تفسير
29/12/2025

s-11-a-32-33-34-35

s-11-a-32-33-34-35

‏معاني المفردات‏‏ ‏

{جادلْتنا}: الجدال، والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجّةٍ أو شبهةٍ. وهو من الجدل: شدّة الفتل. ويُقال للصّقر: أجدل؛ لأنّه من أشدِّ الجوارح. والجدال والمراء بمعنًى، غير أنّ المراء مذمومٌ؛ لأنّه مخاصمةٌ في الحقِّ بعد ظهوره، كمري الضّرع بعد دروره، وليس كذلك الجدال. ‏

‏والفرق بين الحِجاج والجدال، أنّ المطلوب بالحجاج ظهور الحجّة، والمطلوب بالجدال الرُّجوع عن المذهب. ‏

{بِمُعْجِزِين}: الإعجاز: هو الفوت بالهرب. ‏

{نُصْحِي}: النُّصح: تحرِّي فعلٍ أو قولٍ فيه صلاح صاحبه. ويأتي بمعنى الإخلاص، نحو: نصحت له الودّ، أي: أخلصته. ‏

{يُغْوِيكُمْ}: الإغواء بمعنى الإهلاك، فالمعنى: يريد أن يهلككم. ‏

{اِفْتريْتُهُ}: الفرق بين افتراء الكذب وقول الكذب، أنّ قول الكذب قد يكون على وجه تقليد الإنسان فيه لغيره، وأمّا افتراء الكذب فهو افتعاله من قبل نفسه. ‏

{تُجْرِمُون}: أصل الجرم: قطع الثّمرة عن الشّجر، واستُعير ذلك لكلِّ اكتسابٍ مكروه. ‏

‏قوم نوحٍ يتحدّونه بإنزال العذاب ‏

‏وجاء جواب قوم نوح انفعاليّاً، لا يحمل أيّة مناقشةٍ لما طرحه عليهم من أفكار، بل هو التّشنُّج والهروب من الموقف: {قالُوا يا نُوحُ قدْ جادلْتنا فأكْثرْت جِدالنا}، ولا نملك أيّ جوابٍ لما تقول، ولسنا مستعدِّين للدُّخول معك في حوار؛ لأنّنا لا نريد أن نؤمن بك وبرسالتك، مهما اعتمدت من أساليب، وقدّمت من أفكار، فإذا كان لك ما تهدِّدنا به في إنذارك لنا، {فأْتِنا بِما تعِدُنا} من العذاب الأليم، {إِنْ كُنْت مِن الصّادِقِين}. وهذا مظهر تحدِّيهم لنوحٍ؛ لاعتقادهم أنّه غير قادرٍ على ردِّ التّحدِّي بمثله. ‏

‏ونستوحي من هذا المنطق - التّحدِّي، الموقف الّذي يواجهه الدُّعاة إلى الله والمصلحون للواقع، من قِبل الفئات المضادّة الّتي تتحدّث بأسلوب التّهديد، الّذي يصادر الفكرة، ويغلق باب الحوار، ويهرب من مواجهة المسألة بالحجّة والبرهان؛ إنّه أسلوب العاجزين عن المناقشة، والمتمرِّدين على الحقِّ، الّذين لا يبحثون عن الاقتناع المرتكز على الدّليل، بل يريدون الإصرار على الموقف التّقليديِّ أيّاً كان، خطأً أو صواباً، وهو أسلوب المتعصِّبين أيضاً. ‏

‏وهنا يأتي أسلوب نوح النّبيِّ، وهو أسلوب الأنبياء الّذين يرتفعون بمواقفهم المنفتحة إلى مستوى قيمة الدّعوة، في تأثيرها على المصلحة العامّة للنّاس، ومدى الجمود الّذي يتمثّل في فئات الجهل والتّخلُّف، الأمر الّذي يفرض عليهم الدّعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالّتي هي أحسن، والثّبات على الدّعوة، والصّبر على كلِّ التّحدِّيات، والرّدِّ بالطّريقة المثلى الّتي توحي بالمحبّة والعقل والسّكينة الرُّوحيّة الهادئة. ‏

‏وقد عاش نوحٌ هذه التّجربة مدّةً طويلةً لم يعشها نبيٌّ قبله ولا بعده في المدى الزّمنيِّ، وذلك في حديث القرآن عنه في تقريره النِّهائيِّ للنّشاط الرِّساليِّ: ‏{‏‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ‏‏*‏‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً ‏‏*‏‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ‏‏*‏‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ‏‏*‏‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}[نوح: 5 - 9]. وقد لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً، في حركة الدّعوة حتّى استنفذ كلّ الأساليب، فلم يزدهم دعاؤه إلاّ فراراً، وتمرُّداً على الحقِّ، وعناداً وإصراراً على الجحود والإنكار. ‏

