تفسير
29/12/2025

s-11-a-61-62-63-64-65-66-67-68

s-11-a-61-62-63-64-65-66-67-68

‏معاني المفردات ‏

{أنْشأكُمْ مِن الْأرْضِ}: أوجدكم منها. والإنشاء: إيجادٌ ابتداءً من غير استعانةٍ بشيءٍ من الأسباب. ‏

{واِسْتعْمركُمْ فِيها}: الاستعمار: جعل القادر يعمر الأرض، كعمارة الدّار. ومنه: العمرى في الفقه، وهو أن يقول: أعطيتك الدّار عمري أو عمرك. ‏

{مرْجُوّاً}: نرجو منك الخير. ‏

{مُرِيبٍ}: المريب: الموجب للتُّهمة والرِّيبة. ‏

{تخْسِيرٍ}: أي: خسران. ‏

{آيةً}: المراد بها - هنا - المعجزة. ‏

{فذرُوها}: دعوها. ‏

{ولا تمسُّوها}: قال في (مجمع البيان): «المسُّ واللّمس بمعنًى. وفرّق عليُ‏بن عيسى بينهما بأنّ المسّ قد يكون بين جمادين، واللّمس لا يكون إلاّ بين حيّين؛ لما فيه من الإدراك»‏(1)‏. ‏

{دارِكُمْ}: بلدكم. ‏

{الصّيْحةُ}: صوت الصّاعقة. ‏

{جاثِمِين}: ساقطين على وجوههم. والجثوم: السُّقوط على الوجه، وقيل: هو القعود على الرُّكبة‏(2)‏. ‏

{يغْنوْا}: أي: لم يقيموا فيها. وغني بالمكان: أقام به. والمغنى: المنزل. وأصل الغنى: الاكتفاء، ومنه: الغنى بالمال. والغناء - بالمدِّ -: الصّوت الّذي يُكتفي به. والغناء: الاكتفاء بحال الشّيء، ومنه: غني بالمكان؛ لاكتفائه بالإقامة فيه. ‏

‏ الملامح العامّة لثمود قوم صالح ‏

‏وهذا نبيٌّ من أنبياء ما قبل التّاريخ - في ما يُقال - أرسله الله إلى قومه ثمود الّذين كانوا من العرب العاربة، ومن سكان القرى الواقعة بين المدينة والشّام -كما يذكر بعض المفسِّرين‏(3)‏ -. وليس لدينا أيُّ مصدرٍ تاريخيٍّ موثوقٍ يُحدِّثنا عن تفاصيل حياتهم، بل المصدر الصّحيح هو القرآن، الّذي يفيدنا بأنّهم كانوا أُمّةً من العرب -على ما يدلُّ عليه اسم نبيِّهم، وقد كان منهم - نشؤوا بعد قوم عاد، ولهم حضارةٌ ومدنيّةٌ، وكانوا يعمرون الأرض، ويتّخذون من سهولها قصوراً، وينحتون من الجبال بيوتاً آمنين، كما جاء في قوله تعالى: ‏{‏‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏‏}‏[الأعراف: 74]. ومن شغلهم الفلاحة، بإجراء العيون، وإنشاء الجنّات، والنّخيل، والحرث، {وزُرُوعٍ ونخْلٍ طلْعُها هضِيمٌ}[الشُّعراء: 148]. ‏

‏وقد كانوا يعيشون في ضلال الوثنيّة والشِّرك، تحت تأثير ساداتهم وكبرائهم الّذين كانوا يتحكّمون بالتّوجيه الفكريِّ والعمليِّ لأتباعهم، ويوحون إليهم بأنّ طاعتهم هي السّبيل الأقوم لنجاحهم وحصولهم على الخير والرّشاد. ولذلك فإنّ المتتبِّع لأصواتهم وأصوات أمثالهم لا يشعر بأنّها تنطلق من حالة اقتناعٍ ومعاناةٍ، بل يشعر أنّها أصوات الآخرين المستكبرين الّذين يوحون إليهم زخرف القول غروراً. لذا كانت مشكلة هؤلاء مع الأنبياء أنّهم يدعون إلى عبادة الله الواحد، حيث تسقط كلُّ الرُّموز البشريّة وغير البشريّة في الأرض، فلا يبقى إلاّ وحيه، ولا يحكم إلاّ شرعه، ولا يُترك لأيِّ بشريٍّ مجال الحصول على أيِّ امتيازٍ إلاّ من خلال عمله، بينما كانت حياة هؤلاء متحرِّكةً من خلال الامتيازات الّتي فرضوها لأنفسهم، وأقنعوا الآخرين باستحقاقهم لها، بما يملكونه من مالٍ أو قوّةٍ أو جاهٍ، وفي ما كانوا يدّعونه لأنفسهم من حقِّ الولاية على النّاس؛ لرعايتهم الأصنام، ووكالتهم عنها، إلى غير ذلك من الخرافات والأضاليل. الأمر الّذي يجعل صراعهم ضدّ الأنبياء صراعاً من أجل حماية مصالحهم، لا من أجل حماية خطِّ تفكيرهم. ‏

‏دعوة الأنبياء الأولى عبادة اللّه ‏

{وإِلى‏ ثمُود أخاهُمْ صالِحاً قال يا قوْمِ اُعْبُدُوا اللّه ما لكُمْ مِنْ إِلهٍ غيْرُهُ}. وتلك هي الدّعوة الواحدة الّتي تلخِّص كلّ شرائع الله وكلّ تعاليمه، فالله هو المنطلق في كلِّ شيءٍ، والمرجع في كلِّ أمرٍ، فله الخضوع كلُّه، وله الأمر كلُّه. وهذا هو جوهر التّصوُّر الدِّينيِّ للحياة، فإمّا أن يكون الإله الّذي يلتقي الكون أمامه هو الله، وإما أن يكون غيره، ولكلٍّ منهما خطوطٌ وآفاقٌ وتعاليم وأهداف... فلا مجال للشّركة، ولا مجال للتّبعيض. ‏

‏والعبادة - في معناها الواسع - تمثِّل أعلى درجات الخضوع في تحقيق إرادته في الحياة من خلال أوامره ونواهيه، والانفتاح الرُّوحيِّ والفكريِّ والعمليِّ على ما يحبُّه ويرضاه في العناوين الّتي يريد للإنسان أن يؤكِّدها في الحياة، في نفسه وفي حركته في الإنسان الآخر وفي الواقع. وهذا هو الأُفق الواسع الّذي تدلُّ عليه الآية: {وما خلقْتُ الْجِنّ والْإِنْس إِلاّ لِيعْبُدُونِ}[الذّاريات: 56]؛ فإنّ اعتبار العبادة غايةً للخلق يوحي بما للعبادة من امتدادٍ في كلِّ نشاطات المخلوقات الحيّة، من الجنِّ والإنس، الّتي يُراد لها أن تنفِّذ الخطّة الّتي أخضع الله الكون لها في كلِّ حركته النِّظاميّة في الأمور كلِّها. ‏

‏الاحتجاج بنعمة الأرض والعمران ‏

{هُو أنْشأكُمْ مِن الْأرْضِ}، فمنها خُلقتم، فأنتم جزءٌ من ترابها، ولكن بصورةٍ أخرى، تتحرّك فيها الحياة، وينطلق معها الفكر. {واِسْتعْمركُمْ فِيها} أي: وطلب منكم عمرانها وإحياءها، بما تملكونه من طاقات الفكر وإمكانات العمل، للاستمرار في العيش؛ لأنّ للعيش شروطاً، لا بُدّ للإنسان من توفيرها وتحصيلها إذا وجّه طاقاته نحوها. وهذا ما سخّره الله للإنسان في ما أودعه في الأرض من ثروات، وفي ما أعدّه من أدوات، ومكّنه فيها من قدرات. ‏

‏وهذا هو الّذي تمثّل في ثمود، في ما أعطاهم الله من الأراضي الخصبة الّتي يمتدُّ فيها الاخضرار وتكثُر فيها الغابات، ما يكفيهم في حاجاتهم الغذائيّة وغيرها، وألهمهم القدرة الفنِّيّة الّتي تمكِّنهم من تطوير الزِّراعة. هذا بالإضافة إلى القوّة الجسديّة، والعمر الطّويل، والخبرة الواسعة في الإعمار، كما جاء في قوله تعالى: {وكانُوا ينْحِتُون مِن الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِين}[الحجر: 82]، ما جعلهم يتفنّنون في استخدام العمارة في الأمن بالطّريقة الّتي لا يملك الأعداء السّيطرة عليهم من خلالها. ‏

‏وفي هذا الجوِّ، لا بُدّ للإنسان من عيش الإحساس العميق بالارتباط بالله، عند استجابته لدعوة الأرض للارتباط بها، ليعرف بأنّ ارتباطه التّكوينيّ بالأرض من خلال قدرة الله، يفرض عليه الانفصال العمليّ عنها، عندما تقوده إلى التّمرُّد على الله، أو عندما تثير فيه ميل الاستسلام للشّهوات، بعيداً عن خطِّ المبادئ، وحركة الرِّسالات؛ لأنّ الله، الّذي خلق الأرض، وخلق الإنسان منها، هو الّذي يحكم في كلِّ ما يدور فيها، ويتحرّك عليها؛ لأنّه صاحب السُّلطة في ذلك كلِّه، وهو العالم بالصّلاح والفساد في جميع موارده ومصادره.‏‏ ‏

‏الدّعوة إلى الاستغفار والتّوبة ‏

{فاسْتغْفِرُوهُ ثُمّ تُوبُوا إِليْهِ}؛ لأنّ أوّل خطوةٍ يخطوها الإنسان على طريق تصحيح الخطأ وتقويم الانحراف عن خطِّ الإيمان، هي الوقفة المعترفة النّادمة المعبِّرة عن حالة التّراجع، وذلك بالاستغفار الّذي يتوسّل فيه الإنسان إلى الله، أن يقبله ضمن من غفر له ذنوبه، وبالتّوبة الّتي تعبِّر عن حالة النّدم العميق على الماضي، والعزم على التّصحيح في المستقبل، ليبدأ السّير في الخطِّ المستقيم الجديد من حاضرٍ لا يثقله الماضي، ومن روحٍ لا ترهقها الذِّكريات السّوداء؛ لأنّ التّوبة تمحو ذلك كلّه، ولأنّ الغفران يحوِّل ظلمة المعصية إلى إشراقة الطّاعة. {إِنّ ربِّي قرِيبٌ مُجِيبٌ}، فهو ليس بعيداً عن دوافع المعصية في الإنسان، من شهواتٍ وأهواء قد تغلبه؛ لأنّه خالقه. وهو ليس بعيداً عن تطلُّعات الإنسان للمغفرة، وأحلامه في الرّحمة؛ فهو قريبٌ إلى روحه وفكره وشعوره وحياته، بحيث لا يوجد أقرب إليه منه، فيلجأ إليه لحلِّ كلِّ مشكلةٍ، ولإقالة كلِّ عثرةٍ، ولتخفيف كلِّ همٍّ وألم؛ فهو المجيب لكلِّ دعواته وطلباته للرّحمة وللمغفرة في شؤون الدُّنيا والآخرة، وذلك هو الطّريق المستقيم. ‏

‏المقابلة بالتّمسُّك بملّة الآباء ‏

‏ولكنّ القوم يواجهونه - عوضاً عن الإيمان بالرِّسالة - بخيبة أملهم فيه، فقد كانوا يجدون فيه الشّخص العاقل الوديع الّذي يفكِّر بالأمور بطريقةٍ معقولةٍ موزونةٍ، فلا يبتعد في تفكيره عن واقع المجتمع، ولا يتمرّد على تقاليده، ولا ‏‏يسيء ‏‏إلى أوضاعه، كما هو شأن كلِّ الرُّموز الاجتماعيّة المحترمة، الّتي تكسب احترامها من محافظتها على التّوازن في العلاقات الاجتماعيّة بما لا يزعج السّاحة ولا يتنكّر للمألوف. ولهذا فقد كانت دعوة صالح لهم بمثابة الصّدمة الّتي أخذتهم بعنصر المفاجأة. ‏

{قالُوا يا صالِحُ قدْ كُنْت فِينا مرْجُوّاً قبْل هذا}، فقد كانت الآمال معقودةً عليك في قيادة المجتمع نحو الخير لا نحو الشّرِّ. {أ تنْهانا أنْ نعْبُد ما يعْبُدُ آباؤُنا} من الأوثان الّتي قدّسها الآباء وعبدوها أجيالاً؟! ألا تسي‏ء بذلك إلى ذكرى الآباء، وتتمرّد على قداستهم؟ فهل يمكن أن نحكم عليهم بالجهل وتقديس الخرافة في ما عبدوه كما تقول؟ ‏

‏وهل نستطيع الادِّعاء بأنّنا نفهم أكثر ممّا يفهمون، ونعرف أكثر ممّا يعرفون، وهم أصحاب التّجربة والفكر والسّبق في التّاريخ؟ وهل يتعلّم الجيل الحاضر إلاّ من الأجيال الماضية؟ هكذا كانت كلُّ هذه الأوهام تتسابق إلى أخيلتهم في ما يعتبرونه أساساً لتقييم الفكر، أو تقديس التّاريخ، أو لتمايز المجتمعات. ‏

{وإِنّنا لفِي شكٍّ مِمّا تدْعُونا إِليْهِ مُرِيبٍ}، فقد لا تكون المسألة بالنّسبة إليك مجرّد فكرةٍ تريد إثارتها أمامنا أو دعوتنا إليها، بل قد تكون هناك خلفيّاتٌ وأهدافٌ مشبوهةٌ تتّصل بطموحاتك ومصالحك، ما قد يتعارض مع أوضاعنا وطموحاتنا ومصالحنا... ولهذا فإنّنا ننظر إلى المسألة نظرة اتِّهامٍ، منشؤها سوء الظّن بك، وبما تضمره من سوءٍ للمجتمع. وهكذا يبدو أنّ هؤلاء القوم لم يرغبوا في مناقشة المسألة من ناحية المضمون على أساس احتمال الصّواب والخطأ فيها؛ لأنّ رفضهم للدّعوة حاسمٌ، بل أرادوا مناقشتها من ناحية الدّوافع الذّاتيّة الكامنة خلفها، والله العالم. ‏

‏فماذا كان ردُّ صالح؟ ‏

‏الحوار أوّلاً ثمّ المعجزة ‏

{قال يا قوْمِ أ رأيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على‏ بيِّنةٍ مِنْ ربِّي}، في ما أعيشه من إيمانٍ بالله وبالرِّسالة وبالوحي الإلهيِّ النّازل عليّ، كأيِّ إنسانٍ يعيش المعاناة الدّاخليّة والحسِّيّة، لاتِّصال قناعاته بالوجدان، {وآتانِي مِنْهُ رحْمةً} في ما كلّفني به من حمل الرِّسالة، ومنحني إيّاه من صفة النُّبوّة، فهل أترك ذلك كلّه، لأسير على أهوائكم، وأجتنب هداه، لتمنحوني بعض امتيازات ثقتكم؟ وما الّذي أنتفع به من ذلك؟ ثمّ ماذا تفعلون لي، إذا تمرّدت على الله ورفضت رحمته وجحدت بيِّنته، وأراد الله أن يعاقبني على ذلك، وهو القادر عليّ في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ مكان؟ {فمنْ ينْصُرُنِي مِن اللّهِ إِنْ عصيْتُهُ}؟ إنّكم لا تستطيعون فعل شيءٍ أمام الله، ولا تملكون لي ولا لأنفسكم نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بإذن الله، {فما تزِيدُوننِي غيْر تخْسِيرٍ}، فماذا وراء محاولتكم في إبعادي عن الدّعوة إلى الله، إلاّ المزيد من الخسارة على مستوى الدُّنيا والآخرة؟! ‏

‏وانتقل الحديث إلى مجالٍ آخر، فقد أراد الله لصالح أن يجرّهم إلى الإيمان عن طريقٍ آخر غير طريق الحوار الفكريِّ، وذلك بتقديم «النّاقة العجائبيّة» الّتي كانت آيةً من آيات الله: {ويا قوْمِ هذِهِ ناقةُ اللّهِ لكُمْ آيةً}. ليفكِّروا بمسألة الإيمان في هذا الاتِّجاه؛ باعتبار أنّ ذلك قد يكون دليلاً على صدق النّبيِّ صالح في دعوى النُّبوّة. ‏

‏ولم يذكر القرآن لنا التّفاصيل عن طبيعة المعجزة في هذه النّاقة، ما جعل الرِّوايات تختلف في تفسير ذلك اختلافاً يقترب بها من الأساطير، فلتُراجع في مظانِّها من كتب التّفسير؛ لأنّنا لا نجد كبير فائدةٍ في تناولها ما دام القرآن لا يريد أن يدخل في تفاصيلها؛ لأنّ دور القصص القرآنيِّ هو إعطاء الدّرس من مجمل القصّة، ولا يعطي للفكرة امتدادها الزّمنيِّ، ما يجعل القصّة ترتبط بالجوانب العامّة، لا بالجوانب الخاصّة. ‏

{فذرُوها تأْكُلْ فِي أرْضِ اللّهِ}، فلا يُتعرّضُ لها في أيِّ مكانٍ أرادت أن ترعى من أرض الله؛ لأنّ الله جعل لها الحرِّيّة في ذلك بما أوحاه إليّ. {ولا تمسُّوها بِسُوءٍ}؛ لأنّ لها عند الله حرمةً كبيرةً، لكونها نموذج الآية المتحرِّكة الّتي يرى النّاس من خلال خصائصها الدّليل على عظمة الله من جهةٍ، وصدق الرّسول من جهةٍ أخرى، {فيأْخُذكُمْ عذابٌ قرِيبٌ}؛ لأنّ معنى قتلها، هو إعلان الحرب على الله، والتّمرُّد على إنذاره، ومواجهة الموقف الإلهيِّ بالتّحدِّي الّذي يسخر من وعيد الرّسول لهم بعذاب الله، لإبطال مصداقيّة الرِّسالة في حركة المجتمع، وتفرقة المؤمنين من حوله، فضلاً عن غير المؤمنين. ‏

‏الرِّضا بالعمل مشاركةٌ فيه ‏

{فعقرُوها}. فكمن لها شخصٌ منهم فضربها وقتلها، بعد الاتِّفاق مع القوم، فحمّلهم الله مسؤوليّة ذلك جميعاً؛ لأنّ عامل الرِّضا يتساوى في النّتيجة عند الله، مع عامل المشاركة. وقد عبّر عن ذلك الإمام عليٌّ عليه السلام بقوله: «أيُّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرِّضا والسُّخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ، فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمُّوه بالرِّضا، فقال سبحانه: {فعقرُوها فأصْبحُوا نادِمِين}[الشُّعراء: 157]، فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة، خوار السِّكّة المحمّاة في الأرض الخوّارة»‏(4)‏. ‏

‏وفي كلمةٍ أخرى له عليه السلام قال: «الرّاضي بفعل قومٍ كالدّاخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخل في باطلٍ إثمان: إثم العمل به، وإثم الرِّضا به»‏(5)‏. ‏

‏وفي الحديث المرويِّ عن رسول‏الله‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمرٍ فرضيه كان كمن شهده»‏(6)‏. ‏

‏وعن الإمام عليِ‏بن موسى الرِّضا عليه السلام : «لو أنّ رجلاً قُتل في المشرق فرضي بقتله رجلٌ في المغرب لكان الرّاضي عند الله شريك القاتل»‏(7)‏. ‏

‏وفي حديث الإمام جعفر الصّادق عليه السلام قال: «العامل بالظُّلم والمعين له والرّاضي به شركاء ثلاثتهم»‏(8)‏. ‏

‏وربّما كان الأساس في ذلك أنّ الله يريد للإنسان أن يبدأ بعقله وقلبه في رفض المنكر؛ باعتبار أنّ المنطقة الدّاخليّة هي الّتي تمثِّل الأساس في حركته نحو الانحراف العمليِّ الّذي ينشأ من الانحراف النّفسيِّ الّذي يمثِّله الرِّضا بالباطل أو بالمنكر، فإنّه الدّافع الّذي يدفع الإنسان نحو الشّرِّ، ولذلك فإنّ التّأييد النّفسيّ للمنكر هو مظهرٌ من مظاهر الحركة نحوه، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الرّاضي بالفعل يهيِّئ المناخ العامّ الملائم لفاعله، من خلال تشجيعه عليه وتأييده له، ما يجعل من المنكر ظاهرةً عامّةً تمتدُّ في اتِّجاه الانحراف، بحيث تصبح له شعبيّةٌ جماهيريّةٌ كبرى لا تفلح أصوات الاعتراض في ردِّها. ‏

‏ضرورةٌ في الحركة التّبليغيّة ‏

‏وفي ضوء هذا قد نجد من الضّروريِّ في الحركة التّبليغيّة والتّربويّة أن ينطلق الوعظ والإرشاد في عمليّة التّوعية، من أجل تعميق الرّفض النّفسيِّ للشّرِّ، ليقف النّاس منه - تلقائيّاً - موقفاً سلبيّاً، تماماً كما هي الأمور الّتي يستنكرها المجتمع لقبحها عنده فيمنع انتشارها في ساحته، كما هو الحال في تركيز الخير في منطقة العقل والشُّعور، بحيث يمثِّل حاجةً إنسانيّةً نفسيّةً في الدّاخل، فيمتدُّ انتشارها في الواقع. ‏

‏وقد لا يقتصر الأمر في هذا التّفاعل النّفسيِّ في الأفعال الّتي تصدر من الخيِّرين في الحاضر، بل قد ينفتح على الزّمن كلِّه عندما يعيش النّاس مع التّاريخ، ليقفوا من أحداثه موقف التّأييد للخير والرّفض للشّرِّ، كموقفٍ يجسِّد الارتباط بهذا أو ذاك، إيجابيّاً أو سلبيّاً، ليكونوا المجتمع الممتدّ في حركة الخير من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. وهذا ما عبّر عنه الإمام عليٌّ عليه السلام في (نهج البلاغة) «لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له - عليه السّلام - أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهِدنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرِّجال وأرحام النِّساء، سيرعُفُ بهم الزّمان، ويقوى بهم الإيمان»‏(9)‏. ‏

‏وهذا هو الّذي يربط التّاريخ بالمستقبل في اتِّجاهٍ واحدٍ، ويترك تأثيره النّفسيّ والعمليّ على واقع الإنسان المعاصر الّذي يشدُّه إلى التّاريخ أكثر من رابطٍ ورابطٍ، فيدرسه بعمقٍ، ويتفاعل معه بوعيٍ. وهذا هو الّذي يفسِّر الدّعوة في الإسلام إلى الانفعال بالمأساة في التّاريخ إذا كانت تتّصل بقيمةٍ إسلاميّةٍ وحركةٍ تغييريّةٍ؛ باعتبارها تمثِّل عنصراً إيحائيّاً من جهةٍ في اتِّجاه القضيّة الّتي عاشت معها، وتدفع للثّورة على صانعي المأساة المماثلة في الحاضر من جهةٍ أخرى. ‏

‏إنذارٌ يليه العذاب ‏

{فقال تمتّعُوا فِي دارِكُمْ ثلاثة أيّامٍ ذلِك وعْدٌ غيْرُ مكْذُوبٍ}. لقد تحرّكت المسألة في خطِّ القرار الحاسم الّذي حدّد للعذاب موعداً، بعد ثلاثة أيّام؛ لأنّ العذاب سُنّة الله في الأُمم السّالفة، عندما يُنزل آيةً على قوم فيجحدونها. ‏

‏وربّما اعتبر هؤلاء أنّ هذا الإنذار ليس جدِّيّاً، أو أنّهم لم يثقوا بالموقع الّذي يمثِّله صالح عليه السلام عند الله، فلم يكترثوا لذلك، وأصرُّوا على ما عزموا عليه، فجاء العذاب: {فلمّا جاء أمْرُنا نجّيْنا صالِحاً والّذِين آمنُوا معهُ بِرحْمةٍ مِنّا}؛ لأنّ الله كتب على نفسه الرّحمة بمن آمن به وعمل في سبيله، {ومِنْ خِزْيِ يوْمِئِذٍ}، بما يمثِّله العذاب من عارٍ وخزيٍ عندما يُنزله الله على أحدٍ من عباده، كنتيجةٍ لغضبه، {إِنّ ربّك هُو الْقوِيُّ الْعزِيزُ}‏ ‏‏الّذي إذا أراد شيئاً فعله، ولا قوّة لأحدٍ في الوقوف أمامه في ما يريد وفي ما يفعل، فليس لأحدٍ إلاّ الخضوع أمام العزّة القويّة القادرة القاهرة المهيمنة على الأمر كلِّه. ‏

‏النِّهاية المحتومة ‏

{وأخذ الّذِين ظلمُوا الصّيْحةُ} الّتي رجفت لها قلوبهم، وارتعدت لها فرائصهم؛ لأنّها كانت من الشِّدّة بالمستوى الّذي يصعق له الإنسان، فلا يملك حراكاً. وقد يُقرّب هذا الأثر الصّاعق للصّيحة - الصّاعقة في الواقع المادِّيِّ، أنّنا نعرف أنّ الأمواج الصّوتيّة إذا تجازوت حدّاً معيّناً تستطيع أن تكسر الزُّجاج، وقد تتهدّم على أثرها عمارات، وقد تشلُّ أعضاء البدن الدّاخليّة، وهذا ما نلاحظه في الطّائرات حين تخترق الجدار الصّوتيّ وتكون سرعتها أكثر من سرعة أمواج الصّوت، فيسقط على أثر ذلك أفرادٌ على الأرض وهم فاقدو الوعي، وقد يحدث للحوامل إجهاضٌ فتُسقط أجنّتها على أثر ذلك، وقد يتكسّر جميع الزُّجاج الموجود في عمارات المنطقة الّتي تمرُّ عليها الطّائرات المخترقة للجدار الصّوتيِ‏(10)‏.‏‏ ‏‏فكيف إذا كانت الصّيحة مخترقةً للقوانين العاديّة المألوفة للنّاس، ممّا كان معجزةً إلهيّةً فوق قوانين النِّظام الكونيِّ؟ ونحن نعرف من القرآن الكريم أنّ نهاية العالم تتمثّل في الصّيحة الكبرى الّتي عبّرت عنها الآية الكريمة: {ما ينْظُرُون إِلاّ صيْحةً واحِدةً تأْخُذُهُمْ وهُمْ يخِصِّمُون}[يس: 49]، كما أنّ بداية يوم القيامة تنطلق من صيحةٍ عظيمةٍ: {إِنْ كانتْ إِلاّ صيْحةً واحِدةً فإِذا هُمْ جمِيعٌ لديْنا مُحْضرُون}[يس: 53]. ‏

{فأصْبحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِين} أي: ساقطين على وجوههم، {كأنْ لمْ يغْنوْا فِيها}، أي: لم يقيموا فيها، وهو كنايةٌ عن زوال أيِّ أثرٍ من آثار الوجود والحركة منها، تماماً كما لو لم يكن فيها أحدٌ. وتلك هي العبرة الواعية لمن يريد أن يعتبر، بما تبيِّنه من نتائج سلبيّةٍ مدمِّرةٍ للتّمرُّد على الله. {ألا إِنّ ثمُود كفرُوا ربّهُمْ} أي: جحدوه. وهذا هو البيان الّذي يقدِّمه الله للنّاس. {ألا بُعْداً لِثمُود}. وهذه هي النّتيجة الطّبيعيّة لكفرهم؛ لأنّ الله يُبعد الكافرين عن رحمته، فيعذِّبهم في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏ ‏

‏ ‏


‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏ (1) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 296. ‏

‏(2) انظر: م. ن. ‏

‏(3) انظر: الثّعلبي، أحمد بن محمّد بن إبراهيم (ت 427 هـ-)، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ط 1، تحقيق الإمام أبي محمّد بن عاشور، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1422 هـ- - 2002 م، ج 5، ص‏347. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 6، ص 16.‏

‏(‏‏4‏‏) نهج البلاغة، ص 100، الخطبة 201. خارت: صوّتت، كخوار الثّور. السِّكّة المحمّاة: حديدة المحراث إذا أحميت في النّار، فهي أسرع غوراً في الأرض. الخوّارة: السّهلة اللّيِّنة.‏

‏(‏‏5‏‏) نهج البلاغة، م. س، ص 165، الحكمة 154. ‏

‏(‏‏6‏‏) الشّيخ الطُّوسي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، 1390هـ-، ج‏6، ص 170، ح 327. ‏

‏(‏‏7‏‏) الشّيخ الصّدوق، علل الشّرائع، م. س، ج 1، ص 229، باب 164، ح 1. ‏

‏(‏‏8‏‏) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 333، ح 16.‏

‏(‏‏9‏‏) نهج البلاغة، م. س، ص 8، الخطبة 12. يرعف بهم، أي: سيجود بهم الزّمان فيأتي بهم على غير انتظار، كما يجود الأنف بالرُّعاف.‏

‏(‏‏10‏‏) انظر: الشّيخ الشِّيرازي، الأمثل، م. س، ج 6، ص 595.‏

‏معاني المفردات ‏

{أنْشأكُمْ مِن الْأرْضِ}: أوجدكم منها. والإنشاء: إيجادٌ ابتداءً من غير استعانةٍ بشيءٍ من الأسباب. ‏

{واِسْتعْمركُمْ فِيها}: الاستعمار: جعل القادر يعمر الأرض، كعمارة الدّار. ومنه: العمرى في الفقه، وهو أن يقول: أعطيتك الدّار عمري أو عمرك. ‏

{مرْجُوّاً}: نرجو منك الخير. ‏

{مُرِيبٍ}: المريب: الموجب للتُّهمة والرِّيبة. ‏

{تخْسِيرٍ}: أي: خسران. ‏

{آيةً}: المراد بها - هنا - المعجزة. ‏

{فذرُوها}: دعوها. ‏

{ولا تمسُّوها}: قال في (مجمع البيان): «المسُّ واللّمس بمعنًى. وفرّق عليُ‏بن عيسى بينهما بأنّ المسّ قد يكون بين جمادين، واللّمس لا يكون إلاّ بين حيّين؛ لما فيه من الإدراك»‏(1)‏. ‏

{دارِكُمْ}: بلدكم. ‏

{الصّيْحةُ}: صوت الصّاعقة. ‏

{جاثِمِين}: ساقطين على وجوههم. والجثوم: السُّقوط على الوجه، وقيل: هو القعود على الرُّكبة‏(2)‏. ‏

{يغْنوْا}: أي: لم يقيموا فيها. وغني بالمكان: أقام به. والمغنى: المنزل. وأصل الغنى: الاكتفاء، ومنه: الغنى بالمال. والغناء - بالمدِّ -: الصّوت الّذي يُكتفي به. والغناء: الاكتفاء بحال الشّيء، ومنه: غني بالمكان؛ لاكتفائه بالإقامة فيه. ‏

‏ الملامح العامّة لثمود قوم صالح ‏

‏وهذا نبيٌّ من أنبياء ما قبل التّاريخ - في ما يُقال - أرسله الله إلى قومه ثمود الّذين كانوا من العرب العاربة، ومن سكان القرى الواقعة بين المدينة والشّام -كما يذكر بعض المفسِّرين‏(3)‏ -. وليس لدينا أيُّ مصدرٍ تاريخيٍّ موثوقٍ يُحدِّثنا عن تفاصيل حياتهم، بل المصدر الصّحيح هو القرآن، الّذي يفيدنا بأنّهم كانوا أُمّةً من العرب -على ما يدلُّ عليه اسم نبيِّهم، وقد كان منهم - نشؤوا بعد قوم عاد، ولهم حضارةٌ ومدنيّةٌ، وكانوا يعمرون الأرض، ويتّخذون من سهولها قصوراً، وينحتون من الجبال بيوتاً آمنين، كما جاء في قوله تعالى: ‏{‏‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏‏}‏[الأعراف: 74]. ومن شغلهم الفلاحة، بإجراء العيون، وإنشاء الجنّات، والنّخيل، والحرث، {وزُرُوعٍ ونخْلٍ طلْعُها هضِيمٌ}[الشُّعراء: 148]. ‏

‏وقد كانوا يعيشون في ضلال الوثنيّة والشِّرك، تحت تأثير ساداتهم وكبرائهم الّذين كانوا يتحكّمون بالتّوجيه الفكريِّ والعمليِّ لأتباعهم، ويوحون إليهم بأنّ طاعتهم هي السّبيل الأقوم لنجاحهم وحصولهم على الخير والرّشاد. ولذلك فإنّ المتتبِّع لأصواتهم وأصوات أمثالهم لا يشعر بأنّها تنطلق من حالة اقتناعٍ ومعاناةٍ، بل يشعر أنّها أصوات الآخرين المستكبرين الّذين يوحون إليهم زخرف القول غروراً. لذا كانت مشكلة هؤلاء مع الأنبياء أنّهم يدعون إلى عبادة الله الواحد، حيث تسقط كلُّ الرُّموز البشريّة وغير البشريّة في الأرض، فلا يبقى إلاّ وحيه، ولا يحكم إلاّ شرعه، ولا يُترك لأيِّ بشريٍّ مجال الحصول على أيِّ امتيازٍ إلاّ من خلال عمله، بينما كانت حياة هؤلاء متحرِّكةً من خلال الامتيازات الّتي فرضوها لأنفسهم، وأقنعوا الآخرين باستحقاقهم لها، بما يملكونه من مالٍ أو قوّةٍ أو جاهٍ، وفي ما كانوا يدّعونه لأنفسهم من حقِّ الولاية على النّاس؛ لرعايتهم الأصنام، ووكالتهم عنها، إلى غير ذلك من الخرافات والأضاليل. الأمر الّذي يجعل صراعهم ضدّ الأنبياء صراعاً من أجل حماية مصالحهم، لا من أجل حماية خطِّ تفكيرهم. ‏

‏دعوة الأنبياء الأولى عبادة اللّه ‏

{وإِلى‏ ثمُود أخاهُمْ صالِحاً قال يا قوْمِ اُعْبُدُوا اللّه ما لكُمْ مِنْ إِلهٍ غيْرُهُ}. وتلك هي الدّعوة الواحدة الّتي تلخِّص كلّ شرائع الله وكلّ تعاليمه، فالله هو المنطلق في كلِّ شيءٍ، والمرجع في كلِّ أمرٍ، فله الخضوع كلُّه، وله الأمر كلُّه. وهذا هو جوهر التّصوُّر الدِّينيِّ للحياة، فإمّا أن يكون الإله الّذي يلتقي الكون أمامه هو الله، وإما أن يكون غيره، ولكلٍّ منهما خطوطٌ وآفاقٌ وتعاليم وأهداف... فلا مجال للشّركة، ولا مجال للتّبعيض. ‏

‏والعبادة - في معناها الواسع - تمثِّل أعلى درجات الخضوع في تحقيق إرادته في الحياة من خلال أوامره ونواهيه، والانفتاح الرُّوحيِّ والفكريِّ والعمليِّ على ما يحبُّه ويرضاه في العناوين الّتي يريد للإنسان أن يؤكِّدها في الحياة، في نفسه وفي حركته في الإنسان الآخر وفي الواقع. وهذا هو الأُفق الواسع الّذي تدلُّ عليه الآية: {وما خلقْتُ الْجِنّ والْإِنْس إِلاّ لِيعْبُدُونِ}[الذّاريات: 56]؛ فإنّ اعتبار العبادة غايةً للخلق يوحي بما للعبادة من امتدادٍ في كلِّ نشاطات المخلوقات الحيّة، من الجنِّ والإنس، الّتي يُراد لها أن تنفِّذ الخطّة الّتي أخضع الله الكون لها في كلِّ حركته النِّظاميّة في الأمور كلِّها. ‏

‏الاحتجاج بنعمة الأرض والعمران ‏

{هُو أنْشأكُمْ مِن الْأرْضِ}، فمنها خُلقتم، فأنتم جزءٌ من ترابها، ولكن بصورةٍ أخرى، تتحرّك فيها الحياة، وينطلق معها الفكر. {واِسْتعْمركُمْ فِيها} أي: وطلب منكم عمرانها وإحياءها، بما تملكونه من طاقات الفكر وإمكانات العمل، للاستمرار في العيش؛ لأنّ للعيش شروطاً، لا بُدّ للإنسان من توفيرها وتحصيلها إذا وجّه طاقاته نحوها. وهذا ما سخّره الله للإنسان في ما أودعه في الأرض من ثروات، وفي ما أعدّه من أدوات، ومكّنه فيها من قدرات. ‏

‏وهذا هو الّذي تمثّل في ثمود، في ما أعطاهم الله من الأراضي الخصبة الّتي يمتدُّ فيها الاخضرار وتكثُر فيها الغابات، ما يكفيهم في حاجاتهم الغذائيّة وغيرها، وألهمهم القدرة الفنِّيّة الّتي تمكِّنهم من تطوير الزِّراعة. هذا بالإضافة إلى القوّة الجسديّة، والعمر الطّويل، والخبرة الواسعة في الإعمار، كما جاء في قوله تعالى: {وكانُوا ينْحِتُون مِن الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِين}[الحجر: 82]، ما جعلهم يتفنّنون في استخدام العمارة في الأمن بالطّريقة الّتي لا يملك الأعداء السّيطرة عليهم من خلالها. ‏

‏وفي هذا الجوِّ، لا بُدّ للإنسان من عيش الإحساس العميق بالارتباط بالله، عند استجابته لدعوة الأرض للارتباط بها، ليعرف بأنّ ارتباطه التّكوينيّ بالأرض من خلال قدرة الله، يفرض عليه الانفصال العمليّ عنها، عندما تقوده إلى التّمرُّد على الله، أو عندما تثير فيه ميل الاستسلام للشّهوات، بعيداً عن خطِّ المبادئ، وحركة الرِّسالات؛ لأنّ الله، الّذي خلق الأرض، وخلق الإنسان منها، هو الّذي يحكم في كلِّ ما يدور فيها، ويتحرّك عليها؛ لأنّه صاحب السُّلطة في ذلك كلِّه، وهو العالم بالصّلاح والفساد في جميع موارده ومصادره.‏‏ ‏

‏الدّعوة إلى الاستغفار والتّوبة ‏

{فاسْتغْفِرُوهُ ثُمّ تُوبُوا إِليْهِ}؛ لأنّ أوّل خطوةٍ يخطوها الإنسان على طريق تصحيح الخطأ وتقويم الانحراف عن خطِّ الإيمان، هي الوقفة المعترفة النّادمة المعبِّرة عن حالة التّراجع، وذلك بالاستغفار الّذي يتوسّل فيه الإنسان إلى الله، أن يقبله ضمن من غفر له ذنوبه، وبالتّوبة الّتي تعبِّر عن حالة النّدم العميق على الماضي، والعزم على التّصحيح في المستقبل، ليبدأ السّير في الخطِّ المستقيم الجديد من حاضرٍ لا يثقله الماضي، ومن روحٍ لا ترهقها الذِّكريات السّوداء؛ لأنّ التّوبة تمحو ذلك كلّه، ولأنّ الغفران يحوِّل ظلمة المعصية إلى إشراقة الطّاعة. {إِنّ ربِّي قرِيبٌ مُجِيبٌ}، فهو ليس بعيداً عن دوافع المعصية في الإنسان، من شهواتٍ وأهواء قد تغلبه؛ لأنّه خالقه. وهو ليس بعيداً عن تطلُّعات الإنسان للمغفرة، وأحلامه في الرّحمة؛ فهو قريبٌ إلى روحه وفكره وشعوره وحياته، بحيث لا يوجد أقرب إليه منه، فيلجأ إليه لحلِّ كلِّ مشكلةٍ، ولإقالة كلِّ عثرةٍ، ولتخفيف كلِّ همٍّ وألم؛ فهو المجيب لكلِّ دعواته وطلباته للرّحمة وللمغفرة في شؤون الدُّنيا والآخرة، وذلك هو الطّريق المستقيم. ‏

‏المقابلة بالتّمسُّك بملّة الآباء ‏

‏ولكنّ القوم يواجهونه - عوضاً عن الإيمان بالرِّسالة - بخيبة أملهم فيه، فقد كانوا يجدون فيه الشّخص العاقل الوديع الّذي يفكِّر بالأمور بطريقةٍ معقولةٍ موزونةٍ، فلا يبتعد في تفكيره عن واقع المجتمع، ولا يتمرّد على تقاليده، ولا ‏‏يسيء ‏‏إلى أوضاعه، كما هو شأن كلِّ الرُّموز الاجتماعيّة المحترمة، الّتي تكسب احترامها من محافظتها على التّوازن في العلاقات الاجتماعيّة بما لا يزعج السّاحة ولا يتنكّر للمألوف. ولهذا فقد كانت دعوة صالح لهم بمثابة الصّدمة الّتي أخذتهم بعنصر المفاجأة. ‏

{قالُوا يا صالِحُ قدْ كُنْت فِينا مرْجُوّاً قبْل هذا}، فقد كانت الآمال معقودةً عليك في قيادة المجتمع نحو الخير لا نحو الشّرِّ. {أ تنْهانا أنْ نعْبُد ما يعْبُدُ آباؤُنا} من الأوثان الّتي قدّسها الآباء وعبدوها أجيالاً؟! ألا تسي‏ء بذلك إلى ذكرى الآباء، وتتمرّد على قداستهم؟ فهل يمكن أن نحكم عليهم بالجهل وتقديس الخرافة في ما عبدوه كما تقول؟ ‏

‏وهل نستطيع الادِّعاء بأنّنا نفهم أكثر ممّا يفهمون، ونعرف أكثر ممّا يعرفون، وهم أصحاب التّجربة والفكر والسّبق في التّاريخ؟ وهل يتعلّم الجيل الحاضر إلاّ من الأجيال الماضية؟ هكذا كانت كلُّ هذه الأوهام تتسابق إلى أخيلتهم في ما يعتبرونه أساساً لتقييم الفكر، أو تقديس التّاريخ، أو لتمايز المجتمعات. ‏

{وإِنّنا لفِي شكٍّ مِمّا تدْعُونا إِليْهِ مُرِيبٍ}، فقد لا تكون المسألة بالنّسبة إليك مجرّد فكرةٍ تريد إثارتها أمامنا أو دعوتنا إليها، بل قد تكون هناك خلفيّاتٌ وأهدافٌ مشبوهةٌ تتّصل بطموحاتك ومصالحك، ما قد يتعارض مع أوضاعنا وطموحاتنا ومصالحنا... ولهذا فإنّنا ننظر إلى المسألة نظرة اتِّهامٍ، منشؤها سوء الظّن بك، وبما تضمره من سوءٍ للمجتمع. وهكذا يبدو أنّ هؤلاء القوم لم يرغبوا في مناقشة المسألة من ناحية المضمون على أساس احتمال الصّواب والخطأ فيها؛ لأنّ رفضهم للدّعوة حاسمٌ، بل أرادوا مناقشتها من ناحية الدّوافع الذّاتيّة الكامنة خلفها، والله العالم. ‏

‏فماذا كان ردُّ صالح؟ ‏

‏الحوار أوّلاً ثمّ المعجزة ‏

{قال يا قوْمِ أ رأيْتُمْ إِنْ كُنْتُ على‏ بيِّنةٍ مِنْ ربِّي}، في ما أعيشه من إيمانٍ بالله وبالرِّسالة وبالوحي الإلهيِّ النّازل عليّ، كأيِّ إنسانٍ يعيش المعاناة الدّاخليّة والحسِّيّة، لاتِّصال قناعاته بالوجدان، {وآتانِي مِنْهُ رحْمةً} في ما كلّفني به من حمل الرِّسالة، ومنحني إيّاه من صفة النُّبوّة، فهل أترك ذلك كلّه، لأسير على أهوائكم، وأجتنب هداه، لتمنحوني بعض امتيازات ثقتكم؟ وما الّذي أنتفع به من ذلك؟ ثمّ ماذا تفعلون لي، إذا تمرّدت على الله ورفضت رحمته وجحدت بيِّنته، وأراد الله أن يعاقبني على ذلك، وهو القادر عليّ في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ مكان؟ {فمنْ ينْصُرُنِي مِن اللّهِ إِنْ عصيْتُهُ}؟ إنّكم لا تستطيعون فعل شيءٍ أمام الله، ولا تملكون لي ولا لأنفسكم نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بإذن الله، {فما تزِيدُوننِي غيْر تخْسِيرٍ}، فماذا وراء محاولتكم في إبعادي عن الدّعوة إلى الله، إلاّ المزيد من الخسارة على مستوى الدُّنيا والآخرة؟! ‏

‏وانتقل الحديث إلى مجالٍ آخر، فقد أراد الله لصالح أن يجرّهم إلى الإيمان عن طريقٍ آخر غير طريق الحوار الفكريِّ، وذلك بتقديم «النّاقة العجائبيّة» الّتي كانت آيةً من آيات الله: {ويا قوْمِ هذِهِ ناقةُ اللّهِ لكُمْ آيةً}. ليفكِّروا بمسألة الإيمان في هذا الاتِّجاه؛ باعتبار أنّ ذلك قد يكون دليلاً على صدق النّبيِّ صالح في دعوى النُّبوّة. ‏

‏ولم يذكر القرآن لنا التّفاصيل عن طبيعة المعجزة في هذه النّاقة، ما جعل الرِّوايات تختلف في تفسير ذلك اختلافاً يقترب بها من الأساطير، فلتُراجع في مظانِّها من كتب التّفسير؛ لأنّنا لا نجد كبير فائدةٍ في تناولها ما دام القرآن لا يريد أن يدخل في تفاصيلها؛ لأنّ دور القصص القرآنيِّ هو إعطاء الدّرس من مجمل القصّة، ولا يعطي للفكرة امتدادها الزّمنيِّ، ما يجعل القصّة ترتبط بالجوانب العامّة، لا بالجوانب الخاصّة. ‏

{فذرُوها تأْكُلْ فِي أرْضِ اللّهِ}، فلا يُتعرّضُ لها في أيِّ مكانٍ أرادت أن ترعى من أرض الله؛ لأنّ الله جعل لها الحرِّيّة في ذلك بما أوحاه إليّ. {ولا تمسُّوها بِسُوءٍ}؛ لأنّ لها عند الله حرمةً كبيرةً، لكونها نموذج الآية المتحرِّكة الّتي يرى النّاس من خلال خصائصها الدّليل على عظمة الله من جهةٍ، وصدق الرّسول من جهةٍ أخرى، {فيأْخُذكُمْ عذابٌ قرِيبٌ}؛ لأنّ معنى قتلها، هو إعلان الحرب على الله، والتّمرُّد على إنذاره، ومواجهة الموقف الإلهيِّ بالتّحدِّي الّذي يسخر من وعيد الرّسول لهم بعذاب الله، لإبطال مصداقيّة الرِّسالة في حركة المجتمع، وتفرقة المؤمنين من حوله، فضلاً عن غير المؤمنين. ‏

‏الرِّضا بالعمل مشاركةٌ فيه ‏

{فعقرُوها}. فكمن لها شخصٌ منهم فضربها وقتلها، بعد الاتِّفاق مع القوم، فحمّلهم الله مسؤوليّة ذلك جميعاً؛ لأنّ عامل الرِّضا يتساوى في النّتيجة عند الله، مع عامل المشاركة. وقد عبّر عن ذلك الإمام عليٌّ عليه السلام بقوله: «أيُّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرِّضا والسُّخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ، فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمُّوه بالرِّضا، فقال سبحانه: {فعقرُوها فأصْبحُوا نادِمِين}[الشُّعراء: 157]، فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة، خوار السِّكّة المحمّاة في الأرض الخوّارة»‏(4)‏. ‏

‏وفي كلمةٍ أخرى له عليه السلام قال: «الرّاضي بفعل قومٍ كالدّاخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخل في باطلٍ إثمان: إثم العمل به، وإثم الرِّضا به»‏(5)‏. ‏

‏وفي الحديث المرويِّ عن رسول‏الله‏‏ ‏‏صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمرٍ فرضيه كان كمن شهده»‏(6)‏. ‏

‏وعن الإمام عليِ‏بن موسى الرِّضا عليه السلام : «لو أنّ رجلاً قُتل في المشرق فرضي بقتله رجلٌ في المغرب لكان الرّاضي عند الله شريك القاتل»‏(7)‏. ‏

‏وفي حديث الإمام جعفر الصّادق عليه السلام قال: «العامل بالظُّلم والمعين له والرّاضي به شركاء ثلاثتهم»‏(8)‏. ‏

‏وربّما كان الأساس في ذلك أنّ الله يريد للإنسان أن يبدأ بعقله وقلبه في رفض المنكر؛ باعتبار أنّ المنطقة الدّاخليّة هي الّتي تمثِّل الأساس في حركته نحو الانحراف العمليِّ الّذي ينشأ من الانحراف النّفسيِّ الّذي يمثِّله الرِّضا بالباطل أو بالمنكر، فإنّه الدّافع الّذي يدفع الإنسان نحو الشّرِّ، ولذلك فإنّ التّأييد النّفسيّ للمنكر هو مظهرٌ من مظاهر الحركة نحوه، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الرّاضي بالفعل يهيِّئ المناخ العامّ الملائم لفاعله، من خلال تشجيعه عليه وتأييده له، ما يجعل من المنكر ظاهرةً عامّةً تمتدُّ في اتِّجاه الانحراف، بحيث تصبح له شعبيّةٌ جماهيريّةٌ كبرى لا تفلح أصوات الاعتراض في ردِّها. ‏

‏ضرورةٌ في الحركة التّبليغيّة ‏

‏وفي ضوء هذا قد نجد من الضّروريِّ في الحركة التّبليغيّة والتّربويّة أن ينطلق الوعظ والإرشاد في عمليّة التّوعية، من أجل تعميق الرّفض النّفسيِّ للشّرِّ، ليقف النّاس منه - تلقائيّاً - موقفاً سلبيّاً، تماماً كما هي الأمور الّتي يستنكرها المجتمع لقبحها عنده فيمنع انتشارها في ساحته، كما هو الحال في تركيز الخير في منطقة العقل والشُّعور، بحيث يمثِّل حاجةً إنسانيّةً نفسيّةً في الدّاخل، فيمتدُّ انتشارها في الواقع. ‏

‏وقد لا يقتصر الأمر في هذا التّفاعل النّفسيِّ في الأفعال الّتي تصدر من الخيِّرين في الحاضر، بل قد ينفتح على الزّمن كلِّه عندما يعيش النّاس مع التّاريخ، ليقفوا من أحداثه موقف التّأييد للخير والرّفض للشّرِّ، كموقفٍ يجسِّد الارتباط بهذا أو ذاك، إيجابيّاً أو سلبيّاً، ليكونوا المجتمع الممتدّ في حركة الخير من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. وهذا ما عبّر عنه الإمام عليٌّ عليه السلام في (نهج البلاغة) «لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له - عليه السّلام - أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهِدنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرِّجال وأرحام النِّساء، سيرعُفُ بهم الزّمان، ويقوى بهم الإيمان»‏(9)‏. ‏

‏وهذا هو الّذي يربط التّاريخ بالمستقبل في اتِّجاهٍ واحدٍ، ويترك تأثيره النّفسيّ والعمليّ على واقع الإنسان المعاصر الّذي يشدُّه إلى التّاريخ أكثر من رابطٍ ورابطٍ، فيدرسه بعمقٍ، ويتفاعل معه بوعيٍ. وهذا هو الّذي يفسِّر الدّعوة في الإسلام إلى الانفعال بالمأساة في التّاريخ إذا كانت تتّصل بقيمةٍ إسلاميّةٍ وحركةٍ تغييريّةٍ؛ باعتبارها تمثِّل عنصراً إيحائيّاً من جهةٍ في اتِّجاه القضيّة الّتي عاشت معها، وتدفع للثّورة على صانعي المأساة المماثلة في الحاضر من جهةٍ أخرى. ‏

‏إنذارٌ يليه العذاب ‏

{فقال تمتّعُوا فِي دارِكُمْ ثلاثة أيّامٍ ذلِك وعْدٌ غيْرُ مكْذُوبٍ}. لقد تحرّكت المسألة في خطِّ القرار الحاسم الّذي حدّد للعذاب موعداً، بعد ثلاثة أيّام؛ لأنّ العذاب سُنّة الله في الأُمم السّالفة، عندما يُنزل آيةً على قوم فيجحدونها. ‏

‏وربّما اعتبر هؤلاء أنّ هذا الإنذار ليس جدِّيّاً، أو أنّهم لم يثقوا بالموقع الّذي يمثِّله صالح عليه السلام عند الله، فلم يكترثوا لذلك، وأصرُّوا على ما عزموا عليه، فجاء العذاب: {فلمّا جاء أمْرُنا نجّيْنا صالِحاً والّذِين آمنُوا معهُ بِرحْمةٍ مِنّا}؛ لأنّ الله كتب على نفسه الرّحمة بمن آمن به وعمل في سبيله، {ومِنْ خِزْيِ يوْمِئِذٍ}، بما يمثِّله العذاب من عارٍ وخزيٍ عندما يُنزله الله على أحدٍ من عباده، كنتيجةٍ لغضبه، {إِنّ ربّك هُو الْقوِيُّ الْعزِيزُ}‏ ‏‏الّذي إذا أراد شيئاً فعله، ولا قوّة لأحدٍ في الوقوف أمامه في ما يريد وفي ما يفعل، فليس لأحدٍ إلاّ الخضوع أمام العزّة القويّة القادرة القاهرة المهيمنة على الأمر كلِّه. ‏

‏النِّهاية المحتومة ‏

{وأخذ الّذِين ظلمُوا الصّيْحةُ} الّتي رجفت لها قلوبهم، وارتعدت لها فرائصهم؛ لأنّها كانت من الشِّدّة بالمستوى الّذي يصعق له الإنسان، فلا يملك حراكاً. وقد يُقرّب هذا الأثر الصّاعق للصّيحة - الصّاعقة في الواقع المادِّيِّ، أنّنا نعرف أنّ الأمواج الصّوتيّة إذا تجازوت حدّاً معيّناً تستطيع أن تكسر الزُّجاج، وقد تتهدّم على أثرها عمارات، وقد تشلُّ أعضاء البدن الدّاخليّة، وهذا ما نلاحظه في الطّائرات حين تخترق الجدار الصّوتيّ وتكون سرعتها أكثر من سرعة أمواج الصّوت، فيسقط على أثر ذلك أفرادٌ على الأرض وهم فاقدو الوعي، وقد يحدث للحوامل إجهاضٌ فتُسقط أجنّتها على أثر ذلك، وقد يتكسّر جميع الزُّجاج الموجود في عمارات المنطقة الّتي تمرُّ عليها الطّائرات المخترقة للجدار الصّوتيِ‏(10)‏.‏‏ ‏‏فكيف إذا كانت الصّيحة مخترقةً للقوانين العاديّة المألوفة للنّاس، ممّا كان معجزةً إلهيّةً فوق قوانين النِّظام الكونيِّ؟ ونحن نعرف من القرآن الكريم أنّ نهاية العالم تتمثّل في الصّيحة الكبرى الّتي عبّرت عنها الآية الكريمة: {ما ينْظُرُون إِلاّ صيْحةً واحِدةً تأْخُذُهُمْ وهُمْ يخِصِّمُون}[يس: 49]، كما أنّ بداية يوم القيامة تنطلق من صيحةٍ عظيمةٍ: {إِنْ كانتْ إِلاّ صيْحةً واحِدةً فإِذا هُمْ جمِيعٌ لديْنا مُحْضرُون}[يس: 53]. ‏

{فأصْبحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِين} أي: ساقطين على وجوههم، {كأنْ لمْ يغْنوْا فِيها}، أي: لم يقيموا فيها، وهو كنايةٌ عن زوال أيِّ أثرٍ من آثار الوجود والحركة منها، تماماً كما لو لم يكن فيها أحدٌ. وتلك هي العبرة الواعية لمن يريد أن يعتبر، بما تبيِّنه من نتائج سلبيّةٍ مدمِّرةٍ للتّمرُّد على الله. {ألا إِنّ ثمُود كفرُوا ربّهُمْ} أي: جحدوه. وهذا هو البيان الّذي يقدِّمه الله للنّاس. {ألا بُعْداً لِثمُود}. وهذه هي النّتيجة الطّبيعيّة لكفرهم؛ لأنّ الله يُبعد الكافرين عن رحمته، فيعذِّبهم في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏ ‏

‏ ‏


‏ ‏

‏الهوامش:‏

‏ (1) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 296. ‏

‏(2) انظر: م. ن. ‏

‏(3) انظر: الثّعلبي، أحمد بن محمّد بن إبراهيم (ت 427 هـ-)، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ط 1، تحقيق الإمام أبي محمّد بن عاشور، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1422 هـ- - 2002 م، ج 5، ص‏347. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 6، ص 16.‏

‏(‏‏4‏‏) نهج البلاغة، ص 100، الخطبة 201. خارت: صوّتت، كخوار الثّور. السِّكّة المحمّاة: حديدة المحراث إذا أحميت في النّار، فهي أسرع غوراً في الأرض. الخوّارة: السّهلة اللّيِّنة.‏

‏(‏‏5‏‏) نهج البلاغة، م. س، ص 165، الحكمة 154. ‏

‏(‏‏6‏‏) الشّيخ الطُّوسي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، 1390هـ-، ج‏6، ص 170، ح 327. ‏

‏(‏‏7‏‏) الشّيخ الصّدوق، علل الشّرائع، م. س، ج 1، ص 229، باب 164، ح 1. ‏

‏(‏‏8‏‏) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 333، ح 16.‏

‏(‏‏9‏‏) نهج البلاغة، م. س، ص 8، الخطبة 12. يرعف بهم، أي: سيجود بهم الزّمان فيأتي بهم على غير انتظار، كما يجود الأنف بالرُّعاف.‏

‏(‏‏10‏‏) انظر: الشّيخ الشِّيرازي، الأمثل، م. س، ج 6، ص 595.‏

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية