معاني المفردات
{فأوْفُوا}: الإيفاء: إتمام الشّيء إلى حدِّ الحقِّ فيه. ومنه: إيفاء العهد، وهو إتمامه بالعمل به.
{الْكيْل}: تقدير الشّيء بالمكيال حتّى يظهر مقداره.
{والْمِيزان}: تقدير الشّيء بالميزان.
{ولا تبْخسُوا}: البخس: النّقص عن الحدِّ الّذي يوجبه الحقُّ.
{تُفْسِدُوا}: الإفساد: إخراج الشّيء إلى حدٍّ لا يُنتفع به بدلاً من حالٍ يُنتفع بها. وضدُّه: الإصلاح.
{وتصُدُّون}: تصرفون عن الفعل بالإغواء فيه. يقال: صدّه عن الأمر: منعه.
{عِوجاً} - بكسر العين -: العطف عن حال الانتصاب. والعِوج يُقال فيما يُدرك بالفكر والبصيرة، كما يكون في أرضٍ بسيطٍ يُعرف تفاوته بالبصيرة، وكالدِّين، والمعاش. والعوج يُقال فيما يُدرك بالبصر سهلاً كالخشب المنتصب ونحوه.
{لتعُودُنّ}: العود: الرُّجوع. وهو مصير الشّيء إلى حالٍ كان عليها. ومنه إعادة الله للخلق.
{طائِفةٌ}: جماعةٌ من النّاس.
{مِلّتِنا}: طائفتنا. والملّة: الدِّيانة الّتي يجتمع على العمل بها فرقةٌ عظيمةٌ.
{اِفْتحْ}: الفتح: إزالة الإغلاق والإشكال، يقال: فتح القضيّة فتاحاً: فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها. وجاء في (مجمع البيان): « الفتح: الحكم، والفاتح والفتاح: الحاكم؛ لأنّه يفتح باب العلم الّذي انغلق على غيره... قال ابن عبّاس: ما كنت أدري ما الفتح، حتّى سمعت بنت سيف بن ذي يزن، وقد جرى بيني وبينها كلامٌ، فقالت: انطلق أفاتحك إلى القاضي، أي: أحاكمك إليه»1؛ فالفتح في هذه الموارد بمعنى القضاء والحكم.
{اِفْتريْنا}: الافتراء مشتقٌّ من فري الأديم، وهو مثل الاختلاف والافتعال.
{لمْ يغْنوْا}: غني بالمكان: أقام فيه، وكأنّه استغنى بذلك المكان عن غيره.
{آسى}: أحزن كثيراً.
شعيبٌ وقومه
وهذا نبيٌّ آخر أرسله الله إلى قومه لهدايتهم، ومعالجة بعض الانحرافات الاقتصاديّة في تجارتهم مع النّاس، الّتي كانت تتمثّل بالتّطفيف في المكيال والميزان، فيأخذون لأنفسهم ما يستحقُّونه، ويعطون النّاس أقلّ ممّا يستحقُّون.
وننفتح في قصّة شعيب وحواره مع قومه على موقفٍ أكثر قوّةً من موقف لوط؛ فقد كانت لشعيب عشيرةٌ قويّةٌ يُحسب لها حساب، وهذا ما جعل أسلوبه في خطابه لقومه يتّصف بالقوّة الّتي لا تبتعد عن الجوِّ الرِّساليِّ الوديع، الّذي يحاول - من خلاله - أن يجرّهم إلى دعوته بالأسلوب الهادئ اللّيِّن. ونلاحظ - في هذا الحوار -: أنّه استطاع أن يجلب إلى دعوته الجماعات المضطهدة والمستضعفة من قومه، ليواجه الجماعات الغنيّة المستكبرة. وربّما يكون هذا منطلقاً من طبيعة الدّعوة الّتي دعا إليها، والمفاهيم الّتي بشّر بها؛ فإنّ التّطفيف نوعٌ من أنواع الاستغلال الاقتصاديِّ الّذي يتميّز به الأغنياء المستكبرون، حيث يعيشون مشاعر الأنانيّة وسلوكها، ما يجعلهم يفكِّرون بالاستغلال عندما يشترون، فيأخذون الزِّيادة لأنفسهم، ويفكِّرون به عندما يبيعون، فيستغلُّون حاجة الآخرين إليهم لينقصوا من حقِّهم بما يشاؤون.
ونحاول الآن الدُّخول في أجواء هذا الحوار القصصيِّ القرآنيِّ، لنتمثّل حركة الرِّسالة في حياة هذا النّبيِّ المصلح مع خصوم الرِّسالة والرّسول.
الحقُّ والإصلاح أساس كلِّ خير
{وإِلى مدْين أخاهُمْ شُعيْباً قال يا قوْمِ اُعْبُدُوا اللّه ما لكُمْ مِنْ إِلهٍ غيْرُهُ}، فذلك هو السّبيل لاستقامة المنهج في الحياة وارتكازه على قاعدةٍ ثابتةٍ في النّفس وفي الحياة؛ لأنّ الإنسان الّذي يرتبط بالخطِّ التّوحيديِّ في إيمانه بالله الواحد، في التزامه به وخضوعه لعبادته المنفتحة على حركة الطّاعة في موقع العبوديّة، لا يتحرّك عشوائيّاً بما يوحي به إليه هواه بعيداً عن خطِّ الاستقامة، ولا بُدّ أن يرتكز على النّهج القويم في الامتثال لأوامر الله ونواهيه، والانفتاح على مفاهيم الحقِّ ومواقع العدل، فلا ينحرف في علاقته بالنّاس في أمورهم وقضاياهم العامّة والخاصّة، بينما يذهب المنكر للتّوحيد في متاهات الحياة بعيداً عن القاعدة الإنسانيّة الإيمانيّة. وهذا هو الّذي بدأ الأنبياء به دعوتهم إلى النّاس، من أجل أن يخطِّطوا لحياتهم بما يرتفع بها إلى آفاق الخير والعدل والإحسان في خطِّ التّوازن.
{قدْ جاءتْكُمْ بيِّنةٌ مِنْ ربِّكُمْ}، في ما أوضحه الله لكم من دلائل قدرته ومظاهر عظمته وصدق رسوله، {فأوْفُوا الْكيْل والْمِيزان}، واجعلوه تامّاً من دون زيادةٍ ولا نقصانٍ، {ولا تبْخسُوا النّاس أشْياءهُمْ}، فتُنقصوهم حقّهم وتحرموهم منه، {ولا تُفْسِدُوا فِي الْأرْضِ بعْد إِصْلاحِها}؛ فقد أرادها الله ساحةً للتّوازن الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والسِّياسيِّ على كلِّ صعيدٍ، بما يجعل من الإخلال به إفساداً للأرض، بعد أن أصلحها الله في الخطِّ التّكوينيِّ للوجود، وفي الخطِّ الفكريِّ للعقيدة والتّشريع. وهذا ما يؤكِّد شموليّة التّخطيط الإلهيِّ لحركة الإنسان في الحياة منذ القِدم، في ما يتطلّع إليه الدِّين من إقامة الكون على أساس الإصلاح في كلِّ شيءٍ. {ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين}؛ فإنّ ذلك هو سبيل الفلاح في الدُّنيا؛ لأنّه يُصلح أمر الفرد والمجتمع في القضايا العامّة والخاصّة، وفي الآخرة؛ لأنّه يؤدِّي إلى الحصول على رضا الله في نطاق السّير على الخطِّ الإيمانيِّ الّذي يضمن ذلك كلّه.
{ولا تقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُون وتصُدُّون عنْ سبِيلِ اللّهِ منْ آمن بِهِ وتبْغُونها عِوجاً}. فقد كانوا يرصدون المؤمنين ويراقبونهم في كلِّ طريق من طرق الاستقامة الّتي ينطلقون فيها على أساس الخطِّ الفكريِّ والعمليِّ للإيمان، ليتوعّدوهم ويتهدّدوهم، فيسدُّوا عليهم كلّ الأبواب والمنافذ، ليعطِّلوا مسيرتهم ويجمِّدوا انطلاقتهم، من خلال الضُّغوط المتنوِّعة الّتي تمنع المؤمنين من ممارسة حرِّيّتهم في الفكر والعمل. وهذا ما أراد شعيب أن يحذِّر منه، فيهيب بقومه أن لا يحرموا المؤمنين من حرِّيّتهم، كما لا يريدون هم أن يحرمهم الآخرون من هذه الحرِّيّة، وأن لا ينحرفوا بالطّريق عن الخطِّ المستقيم، لتتحرّك في الاتِّجاه المعوّج؛ لأنّ ذلك يُبعدهم عن الاتِّجاه السّليم الّذي ينقذ حياتهم وحياة الآخرين.
استثارة عناصر الذِّكرى
{واُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قلِيلاً فكثّركُمْ}، في ما أفاض الله عليكم من نعمه، حيث جعل منكم قوّةً بعد أن كنتم في مواقع الضّعف، من خلال موازين الكثرة والقلّة؛ فقد تنفع الذِّكرى، فتوحي إليكم بأنّ الّذي أعطاكم نعمة القوّة بالكثرة، قادرٌ على أن يسلبكم ذلك بالقلّة، فلا بُدّ من شكر هذه النِّعمة، بالسّير على ما يريده الله منكم.
{واُنْظُرُوا كيْف كان عاقِبةُ الْمُفْسِدِين} الّذين استغلُّوا نعم الله في إفساد البلاد والعباد، فأهلكهم الله بذنوبهم بعد أن ظنُّوا أنّ الحياة قد فتحت لهم ذراعيها، ومنحتهم كلّ شيءٍ، واغترُّوا بكثرتهم وقوّتهم، ولكنّ قضايا المصير ترتبط بنهايات الأمور لا ببداياتها، فانظروا كيف كانت عاقبتهم السّيِّئة، وكيف تحوّل كلُّ ذلك الجوِّ المملوء بالكبرياء والخيلاء إلى جوٍّ مليءٍ بالحقارة والذِّلّة والبلاء.
الأساليب السّلبيّة لا تحلُّ الخلافات الفكريّة
{وإِنْ كان طائِفةٌ مِنْكُمْ آمنُوا بِالّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائِفةٌ لمْ يُؤْمِنُوا فاصْبِرُوا} ولا تتعقّدوا، ولا تتحرّكوا في أجواء العداوة والبغضاء، لتخلقوا من واقع الخلاف الفكريِّ مشكلةً اجتماعيّةً في مستوى الخصام والقتال، فذلك هو الوضع الطّبيعيُّ للحياة الإنسانيّة، في ما يُطرح عليها من أفكار، فيختلف النّاس فيها بين مؤيّدٍ ورافضٍ. ولا بُدّ لهم من الصّبر على نوازعهم الذّاتيّة كلِّها، ليجعلوا من اختلافهم أساساً لإغناء الفكر وتنمية التّجربة، عندما تتحوّل الخلافات إلى حركةٍ فكريّةٍ من أجل الحوار، وإلى تحريكٍ للخطوات المسؤولة من أجل الوحدة أو التّقارب على أساس التّفاهم المشترك، ومن أجل المصير الواحد، في حين أنّ اللُّجوء إلى الأساليب السّلبيّة العنيفة لا يحلُّ لهم مشكلة الفكر بل يُعقِّدها؛ لأنّه يغلق على الفكر أبواب الانطلاق إلى الآفاق البعيدة، ويُعطِّل حركته عن التّأمُّل والتّعمُّق في هذه القضايا المتنوِّعة، ويُحوِّله إلى طاقةٍ جامدةٍ لا تعطي شيئاً، ولا تساهم في الوصول إلى حلٍّ.
وإذا كانت هذه الأساليب لا تحلُّ للفكر مشكلته، فإنّها لا تكتفي بذلك، بل تضيف للنّاس مشاكل جديدةً، على مستوى الحياة العامّة والخاصّة. وهكذا تتنامى روح الحقد والبغضاء، لتكون النّتيجة مزيداً من الدّمار والهلاك والفساد.
وهذا ما جعل الأنبياء يبادرون إلى طرح الأساليب الهادئة العاقلة الموحية في حلِّ النِّزاعات والخلافات الفكريّة والحياتيّة، ويوجِّهون النّاس إلى اعتماد الصّبر كطاقةٍ إنسانيّةٍ تمنح الإنسان القوّة للتّغلُّب على العوامل السّلبيّة الدّاخليّة الّتي تثيرها النّوازع الذّاتيّة، ليستطيع - بذلك - النّظر إلى الأمور بموضوعيّةٍ ووضوح، فيعرف طبيعة المشكلة من خلال عناصرها الحقيقيّة، ليواجه مسألة الحلِّ بعقلٍ منفتحٍ مستنيرٍ.
ولهذا كان شعيب يطلب من قومه التّحلِّي بالصّبر على هذا الاختلاف في المواقف، ما بين الإيمان بالرِّسالة والكفر بها، {حتّى يحْكُم اللّهُ بيْننا وهُو خيْرُ الْحاكِمِين} في الدُّنيا، بما يُظهره من الحقِّ لنا في ما نعتقده وندعو إليه، من خلال ما نخوضه معكم من أساليب الحوار، إذا وافقتم على الدُّخول معنا في أجواء الحوار، وفي الآخرة، حين يقوم النّاس لربِّ العالمين، حيث يُعرفُ المحقُّ من المبطل، والمصيب من المخطئ، ويحكم الله بذلك، وهو خير الحاكمين.
الاستعلاء في مواجهة العقل والحوار
{قال الْملأُ الّذِين اِسْتكْبرُوا مِنْ قوْمِهِ لنُخْرِجنّك يا شُعيْبُ والّذِين آمنُوا معك مِنْ قرْيتِنا أوْ لتعُودُنّ فِي مِلّتِنا}. إنّه المنطق الّذي لا يحاور ولا يناقش؛ لأنّه لا يملك أدوات الحوار وروحيّته، بل يملك أدوات القوّة، فهو يتهدّد ويتوعّد، فليس هناك مجالٌ للتّفاهم؛ لأنّ التّفاهم يهزم المبطلين الّذين لا يملكون حجّةً، ولا يرجعون في قناعاتهم إلى أساسٍ، وبذلك فإنّهم يعيشون الشُّعور بالضّعف أمام دعوة الحوار والتّفاهم، فيحاولون تغطية ذلك بأساليب التّهديد والوعيد.
{قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}؛ هل القضيّة قضيّة إكراهٍ وإجبارٍ؟! إنّ الإنسان قد ينجح في إجبار إنسانٍ آخر على عملٍ ما أو علاقةٍ ما بالقوّة، بامتلاكه لوسائل الضّغط المادِّيِّ الّتي تمكِّنه من ذلك، ولكنّه لن ينجح في إكراهه على أن يعتقد بما لا يقتنع به؛ لأنّ العقيدة لا تخضع لإكراهٍ وإجبارٍ. وهذا ما يدفعنا إلى الإعلان بأنّنا نكره هذا الاتِّجاه الّذي تنطلقون فيه، ولا نؤمن بشيءٍ من طروحاته.
ثبات شعيب في مواجهة قومه
{قدِ اِفْتريْنا على اللّهِ كذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلّتِكُمْ بعْد إِذْ نجّانا اللّهُ مِنْها}. إنّنا لا نجد في ملّتكم أساساً من الحقِّ، سواءٌ في عبادتكم للأصنام، أو في صدِّكم عن سبيل الله، أو في إظهاركم الفساد في الأرض، أو في انحرافكم عن العدل في علاقاتكم ومعاملاتكم... وقد نجّانا الله منها بما هدانا لدينه، وبما عرّفنا من ضلال ما خالفه ومن خالفه، فكيف نرجع إلى خطِّ الضّلال، وهل هذا إلاّ الافتراء على الله بالكذب، بأن ننسب إليه ما تنسبونه إليه من شركاء دون علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ مبين؟!
{وما يكُونُ لنا أنْ نعُود فِيها}. وكيف يعود إلى الظّلام من عاش إشراقة النُّور في قلبه وفي وجدانه؟! إنّنا لن نعود مهما كانت الضُّغوط والتّحدِّيات، ومهما كانت الأوضاع السّلبيّة المحيطة بنا، {إِلاّ أنْ يشاء اللّهُ} أن نعود فيها، ولن يشاء الله لنا ذلك؛ لأنّه لا يمكن أن يأمر عباده بالضّلال إذا كانت المشيئة بالاختيار، ولا يجبرهم عليه إذا كانت المشيئة بالقهر، لكنّه أسلوب التّأدُّب مع الله، بإظهار الاستسلام له والخضوع لمشيئته.
{وسِع ربُّنا كُلّ شيءٍ عِلْماً}، فهو يعلم سرّنا وعلانيتنا، وإخلاصنا له، وجهدنا في سبيله، كما يعلم طغيانكم وتمرُّدكم وظلمكم لنا. {على اللّهِ توكّلْنا}، فهو مصدر القوّة، ومنه قوّة كلِّ شيءٍ، ولا يملك معه أحدٌ أيّ شيءٍ من القوّة؛ ونحن نتوكّل عليه، ونلجأ إلى حصنه، ليحمينا منكم ومن كلِّ قوّةٍ غاشمةٍ ظالمةٍ.
وتابعوا مسيرتهم بكلِّ قوّةٍ وإيمانٍ، وشعروا في الطّريق - وهم يعلنون التّوكُّل على الله الّذي وسع كلّ شيءٍ علماً - بالخشوع يهيمن على مشاعرهم، ويفيض على أرواحهم، فتوجّهوا إليه في أجواء روحانيّةٍ، تفصلهم عن قومهم، وعن كلِّ هذه الأحاديث الاستعراضيّة الّتي سمعوها منهم في ابتهالٍ وإيمانٍ وإخلاص: {ربّنا اِفْتحْ بيْننا وبيْن قوْمِنا بِالْحقِّ}؛ فهم لم يتعقّدوا من كلِّ أساليب قومهم، ولم يبادروا بالدُّعاء عليهم، بل ابتهلوا إلى الله أن يفتح بينهم وبين قومهم، ويردم الهوّة الواسعة فيما بينهم بالحقِّ؛ لأنّهم لا يريدون للعلاقات الإنسانيّة أن تخضع للتّسويات وفق حساب الباطل، بل يريدونها أن ترتكز على حساب الحقِّ. {وأنْت خيْرُ الْفاتِحِين}؛ لأنّك تعرف كلّ ما يُصلح أمور خلقك، في ما يتّفقون فيه أو يختلفون.
كيف نفهم معنى العودة؟
ذكر البعض أنّ قوله تعالى في حديث قوم شعيب له وللمؤمنين معه: {لنُخْرِجنّك يا شُعيْبُ والّذِين آمنُوا معك مِنْ قرْيتِنا أوْ لتعُودُنّ فِي مِلّتِنا} ممّا يوحي بأنّهم -شعيب وأتباعه- كانوا منسجمين مع مجتمعهم الوثنيِّ في عقيدتهم وعبادتهم، وهذا هو ما يؤكِّده شعيب:
{قدِ اِفْتريْنا على اللّهِ كذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلّتِكُمْ بعْد إِذْ نجّانا اللّهُ مِنْها وما يكُونُ لنا أنْ نعُود فِيها إِلاّ أنْ يشاء اللّهُ}؛ فإنّ كلمة «العود» تعني الرُّجوع إلى الحال الّتي كانوا عليها في التزامهم بالملّة الوثنيّة2.
ويرد على هذا القول: أنّ دراسة النُّصوص القرآنيّة الّتي تتحدّث عن شعيب تدلُّ على أنّه كان ممّن تجذّر الإيمان بالله في عقله، بحيث انفتح عليه منذ بداية حياته، فلم يكن حالةً طارئةً مسبوقةً بالكفر، ولذلك لم يتحدّثوا معه عن تفاصيل حياته السّابقة في عبادته للأوثان. أمّا حديثه عن رفض العودة إلى ملّتهم، كجوابٍ على طلبهم تلك العودة، فقد تكون بلحاظ المؤمنين الّذين كانوا مشركين ثمّ آمنوا به؛ باعتبار أنّه يمثِّل - معهم - مجتمعاً واحداً، ممّا يُصحِّح النِّسبة، ولو على نحو تنزيل الجلِّ منزلة الكلِّ. وربّما كان ذلك من جهة أنّ شعيباً لم يجاهر بالدّعوة إلى الإيمان منذ البداية، بحيث كان يبدو عليه عدم المعارضة لما عليه قومه حتّى حسبوه منهم، وإن لم يعبد الأصنام معهم.
إنّ النُّبوّة أمرٌ غير عاديٍّ، فلا يمكن أن يكون تاريخ النّبيِّ شركاً ووثنيّةً؛ لأنّه لا يتناسب مع الرُّوحيّة الّتي لا بُدّ للنّبيِّ أن يعيشها بعمق، ويتمثّلها بقوّةٍ، وينطلق فيها بعصمة، ليكون انفتاحه على الدّعوة من موقع تجسُّد الدّعوة بكلِّ عقله وقلبه وروحه، فلا يكون للشِّرك شيءٌ في ذاته حتّى على مستوى الرّواسب التّاريخيّة. والله العالم.
الإصرار على الكفر يستتبع العذاب
{وقال الْملأُ الّذِين كفرُوا مِنْ قوْمِهِ}، وهم يلتفتون إلى قوم شعيب، ليجرِّبوا أن يهزموهم نفسيّاً بأساليب التّخويف من النّتائج السّلبيّة والعواقب الوخيمة: {لئِنِ اِتّبعْتُمْ شُعيْباً إِنّكُمْ إِذاً لخاسِرُون}؛ لأنّ شعيباً لا يملك الامتيازات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تجعل من الارتباط به أو اتِّباعه مسألةً مُربحةً، بل على العكس من ذلك، فإنّ دعوته تعزل أتباعه عن الفعاليّات الّتي تملك القوّة والجاه والمال، وتمنعهم من الحصول على الامتيازات المتنوِّعة والفرص الجيِّدة الموجودة عندهم، فيخسرون ذلك كلّه من دون مقابلٍ؛ لأنّ شعيباً لا يمثِّل شيئاً - أيّ شيءٍ -. وكان هذا الإنذار الأخير الّذي وجّهوه إليهم، فماذا كانت النّتيجة؟
لقد انقلب السِّحر على السّاحر، وأصبح من كذّبوا شعيباً هم الّذين خسروا الدُّنيا والآخرة، {فأخذتْهُمُ الرّجْفةُ فأصْبحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِين}، لا يملكون حراكاً؛ فقد أحاط بهم الموت من كلِّ جانبٍ. {الّذِين كذّبُوا شُعيْباً كأنْ لمْ يغْنوْا فِيها}، فلم ينفعوا أنفسهم شيئاً، وذهب كلُّ جهدهم هباءً في هباءٍ. {الّذِين كذّبُوا شُعيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِين}. أمّا هؤلاء الّذين آمنوا بشعيبٍ فهم الرّابحون المفلحون؛ لأنّهم حصلوا على طمأنينة الرُّوح في الدُّنيا، وعلى رضوان الله في الآخرة.
لا أسف على الكافرين
ووقف شعيب أمام هذا المشهد الرّهيب، مشهد هؤلاء الّذين كذّبوه وأرادوا أن يطردوه، وهم جاثمون في دارهم، فلم يكن ردُّ فعله التّشفِّي أو الشّماتة، بل الأسف على هؤلاء القوم الّذين أوصلوا أنفسهم إلى هذه النّتيجة الخاسرة؛ لأنّهم لم ينفتحوا على الله من موقع الإيمان. {فتولّى عنْهُمْ وقال يا قوْمِ لقدْ أبْلغْتُكُمْ رِسالة ربِّي ونصحْتُ لكُمْ}، فلم أدّخر أيّ جهدٍ في إبلاغ الرِّسالات، وفي تقديم النّصائح، ولكنّكم لم تستجيبوا لي، ولم تفكِّروا في ذلك كلِّه، فاستسلمتم للكفر والجحود والعصيان، {فكيْف آسى} وأحزن {على قوْمٍ كافِرِين}؛ لأنّني أعيش في مشاعري روح الإيمان بالله؟!
وفي هذا الجوِّ، لا بُدّ للمؤمن من أن يتعاطف مع من يحبُّون الله ويحملون مسؤوليّة الحياة بمناهج الحقِّ؛ أمّا من يحبُّون أنفسهم ويتمرّدون على الله، ويملؤون الحياة كفراً وضلالاً وانحرافاً، فلا مجال للأسف عليهم؛ لأنّهم اختاروا طريق الضّلال والهلاك بملء إرادتهم واختيارهم، {وما ظلمهُمُ اللّهُ ولكِنْ كانُوا أنْفُسهُمْ يظْلِمُون}[النّحل: 33].
1 الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 4، ص 305.
2 انظر ذلك بصيغة سؤالٍ وجوابٍ في: الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 2، ص 95 - 96.