‏وهذا ما ينبغي للدُّعاة إلى الله أن يتمثّلوه صبراً وثباتاً واستمراراً على الدّعوة، بالكلمة الهادئة الّتي تبقى في عمليّة تعبيرٍ إيحائيٍّ عن الفكرة، والبُعد عن الانفعال. ‏

‏المنطق الهادئ للأنبياء ‏

‏ولكنّ الأنبياء لا يواجهون التّحدِّي بانفعال، أو بإحباط؛ لأنّهم لا ينطلقون من موقعٍ ذاتيٍّ، بل يعتبرون أنفسهم مجرّد رُسُلٍ يبلِّغون النّاس ما يأمرهم الله به، فإذا واجههم النّاس بالتّمرُّد والتّحدِّي، فإنّهم يرفعون الأمر إلى الله؛ لأنّه موجّهٌ إليه قبل أن يكون موجّهاً إليهم؛ لذا، كان جواب نوح صورةً للموقف الرِّساليِّ الهادئ الّذي لا تزلزله التّحدِّيات: {قال إِنّما يأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاء}؛ لأنّ الله هو الّذي يملك أمر إنزال العذاب بكم من مواقع قدرته، ومنه يصدر الإنذار، ولست إلاّ مبلِّغاً لما أرسلني به، وقد قدّر بمشيئته الّتي خضعت لها الأشياء أنّ لكلِّ شيءٍ وقته، فما مدى قدرتكم حتّى تطلقوا التّحدِّي بمثل هذه الطّريقة الاستعراضيّة؟ وما وعيكم لقدرة الله على عباده الّتي جرّبتموها في ما مرّ بكم من مصائب وأهوال، وما تشاهدونه من حوادث الموت والفناء في الحياة؟ {وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِين}؛ لأنّكم لا تملكون الهرب من قضاء الله وقدره، ولا تستطيعون الوقوف أمام عذاب الله في أيِّ وقتٍ جاءكم، وفي أيِّ مكانٍ. ‏

{ولا ينْفعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أردْتُ أنْ أنْصح لكُمْ}، في ما أستخدمه من ترغيبٍ وترهيبٍ يدفعني إليه ما أحبُّه لكم من النّجاة والنّجاح، {إِنْ كان اللّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيكُمْ}؛ من خلال زيادة غوايتكم لأنفسكم بالجحود والتّمرُّد، وبالتّهرُّب من حوار الفكر والإيمان، ما يجعل من الغواية عن طريق الرُّشد نتيجةً طبيعيّةً لذلك، في ما ربط الله به الأشياء بأسبابها؛ فإنّ الله جعل للرُّشد سبباً، وللغواية سبباً، إذا أخذ النّاس به كانت إرادة الله في حصوله بالسّبب، وهذا هو تفسير نسبة إرادة الغواية إلى الله. {هُو ربُّكُمْ}، القادر على تغيير ما أنتم فيه بسببٍ غير طبيعيٍّ، ولكنّ حكمته اقتضت أن تخضع الحياة في كلِّ شيءٍ لسننه الطّبيعيّة الّتي أودعها في الكون، ليتحرّك النّاس من موقع الإرادة والاختيار، لا من موقع القهر والإجبار، {وإِليْهِ تُرْجعُون}، فيحاسبكم على ما قدّمتم من الأعمال السّيِّئة في طريق الغواية والضّلال.‏‏ ‏

‏نوحٌ يدحض تهمة الافتراء ‏

{أمْ يقُولُون اِفْتراهُ}. ويصرُّون على اتِّهامه بذلك، على الرّغم من براهين الصِّدق الّتي قدّمها إليهم، كأسلوبٍ من أساليب التّجريح والتّشويه لموقفه. ولكنّ نوحاً لا يخضع لذلك، بل يبقى في هدوء الرُّوح الرِّساليِّ، وصفاء الفكر، {قُلْ إِنِ اِفْتريْتُهُ فعليّ إِجْرامِي}، ولا شأن لكم في ما أتحمّله من مسؤوليّةٍ إزاء ذلك، إن أراد الله أن يعذِّبني عليه، ولكنِّي أعرف من صدق الدّعوة، وسلامة الموقف في نفسي، ما يجعلني بعيداً عن ذلك، وما يدفعني إلى الثِّقة بالرِّسالة بالمستوى الّذي يُبعدني عن موقع ردِّ الفعل الّذي أردتم وقوعي فيه. {وأنا برِي‏ءٌ مِمّا تُجْرِمُون}؛ كما أنِّي لا أتحمّل مسؤوليّة كفركم وتمرُّدكم؛ لأنّني أقمت عليكم الحجّة، ولم أقصِّر في الدّعوة والتّبليغ، وبقي عليكم تحمُّل مسؤوليّة عملكم؛ لأنّ الله جعل مسؤوليّة الجزاء فرديّةً، يتحمّل على أساسها كلُّ إنسانٍ عمله، إن خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرٌّ. ‏

‏نقاشٌ في هويّة شخصيّة الآية ‏

‏وقيل: إنّ هذه الآية واردةٌ في شأن النّبيِّ محمّدٍ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم ، الّذي أنكر عليه المشركون من قومه الوحي الإلهيّ في القرآن، فاتّهموه بالافتراء، فجاءت الآية ردّاً عليهم‏(1)‏. ‏

‏ويؤيِّد البعض هذا القول، أوّلاً: بأنّ ما يشبه هذه الآية واردٌ في سورة الأحقاف، الآية الثّامنة، وذلك في الحديث عن النّبيِّ محمّدٍ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك هو قوله تعالى: {أمْ يقُولُون اِفْتراهُ قُلْ إِنِ اِفْتريْتُهُ فلا تمْلِكُون لِي مِن اللّهِ شيْئاً}[الأحقاف: 8]. ‏

‏وثانياً:‏‏ إنّ ما جاء في نوح في هذه الآيات جميعه بصيغة الغائب، ولكنّ الآية -محلّ البحث- جاءت بصيغة المخاطب، ومسألة الالتفات - أي: الانتقال من ضمير الغيبة إلى المخاطب - خلاف الظّاهر، وإذا أردنا أن تكون الآية في نوح عليه السلام فإنّ جملة: «يقولون» الّتي هي بصيغة المضارع، وجملة: «قل» الّتي هي بصيغة الأمر، فإنّهما جميعاً يحتاجان إلى التّقدير. ‏

‏وثالثاً:‏‏ هناك حديثٌ في تفسير (البرهان) في ذيل هذه الآية، عن الإمامين الباقر والصّادق عليهما السلام‏(2)‏، يبيِّن أنّ الآية المتقدِّمة نزلت في كُفّار مكّة ونبيِّ الإسلام‏(3)‏. ‏

‏ولكنّ هذا القول بعيدٌ عن السِّياق العامِّ للآيات. مع ملاحظة أنّ الجملة الاعتراضيّة الّتي يرتكز عليها هذا القول لا تتناسب مع السِّياق العامِّ، إلاّ إذا كان المقصود بالافتراء ما ذكره القرآن من خبر نوح وقومه. أمّا الرِّواية عن الإمامين فهي مرسلةٌ‏(4)‏. والله العالم. ‏

‏وعلى كلِّ حال، فذلك هو منطق الأنبياء الهادئ الّذي يطرح الفكرة بقوّةٍ، ويواجه الموقف بحسمٍ، ويردُّ التّحدِّي بعقلٍ هادئٍ، وفكرٍ منفتحٍ. وهو ما ينبغي للدُّعاة إلى الله أن يستوحوه، ويسيروا على هداه، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. ‏

‏ ‏‏الهوامش:‏

‏(1) لعلّ هذا الرّأي هو المشهور بين المفسِّرين، انظر على سبيل المثال: الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 12، ص 43. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 5، ص 480. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 269. السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س ، ج 10، ص 218 - 219.‏

‏(‏‏2‏‏) البحراني، البرهان، م. س، ج 2، ص 216، ح 3. ‏

‏(‏‏3‏‏) الشّيخ الشِّيرازي، الأمثل، م. س، ج 6، ص 527. ‏

‏(‏‏4‏‏) فقد نقلها صاحب تفسير (البرهان) عن: الشيباني، محمّد بن حسن (ت القرن 7 هـ-)، نهج البيان عن كشف معاني القرآن، ط 1، تحقيق حسين دراهي، نشر دائرة المعارف الإسلاميّة، طهران - إيران، 1413هـ-، ج 3، ص 78. الّذي لم ينقل نصّ الرِّواية واكتفى بقول: «قال مقاتل: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ محمّداً افترى القرآن. وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام».‏

‎ ‎

‏معاني المفردات‏‏ ‏

{جادلْتنا}: الجدال، والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجّةٍ أو شبهةٍ. وهو من الجدل: شدّة الفتل. ويُقال للصّقر: أجدل؛ لأنّه من أشدِّ الجوارح. والجدال والمراء بمعنًى، غير أنّ المراء مذمومٌ؛ لأنّه مخاصمةٌ في الحقِّ بعد ظهوره، كمري الضّرع بعد دروره، وليس كذلك الجدال. ‏

‏والفرق بين الحِجاج والجدال، أنّ المطلوب بالحجاج ظهور الحجّة، والمطلوب بالجدال الرُّجوع عن المذهب. ‏

{بِمُعْجِزِين}: الإعجاز: هو الفوت بالهرب. ‏

{نُصْحِي}: النُّصح: تحرِّي فعلٍ أو قولٍ فيه صلاح صاحبه. ويأتي بمعنى الإخلاص، نحو: نصحت له الودّ، أي: أخلصته. ‏

{يُغْوِيكُمْ}: الإغواء بمعنى الإهلاك، فالمعنى: يريد أن يهلككم. ‏

{اِفْتريْتُهُ}: الفرق بين افتراء الكذب وقول الكذب، أنّ قول الكذب قد يكون على وجه تقليد الإنسان فيه لغيره، وأمّا افتراء الكذب فهو افتعاله من قبل نفسه. ‏

{تُجْرِمُون}: أصل الجرم: قطع الثّمرة عن الشّجر، واستُعير ذلك لكلِّ اكتسابٍ مكروه. ‏

‏قوم نوحٍ يتحدّونه بإنزال العذاب ‏

‏وجاء جواب قوم نوح انفعاليّاً، لا يحمل أيّة مناقشةٍ لما طرحه عليهم من أفكار، بل هو التّشنُّج والهروب من الموقف: {قالُوا يا نُوحُ قدْ جادلْتنا فأكْثرْت جِدالنا}، ولا نملك أيّ جوابٍ لما تقول، ولسنا مستعدِّين للدُّخول معك في حوار؛ لأنّنا لا نريد أن نؤمن بك وبرسالتك، مهما اعتمدت من أساليب، وقدّمت من أفكار، فإذا كان لك ما تهدِّدنا به في إنذارك لنا، {فأْتِنا بِما تعِدُنا} من العذاب الأليم، {إِنْ كُنْت مِن الصّادِقِين}. وهذا مظهر تحدِّيهم لنوحٍ؛ لاعتقادهم أنّه غير قادرٍ على ردِّ التّحدِّي بمثله. ‏

‏ونستوحي من هذا المنطق - التّحدِّي، الموقف الّذي يواجهه الدُّعاة إلى الله والمصلحون للواقع، من قِبل الفئات المضادّة الّتي تتحدّث بأسلوب التّهديد، الّذي يصادر الفكرة، ويغلق باب الحوار، ويهرب من مواجهة المسألة بالحجّة والبرهان؛ إنّه أسلوب العاجزين عن المناقشة، والمتمرِّدين على الحقِّ، الّذين لا يبحثون عن الاقتناع المرتكز على الدّليل، بل يريدون الإصرار على الموقف التّقليديِّ أيّاً كان، خطأً أو صواباً، وهو أسلوب المتعصِّبين أيضاً. ‏

‏وهنا يأتي أسلوب نوح النّبيِّ، وهو أسلوب الأنبياء الّذين يرتفعون بمواقفهم المنفتحة إلى مستوى قيمة الدّعوة، في تأثيرها على المصلحة العامّة للنّاس، ومدى الجمود الّذي يتمثّل في فئات الجهل والتّخلُّف، الأمر الّذي يفرض عليهم الدّعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالّتي هي أحسن، والثّبات على الدّعوة، والصّبر على كلِّ التّحدِّيات، والرّدِّ بالطّريقة المثلى الّتي توحي بالمحبّة والعقل والسّكينة الرُّوحيّة الهادئة. ‏

‏وقد عاش نوحٌ هذه التّجربة مدّةً طويلةً لم يعشها نبيٌّ قبله ولا بعده في المدى الزّمنيِّ، وذلك في حديث القرآن عنه في تقريره النِّهائيِّ للنّشاط الرِّساليِّ: ‏{‏‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ‏‏*‏‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً ‏‏*‏‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ‏‏*‏‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ‏‏*‏‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}[نوح: 5 - 9]. وقد لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً، في حركة الدّعوة حتّى استنفذ كلّ الأساليب، فلم يزدهم دعاؤه إلاّ فراراً، وتمرُّداً على الحقِّ، وعناداً وإصراراً على الجحود والإنكار. ‏

‏وهذا ما ينبغي للدُّعاة إلى الله أن يتمثّلوه صبراً وثباتاً واستمراراً على الدّعوة، بالكلمة الهادئة الّتي تبقى في عمليّة تعبيرٍ إيحائيٍّ عن الفكرة، والبُعد عن الانفعال. ‏

‏المنطق الهادئ للأنبياء ‏

‏ولكنّ الأنبياء لا يواجهون التّحدِّي بانفعال، أو بإحباط؛ لأنّهم لا ينطلقون من موقعٍ ذاتيٍّ، بل يعتبرون أنفسهم مجرّد رُسُلٍ يبلِّغون النّاس ما يأمرهم الله به، فإذا واجههم النّاس بالتّمرُّد والتّحدِّي، فإنّهم يرفعون الأمر إلى الله؛ لأنّه موجّهٌ إليه قبل أن يكون موجّهاً إليهم؛ لذا، كان جواب نوح صورةً للموقف الرِّساليِّ الهادئ الّذي لا تزلزله التّحدِّيات: {قال إِنّما يأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاء}؛ لأنّ الله هو الّذي يملك أمر إنزال العذاب بكم من مواقع قدرته، ومنه يصدر الإنذار، ولست إلاّ مبلِّغاً لما أرسلني به، وقد قدّر بمشيئته الّتي خضعت لها الأشياء أنّ لكلِّ شيءٍ وقته، فما مدى قدرتكم حتّى تطلقوا التّحدِّي بمثل هذه الطّريقة الاستعراضيّة؟ وما وعيكم لقدرة الله على عباده الّتي جرّبتموها في ما مرّ بكم من مصائب وأهوال، وما تشاهدونه من حوادث الموت والفناء في الحياة؟ {وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِين}؛ لأنّكم لا تملكون الهرب من قضاء الله وقدره، ولا تستطيعون الوقوف أمام عذاب الله في أيِّ وقتٍ جاءكم، وفي أيِّ مكانٍ. ‏

{ولا ينْفعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أردْتُ أنْ أنْصح لكُمْ}، في ما أستخدمه من ترغيبٍ وترهيبٍ يدفعني إليه ما أحبُّه لكم من النّجاة والنّجاح، {إِنْ كان اللّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيكُمْ}؛ من خلال زيادة غوايتكم لأنفسكم بالجحود والتّمرُّد، وبالتّهرُّب من حوار الفكر والإيمان، ما يجعل من الغواية عن طريق الرُّشد نتيجةً طبيعيّةً لذلك، في ما ربط الله به الأشياء بأسبابها؛ فإنّ الله جعل للرُّشد سبباً، وللغواية سبباً، إذا أخذ النّاس به كانت إرادة الله في حصوله بالسّبب، وهذا هو تفسير نسبة إرادة الغواية إلى الله. {هُو ربُّكُمْ}، القادر على تغيير ما أنتم فيه بسببٍ غير طبيعيٍّ، ولكنّ حكمته اقتضت أن تخضع الحياة في كلِّ شيءٍ لسننه الطّبيعيّة الّتي أودعها في الكون، ليتحرّك النّاس من موقع الإرادة والاختيار، لا من موقع القهر والإجبار، {وإِليْهِ تُرْجعُون}، فيحاسبكم على ما قدّمتم من الأعمال السّيِّئة في طريق الغواية والضّلال.‏‏ ‏

‏نوحٌ يدحض تهمة الافتراء ‏

{أمْ يقُولُون اِفْتراهُ}. ويصرُّون على اتِّهامه بذلك، على الرّغم من براهين الصِّدق الّتي قدّمها إليهم، كأسلوبٍ من أساليب التّجريح والتّشويه لموقفه. ولكنّ نوحاً لا يخضع لذلك، بل يبقى في هدوء الرُّوح الرِّساليِّ، وصفاء الفكر، {قُلْ إِنِ اِفْتريْتُهُ فعليّ إِجْرامِي}، ولا شأن لكم في ما أتحمّله من مسؤوليّةٍ إزاء ذلك، إن أراد الله أن يعذِّبني عليه، ولكنِّي أعرف من صدق الدّعوة، وسلامة الموقف في نفسي، ما يجعلني بعيداً عن ذلك، وما يدفعني إلى الثِّقة بالرِّسالة بالمستوى الّذي يُبعدني عن موقع ردِّ الفعل الّذي أردتم وقوعي فيه. {وأنا برِي‏ءٌ مِمّا تُجْرِمُون}؛ كما أنِّي لا أتحمّل مسؤوليّة كفركم وتمرُّدكم؛ لأنّني أقمت عليكم الحجّة، ولم أقصِّر في الدّعوة والتّبليغ، وبقي عليكم تحمُّل مسؤوليّة عملكم؛ لأنّ الله جعل مسؤوليّة الجزاء فرديّةً، يتحمّل على أساسها كلُّ إنسانٍ عمله، إن خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرٌّ. ‏

‏نقاشٌ في هويّة شخصيّة الآية ‏

‏وقيل: إنّ هذه الآية واردةٌ في شأن النّبيِّ محمّدٍ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم ، الّذي أنكر عليه المشركون من قومه الوحي الإلهيّ في القرآن، فاتّهموه بالافتراء، فجاءت الآية ردّاً عليهم‏(1)‏. ‏

‏ويؤيِّد البعض هذا القول، أوّلاً: بأنّ ما يشبه هذه الآية واردٌ في سورة الأحقاف، الآية الثّامنة، وذلك في الحديث عن النّبيِّ محمّدٍ‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك هو قوله تعالى: {أمْ يقُولُون اِفْتراهُ قُلْ إِنِ اِفْتريْتُهُ فلا تمْلِكُون لِي مِن اللّهِ شيْئاً}[الأحقاف: 8]. ‏

‏وثانياً:‏‏ إنّ ما جاء في نوح في هذه الآيات جميعه بصيغة الغائب، ولكنّ الآية -محلّ البحث- جاءت بصيغة المخاطب، ومسألة الالتفات - أي: الانتقال من ضمير الغيبة إلى المخاطب - خلاف الظّاهر، وإذا أردنا أن تكون الآية في نوح عليه السلام فإنّ جملة: «يقولون» الّتي هي بصيغة المضارع، وجملة: «قل» الّتي هي بصيغة الأمر، فإنّهما جميعاً يحتاجان إلى التّقدير. ‏

‏وثالثاً:‏‏ هناك حديثٌ في تفسير (البرهان) في ذيل هذه الآية، عن الإمامين الباقر والصّادق عليهما السلام‏(2)‏، يبيِّن أنّ الآية المتقدِّمة نزلت في كُفّار مكّة ونبيِّ الإسلام‏(3)‏. ‏

‏ولكنّ هذا القول بعيدٌ عن السِّياق العامِّ للآيات. مع ملاحظة أنّ الجملة الاعتراضيّة الّتي يرتكز عليها هذا القول لا تتناسب مع السِّياق العامِّ، إلاّ إذا كان المقصود بالافتراء ما ذكره القرآن من خبر نوح وقومه. أمّا الرِّواية عن الإمامين فهي مرسلةٌ‏(4)‏. والله العالم. ‏

‏وعلى كلِّ حال، فذلك هو منطق الأنبياء الهادئ الّذي يطرح الفكرة بقوّةٍ، ويواجه الموقف بحسمٍ، ويردُّ التّحدِّي بعقلٍ هادئٍ، وفكرٍ منفتحٍ. وهو ما ينبغي للدُّعاة إلى الله أن يستوحوه، ويسيروا على هداه، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. ‏

‏ ‏‏الهوامش:‏

‏(1) لعلّ هذا الرّأي هو المشهور بين المفسِّرين، انظر على سبيل المثال: الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 12، ص 43. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 5، ص 480. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 269. السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س ، ج 10، ص 218 - 219.‏

‏(‏‏2‏‏) البحراني، البرهان، م. س، ج 2، ص 216، ح 3. ‏

‏(‏‏3‏‏) الشّيخ الشِّيرازي، الأمثل، م. س، ج 6، ص 527. ‏

‏(‏‏4‏‏) فقد نقلها صاحب تفسير (البرهان) عن: الشيباني، محمّد بن حسن (ت القرن 7 هـ-)، نهج البيان عن كشف معاني القرآن، ط 1، تحقيق حسين دراهي، نشر دائرة المعارف الإسلاميّة، طهران - إيران، 1413هـ-، ج 3، ص 78. الّذي لم ينقل نصّ الرِّواية واكتفى بقول: «قال مقاتل: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ محمّداً افترى القرآن. وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام».‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية