ أو الاجتماعيُّ؛ بل تريد التّأكيد على أنّ القيمة الرُّوحيّة الكبرى هي أن يتنازل عن حقِّه، ليتحقّق للإنسان التّوازن الدّاخليُّ والعمليُّ بين أسلوب المطالبة بالحقِّ، من خلال كون الشّريعة مرتكزةً على أساس تشريع الحقِّ القانونيِّ، وبين أسلوب التّنفيذ للحقِّ، من خلال اعتبار التّسامح قيمةً روحيّةً في حساب علاقة الإنسان بالله والإنسان. ‏

‏ولا تختلف المسيحيّة في هذا عن الإسلام الّذي شرّع الحقوق في جميع المجالات الإنسانيّة للعلاقات العامّة والخاصّة، ولكنّه قرن ذلك بالدّعوة إلى التّسامح والعفو والصّبر، معتبراً ذلك خيراً وأقرب للتّقوى. ‏

‏نظرةٌ خاطئةٌ إلى اليهوديّة والمسيحيّة ‏

‏ومن هذا المنطلق نريد أن نشير في هذا الاتِّجاه إلى رفض التّحليل الّذي يتحدّث به بعض الكُتّاب الإسلاميِّين، عن اعتبار اليهوديّة قريبةً إلى المادِّيّة في التّشريع، في مقابل اعتبار النّصرانيّة قريبةً إلى الرُّوحيّة في المفهوم، ليخلص من ذلك إلى الحديث عن عظمة الإسلام؛ لأنّه حقّق التّوازن التّشريعيّ والمفهوميّ والعمليّ بين المادّة والرُّوح، فلم يمِلْ إلى أحدهما أكثر من الآخر، انطلاقاً من واقعيّة الإنسان الّذي كان كيانه مزيجاً من المادّة والرُّوح. ‏

‏إنّنا نرفض هذا الاتِّجاه التّحليليّ في تقييم الدِّيانات؛ لأنّنا نلاحظ في حديث القرآن عن الرِّسالات السّابقة أنّها تسير في خطٍّ واحدٍ من ملاحظة مصلحة الإنسان، وذلك من خلال التّركيز على علاقته بالله، الّتي تمثِّل الجانب الرُّوحيّ الّذي يلتقي في نطاقه بالإنسان في جانبه المادِّيِّ، فلا يبتعد أحدهما عن الآخر في قليلٍ أو في كثير. ‏

‏وقد نستفيد ذلك من الآية الكريمة الّتي يقدِّم الله إلينا فيها صورة عيسى بن مريم عليهما السلام في بيانه الّذي قدّمه إلى بني إسرائيل في بداية رسالته: {وإِذْ قال عِيسى اِبْنُ مرْيم يا بنِي إِسْرائِيل إِنِّي رسُولُ اللّهِ إِليْكُمْ مُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و مُبشِّراً بِرسُولٍ يأْتِي مِنْ بعْدِي اِسْمُهُ أحْمدُ فلمّا جاءهُمْ بِالْبيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الصّف: 6]. وجاء في آيةٍ أخرى قوله تعالى: {ومُصدِّقاً لِما بيْن يديّ مِن التّوْراةِ و لِأُحِلّ لكُمْ بعْض الّذِي حُرِّم عليْكُمْ و جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ ربِّكُمْ فاتّقُوا اللّه و أطِيعُونِ}[آل عمران: 50]؛ فإنّ هاتين الآيتين تؤكِّدان على أنّ النّصرانيّة لم تأت لتنسخ الخطّ العامّ الّذي ارتكزت عليه شريعة التّوراة، بل تحرّكت في اتِّجاه إقرارها بشكلٍ عامٍّ مع بعض الاستثناءات في جانب التّحليل والتّحريم ممّا اقتضاه التّطوُّر الزّمنيُّ لمواجهة المشاكل المستجدّة ممّا لم يعد التّشريع فيه عمليّاً في مستوى الحلِّ الواقعيِّ للأشياء. ‏

‏وقد نستطيع استيحاء الفكرة الّتي قرّرناها، في شموليّة هذا التّشريع لكلِّ الدِّيانات، من خلال الآية الكريمة الّتي أرادت أن تفلسف التّشريع بالتّأكيد على قيمة الحياة في جانبها السّلبيِّ والإيجابيِّ، فإنّ مثل ذلك لا يختصُّ بزمانٍ أو بمكانٍ، بل إنّه يشمل الحياة كلّها. فلا بُدّ منه في كلِّ موقف يُراد من خلاله تعميق الإحساس بقيمة الحياة في الجانب الفكريِّ والعمليِّ من حياة الإنسان. ‏

‏وفي ضوء ذلك لا نستطيع الموافقة على أنّ النّصرانيّة تكتفي بالدِّية فلا تتجاوزها إلى القصاص؛ لأنّ الدِّية لا تنسجم مع تقرير مبدأ احترام الحياة كحلٍّ للمشكلة، بل يمكن أن تكون - كما شرّعها الإسلام - بديلاً عن القصاص في مجالات العفو والتّسامح، لا بديلاً مطلقاً في كلِّ الأحوال. ‏

‏وقد يتحدّث البعض عن وجود هذا التّشريع في غير الدِّيانات من الشّرائع الّتي كانت مطروحةً لدى بعض الشُّعوب، كشريعة حمورابي وغيره. ولكنّنا لا نستبعد أنّ كثيراً من تلك الشّرائع كانت مستمدّةً من الرِّسالات السّماويّة الّتي حدّثنا القرآن أنّها كانت السّبّاقة في معالجة قضايا الإنسان ومشاكله العامّة والخاصّة. ‏

‏ فلسفة تشريع القصاص ‏

‏ونحن هنا، في حركة التّفسير، نريد دراسة التّشريع في الإطار الإسلاميِّ، من خلال امتداده في الحياة، هل هو من التّشريعات الصّالحة للحياة، مع التّطوُّرات الجديدة الّتي طرأت على أساليب العقوبات، وعلى تطوُّر الحياة في مواجهة العلاقات الاجتماعيّة والتّكوين الجديد للمجتمعات؟ أم أنّه من التّشريعات الّتي تجاوزها الزّمن فلم تعد صالحةً لمعالجة مشاكله المتنوِّعة المعقّدة؟ ‏

‏ربّما يحتاج الجواب إلى مزيدٍ من التّفصيل والتّبسيط في آنٍ، فنقول: ‏

‏لا بُدّ لنا عند دراسة أيِّ حكمٍ شرعيٍّ، من الانطلاق من نقطةٍ أساسيّةٍ، وهي أنّ التّشريعات الإسلاميّة لا تتحرّك من قاعدة القيم الّتي تعيش في السّماء بعيداً عن الأرض؛ لأنّ الإسلام ليس ديناً مثاليّاً يطرح القيم العليا والأهداف الكبيرة الّتي يتطلّع إليها النّاس وهم مسحورون بها، من دون أن يستطيعوا الاقتراب منها فضلاً عن الوصول إليها، تماماً كأيّة لوحةٍ فنِّيّةٍ لا يملُّ الإنسان من التّطلُّع إليها، والتّحديق فيها، في وقفةٍ جماليّةٍ رائعةٍ، بل هو دينٌ يتحرّك من قاعدة القيم الّتي تعيش في الأرض في ساحة الواقع الإنسانيِّ الّذي يتعامل مع الإنسان كبشرٍ يملك في داخله الكثير من الغرائز والشّهوات والعناصر المتضادّة، لا كملاكٍ يُحلِّق في أجواء الرُّوح المتحرِّكة في نطاق التّجريد والمجرّدات. إنّه يتعامل معه كبشرٍ، ليقرِّبه من أجواء الملاك، من دون أن يُفقِده خصائص بشريّته؛ ليبقى يعيش في الأرض حتّى وهو يتطلّع إلى السّماء. وإذا كانت الأرض ليست سماءً، وإذا كان الإنسان يعيش في الأرض، فلا بُدّ للتّشريع من أن يكون للأرض لا للسّماء. وبذلك لا بُدّ له من أن يتأثّر في طبيعة تكوينه من مراعاة النّوازع الأرضيّة في طبيعتها المادِّيّة، وملاحظة الأساليب الواقعيّة في الوصول بالإنسان إلى القيم الرُّوحيّة. ‏

‏والنّزعة الواقعيّة في طبيعة التّشريع وحركته، هي النُّقطة الّتي ينبغي لنا أن نواجهها في فهم التّشريع، هذه النّزعة الّتي تواجه الإنسان من موقع نقاط الضّعف ونقاط القوّة. ولا بُدّ لنا من أن نبدأ أوّلاً بتقديم الصُّورة التّوضيحيّة، وذلك بأن نتصوّر مجتمعاً لا قصاص فيه، فنجد القتلى تتساقط كنتيجةٍ لعقدةٍ أو نزوةٍ أو مزاجٍ أو خلافٍ طارئٍ، ويقف المجتمع جامداً أمام القاتلين، ليحمي لهم حياتهم، فلا يُمكِّن أحداً من الاعتداء على حياتهم، بل يكتفي المجتمع بالسّجن والغرامة وغير ذلك، كما تفعل بعض المجتمعات الأوروبيّة الّتي ألغت عقوبة الإعدام. إنّنا نريد أن نتصوّر هذا المجتمع، ونتصوّر إلى جانب ذلك، أنّ المجتمع يريد أن يضمن حياته وسلامته ونظامه، فهل يستطيع تحقيق هذا الضّمان بإلغاء عقوبة الإعدام أو بتثبيت هذه العقوبة وتأكيدها؟ ‏

‏إنّ الجواب - في نظرنا - هو في التّأكيد على النُّقطة الثّانية من السُّؤال، وهي اعتبار الإعدام للقاتل أساساً لمنع الجريمة، وذلك من دون حاجةٍ إلى فلسفةٍ فكريّةٍ مجرّدةٍ، بل يكفي، لأجل ذلك، القيام بعمليّة مسحٍ ميدانيٍّ للجريمة في حياة النّاس، وذلك من خلال القيام بعمليّةٍ استقرائيّةٍ لتبيُّن الأمر. ‏

‏من النّاحية الاستقرائيّة نلاحظ أنّ البلدان الّتي تطبِّق عقوبة الإعدام، تمنع الجريمة في مجتمعاتها بنسبةٍ كبيرةٍ جدّاً قد تقارب المئة في المئة، في الوقت الّذي قد تكون متخلِّفةً أو بدائيّةً في ثقافتها أو في نظامها، بينما نجد بلداناً أخرى بلغت الحدّ الأعلى من الحضارة والرُّقيِّ في المقياس العامِّ المعاصر، وشرّعت إلغاء عقوبة الإعدام، ومع ذلك لا تزال ترزح تحت عب‏ء الجرائم اليوميّة الّتي تتصاعد وتتنوّع باستمرار في دوافعها الذّاتيّة والاجتماعيّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة. وقد نلاحظ في هذا المجال: أنّ القضيّة قد تتطوّر إلى الحياة العامّة للمواطن من خلال اهتزاز حالة الأمن جرّاء نموِّ الجريمة الّتي تصاعدت كنتيجةٍ واقعيّةٍ لشعور المجرم بالأمن، فنجد الإنسان لا يستطيع التّجوُّل في بعض السّاعات في بعض البلدان المتحضِّرة إلاّ إذا كان مسلّحاً أو خاضعاً لحراسةٍ مشدّدةٍ، بينما نجده يشعر بالأمن المطلق في بلدانٍ متخلِّفةٍ تطبِّق عقوبة الإعدام بنسبةٍ جيِّدةٍ. ‏

‏إنّنا نضع أمامنا مجتمعاً متحضِّراً ومتقدِّماً في أرقى مجالات التّقدُّم المعاصرة، ومضموناً بكلِّ أنواع الضّمان الصِّحِّيِّ والاجتماعيِّ والثّقافيِّ وغير ذلك، ونضع إلى جانبه مجتمعاً متخلِّفاً بدائيّاً لا يملك الفرد فيه أيّ نوعٍ من أنواع الضّمان، ثمّ نجد الجريمة تتّسع في المجتمع الأوّل حتّى تصل إلى مستوى الكارثة، مع إلغاء عقوبة الإعدام، ونجدها تتقلّص في المجتمع الثّاني، وهي لا تصل إلى أيِّ مستوًى مهما كان متدنِّياً، على أساس تنفيذه لعقوبات الإعدام، فماذا يُفسِّر لنا ذلك؟ ‏

‏ التّوازن الدّاخليُّ للإنسان ‏

‏أمّا من النّاحية الفكريّة الّتي تنفذ إلى دراسة الإنسان من موقع إنسانيّته الواقعيّة، فنلاحظ: أنّ الإنسان ليس مخلوقاً على أساسٍ هندسيٍّ في عواطفه ومشاعره وأفكاره ونوازعه، كما هو الحيوان الأعجم الّذي خلق الله له غرائز منظّمةً بشكلٍ دقيقٍ لا يملك فيه أيّ لونٍ من ألوان الاختيار في أغلب الحالات، بل إنّ الإنسان مخلوقٌ على أساس ما لديه من غرائز وشهوات متحرِّكةٍ متنقِّلةٍ في أكثر من اتِّجاهٍ، بحيث يستطيع أن يوسِّعها ويُضيِّقها ويعمِّقها، ما يجعل منه مخلوقاً معقّداً في أغلب القضايا. فإذا كان الإنسان كذلك، فما الّذي يحتاجه لكي ينطلق في الحياة ويمارس عمليّة الانضباط في انطلاقته تلك؟ ‏

‏إنّنا نشعر بحاجته إلى عنصرين: هما العقل والإرادة، ولا بُدّ للعقل من العلم والتّجربة والمعاناة، ولا بُدّ للإرادة، الّتي تحوِّل الفكر إلى ممارسة، من تربيّةٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ. ومن الملحوظ أنّ المجتمع يحتاج إلى جهدٍ كبير في هذا السّبيل؛ لأنّ حركة الإرادة ترتبط بالحرمان الّذي يحتاج الفرد إلى أن يتحمّله، وتلتقي بالصُّعوبات الّتي يواجهها، وبالتّحدِّيات الّتي تواجهه، وبكثيرٍ من المشاكل الّتي تتجمّع في أجواء العمل، ما يسبِّب للإنسان الكثير من الجهد والمشقّة والتّعب. فلا بُدّ من التّربية الطّويلة المستمرّة الّتي تدفعه إلى أن يقف المواقف الصّعبة الّتي ترفضها نفسه، وذلك بالتّركيز على العامل الدّاخليِّ الّذي يوحي للذّات بالمفهوم في نطاق القيمة، لتكون القيمة عنصراً ذاتيّاً تندفع الذّات إليه بعفويّةٍ وبساطةٍ في حركةٍ تلقائيّةٍ، وليكون ذلك بمثابة القاعدة النّفسيّة الّتي تلتقي فيها العاطفة بالفكر. ‏

‏ دور العوامل الخارجيّة في التّوازن ‏

‏ولا بُدّ - بالإضافة إلى ذلك - من العامل الخارجيِّ الّذي يحمي الإرادة من نقاط الضّعف الدّاخليّة؛ لأنّ الإنسان قد يستسلم إلى حالات الضّعف الّتي تهزم إرادته في مجالات الصِّراع، في ما لو تُرِك لمفاهيمه بعيداً عن النّتائج السّلبيّة والإيجابيّة الّتي تترتّب عليها. ‏

‏ومن هنا، كان للثّواب والعقاب دورٌ كبيرٌ في إيجاد الضّوابط الفرديّة والاجتماعيّة ضدّ الانحراف، سواءٌ منه الثّواب والعقاب في الإطار الاجتماعيِّ، من خلال التّقاليد الضّاغطة على الفرد الّتي قد توقف الإنسان عند حدٍّ معيّنٍ من السُّلوك في حالة توجُّه الإرادة إلى الانحراف، لأنّه يخاف من سطوة المجتمع، أو ما كان منهما في الإطار القانونيِّ في ظل سيطرة القانون، أو في الإطار الأخرويِّ في ظل ثواب الله وعقابه؛ وذلك باعتبار أنّ المفاهيم والقيم المعنويّة قد تسقط أمام نوازع الذّات الدّاخليّة، أو مطامعها الخارجيّة، فتأتي الضّوابط الاجتماعيّة والقانونيّة والأخرويّة لتحفظ الإرادة من الانسحاق والانهيار في مواطن الضّعف؛ لأنّها تخلق في داخل النّفس جوّاً داخليّاً وبيئةً خارجيّةً تشكِّل أرضاً خصبةً للنُّموِّ والقوّة والحركة. ‏

‏ولا فرق في الحاجة إلى ذلك بين الشُّعوب المتخلِّفة والشُّعوب المتحضِّرة؛ لأنّ التّخلُّف والتّحضُّر لا يختلفان في هذا المجال، وإنّما يختلفان في طبيعة الوعي للحياة والحركة، وفي أسلوبهما العمليِّ؛ أمّا الانحراف، وأمّا الجريمة والضّعف الذّاتيُّ، فإنّهما يلتقيان فيه، ولكن بأسلوبٍ مختلفٍ، فللحضارة أساليبها المتقدِّمة في الانحراف وفي الجريمة، وللتّخلُّف أساليبه البدائيّة في ذلك. وقد يختلفان في طبيعة مواطن الانحراف تبعاً لحاجتهما إلى ذلك، ولكنّ الإنسان يظلُّ في حاجة إلى السّوط الّذي يلوِّح له بالعقوبة، ليستقيم على الخطِّ، وليبقى في الجوِّ الطّبيعيِّ السّليم. ‏

‏ولسنا نقرِّر ذلك من وجهة نظرٍ فكريّةٍ مجرّدةٍ، ولكنّ القراءة الواعية لتاريخ الشُّعوب المتحضِّرة، ولحركتها المعاصرة، تُعرِّفنا أنّ الحضارة قد استطاعت أن تعطي الجريمة مفهوماً حضاريّاً بأساليب حضاريّةٍ لا يرقى إليها ما تعارف لدى الشُّعوب المتخلِّفة من مفاهيم وأساليب. وعلى ضوء ذلك، أقامت المدنيّات نظاماً تفصيليّاً للعقوبات بالمستوى الّذي لا تعرفه قوانين الشُّعوب البدائيّة، تبعاً للطّبيعة المعقّدة المتنوِّعة لجرائم الحضارة. ‏

‏إذاً فلا بُدّ من العقوبة. ولكن كيف نعاقب القاتل؟ بالسّجن؟ أم بالضّرب؟ أم بالقتل؟ من خلال كلِّ ذلك نعرف أنّ موقع التّشريع الإسلاميِّ هو في حركة العدالة في الحياة. ‏

‏ عقوبة الإعدام شبهاتٌ وردودٌ ‏

‏ربّما يطرح البعض من المفكِّرين أفكاراً حول رفض عقوبة الإعدام كحلٍّ للمشكلة، من خلال التّساؤل عن إنسانيّة هذه العقوبة وانسجامها مع الخطِّ الأفضل للحياة. ويمكن أن نثير هذه الأفكار ضمن ثلاث نقاط: ‏

‏ 1- إنّه لا يجوز أن نعالج الجريمة بجريمةٍ مماثلةٍ، أو نحلّ المشكلة بمشكلةٍ مثلها، فإذا كانت فظاعة الجريمة الأولى ناشئةً من فظاعة فكرة إعدام الحياة، فإنّ العقوبة تتحرّك في الاتِّجاه نفسه؛ فإنّنا نقوم حينئذٍ بالعمل نفسه الّذي يتمثّل في إعدام حياةٍ ثانيةٍ تفرض قدسيّةُ الحياة حمايتها والمحافظة عليها في كلِّ موقعٍ من مواقعها مهما أمكن ذلك. ‏

‏ 2- إنّ عقوبة القصاص لا تنسجم مع النّتيجة الّتي نخرج بها في دراستنا لشخصيّة المجرم؛ فإنّ الجريمة لا تنشأ من عقدةٍ متأصِّلةٍ ذاتيّةٍ في نفسه، بل تنشأ من خلال ظروفٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ طارئةٍ في محيط حياته، فتشكِّل لديه عقدةً نفسيّةً تتحكّم في سلوكه وتضغط على واقعه الفرديِّ والاجتماعيِّ. وفي جميع الأحوال تُعتبر الجريمة لدى المجرم حالةً مرضيّةً، وإذا كانت كذلك فلا بُدّ للمشترع من مواجهتها في هذا الموقع، تماماً كما يواجه حالةً مرضيّةً نفسيّةً أو جسديّةً، وعلاجها بقتل المرض لا بقتل المريض، وذلك باتِّباع الأساليب الّتي تشفيه من مرضه، ليتحوّل إلى عنصرٍ صحيحٍ فاعلٍ يشارك في خدمة المجتمع. ‏

‏3- إنّ الرّحمة الّتي انطلق الإسلام بها من خلال رسوله وفي رسالته، فكان الرّسول رحمةً للعالمين، وكانت الرِّسالة باباً من أبواب الرّحمة، ومن فوق ذلك كانت الصِّفة البارزة الّتي يصف الله بها نفسه هي الرّحمن الرّحيم، إنّ هذه الرّحمة الّتي تعبِّر عن عمق المعاني الإنسانيّة للشّريعة، لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أن يفتح أمامه باب العفو والتّسامح والتّراجع عن الخطأ. ‏

‏لعلّ هذه النِّقاط من أبرز الأمور الّتي أُثيرت حول تشريع عقوبة الإعدام في الإسلام. ‏

‏أمّا تعليقنا عليها فبتأكيد عدّة ملاحظاتٍ: ‏

‏ أوّلاً:‏‏ إنّ الكثير من هذه الأفكار هي نتيجةٌ للنّزعة الفرديّة في فلسفة الحياة، النّزعة الّتي تستغرق في الفرد لتعتبره كلّ شي‏ءٍ، فهو الأساس الّذي يحصل المجتمع على سلامته وتطوُّره من خلاله؛ وبذلك كان التّركيز على سلامة القاتل كفردٍ لا بُدّ لنا من أن نحمي حياته، أو كمريضٍ لا بُدّ لنا من معالجته، أو كإنسانٍ لا بُدّ لنا من أن نرحمه. وتبقى النّتائج العمليّة الخطيرة الّتي تنعكس على حياة المجتمع من خلال تصرُّفات هذا الفرد وأمثاله، تتفاعل من دون أن تثير اهتماماً أو تحرِّك واقعاً، في مجال التّشريع، أو في مجال العمل. ‏

‏ ثانياً:‏‏ إنّ الإسلام يتحرّك في مفاهيمه وتشريعاته من موقع التّفكير الإنسانيِّ الواقعيِّ الّذي يعمل على حماية الفرد، حتّى من نفسه، وعلى حماية المجتمع، حتّى من أفراده، فلم يترك للفرد الحرِّيّة حتّى في مجال الإساءة إلى حياته الخاصّة، ولم يعط المجتمع حرِّيّة الاعتداء على الفرد. وعلى ضوء ذلك، كان احترامه للفرد في المجالات الّتي لا تهدِّد المجتمع في سلامته؛ لأنّ سلامة المجتمع أكثر أهمِّيّةً من سلامة الفرد في حالات التّزاحم. ‏

‏وبذلك كان إعدام القاتل عقوبةً ذات اتِّجاهين: فهي من جهةٍ ترتبط بحصر المشكلة في إطارها المحدود بالنِّسبة إلى أولياء المقتول؛ لأنّها تُنفِّس عنهم المشاعر الحادّة الّتي يمكن أن تنفجر في مساحةٍ أكبر، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: {ولا تقْتُلُوا النّفْس الّتِي حرّم اللّهُ إِلاّ بِالْحقِّ و منْ قُتِل مظْلُوماً فقدْ جعلْنا لِولِيِّهِ سُلْطاناً فلا يُسْرِفْ فِي الْقتْلِ إِنّهُ كان منْصُوراً}[الإسراء: 33]؛ وهي من جهةٍ أخرى تمثِّل عنصراً رادعاً للآخرين الّذين يفكِّرون في القيام بجريمة القتل ضدّ أفرادٍ آخرين، أو الّذين يستسلمون لبعض حالات الانفعال الّتي يفقدون معها التّوازن في التّصرُّف، فإنّ هذه العقوبة تصلح لأن تدفع بالإنسان إلى التّفكير طويلاً قبل الإقدام على الجريمة. ‏

‏وربّما نضيف إلى الموضوع بُعداً ثالثاً، وهو التّشديد على الموقف المبدئيِّ ضدّ الظُّلم، بالتّحرُّك لمعاقبة الظّالمين، كأسلوبٍ عمليٍّ من أساليب إزالته من الأرض. ‏

‏ ثالثاً:‏‏ إنّ التّركيز على العقليّة الفرديّة في العمل وفي التّشريع، لازمُه إعادة النّظر في كثير من المبادئ الّتي يسير عليها النّاس في مختلف أوضاعهم، فنحن نرى أنّ الأُمّة تضحِّي بالآلاف من الجنود من أجل الحفاظ على عزّتها وكرامتها وسلامتها، وذلك في الحالات الّتي تتعرّض فيها للخطر من القوى الظّالمة الغاشمة الّتي تريد أن تستعبدها وتستعمرها. ولا يمكن الانسجام مع ذلك إلاّ على أساس التّفكير الاجتماعيِّ الّذي يفرض نفسه على الحياة في حالات الحرب والسِّلم؛ لأنّ التّفكير الفرديّ لا يوافق على أن تضحِّي بنفسك من أجل الآخرين. ولا فرق في هذا المجال بين أن يُضحِّي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين باختياره، وبين أن يُضحِّي المجتمع بالفرد، إذا كانت التّضحية به شرطاً لسلامة المجتمع، في ما إذا كان عنصراً فاسداً أو عضواً مشلولاً. ‏

‏أمّا السّلبيّات الّتي تحدث من خلال ذلك، فإنّها طبيعيّةٌ في كلِّ تشريعٍ تتقدّم فيه الإيجابيّات على السّلبيّات؛ لأنّنا لا نجد أيّ حلٍّ لأيّة مشكلةٍ، إلاّ ونجد هناك مشاكل صغيرةً تتجمّع في طريق الحلِّ. ‏

‏إنّ الإسلام يرى القضيّة، على النّحو التّالي: إنّ إعدام القاتل قد يُفقدنا عدّة أفرادٍ من المجتمع، ولكنّه يحمي لنا حياة المجتمع كلِّه في الحاضر والمستقبل، سواءٌ منهم الّذين يفكِّرون بالقتل، أو الّذين يفكِّر الآخرون أن يقتلوهم، ما يجعل المعادلة سليمةً من ناحية العدالة. وهذا ما عبّرت عنه الآية تعبيراً دقيقاً في قوله تعالى: {ولكُمْ فِي الْقِصاصِ حياةٌ يا أُولِي الْألْبابِ}. ‏

‏رابعاً: إنّ الفكرة الّتي تقول: إنّ إعدام القاتل يضيف إلى الجريمة جريمةً ثانيةً، لأنّنا نقوم بما يقوم به المجرم من الاعتداء على الحياة، فهو قد أعدم حياة المقتول، ونحن نعدم حياة القاتل، إنّ هذه الفكرة مغلوطةٌ لسببٍ بسيطٍ جدّاً، وهو أنّ القاتل قد أعدم حياة المقتول بغير حقٍّ؛ لأنّ هذا هو المفروض في موضوع القصاص؛ فقد كانت تلك الحياة وديعةً مسالمةً بريئةً، فهي حياةٌ محترمةٌ تبعث على الاحترام؛ أمّا حياة القاتل فهي حياةٌ باغيةٌ ظالمةٌ معتديةٌ، فليست القضيّة واحدةً في الحساب؛ لأنّ مثل هذه الحياة لا تبعث على الاحترام والتّقدير. ‏

‏ولعلّ من الطّريف أن ننقل في هذا المجال الحوار الّذي دار بين شاعرٍ مشكِّكٍ وشاعرٍ مؤمنٍ حول موضوع قطع يد السّارق، وقطع يد غير السّارق، فإنّ الأولى تُقطع بسرقة ربع دينار، بينما تُدفع دية الأخرى خمسمئة دينار. ‏

‏قال الأوّل: ‏

‏يدٌ بخمس مئين عسجد وُدِيتْ ما بالُها قُطِعتْ في رُبْع دينار‏

‏تحكُّمٌ ما لنا إلاّ السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النّار‏

‏فأجابه الثّاني: ‏

‏عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ذُلُّ الخيانةِ فانْظُرْ حكمة الباري‏‏(27)

‏خامساً:‏‏ إنّ الفكرة الّتي تنظر إلى الجريمة من حيث هي مرضٌ نفسيٌّ يحتاج إلى علاج، كأيِّ مرضٍ آخر من الأمراض النّفسيّة الّتي قد تفرض علينا أن نفتح مصحّاتٍ للعلاج النّفسيِّ، هذه الفكرة غير دقيقةٍ أوّلاً، وغير مانعةٍ - ثانياً - من البقاء في نطاق هذا التّشريع كعلاجٍ حاسمٍ يفرض نفسه على الواقع؛ أمّا أنّ الفكرة غير دقيقةٍ، فلأنّ الجريمة ليست نتيجة مرضٍ نفسيٍّ في كلِّ حالاتها، بل قد تكون ناشئةً من حالاتٍ طارئةٍ، كوضعٍ انفعاليٍّ يتحرّك في اتِّجاه العدوان، أو من أوضاع لاشعوريّةٍ، وقد تكون استهتاراً بالحياة وبالآخرين، كنتيجةٍ لفقدان الضّوابط الرّادعة في المجتمع، وقد تكون - كما تفرض الفكرة - ناشئةً من عقدةٍ في الطُّفولة، أو في العلاقات العامّة والخاصّة، الّتي قد تترك آثارها السّلبيّة على حياة الفرد ونفسيّته. ‏

‏وأمّا أنّها غير مانعةٍ من بقاء التّشريع كحلٍّ يفرض نفسه، فلأنّنا في مواجهتنا للعقدة النّفسيّة المرضيّة نقف أمام طرحين للحلِّ: الطّرح الفرديِّ، والطّرح الاجتماعيِّ؛ أمّا الطّرح الفرديُّ فإنّه ينظر إلى حالة الفرد كحالةٍ تستوجب العلاج من أجل الحصول على الصِّحّة النّفسيّة الّتي تبقيه في المستقبل كعنصرٍ حيٍّ فاعلٍ في الحياة، وربّما كان هذا أمراً سليماً جدّاً من وجهة نظرٍ إنسانيّةٍ فرديّةٍ، ولكنّه لا يُعتبر سليماً من ناحيةٍ اجتماعيّةٍ؛ لأنّ هذا الأسلوب سوف يشجِّع المجرمين على الجريمة بشكلٍ عامٍّ؛ لأنّه يعلم - مقدّماً - أنّه سيواجه الكثير من أسلوب الرِّعاية والحماية والتّكريم، ما يدفعه إلى المزيد من الاستهتار بالجريمة وإلى العزم على مواصلتها. ‏

‏وقد لا نحتاج في تأكيد هذا الموضوع إلى المزيد من التّحليل الفكريِّ، بل يكفينا الالتفات إلى الحالات الّتي تُطبّق فيها قواعد العلاج النّفسيِّ في بعض السُّجون الحديثة في الدُّول المتقدِّمة، حيث يبادر المجرم إلى إعادة الجريمة فور خروجه من السِّجن؛ لأنّ هناك أكثر من عاملٍ داخليٍّ أو خارجيٍّ يعتبر نقطة ضعفٍ في حياة هذا الشّخص أو ذاك. ‏

‏ولعلّ طبيعة التّعقيد الاجتماعيِّ في العلاقات تفرض كثيراً من التّأثيرات، ما يجعل من عمليّة التّوجيه - بعيداً عن هذه الأجواء - جهداً ضائعاً؛ لأنّ المناعة الّتي يشعر بها الإنسان خارج نطاق التّجربة لا تفيده عندما يعيش في قلب التّجربة، الّتي توحي بالانحراف. ‏

‏وعلى ضوء هذا، فإنّ الطّرح الفرديّ للحلِّ لا يُعتبر سليماً من ناحيةٍ اجتماعيّةٍ. أمّا الطّرح الاجتماعيُّ، فإنّ قيمته أن يجعل الحقّ للمجتمع - ممثّلاً بأولياء المقتول، أو بالسُّلطة الشّرعيّة - في الاقتصاص من القاتل، من دون أن يغلق الباب عن البدائل السِّلميّة للقضيّة، وذلك بالعفو من دون مقابل، أو بالعفو على أساس دفع الدِّية، لتكون بمثابة التّعويض المادِّيِّ عن الخسارة الّتي تلحق بالورثة من خلال ضياع الفرصة الّتي كانت تمنحهم الاكتفاء المادِّيّ بوجود القتيل. وبذلك استطاعت العدالة الإسلاميّة أن تقف في الموقع المتوازن الّذي لا يتنكّر للسّلامة العامّة في التّشريع، ولا يلغي حقّ العفو وإمكانات السّلامة للقاتل في بعض الحالات. ‏

‏ سادساً:‏‏ إنّ الجريمة قد تكون مرضاً، ولكنّ ذلك لا يلغي طبيعة الاختيار في التّصرُّف؛ لأنّ العُقد النّفسيّة قد تشكِّل لوناً من ألوان الدّوافع الشِّرِّيرة في النّفس، ولكنّها لا تسيطر على الإنسان بالمستوى الّذي يفقد معه إرادته واختياره، وإذا وُجدت الإرادة وُجدت المسؤوليّة الّتي تفرض نفسها عليه، ما يجعل للفعل الصّادر عنه صفة الجريمة الخاضعة للعقاب؛ ولكن ما هو مستوى العقوبة؟ ‏

‏إنّنا نعتقد أنّ المعالجة المرضيّة لن تنفع في هذا المجال بالنِّسبة إلى المجرم، بل لا بُدّ لنا من الانطلاق في المعالجة في جوانب أخرى لدى غير المجرمين، فنربِّي أفراد المجتمع على الأُسس الصّحيحة الّتي تمنع من وجود أفراد مجرمين. أمّا المجرم، فلا مجال لإلغاء مسؤوليّته في العقوبة الشّديدة الّتي هي الإعدام؛ لأنّ الإلغاء إذا كان يعتمد على النّاحية المرضيّة، فينبغي أن نلغي العقوبة رأساً؛ على أساس أنّ العُقدة تُعفي من المسؤوليّة. وقد تمتدُّ القضيّة إلى أبعد من ذلك فنقرِّر إلغاء العقوبات رأساً؛ لأنّ أيّ انحرافٍ في أيِّ جانبٍ من الجوانب لا بُدّ من أن ينشأ من انحرافٍ مرضيٍّ في داخل النّفس، من دون فرقٍ بين الجريمة الكبيرة والجريمة الصّغيرة، حتّى الحبس، لا يعود له مجالٌ في هذا المقام، بل لا بُدّ من إدخاله المصحّ، كأيِّ مريضٍ آخر. ‏

‏إنّها مشكلة التّفكير الفرديِّ الّذي لا ينظر إلى المشكلة من خلال حجمها الكبير، بل ينظر إليها من خلال النِّطاق المحدود الّذي تتحرّك فيه. ‏

‏سابعاً:‏‏ إنّ الرّحمة الّتي يثيرها الإسلام في مفهومه الرُّوحيِّ والعمليِّ، لا تعني الانفعال الّذي يرتبط بالشّفقة، بل تعني مواجهة الواقع بما يحقِّق مصلحة الإنسان في المستوى الشّامل، تماماً كما هي الحال عندما يضطرُّ الجرّاح إلى بتر أحد الأعضاء لحماية الحياة للجسد كلِّه؛ فإنّ ذلك يمثِّل الرّحمة للإنسان المريض. إنّ الرّحمة للّذين يعيشون الحياة من موقع الرّحمة لحركة الحياة، لا للّذين يقضون على الحياة ويطعنونها في الصّميم. ‏

‏إنّ التّشريع لا يتعامل مع العاطفة، بل يتعامل مع المصلحة العامّة للإنسان، ولهذا جاءت الآية لتقرِّر الحقيقة الشّاملة في قوله تعالى: {ولكُمْ فِي الْقِصاصِ حياةٌ يا أُولِي الْألْبابِ لعلّكُمْ تتّقُون}. ‏

‏ولعلّ في الإشارة إلى أولي الألباب دعوةً إلى العقل لكي يتحرّك في داخل ذوي العقول، ليعرف كيف يحفظ التّشريع حياة النّاس على أساسٍ من التّقوى والإيمان، بعيداً عن كلِّ عاطفةٍ وانفعالٍ ذاتيٍّ. ‏

‏هذا ما أردنا الإشارة إليه في تفسير هاتين الآيتين، والله أعلم بحقائق أحكامه وأسرار آياته، وهو حسبنا ونعم الوكيل.‏

‎ ‎


‏ ‏

‏الهوامش: ‏

‏(1)‏‏ابن أبي ربيعة، عمر بن عبدالله (ت 93 هـ-)، ديوان عمر بن أبي ربيعة، ط 2، تحقيق الدُّكتور فايز محمد، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1416 هـ- - 1996 م، ص 304.‏

‏(2)‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 488.‏

‏(3)‏‏م. ن. وانظر: الجصّاص، أبو بكر أحمد بن علي الرّازي (ت 370 هـ-)، أحكام القرآن، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت - لبنان، 1415 هـ- - 1994 م، ج 1، ص 187. الفراهيدي، أبو عبد الرّحمن الخليل بن أحمد (ت 175 هـ-)، العين، ط 2، تحقيق الدُّكتور مهدي مخزومي والدُّكتور إبراهيم السّامرائي، مؤسسة دار الهجرة، 1410 هـ-. ‏

‏(4)‏‏الفراهيدي، العين، م. س، ج 4، ص 320. ‏

‏(5)‏‏انظر: الطّبري، أبو جعفر محمّد بن جرير (ت 310 هـ-)، جامع البيان عن تأويل القرآن، ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطّار، دار الفكر، بيروت، 1415 هـ- - 1995 م، ج 6، ص 351، وحكاه عن سفيان عن ابن عبّاس. ابن أبي حاتم الرّازي، عبد الرّحمن بن محمد بن إدريس (ت 327 هـ-)، تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطّيِّب، المكتبة العصريّة، صيدا - لبنان، (د ت)، ج 1، ص 293 - 294، ح 1576، وحكاه عن عطاء عن سعيد. ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدِّين عبد الرّحمن بن علي‏بن محمد الجوزي القرشي (ت‏597 هـ-)، نواسخ القرآن، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، (د ت)، ص‏56. لكن ورد في: القمِّي، علي بن إبراهيم بن هاشم (ت ق 4 هـ-)، تفسير القمِّي، ط 3، مؤسّسة دار الكتاب للطِّباعة والنّشر، قم - إيران، 1404 هـ-، ج 1، ص 13 و 64 - 65 و 169، التّصريح بأنّ آية المائدة منسوخةٌ بآية البقرة، أي أنّ الأمر بعكس الوجه المذكور!‏

‏(6)‏‏ابن الجوزي، نواسخ القرآن، م. س، ص 57. ‏

‏(7)‏‏الخوئي، السّيِّد أبو القاسم (ت 1992 م)، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت - لبنان، 1975م، ص 293 - 294. ‏

‏(8)‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 1، ص 403، ح 1.‏

‏(9)‏‏السّيِّد الخوئي، البيان، م. س، ص 294.‏

‏(10)‏‏ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبدالله النُّمري (ت 436 هـ-)، الاستيعاب، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 2000 م، ج 8، ص 176. ولكنّ الحديث مرويٌّ بكثرةٍ بصيغةٍ أخرى هي المشهورة وهي: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه»، بإسقاط «به» بعد «قتلناه»، راجع: ابن أبي شيبة، المصنّف، م.س، ج 6، ص 368، باب 116 من كتاب الدِّيات، ح 1.‏

‏(11)‏‏السّيِّد الخوئي، م. ن. ‏

‏(12)‏‏ابن أبي شيبة، م. ن، ج 6، ص 369، باب 117 من كتاب الدِّيات، ح 2. ‏

‏(13)‏‏م. ن، ص 369، باب 118 من كتاب الدِّيات، ح 1.‏‎P‎

‏(14)‏‏العيّاشي، محمّد بن مسعود بن عياش السُّلمي السّمرقندي (ت 320 هـ-)، تفسير العيّاشي، تحقيق هاشم الرّسول المحلاتي، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، طهران، ج 1، ص 75، ح 158.‏

‏(15)‏‏السّيِّد الخوئي، البيان، م. س، ص 295.‏

‏(16)‏‏راجع: الحرُّ العاملي، الشّيخ محمّد بن الحسن (ت 1104 هـ-)، تفصيل وسائل الشِّيعة إلى تحصيل مسائل الشّريعة، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التُّراث، ط 2، قم - إيران، 1414 هـ-، ج 29، ص‏80- 87، باب (33) حكم الرّجل يُقتل بالمرأة والمرأة تُقتل بالرّجل. ‏

‏(17)‏‏الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 141، ح 2108.‏

‏(18)‏‏م. ن، ح 2109.‏

‏(19)‏‏م. ن. ‏

‏(20)‏‏الشّيخ مغنيّة، محمد جواد (ت 1400 هـ-)، التّفسير الكاشف، ط 1، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، 1424هـ- - 2003 م، ج 1، ص 276.‏

‏(21)‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 490. الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص‏146- 149. الثعلبي، أحمد بن محمّد بن إبراهيم (ت 427 هـ-)، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ط1، تحقيق الإمام أبي محمّد بن عاشور، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1422هـ- - 2002م، ج‏2، ص 54.‏

‏(22)‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 490.‏

‏(23)‏‏الأردبيلي، أحمد بن محمّد (ت 993 هـ-)، زبدة البيان في أحكام القرآن، المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، طهران - إيران، (د ت)، ص 668. ‏

‏(24)‏‏الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 7، ص 358، ح 1.‏

‏(25)‏‏إنجيل متّى، الأصحاح 5، الفقرة 39. والفقرة بتمامها مع الّتي قبلها: «سمعتم أنّه قيل: عينٌ بعين وسنٌ بسنٍّ. (39) أمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشّرّ، بل من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً».‏

‏(26)‏‏انظر: السّيِّد رضا، محمد رشيد (ت 1935م)، تفسير القرآن الحكيم (الشهير بتفسير المنار)، ط 2، دار المنار، مصر، 1366 هـ-، ج 2، ص 123. السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 435. ‏

‏(27)‏‏أمّا البيتان الأوّلان فهناك اتِّفاقٌ على أنّهما لأبي العلاء المعرِّي (ت 449 هـ-)، ونسب في: الصّفدي، صلاح الدِّين خليل بن أيبك (ت 764 هـ-)، الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1420 هـ- - 2000 م، ج 7، ص 74، الرّدّ الشِّعريّ عليه إلى الشّيخ علم الدِّين السّخاوي (ت 643 هـ-)، لكن بلفظٍ آخر هو: صيانة العرض أغلاها وأرخصها * صيانة المال فافهم حكمة الباري. وفي: الشّهيد الأوّل، أبو عبدالله محمّد بن مكي العاملي (ت‏786هـ-)، القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، تحقيق الدكتور السّيِّد عبد الهادي الحكيم، منشورات مكتبة المفيد،قم - إيران، (دت)، ج 1، ص 142، نسب إلى السّيِّد المرتضى رحمه الله الرّدّ عليه بلفظٍ آخر هو: حراسة الدّم أغلاها وأرخصها * حراسة المال فانظر حكمة الباري. ورُدّ عليه بألفاظٍ أخرى، منها اللّفظ المذكور في الأعلى، الّذي نسبه في: المناوي، محمّد عبد الرّؤوف (ت‏1031 هـ-)، فيض القدير شرح الجامع الصّغير من أحاديث البشير النّذير، ط1، ضبطه وصحّحه أحمد عبد السّلام، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1415 هـ- - 1994 م، ج 1، ص 299، إلى القاضي عبد الوهاب المالكي. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية