معاني المفردات
{فطرنِي}: «أصل الفطر: الشّقُّ طولاً... ومنه: الفطرة، وفطر الله الخلْق، وهو إيجاده الشّيء وإبداعه على هيئةٍ مترشِّحةٍ لفعلٍ من الأفعال، فقوله: {فِطْرت اللّهِ الّتِي فطر النّاس عليْها}[الرُّوم: 30]، إشارةٌ منه تعالى إلى ما فطر، أي: أبدع وركّز في النّاس من معرفته تعالى» - قاله الرّاغب(1) -.
وفي (مجمع البيان): «الفطر: الشّقُّ عن أمر الله، كما ينفطر الورق عن الشّجر، ومنه: فطر الله الخلق؛ لأنّه بمنزلة ما شقّ عنه فظهر»(2).
{مِدْراراً}: مبالغة في الدّرِّ، وهو القطر الكثير المتتابع على قدر الحاجة إليه، دون الزّائد المفسد المضرِّ.
{اِعْتراك}: أصاب، من قولهم: عراه يعروه: إذا أصابه.
{لا تُنْظِرُونِ}: لا تُمهلون. «والفرق بين الإنظار والتّأخير، أنّ الإنظار إمهالٌ لينظر صاحبه في أمره، والتّأخير: خلاف التّقديم» - كذا في (مجمع البيان)(3) -.
{بِناصِيتِها}: النّاصية: قصاص الشّعر وأعلى الجبهة، وأصله: الاتّصال، من قولهم: مفازةٌ تناصي مفازةً: إذا كانت الأخيرة متّصلةً بالأولى. والمراد بأخذها هنا: ملك الأمر كلِّه.
بين يدي قصّة هود
وهذا نبيٌّ آخر جاء بعد تلك الفترة الّتي أعقبت فترة نوح، حسب التّرتيب القرآنيِّ في ذكر الأنبياء، وهو هود المبعوث إلى قوم عاد؛ ليرشدهم إلى توحيد الله في العقيدة والعبادة والطّاعة. وكانوا يتميّزون بالأجساد الطّويلة الّتي تشبه العمالقة، وبالبسطة في الخلق، وكانوا أولي قوّةٍ وبطشٍ شديدٍ، كما جاء في قوله تعالى: {وإِذا بطشْتُمْ بطشْتُمْ جبّارِين}[الشُّعراء: 130]. وربّما كان لهم تقدُّمٌ ورقيٌّ في المدنيّة والحضارة بالدّرجة الّتي يُنشئون فيها المدن والقلاع الّتي لا مثيل لها في ذلك الزّمن، كما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}[الفجر: 6 - 8]. وكانت لهم أراضٍ خصبةٌ ممتدّةٌ في الأرض، ذات جناتٍ ونخيلٍ وزروعٍ ومقامٍ كريمٍ، وكانوا يبنون في المرتفعات بيوتهم الّتي يطلُّون من خلالها على السُّهول الواسعة، ويفكِّرون في الخلود من خلال تلك الأماكن. وعاشوا في هذا النّعيم المتنوِّع الّذي أنعم الله به عليهم، في حالة استغراقٍ في الجوانب المادِّيّة المتمثِّلة فيه، فلم يفكِّروا في الله، وفي الانفتاح على ربوبيّته، وعلى عبادته كإلهٍ واحدٍ، من خلال التّعمُّق في النِّعم الكبرى الّتي أغدقها الله عليهم.
وقد أثّر هذا الاستغراق في الحسِّ المادِّيِّ في انفعالهم بالدّعوات الوثنيّة الّتي وفدت إليهم، ممّا حاول دعاتها إلى صياغة الأوثان بالطّريقة الّتي يوحون إليهم بأنّها تختزن في داخلها الكثير من الأسرار الّتي تتدخّل في حياتهم وأوضاعهم وحاجاتهم، الأمر الّذي أدّى إلى أن يعبدوها من دون الله، ويخضعوا لها في مشاعرهم وأحاسيسهم، ويقدِّموا لها القرابين والنُّذورات والهدايا، باعتبار أنّها تمثِّل الآلهة في وجدانهم المنحرف المتخلِّف. وقد يكون الطُّغاة من المستكبرين الّذين يسيطرون على مقدراتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة هم الّذين يشجِّعونهم على ذلك، ما جعلهم سدنةً لهذه الأوثان في عمليّة حراسةٍ لبيوتها، وحمايةٍ لأوضاعها، واستغلالٍ للنّاس الّذين يعبدونها ويتقرّبون إليها. وربما كان هذا الاتِّجاه الوثنيُّ يشكِّل خطراً على المجتمعات المجاورة لهم؛ لما يملكونه من القوّة والثّروة، الّتي تترك تأثيرها على النّاس الآخرين، بحيث يتبعونهم في ذلك كلِّه.
هود يعلن البيان الأوّل للرِّسالة
{وإِلى عادٍ أخاهُمْ هُوداً}، فقد كان منهم في العشيرة. ونلاحظ خروج هود عن عقيدة قومه قبل تكليفه بالرِّسالة، ما يدلُّ على قوّة شخصيّته، وصفاء روحيّته، وحركيّة عقله، واستقلاله في إدراك حقيقة الإيمان بنفسه، بالرّغم من ضغط المجتمع من حوله. وهذه المسألة تمتدُّ في الأنبياء كلِّهم الّذين كانوا من بيئةٍ كافرةٍ، الأمر الّذي يدلُّ على أنّ البيئة السّلبيّة لا تلغي قدرة الإنسان على التّحرُّر منها والسّير في الاتِّجاه المضادِّ لها فكراً وعملاً.
{قال يا قوْمِ اُعْبُدُوا اللّه ما لكُمْ مِنْ إِلهٍ غيْرُهُ}؛ فهي الحقيقة الفكريّة والعمليّة الّتي تتمحور حولها كلُّ حقائق الحركة الإنسانيّة في الحياة، وتوجِّه كلّ خطواتها إلى الطّريق المستقيم، {إِنْ أنْتُمْ إِلاّ مُفْترُون} وكاذبون في ما تدّعونه وتعبدونه من أوثان، وفي ما تتّخذونه لكم من شرائع وأحكام، بعيداً عن نهج الله وشريعته.
التّبليغ رسالةٌ لا مهنة
{يا قوْمِ لا أسْئلُكُمْ عليْهِ أجْراً}؛ لأنِّي لست تاجر مبادئ ورسالاتٍ يستغلُّها في سبيل تحقيق الرِّبح، والحصول على الثّمن من أتباعه، فلا أُريد منكم أيّ امتيازٍ مادِّيٍّ ومعنويٍّ؛ لأنّ الرِّساليِّين الّذين يعيشون حياتهم للرِّسالة لا يبتغون منها عوضاً، بل قد يفكِّرون بالتّضحية بالمال وبالجاه إذا احتاجت حركة الرِّسالة لذلك؛ لأنّ الهمّ الكبير لديهم هو رضوان الله وثوابه. {إِنْ أجْرِي إِلاّ على الّذِي فطرنِي}، وخلقني من عدم، فله الفضل عليّ في نعمة الوجود كلِّه. ولهذا فإنّ الدّعوة إلى عبادته، ورفض ما عداه، يمثِّل الوجه المشرق لعمليّة الشُّكر الإنسانيِّ بين يدي الله، بالإضافة إلى أنّه الوجه الأصيل للحقيقة الكونيّة والعمليّة في الحياة.
وهذا الإعلان الرِّساليُّ النّبويُّ عن رفض الأجر على الرِّسالة هو الّذي ينبغي للعلماء والمبلِّغين أن يعيشوه ويعلنوه للنّاس، فلا تتحوّل المهمّة التّبليغيّة أو التّوجيهيّة إلى مهنةٍ للعيش، بل إلى رسالةٍ في الحياة؛ لأنّ الّذين يحوِّلون الرِّسالة إلى مهنةٍ سوف يسيئون لها عندما يحرِّكونها في سوق المزايدات النّفعيّة، فيبيعونها فكرةً وموقفاً لمن يدفع لهم المال، فينحرفون بها عن خطِّها الأصيل، فيفقدون الثِّقة بهم عند النّاس.
الرِّسالات تستنطق العقول
{أ فلا تعْقِلُون}، وتناقشون المسألة من موقع الفكر، لا من موقع الغريزة، لتعرفوا طبيعة القاعدة الّتي ترتكز عليها حياتكم، وطبيعة الرّسول الّذي يدعوكم إلى الانطلاق في خطِّ الله؟!
وهذه إشارةٌ إلى أنّ رسالة الأنبياء كانت تستنطق العقل في الإنسان، فتريد له أن يفكِّر بعقله، ليؤمن من خلال عقله الّذي يقوده إلى الحوار مع الآخرين الّذين يفكِّرون، ومع الدّعوة إلى الرِّسالة الّتي تثير في فكره علامات الاستفهام، وتدفعه إلى أن يدخل في عمليّة بحثٍ وسؤالٍ مع صاحب الرِّسالة. ولعلّ هذا هو الّذي يؤكِّد ما استفدناه من القرآن في قصص الأنبياء، من أنّ الأنبياء كانوا يخاطبون النّاس بالرِّسالة ليؤمنوا بها، من خلال إثارة الفكر في وجدانهم، ولا فرق في ذلك بين نبيٍّ ونبيٍّ، ولهذا كانت وسائلهم ترتكز على الكلمة الهادئة، والأسلوب الأحسن، والجوِّ الأفضل، والحوار الموضوعيِّ.
موقعيّة المعجزة في مشروع الأنبياء
ولم تكن المعجزة هي الأساس في مشروع النُّبوّة في دعوة النّبيِّ، بل كانت ردّاً للتّحدِّي الكبير الّذي يواجهه الأنبياء من قبل الطُّغاة والمستكبرين والمجتمعات الرّافضة للتّفكير وللحوار، كما في قصّة موسى عليه السلام مع فرعون، وعيسى عليه السلام مع بني إسرائيل، وصالح عليه السلام مع ثمود، وغيرهم... بينما لا نجد حديثاً عن معجزةٍ لنوحٍ في بداية رسالته، ولم يكن ذلك في قصّة إبراهيم عليه السلام ، بل كانت المعجزة متأخِّرةً عن بداية الدّعوة، الّتي كانت خطاباً حول التّوحيد في العقيدة والعبادة. والله العالم.
هود يدعو قومه إلى الاستغفار
{ويا قوْمِ اِسْتغْفِرُوا ربّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِليْهِ}، فقد انحرفتم كثيراً عن طريقه، وتمرّدتم على إرادته، وعصيتم أحكامه، ما يستتبع الابتعاد عن ساحة رحمته، والوقوع في ساحة غضبه، فارجعوا إليه في وقفة استغفارٍ، ليغفر لكم ذنوبكم إذا عرف منكم صدق النِّيّة، وإخلاص الموقف، وتوبوا إليه توبةً نصوحاً تعلن النّدم عمّا مضى، وتقرِّر التّغيير في ما يأتي، فهو وليُّ الإنسان والحياة، فمنه قوّته، ومنه نعمته، ومنه - قبل ذلك كلِّه - سرُّ حياته، فلا يستطيع الإنسان الانفصال عنه، بل لا بُدّ من الرُّجوع إليه في كلِّ الأمور؛ فإذا كنتم تريدون زيادة القوّة، لتواجهوا كلّ تحدِّيات الآخرين من حولكم بشكلٍ أقوى، وإذا كنتم تريدون خصب الأرض الّتي تسكنونها، ووفرة الماء الّذي تشربونه، فارجعوا إليه، بخشوعٍ وخضوعٍ، {يُرْسِلِ السّماء عليْكُمْ مِدْراراً}، في هطولٍ متتابعٍ، فيحيي زرعكم وأنعامكم، {ويزِدْكُمْ قُوّةً إِلى قُوّتِكُمْ}؛ لأنّه خالق القوّة كلِّها، فمنه وجودها ومنه حركتها ونموُّها. {ولا تتولّوْا مُجْرِمِين}، أي: لا تُعرضوا عن هذه الدّعوة، وعن الله، لتسيروا في خطِّ الجريمة في العقيدة وفي السُّلوك.
بين التّوبة وزيادة القوّة
وقد يطرح البعض سؤالاً حول هذا التّلازم بين التّوبة، وزيادة القوّة، وهطول المطر، في الوقت الّذي نعرف فيه أنّ الله قد أجرى لكلِّ شيءٍ سبباً، فقدّر لزيادة القوّة شروطاً لا بُدّ من تحقُّقها، وجعل للمطر أسباباً لا بُدّ من حصولها؟
وقد يُجاب عنه: بأنّ هذا لا يمنع من وجود المعجزات، فلعلّ المسألة في الآية خاضعةٌ لهذا الأساس. هذا أوّلاً.
وثانياً: يمكن أن تكون الغاية من ذلك الإيحاء النّفسيّ لهم بأنّ الله هو مصدر النِّعم، فإذا انحرفوا عن طاعته، فإنّ النِّعمة تكون مهدّدةً بالزّوال، في ما يمكن أن يحقِّقه من أسباب زوالها بطريقةٍ وبأخرى، فيمنع عنهم قطر السّماء، ويُضعف قوّتهم، وإذا أقبلوا عليه ورجعوا إليه فإنّه يهيِّئ لهم أسباب ما يحتاجونه ويريدونه، في ما يهمُّهم أمره. وهكذا تكون المسألة مسألة تنميةٍ لروحيّة العقيدة في ما يتفرّع عنها من الجانب العمليِّ، الّذي قد يغفل عنه الآخرون عندما يفقدون الإحساس بالإيمان، فلا يشعرون بالارتباط بين الله وبين حركة النِّعم في حياتهم سلباً أو إيجاباً. والله العالم.
هذا ما قاله هود، فماذا كان جواب قومه؟
التّخلِّي عن التّفكير والإيمان بالخرافة
{قالُوا يا هُودُ ما جِئْتنا بِبيِّنةٍ وما نحْنُ بِتارِكِي آلِهتِنا عنْ قوْلِك وما نحْنُ لك بِمُؤْمِنِين}. لقد أنكروا عليه الدّليل على رسالته، واعتبروها مجرد دعوًى لا ترتكز على أساسٍ؛ لأنّهم لا يريدون التّأمُّل والتّفكير، في ما يدعوهم إليه من عبادة الله وحده، والإخلاص له في الطّاعة، والارتباط به في خطِّ السّير؛ إذ لم تكن قضيّة دعوتهم للإيمان بنبوّته هي المسألة الأولى لديه، بل كان همُّه أن يتأكّدوا - عبر الدّليل - من حجّتها، دون حاجةٍ إلى معجزةٍ أو ما يشبه المعجزة.
ولعلّنا نلاحظ في ذلك: أنّ الإلحاح كان يرتكز على مضمون الرِّسالة، لا على صفة الرّسول، بحيث كانت صفة الرّسوليّة طريقاً إلى الانسجام مع خطِّ رسالته. وهكذا كان إنكارهم للبيِّنة منطلقاً من عدم وعيهم للرِّسالة في ما تحمله من دلائل الصِّدق، واعتبارهم المعجزة في خوارق العادة هي الأساس في الالتزام بالدّعوة، لذا رفضوا الابتعاد عن آلهتهم، وترك عبادتها؛ باعتبار أنّ قوله لا يرتكز على دليلٍ - حسب زعمهم - وقد رفضوا الإيمان به، كمجموعةٍ متضامنةٍ في الوقوف ضدّه.
ويتصاعد موقفهم الرّافض، مسلّحاً بمنطقٍ خرافيٍّ، يزعم أنّ للآلهة تأثيراً سلبيّاً على من يعارضونها ويرفضون عبادتها، ويدعون النّاس إلى البراءة منها والابتعاد عنها، ولذلك كانوا يرون في موقف هود دلالةً على بعض الخلل في عقله، فلا يتصوّرون المسألة منطلقةً من حالة إيمانٍ بالرّفض، بل يعتبرونها منطلقةً من موقع اهتزازٍ في التّفكير، وهذا ما عبّروا عنه بقولهم: {إِنْ نقُولُ إِلاّ اِعْتراك بعْضُ آلِهتِنا بِسُوءٍ}، في ما يمثِّله ذلك من جنونٍ يفقد معه الإنسان صوابه وسلامة فكره.
هود في ذروة التّحدِّي
ويبادر هود إلى إنهاء هذا الحوار الّذي يدور في حلقةٍ مفرغةٍ، بإعلانه موقفاً يرسم الحدّ الفاصل بينه وبينهم، ويميِّز الحقّ من الباطل؛ كيلا يظنُّوا أنّ في مقاطعته للحوار لوناً من ألوان الضّعف، أو حالةً من حالات التّردُّد، أو نوعاً من أنواع القناعة بما يقولون في الدّاخل مع إظهار الرّفض له. {قال إِنِّي أُشْهِدُ اللّه} الّذي يطّلع على السّرائر، فيعرف حقيقة موقفي وما أؤمن به، وما أرفضه، {واِشْهدُوا} عليّ بإقراري الّذي أُعلنه أمامكم في ما أعتقده وأتحرّك فيه من خطٍّ، {أنِّي برِيءٌ مِمّا تُشْرِكُون `مِنْ دُونِهِ}، بعبادتكم لهذه الأصنام الّتي ما أنزل الله بها من سلطانٍ، {فكِيدُونِي جمِيعاً}، إذا كنتم تملكون قوّة الكيد لي والتّآمر عليّ، بأنواع الضُّغوط المختلفة القاهرة، {ثُمّ لا تُنْظِرُونِ}، أي: لا تمهلوني لحظةً واحدةً.
وتلك هي ذروة التّحدِّي الرِّساليِّ الصّادق القويِّ الّذي يقف فيه النّبيُّ وحده أمام القوى الكافرة ليقول لهم: {فكِيدُونِي جمِيعاً}. فيتصاغرون أمامه، ولا يستطيعون مواجهة التّحدِّي بمثله، ما يوحي بأنّ الإنسان الّذي يستمدُّ قوّته من ربِّه ومن عناصر القوّة في شخصيّته، ثمّ يقف أمام النّاس، ليثير أمامهم حقيقة ذلك بتصميمٍ، يستطيع أن يهزم موقف الآخرين ويُدخل الرُّعب فيهم.
المؤمنون والحرب النّفسيّة
وهذا ما يحتاجه الدُّعاة والمجاهدون في سبيل الله، من استثارة الإحساس بالقوّة الفاعلة في داخلهم، لينطلقوا منها في مواجهة من يحاولون استعراض عضلاتهم وتوظيف ذاك الاستعراض في حرب الأعصاب، ليهزموا المؤمنين نفسيّاً قبل الدُّخول في المعركة الفاصلة؛ ولذلك فإنّ من المفروض على العاملين أن يقتحموا السّاحة بأسلحة الحرب النّفسيّة، وذلك بالإعلان عن القوّة الرُّوحيّة القادرة على الثّبات والاستمرار في حمل الرِّسالة والجهاد في سبيلها، لتبقى للموقف قوّته، وللرِّسالة دورها في حركة الحياة، في وعي الأعداء والأصدقاء معاً، وفي تعميق إحساس الدُّعاة بهذا الإمداد الرُّوحيِّ الّذي يعيشه المؤمن مع شعوره بالاستسلام الكلِّيِّ لله ورعايته، فلا يشعر بالضّعف أمام الآخرين، ولا بالخوف أمام المجهول؛ كنتيجةٍ للتّوكُّل في العقيدة.
لا قوّة لأحدٍ إلاّ بإذن اللّه
وهذا ما أراد هود تأكيده أمام قومه من خلال موقفه: {إِنِّي توكّلْتُ على اللّهِ ربِّي وربِّكُمْ}، فهو مصدر القوّة في الحياة؛ لأنّه مصدر حياة كلِّ حيٍّ، وهو المهيمن على كلِّ شيءٍ، فلا تستطيعون إضراري إذا لم يأذن الله بذلك؛ لأنّكم لا تملكون القوّة الذّاتيّة، ولا يملكها أحدٌ من خلقه. {ما مِنْ دابّةٍ إِلاّ هُو آخِذٌ بِناصِيتِها}، في ما يحمله الأخذ بالنّاصية - وهي أعلى الجبهة - من معنًى كنائيٍّ، يفيد السّيطرة على الأمر كلِّه من جميع جوانبه، وهذا ما يوحي بحماية الإنسان المتوكِّل على الله بوعيٍ داخليٍّ من كلِّ سوءٍ.
{إِنّ ربِّي على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ}، في ما تمثِّله عقيدة الإيمان من قاعدةٍ، وفي ما تتحرّك به شريعته من خطٍّ ونهجٍ، للفكر وللسُّلوك معاً، وفي حكمته وعدله وتدبيره وشريعته وقدرته الّتي تبقى في خطِّ العدل والحقِّ، فلا تدفعه قدرته إلى ظلمٍ، ولا تمنعه قوّته من عدلٍ وإحسانٍ. وقد جاء في (تفسير العيّاشي) عن أبي معمر السّعديِّ، قال: «قال عليُبن أبي طالب عليه السلام، في قوله: {إِنّ ربِّي على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ}: يعني أنّه على حقٍّ، يجزي بالإحسان إحساناً، وبالسّيِّئ سيِّئاً، ويعفو عمّن يشاء ويغفر سبحانه وتعالى»(4).
ولهذا فإنّني سأظلُّ سائراً في هذا الخطِّ المستقيم، ولن أنحرف عنه تحت تأثير أيِّ ضغطٍ أو تهديدٍ، أو طمعٍ أو شهوةٍ، ممّا تحاولون إثارته أمامي بأساليبكم المتنوِّعة، المليئة بالتّرغيب والتّرهيب؛ لأنّ ذلك هو معنى الإيمان بالله الّذي يجعل الحياة، بكلِّ آفاقها وساحاتها، تبدأ منه وتنتهي إليه.
معجزة هود بين أخذٍ وردٍّ
وقد حاول بعض المفسِّرين أن يجعل من التّحدِّي الّذي أطلقه هود في وجه قومه، معجزةً لهود(5)، وأيّد ذلك صاحب (الميزان) في تفسيره بقوله: «ذلك أنّ ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرّدِّ في صورة الحجّة، وفيها قولهم: {ما جِئْتنا بِبيِّنةٍ}، ومن المستبعد جدّاً أن يهمل النّبيُّ هود عليه السلام في دعوته وحجّته التّعرُّض للجواب عنه، مع كون هذا التّحدِّي والتّعجيز صالحاً في نفسه لأن يُتّخذ آيةً معجزةً»(6).
ونحن نتحفّظ على هذه الاستفادة؛ لأنّ سياق الآية هو ردُّ التّحدِّي بصلابةٍ في الموقف الّذي يرفض التّراجع، والتّنازل أمام التّهديدات، لا المجابهة بالبيِّنة الّتي أرادوها؛ لأنّ ما أرادوا - كما يبدو - هو المظاهر الخارقة للعادة حسِّيّاً، أو لأنّ ما ذكروه لم يكن طلباً للبيِّنة، بقدر ما كان إنكاراً عناديّاً لما قدّمه من البيِّنة، فهم ليسوا في موضع منْ يبحث عن الحقيقة من موقع الحوار، بل هم في وضع منْ يريد إنكار ضوء الشّمس. كما أنّ موقف هود، هو موقف منْ يريد إنهاء الحوار، لا البدء في حوارٍ جديدٍ حول المعجزة الجديدة.
الهوامش:
(1) الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 382.
(2) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 288.
(3) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 5، ص 288.
(4) العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 2، ص 151، ح 42.
(5) انظر: الآلوسي، شهاب الدِّين محمود بن عبدالله الحسيني (ت 1270 هـ-)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسّبع المثاني، ط 1، تحقيق عبد الباري عطيّة، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1415 هـ-، ج 6، ص 281.
(6) السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 10، ص 301 - 302.