معاني المفردات
{أراذِلُنا}: الرّذل: الخسيس الحقير من كلِّ شيءٍ، والجمع: أرذُل، ثمّ يُجمع على أراذل، كقولك: كلب وأكلُب وأكالب. ويجوز أن يكون جمع الأرذل، فيكون مثل: أكابر جمع الأكبر.
{الرّأْيِ}: ما يراه الإنسان في الأمر، وجمعه: آراء. وبادي الرّأي: ظاهره، أي: أوّله قبل التّأمُّل.
{أَرَأَيْتُمْ}: أي: أخبروني.
{فعُمِّيتْ}: خفيت.
{أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: أي: أنكرهكم عليها؟
{بِطارِدِ}: الطّرد: الإبعاد على جهة الهوان. وتطارد الأقوال: حمل بعضها على بعض.
{تزْدرِي}: الازدراء: الاحتقار، افتعالٌ من الزِّراية. يقال: زريت عليه: إذا عبته، وأزريت به: إذا قصرت به.
مع نوح في خطِّ الدّعوة
وهذه جولةٌ جديدةٌ مع رسالة نوح عليه السلام ، في خطِّ الدّعوة، وحركة الحوار، ومواجهة التّحدِّي، حيث يريد الله أن يركِّز أمامنا القاعدة الّتي تلتقي عليها الرِّسالات، في إطار المسيرة الإنسانيّة المستوعبة لكلِّ تطلُّعات الإنسان في الحياة، ممّا يحتاج إلى التّوفيق فيه بين رغباته الذّاتيّة في الجانب المادِّيِّ والرُّوحيِّ، وبين رساليّة الإيمان بالله. ثمّ في ما يريد الله أن يعرِّفنا من طبيعة الذِّهنيّة الّتي كانت تتحكّم بقوم نوح، فتدفعهم إلى الرّفض والتّمرُّد والعصيان، دون الرُّجوع إلى قاعدةٍ فكريّةٍ أصيلةٍ، تناسب حجم الفكرة وما تفرضه من فكرٍ وتأمُّلٍ ومسؤوليّةٍ. ثمّ في موقف نوح الّذي يمثِّل الأسلوب الوديع، والمواجهة القويّة الحاسمة الّتي لا تقدِّم أيّة تنازلاتٍ على حساب الرِّسالة، ولا تتسامح في مسألة دعم المؤمنين مهما كانت الظُّروف، ثمّ في الوقفة الرِّساليّة الّتي يقف فيها الرّسول أمام العالم بعيداً عن كلِّ الوضعيّات الاستعراضيّة، ليواجهه من مواقع إنسانيّته الّتي لا تبتعد عن الواقع في الوقت نفسه الّذي تلتقي فيه الوحي، من خلال النّظرة الموضوعيّة للحياة وللنّاس.
وتلك هي قصّة نوح - النّبيِّ الدّاعية - في إيحائها الدّائم الّذي يمكن أن يتحرّك في مواقف الدُّعاة إلى الله في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، في ما تلتقي فيه صفة الدّعوة بين الأنبياء وبين أتباعهم، وفي ما ينبغي لهم أن يتحرّكوا من خلاله على أساس وضوح القاعدة الّتي ينطلق منها خطُّ الدّعوة، وفي الرّدِّ الحاسم الوديع الّذي يجب أن يحكم خطّ المواجهة، وفي الحماية القويّة الّتي يشمل بها الدّاعية كلّ المؤمنين البسطاء الّذين يتّبعونه، في مقابل المستكبرين المترفين الّذين ينظرون إليهم باحتقارٍ واستهزاءٍ.
العبادة الكلمة الجامعة للنّهج الرِّساليِّ
{ولقدْ أرْسلْنا نُوحاً إِلى قوْمِهِ}؛ ليبلغهم رسالة الله في كلماتٍ موحيةٍ حاسمةٍ، فقال ـ لهم: {إِنِّي لكُمْ نذِيرٌ مُبِينٌ}، لأنذركم المصير الّذي ينتظركم في الدُّنيا، ويواجهكم في الآخرة، نتيجة ما تمارسونه من عبادة الأوثان وما يتبعها من القيم المادِّيّة المستغرقة في الطِّين، وفي غرائز اللّحم والدّم، بعيداً عن كلِّ المعاني الرُّوحيّة السّامية الّتي ترفع الإنسان إلى الله، فتجعل لحياته معنًى يتجاوز صورتها المادِّيّة، وتثير فيها روح السُّموِّ، وامتداد القيمة، وانفتاح الإنسانيّة على عمق الرُّوح الّتي تتجاوز الذّات إلى حياة الآخرين. فالعلاقة بالله ليست مجرد حالةٍ عباديّةٍ ذاتيّةٍ يرتبط فيها بالله ذاتيّاً، بل هي حالةٌ روحيّةٌ، تجعل قضيّة الإيمان شيئاً أساسيّاً في حركة الحياة، في التّخطيط للشّخصيّة الإنسانيّة في ما يفكِّر به الإنسان، وفي ما يشعر به، وفي ما يعيشه من آفاقٍ وعلاقاتٍ، لا مجرّد حالةٍ ذهنيّةٍ تجريديّةٍ، وترفٍ فكريٍّ لا علاقة له بالحياة والإنسان على مستوى قضيّة المصير.
{أنْ لا تعْبُدُوا إِلاّ اللّه}، لتلتقي لديكم العبادة بالخطِّ المستقيم الّذي ينبغي لها أن تسير عليه؛ لأنّ عبادة غيره لا تحمل أيّ معنًى في حساب الحقيقة، وفي ميزان القيمة؛ لأنّ كلّ من هو غير الله مخلوقٌ له، ومحتاجٌ إليه في كلِّ شيءٍ، فكيف يعبده من هو مثله في المخلوقيّة والحاجة؟ وقد تحدّثنا سابقاً، أنّ العبادة تمثِّل الكلمة الجامعة للنّهج الإلهيِّ الرِّساليِّ الّذي يتحرّك فيه الإنسان انسجاماً مع إرادة الله؛ لأنّه يمثِّل خطّ السّير في كلِّ تفريعاته ومداخله ومخارجه، ويلتقي جانب التّوحيد فيها، بتوحيد الفكر والشّريعة والمنهج، في كلِّ أقوال الإنسان وأفعاله على أساس كلمة الله، فلا مجال لغيرها في ما يفكِّر فيه، أو في ما يشرِّعه، أو ما يتحرّك فيه من منهج؛ ولهذا اقتصر القرآن في حديثه عن رسالة نوح عليها، في الوقت الّذي نعرف فيه أنّ هناك تفاصيل كثيرةً، تتعلّق بالقضايا الجزئيّة الّتي تحكم حياة النّاس في ما يريده الله منهم.
وربّما يبرز سؤالٌ: لماذا لم يتحدّث نوحٌ عن الدّعوة إلى الإيمان بالله، الّذي هو الأساس في العقيدة الّتي تتفرّع العبادة عليها؟
وربّما يُجاب: عن ذلك أنّ نوحاً عليه السلام أراد التّنبيه إلى أنّ مسألة الإيمان لا تتّصل بالجانب التّجريديِّ في الحركة الذِّهنيّة للعقل، لتكون شيئاً يفكِّر به، بل تتّصل بالجانب العمليِّ في حركة العقيدة في الواقع؛ من حيث إنّ الإيمان بالله في معناه الحركيِّ يمثِّل الإحساس بالعبوديّة لله.
درسٌ في منهج التّربية الإسلاميّة
وهذا هو ما ينبغي للتّربية الإسلاميّة أن تأخذ به في خطِّ المنهج، بالتّركيز على التّزواج بين الجانب الفكريِّ والعمليِّ، بحيث تُقدّم الفكرة في إطار الدّعوة إلى العمل بما تختزنه الفكرة من معناه. وهذا هو الّذي يبتعد بالدّعوة عن آفاق التّجريد الّتي قد تفصل بين الفكرة في دائرة العقل، والحركة في دائرة الواقع، الّذي قد يعيش فيه النّاس الّذين يتمثّلون الإيمان فكراً ولا يتمثّلونه عملاً.
لهفة الرّسول
{إِنِّي أخافُ عليْكُمْ عذاب يوْمٍ ألِيمٍ}. وفي هذا التّعبير بالخوف نستشعر المعنى الإنسانيّ الّذي ينطلق به الرّسول، ليوحي إلى النّاس أنّه ليس إنساناً يفكِّر فيهم بطريقةٍ جامدةٍ ورسميّةٍ تتوسّل المفردات القانونيّة في حساب الجزاء، بل هو إنسانٌ يتحدّث معهم بلغة الإحساس والشُّعور والعاطفة، عمّا يراه - كمثل الشّمس - من مستقبلٍ مؤلمٍ للمتمرِّدين، وما سيواجهونه من العذاب الأليم في يوم القيامة، إذ يناديهم في ما يشبه اللّهفة الملتاعة؛ ليرجعوا عن غيِّهم وكفرهم، لئلاّ يلاقوا العذاب الشّديد.
ومن خلال ذلك نفهم ما على الدّاعية أن يعيشه من تفاعلٍ مع مشاكل الآخرين، ليعتبر الانحراف لديهم مشكلةً ترتبط بإحساسه تجاههم، ليتحسّسوا العاطفة في كلماته، وتعبيراته، ونظرات عينيه، ونبضات قلبه ووجهه. وذلك هو خطُّ سير الأنبياء، ممّا يجب أن تتحرّك البشريّة معه في طريقها الطّويل، وتلك هي دعوة نوح النّبيِّ عليه السلام لقومه، فكيف أجابوه؟
ثلاثة مفاهيم خاطئة حول النُّبوّة
{فقال الْملأُ الّذِين كفرُوا مِنْ قوْمِهِ ما نراك إِلاّ بشراً مِثْلنا}، فكيف يمكن أن تكون نبيّاً، في ما توحي به النُّبوّة من سرِّ الغيب الّذي لا بُدّ أن يكون الحامل له شخصاً غيبيّاً كالملائكة؟! ويعود هذا الفهم الخاطئ للنُّبوّة لديهم إلى عدم وعيهم لدور النّبيِّ في حياة النّاس، الّذي يفرض أن يكون النّبيُّ من البشر لا من غيرهم؛ ليتفاعلوا معه من موقع التّكوين الذِّهنيِّ والحسِّيِّ المشترك.
ثمّ إنّ النُّبوّة إذا كانت مسألةً متّصلةً بالله، كما هي في فرضيّة التّسليم بها -من حيث المبدأ - فمن الّذي يحقُّ له أن يفرض على الله أن يرسل شخصيّةً غيبيّة؟ وما هي الضّرورة في ذلك؟ فالملائكة خلْقُه، والبشر خلْقُه، وإذا كان الله قد كلّف الملائكة في التّحرُّك في عالم الغيب لأنّه يتناسب مع طبيعتهم الغيبيّة، فهل من المستغرب أن يكلِّف البشر بما يتّصل بالحركة في عالم الحسِّ، في تبليغهم تعاليم الله الّتي لا بُدّ لهم أن يجسِّدوها في حياتهم، ويؤكِّدوا من خلالها دورهم القياديّ في عمران الأرض على الصُّورة الّتي يرضاها الله، بما يمثِّله مفهوم الخلافة عن الله في الأرض الّذي يتناسب مع صفتهم البشريّة؟
وهذا هو ما عبّر الله عنه في آيةٍ أخرى: {ولوْ جعلْناهُ ملكاً لجعلْناهُ رجُلاً وللبسْنا عليْهِمْ ما يلْبِسُون}[الأنعام: 9]؛ فلا بُدّ للملك - النّبيِّ على أساس هذه الفرضيّة أن يتقمّص شخصيّة البشر، ليكون منسجماً مع دور النُّبوّة؛ لاتِّصالها بالواقع البشريِّ، لا بالواقع الغيبيِّ، بالرُّغم من أنّ مصدرها هو غيب الله الّذي حوّل غيبه في خلق الإنسان إلى الحسِّ. وفي جميع الحالات، فإنّ القضيّة متّصلةٌ بقدرة الله وإرادته، في الإيحاء لبشرٍ أو في الإيحاء لملكٍ، فهو - وحده - الّذي لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وفي ضوء هذا فإنّ الخطأ في انطباعهم عن معنى النُّبوّة، وابتعاد صفة البشريّة عنها، يرجع إلى الخطأ في معنى الله في مواقع حكمته وقدرته وإرادته المطلقة.
{وما نراك اِتّبعك إِلاّ الّذِين هُمْ أراذِلُنا بادِي الرّأْيِ}. وهذه هي نقطة الضّعف الّتي يعتبرونها أساس امتناعهم عن اتِّباع نوحٍ؛ لأنّ النُّخبة الّتي تمثِّل طليعة المجتمع لم تكن ضمن الجماعة المؤمنة به، فإيمان النُّخبة به، في ما لو حصل، يشكِّل سبباً في انسجامهم معه، واتِّباعهم لرسالته، وذلك لما للنُّخبة -في اعتبارهم - من عمقٍ في الفكر، وامتدادٍ في حساب العقل، والقوّة، والمستوى الاجتماعيِّ. ولكنّ المحيطين به كانوا من الجماعة المرذولة، الّتي تمثِّل الطّبقة السُّفلى في المجتمع من جهة الذِّهنيّة والامتيازات والثّروة الاقتصاديّة، وهم من الفقراء والمساكين، ولم يأتِ إيمان هؤلاء عن تأمُّلٍ أو تفكير، بل جاء انفعاليّاً سطحيّاً سريعاً؛ لرغبةٍ في الحصول على موقعٍ، أو لضعفٍ في الفكر. وهذا ما تمثِّله كلمة {بادِي الرّأْيِ}، أي: قبل التّأمُّل، وهو الرّأي الّذي يبدو للذِّهن لأوّل وهلةٍ، كخاطرةٍ سريعةٍ طارئةٍ.
إنّه المفهوم الخاطئ في تقييم الأشخاص، باعتبار مستواهم الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ أساساً للتّقدير، بدلاً من المستوى الرُّوحيِّ والفكريِّ، من دون أن يفكِّروا أنّ قضيّة الإيمان بالدّعوة، تتّصل بالوعي الثّقافيِّ الّذي يعيشه الإنسان في دراسته لقاعدتها، ومفرداتها القيميّة والرُّوحيّة والتّشريعيّة والمنهجيّة، كما تتّصل بالجانب الإنسانيِّ، الّذي يلتقي بعناصرها الحيويّة في تنظيم حياته العامّة والخاصّة، في علاقته بالله وبنفسه وبالحياة والآخرين. أمّا المستوى الاقتصاديُّ أو الاجتماعيُّ، فإنّه يخضع لاعتباراتٍ خارجةٍ عن الواقع الدّاخليِّ للإنسان، في عقله وقلبه ومشاعره وحركيّته العمليّة.
وخلاصة الفكرة هي أنّ هناك انحرافاً في تحديد القاعدة الّتي يرتكز عليها الإيمان؛ فإنّ الأساس فيه هو التّفكير في طبيعة مضمون الدّعوة الموجّهة إلى النّاس، للحكم على ما تشتمل عليه من عناصر الخطأ والصّواب، لا التّطلُّع إلى طبيعة الأشخاص الّذين يؤمنون بتلك الدّعوة، فالعقيدة لا بُدّ أن تخضع للمعاناة الفكريّة الذّاتيّة، لا للتّقليد والمحاكاة للآخرين.
{وما نرى لكُمْ عليْنا مِنْ فضْلٍ}. وهذا هو الأمر الثّالث الّذي يرونه مانعاً من اتِّباعه، فهم يرون الإيمان بالرِّسالة امتيازاً اجتماعيّاً يقدِّمه المؤمنون للدّاعية، أو للرّسول؛ لتبوُّئه مركز القيادة للمجتمع، فلا بُدّ من أن يكون له بعض التّميُّز في المستوى الاجتماعيِّ، لجهة امتلاك الجاه، أو المال، أو القوّة، أو غير ذلك؛ ليتقبّل النّاس الخضوع له من موقع القيمة الطّبقيّة الّتي يتمتّع بها، بينما لا يمتلك نوح والمؤمنون معه، شيئاً من تلك الفضائل يصلح أساساً لاتِّباعهم. {بلْ نظُنُّكُمْ كاذِبِين}؛ لأنّكم لا تملكون قاعدة صدقٍ تتأسّس على مستوًى اجتماعيٍّ أو موقعٍ ماليٍّ وغير ذلك، لذلك ليست دعوتكم سوى وسيلةٍ من وسائل الحصول على النُّفوذ الّذي تفقدونه، لا الإيمان الّذي تعتقدونه.
وهذا هو مظهر التّخلُّف الّذي يخضعون له، وهو أنّ قضيّة التّصديق والتّكذيب للدّعوة - أيّة دعوة - ترجع إلى المستوى الطّبقيِّ، أو التّميُّز الاجتماعيِّ، أو العنصر الشّخصيِّ، بعيداً عن مستوى الوعي الثّقافيِّ؛ فهذا هو الّذي يحدِّد احترام الفكرة وقبولها أو الاستهانة بها ورفضها. فالقضيّة هي قضيّة الشّخص الّذي يحمل الفكرة ويدعو إليها، وليست قضيّة قيمة الفكرة في ذاتها، وهذا ما لا يقبله أيُّ منطقٍ عقليٍّ أو حضاريٍّ في الواقع الفكريِّ للإنسان. ولعلّ دراستنا لحالة الانحطاط الحضاريِّ والتّخلُّف الاجتماعيِّ تؤكِّد لنا أنّ سبب ذلك، هو اتِّباع النّاس للأشخاص النّافذين في المجتمع، الّذين قد لا يملكون عقلاً في حركة الفكر، وروحاً في حركة القيمة، ما كان يؤدِّي إلى السُّقوط الفكريِّ والاجتماعيِّ في الحياة العامّة تحت تأثير أمثال هؤلاء.
أجوبة نوح
{قال يا قوْمِ أ رأيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على بيِّنةٍ مِنْ ربِّي وآتانِي رحْمةً مِنْ عِنْدِهِ}. وهو - هنا - يناقش ما استبعدوه من فكرة النُّبوّة للبشر، ليؤكِّد أنّ مثل هذه الأمور لا تخضع لمثل هذه الطّريقة في التّفكير، بل تخضع لقيمة الدّلائل والبراهين الّتي يرتكز عليها الرّسول، في ما يقدِّمه منها. فهو يقول لهم: هذا ما أُريد أن أثيره أمامكم، فإنِّي أملك من البيِّنات الواضحة على الإيمان برسالتي ما أقتنع به مصدِّقاً بأنِّي رسولٌ من الله إليكم؛ فقد أعطاني الله البيِّنة على ذلك، وآتاني رحمةً من عنده، بما أفاضه عليّ من موقع الرِّسالة، ووضوح الرُّؤية للأشياء، الأمر الّذي يجعلني في موقع القوّة، في ما أؤمن به وأدعو إليه. وما المانع من أن يكون البشر رسولاً، ما دامت مسؤوليّة الرّسول لا تمثِّل حركةً في الغيب، بل هي حركةٌ في الواقع، خاضعةٌ للخصائص الّتي يملكها العاملون في ساحته؟ وماذا أفعل لكم إذا كنتم خاضعين للفكرة الخاطئة الّتي ورثتموها عن آبائكم، فمنعتكم عن التّفكير المستقلِّ الأصيل، لما يُطرح عليكم من بيِّناتٍ وبراهين؟ {فعُمِّيتْ عليْكُمْ}، كنتيجةٍ للجوِّ الفكريِّ والنّفسيِّ الخانق الّذي خضعتم له، فحجب عنكم وضوح الرُّؤية للأشياء، {أ نُلْزِمُكُمُوها} ونفرضها عليكم، إذا لم تفرضوها على أنفسكم من موقع القناعة والإيمان الصّادر عن التّأمُّل والتّفكير، {وأنْتُمْ لها كارِهُون}، ما يُبعدكم عن الانفتاح على الفكر الّذي يُقدّم إليكم، بعمقٍ وواقعيّةٍ وتدبُّرٍ؟
وهذا يوحي بأنّ الخطاب الإسلاميّ ينطلق من قاعدة إعطاء الحرِّيّة للنّاس في قبول الإيمان ورفضه، على أساس أنّ النّبيّ أو الدّاعية لا يملك آليّة الضّغط على الفكر والقهر للآخر، فيشعر الإنسان بأنّه حرٌّ في تفكيره من خلال مسؤوليّته عن قراره من موقعه الحرِّ.
وهذا هو منطق النّبيِّ نوح، الّذي يقول لقومه: إنّني لا أملك إلزامكم بالبيِّنة الّتي منحني إيّاها ربِّي - مع كلِّ وضوحها في الفكرة والأسلوب - ما دمتم كارهين له؛ فلم يعطني الله القدرة الغيبيّة الّتي أفرضها بها عليكم، ولم يسلِّطني بالقوّة على إلزامكم إيّاها.
{ويا قوْمِ لا أسْئلُكُمْ عليْهِ مالاً}، فلم أطرح عليكم تقديم أيِّ امتيازٍ ماليٍّ شخصيٍّ لي كأجرٍ على الرِّسالة، لتفسِّروا الموقف على أساس الطّمع في مكاسب وأرباح يبحث عنها الآخرون في مواقف مماثلةٍ. {إِنْ أجرِي إِلاّ على اللّهِ}، فهو الّذي حمّلني مسؤوليّة الرِّسالة، وهو الّذي وعدني الأجر من عنده، في ما أعدّه لرُسُله ولأوليائه المجاهدين من ثوابٍ عظيمٍ، يدفع الدُّعاة العاملين في سبيله إلى التّضحية والعطاء بلا مقابل دنيويٍّ.
{وما أنا بِطارِدِ الّذِين آمنُوا}، استجابةً لما تطرحونه من طلب استبعادهم عن ساحة الرِّسالة في الحياة، كأساسٍ لتفكيركم بالإيمان بها؛ لأنِّي لا أملك أمرهم، كما لا أملك أمر تقييم ما في نفوسهم وصدق إيمانهم من خلال الأُسس الّتي ترتكزون عليها في الحكم على الأشياء والأشخاص، أو من خلال الاتِّهامات الّتي تثيرونها حول مواقعهم. كما أنّكم لا تملكون موقع الحكم عليهم. {إِنّهُمْ مُلاقُوا ربِّهِمْ}، ليواجهوا النّتيجة الحاسمة لموقفهم، فهو العالم بخفايا النّاس بما تختزنه من صدق الإيمان، وجدِّيّة المواقف، {ولكِنِّي أراكُمْ قوْماً تجْهلُون}، في طريقتكم في التّحدِّي، وأسلوبكم في التّقييم والحكم على الواقع.
{ويا قوْمِ منْ ينْصُرُنِي مِن اللّهِ إِنْ طردْتُهُمْ}؟ فهم عباد الله الّذي آمنوا برسالته، وجاهدوا في سبيل ذلك، فاستطاعوا الحصول بجهادهم على محبّة الله ورضاه، كمظهرٍ من مظاهر القرب منه فكيف أطردهم، وهم أحبّاء الله وأولياؤه؟ وهل تنصرونني من الله، إن أنا طردتهم تحت تأثير إلحاحكم عليّ في ذلك؟ إنّ الله يعاقبني على هذا الموقف؛ لأنّه لا يرضى من رُسُله الإساءة إلى عباده المؤمنين، بل يريد لهم أن يقوموا بنصرتهم ورعايتهم وحمايتهم من كلِّ عدوٍّ أو حاقد.
{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، وتعرفون مواقع الأمور في مواردها ومصادرها، ونتائجها الإيجابيّة والسّلبيّة.
{ولا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللّهِ}، لأدعوكم إلى الإيمان من خلال التّأثير النّفسيِّ المعنويِّ أو المادِّيِّ، الّذي يضغط على أفكاركم، لتؤمنوا بي، وعلى مواقفكم لتسيروا معي. والظّاهر أنّ كلمة {خزائِنُ اللّهِ} واردةٌ على سبيل الكناية عن القدرة المادِّيّة غير المحدودة، باعتبارها ممثِّلةً للقوّة الماليّة الّتي تجذب النّاس إلى صاحبها.
{ولا أعْلمُ الْغيْب}، لأجعل من ذلك أساساً للدُّخول إلى قناعاتكم، من خلال ما يمثِّله ذاك العلم من قوّةٍ ذاتيّةٍ أمام الآخرين، لاتِّصاله بالعوالم الغيبيّة الّتي تجعله محيطاً بخفايا الحاضر والمستقبل وبما تضمره النُّفوس، أو في ما تشتمل عليه قضايا الواقع؛ فليس من مهمّة الرّسول أن يكشف للنّاس الخفايا من خلال النُّبوءات، بل كلُّ مهمّته كشف الواقع من خلال الخطط والأعمال.
تعميقٌ في معنى نفي علم الغيب عن الأنبياء
وهذه الآية كغيرها من الآيات الّتي تنفي علم الأنبياء الفعليّ بالغيب، بالمعنى الّذي تتضمّنه الكلمة من وجود هذه الملكة عندهم، بحيث تندفع المعرفة الغيبيّة منها كلّما أرادوا ذلك، وقد جاء الحديث عن ذلك في خطاب النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لقومه بما أراد الله أن يبلِّغهم إيّاه: {قُلْ لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللّهِ ولا أعْلمُ الْغيْب ولا أقُولُ لكُمْ إِنِّي ملكٌ إِنْ أتّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِليّ}[الأنعام: 50].
وقد جاء في تفسير (الميزان) أنّ الآيات الّتي تؤكِّد تفرُّد الله بالعلم بالغيب كقوله تعالى: {وعِنْدهُ مفاتِحُ الْغيْبِ لا يعْلمُها إِلاّ هُو}[الأنعام: 59]، واردةٌ على أنّ الاختصاص به تعالى على نحو الأصالة والاستقلال، وأنّ المراد بالآيات المثبتة إمكان تحقُّقها في غيره تعالى بنحو التّبعيّة وعدم الاستقلال، وذلك كقوله تعالى: {إِلاّ منِ اِرْتضى مِنْ رسُولٍ فإِنّهُ يسْلُكُ مِنْ بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصداً}[الجن: 27](1).
ونلاحظ على ما ذكره: أنّ الآيات الّتي تنفي العلم بالغيب عن الأنبياء وتخصُّ ذلك بالله، ظاهرةٌ في نفي العلم بالغيب كصفةٍ ثابتةٍ في الذّات، بمعنى أنّ الله لم يمنحهم هذا العلم الفعليّ الذّاتيّ ليكون إراديّاً لهم، كأيّ صاحب علمٍ يملك ملكته في ذاته. أمّا الآية المثبتة، فإنّها تدلُّ على أنّ الله قد يعطي النّبيّ بعض المعلومات بما يحتاجه من ذلك، كمعلوماتٍ غيبيّةٍ، ويؤكِّد ذلك قوله: {إِنْ أتّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِليّ}، وقوله: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُلِ وما أدْرِي ما يُفْعلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أتّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِليّ وما أنا إِلاّ نذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف: 9]، {ولوْ كُنْتُ أعْلمُ الْغيْب لاسْتكْثرْتُ مِن الْخيْرِ وما مسّنِي السُّوءُ}[الأعراف: 188]. وخلاصة الفكرة: أنّ هناك فرقاً بين أن يمنح الله النّبيّ علم الغيب، وأن يُطلعه على بعض مفرداته، ما يجعل منطقة العلم محدودةً بالحدود الّتي يوحي بها الله إليه، أو يلهمه إيّاها، وليست القضيّة علماً بالأصالة لله وعلماً - من قبيله - بالتّبعيّة للنّبيِّ. والله العالم.
وقد حاول صاحب (الميزان) أن يؤكِّد هذا الاتِّجاه التّفسيريّ، بقدرة الأنبياء أو الملائكة في الجانب التّكوينيِّ أو الخلق، في مقابلة قدرة الله التّكوينيّة في الخلق والإماتة والإحياء، كقوله تعالى: {وأنّهُ هُو أمات وأحْيا}[النّجم: 44]، وقوله: {اللّهُ يتوفّى الْأنْفُس حِين موْتِها}[الزُّمر: 42]، وقوله: {اللّهُ خالِقُ كُلِّ شيءٍ}[الزُّمر: 62]، إلى غير ذلك من الآيات، لكنّها - جميعها - مفسّرةٌ بقوله تعالى: {قُلْ يتوفّاكُمْ ملكُ الْموْتِ}[السّجدة: 11]، وقوله عن عيسى عليه السلام : {وأُحْيِ الْموْتى بِإِذْنِ اللّهِ}[آل عمران: 49]، وقوله: {وإِذْ تخْلُقُ مِن الطِّينِ كهيْئةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فتنْفُخُ فِيها فتكُونُ طيْراً بِإِذْنِي وتُبْرِئُ الْأكْمه والْأبْرص بِإِذْنِي وإِذْ تُخْرِجُ الْموْتى بِإِذْنِي}[المائدة: 110] إلى غير ذلك من الآيات(2).
ونلاحظ: أنّ هناك فرقاً بين أن يصدر الموت والحياة من الله في فعل الملك والنّبيِّ، وبين أن يصدر منهما من خلال طبيعة القدرة الذّاتيّة الّتي أودعها الله فيهما وهيّأ لها وسائلها؛ فإنّ القدرة كصفةٍ للنّبيِّ أو الملك تتمثّل في الفرض الثّاني، ولكنّ الآيات توحي بالأوّل؛ فإنّ دور ملك الموت هو الدّور الآليِّ للموت، لا الموجد له. ويدل على ذلك قوله: {قُلْ يتوفّاكُمْ ملكُ الْموْتِ الّذِي وُكِّل بِكُمْ}[السّجدة: 11]. وهكذا في عمليّة الخلق؛ فإنّ الله هو الّذي أعطى نفخ عيسى سرّ الحياة، وليس لعيسى من ذلك شيءٌ بحسب ملكته. ولو سلّمنا فإنّ المسألة تتّصل بإعطاء الله القدرة في هذه الحالة الخاصّة، أو تلك، دون القدرة كملكةٍ تابعةٍ لاختيار الذّات. والله العالم.
تتمّة أجوبة نوح
{ولا أقُولُ إِنِّي ملكٌ}، لأجاريكم في اعتقادكم بفكرة المنافاة بين البشريّة والرِّسالة، وضرورة أن يكون النّبيُّ ملكاً من الملائكة ليكون أكثر اتِّصالاً بالغيب، فيصبح أكثر انسجاماً مع النُّبوّة الّتي هي حالةٌ غيبيّةٌ. {ولا أقُولُ لِلّذِين تزْدرِي أعْيُنُكُمْ} من المؤمنين الفقراء والمساكين: {لنْ يُؤْتِيهُمُ اللّهُ خيْراً}؛ لأنّهم لا يملكون موازين القيمة بحيث ينالون عندكم ما تقدِّمونه للآخرين من خيرٍ على أساسها. {اللّهُ أعْلمُ بِما فِي أنْفُسِهِمْ}، من الإيمان والصِّدق والإخلاص لله، وللحياة، والإنسان، والله يعطيهم الامتياز والموقع اللاّئق بهم، والدّرجة الّتي يستحقُّونها على أساس عملهم الصّالح. {إِنِّي إِذاً لمِن الظّالِمِين}، إذا فعلت ذلك أكون ظالماً لهؤلاء، في الحكم عليهم بغير الحقِّ، وفي إذلالهم وإسقاطهم من الموقع الكبير الّذي أراد الله لي وللمؤمنين أن أضعهم فيه، في ما يفرضه إيمانهم وعملهم.
نوحٌ في شخصيّته وموقفه وتطلُّعاته
وهكذا تتمثّل أمامنا شخصيّة نوحٍ كإنسانٍ يتحرّك في الدّعوة النّبويّة الرِّساليّة من خلال رسالته، لتنفذ إلى عقول النّاس وقلوبهم بالمنطق والإحساس والوعي، بعيداً عن كلِّ العوامل الخارجيّة الّتي تفرض الخضوع على النّاس من موقع استعراض القوّة الماليّة أو الغيبيّة أو الملائكيّة، فيؤمنون بها بما يشبه الصّدمة الّتي تهزُّ الأعماق، لا الفكرة الّتي تقنع العقل؛ لأنّ المطلوب في الرِّسالات الاقتناع الوجدانيُّ.
وهكذا يقف النّبيُّ نوحٌ ليتحدّث على مستوى القيمة الرّفيعة لأتباعه من الفقراء، الّذين يمثِّلون الطّبقة السُّفلى من المجتمع؛ باعتبارهم المؤمنين بالله الّذين يعلم الله فيهم الخير، فيرتفعون عنده، ويُقرّبون إليه، ويحصلون على الدّرجة الرّفيعة لديه، فيرفض المنطق الطّبقيّ الخاضع للعناصر المادِّيّة الّذي يحتقر أفراد المجتمع الّذين لا يملكون المال أو الجاه أو القيمة؛ لأنّ هذه الأمور هي الّتي تمثِّل معنى القيمة عندهم.
إنّ الأنبياء - ومنهم نوح - يتطلّعون إلى العمق الإنسانيِّ الدّاخليِّ الممتلئ بالقيمة لدى الإنسان، ولا يتطلّعون إلى السّطح في ملامح الشّكل الخارجيِّ؛ فهم يريدون للإنسان أن يسمو - فكريّاً وروحيّاً وعمليّاً - بالرِّسالة، في تأثيرها الإيجابيِّ في حياته، فذلك هو الّذي يصنع الإنسان الرِّساليّ الّذي هو هدف الرِّسالات في صناعتها للإنسان، وليس هو الّذي ينحطُّ في درك المادّة العمياء الّتي ترتبط بالغريزة، ويخلد إلى الأرض ويتّبع هواه.
الهوامش:
(1) السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 10، ص 212.
(2) السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 10، ص 212.