ختم عيسى(ع)، وهو في المهد، حديثه في التَّقرير الَّذي قدَّمه إلى القوم، والَّذي عبّر فيه عن شخصيَّته الَّتي سيكون عليها في المستقبل، وعن صفته البشريّة في اعتبار نفسه عبداً لله، أثيراً عنده، مرسَلاً من قِبَله بالكتاب الَّذي يهدي النّاس إلى الحقّ في توحيد الله وطاعته وعبادته، ونبيّاً يرتبط بالله برباط الرّسالة في خطِّ الدَّعوة، وفي خطّ امتثاله لأمر الله ونهيه، وانفتاحه على إنسانيَّته في البرّ بوالدته، واحترامه النّاس في حقوقهم الخاصَّة والعامَّة، ورفضه العدوان عليهم بما يملكه من القوَّة والسّلطة، وابتعاده عن التّكبّر والتّجبّر، واقترابه من التواضع، لأنّه يريد أن يعيش السّعادة الروحيّة في القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة في ملامح شخصيّته الرّقيقة الحانية، بعيداً عن الشّخصيّة القاسية الّتي تدخل النّاس في البلاء وتوقعهم في المشاكل الصَّعبة، كما هو شأن الشّقيّ الّذي تنطلق جذوره الذاتيَّة من موقع الشَّقاء لنفسه وللنّاس، بدلاً من الانطلاق من موقع الخير لذاته وللمجتمع كلِّه.
تطلّع عيسى(ع) إلى السَّلام
وهكذا، كان يتطلّع إلى السَّلام الّذي ينفتح عليه بالرّحمة والمحبّة والعناية والرّعاية والسّكينة، فقد عاش السَّلام في ولادته عندما هيّأ الله له ولأمِّه سلام الإعجاز في الخلق، والطّمأنينة النفسيّة، والرّعاية الروحيّة العمليّة لأمّه في ولادتها له، وإبعاد الناس عن اتّهامها، وإظهار براءتها بالمعجزة الّتي أجراها الله له من خلال تكلّمه في المهد بالطّريقة الإعجازيّة الّتي جعلت النَّاس من حوله يتلقّون الصَّدمة القويّة، والقناعة العقليَّة في الاعتراف بأنَّ أمَّه مريم لا تزال السيّدة الطّاهرة العفيفة العذراء الّتي كانت موضعاً لكرامة الله ومحلاً لرعايته.
وهكذا، قال وهو في المهد، أو هكذا أراده الله أن ينطق في حديثه، أنه سوف يموت كما يموت الناس، لأنّه خاضع لسنّة الله في البشر، {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}[1]، بالرّغم من أنّه لا يعرف كيف يموت ومتى يأتيه الأجل، فأراد أن يفيض الله عليه بالسَّلام في حال الموت، لتنتهي حياته بالموت بهدوء، في استعداده للقاء ربّه، وانفتاحه على حسابه في يوم القيامة في الآخرة، حيث يواجه السَّلام الأخير الَّذي يفيضه الله عليه، فيتلقَّاه بالمحبَّة والرّحمة والرّضوان، وليلتقي في الجنَّة بالأنبياء الّذين جاؤوا قبله، والّذين جاؤوا بعده، وبالمؤمنين بالسَّلام الَّذي هو تحيّة أهل الجنَّة.
وهكذا، كانت كلماته الأخيرة في تصوير ذاته، توحي بأنَّه إنسان السَّلام الّذي يشمل كلّ وجوده، ليتعرَّف النّاس عليه في هذه الملامح الإنسانيّة البشريّة الّتي ارتفعت إلى درجة النبوّة، وحصلت على مواقع القرب من الله، فلا يغلو فيه المغالون، ولا ينحرف في تقويم شخصيَّته المنحرفون.
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، فتدبّروا أمره، وتعمّقوا في معناه، وانفتحوا على دوره في القيم الروحيَّة والدعوة التوحيديّة، كما هم الأنبياء في القيمة والدّور، فلا تتجاوزوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في إيمانكم به، ومعرفتكم له، فالله هو الَّذي خلقه، وهو العارف بأسرار ذاته. {قَوْلَ الْحَقِّ}، أي أقول قول الحقّ الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بأنّه كلمته الّتي ألقاها إلى مريم، وكلّ كلامٍ غير هذا هو باطل، لأنّه لا يرتكز على أساسٍ من معرفةٍ أو نصٍّ من وحي، {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[2]، باعتبار أنّهم اختلفوا فيه، فقالت كلّ فرقة فيه قولاً، إذ قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السَّماء، وقال بعضهم هو ابن الله، وقال بعضهم هو أحد الأقانيم الثّلاثة؛ الأب والابن والرّوح القدس.
شبهات حول عيسى(ع)
ويتابع القرآن الحديث عن العقيدة الّتي تبنَّاها بعض النّصارى فيما ابتدعوه من قولهم إنَّ عيسى هو ابن الله، ولكنَّ القرآن أنكر عليهم ذلك، واعتبرها عقيدةً باطلةً، فيما هي عظمة الله في صفة الربوبيَّة وأصالة الألوهيَّة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}[3]، فهو المنزَّه عن هذه الفكرة المبتدعة الّتي لا ترجع إلى أساس ولا تركن إلى حقيقة، فلا يمكن نسبة الولد إلى الله بالمعنى المادّيّ للولدية، لاستلزام ذلك تجزّؤه في نفسه، وانفصاله عنه في العنصر الّذي يؤدِّي إلى ذلك، كما يقول بعض الوثنيّين في بعض آلهتهم إنّهم أبناء الله.
كما أنَّ إنجاب الولد ـ مهما كان تفسيره ـ لا يخلو من تركيبٍ في من يلد، ومن المعلوم أنّ المركَّب بحاجة إلى أجزائه الضّروريّة، والله سبحانه هو الغنيّ المطلق الذي لا تعرض له الحاجة، فهو الغنيّ الحميد، لأنّه مالك كلّ شيء، وكلّ ما في الكون خاضع له، فله أن يجدِّد خلقه وينتجه ويبدعه ويمتدّ به ويمنحه كلّ أسرار وجوده.
هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ نسبة الولد إلى الله سبحانه تمثّل سذاجةً فكريّةً قائمةً على أساس مقارنة كلّ شيء بالوجود البشري المحدود، الّذي تتمثّل الحاجة فيه إلى الولد لأسبابٍ عديدة؛ فالإنسان من جانبٍ ذو عمر محدود، يحتاج إلى توليد المثل لاستمرار نسله، باعتبار أنَّ الخيال الذَّاتيّ يوحي بأنَّ الإنسان يمتدّ في وجوده بوجود أولاده، بينما الشَّخص الّذي لا يلد ينتهي وجوده بانتهاء عمره، كما أنَّ الأب قد يعيش الوحشة في بعض حالاته، فيبحث عن الأنيس الّذي يرفع عنه الوحشة، وهو ما يتمثَّل في بنيه، وهذا مما لا يتناسب مع الله الّذي يأنس بذاته، ويغتني بألوهيَّته، ويمتدّ في وجوده من خلال معنى الخلود الَّذي لا يعترضه الزوال في ربوبيَّته.
فالمسألة في مضمونها الفكريّ لا ترجع إلى محصَّلٍ في الإمكان والمعرفة والواقع الوجوديّ والمعنى الإلهيّ، ولذلك، أنكرها القرآن أشدَّ الإنكار في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْد}[4].
إنَّ هذه الدَّعوى تنافي أصالة التَّوحيد وسرَّ الألوهيَّة، في منافاتها للعقل وبُعدها عن الوجدان الفكريّ، فلا قاعدة ترتكز عليها، ولا حجّة تخضع لها، بل هو التخيّل والتّأويل بطريقة معقَّدة قد لا يفهمها حتى قائلها، أو بطريقةٍ عاميَّةٍ يستهلكها العوام من النّاس من دون وعي، بل هي الكلمات المبهمة الّتي تبحث عن المعاني في أذهان أصحابها، فهي دعوى جاهلة منكرة فظيعة لا يبلغ فظاعتها أيّ مستوى من المنكر والفظاعة، لأنّه يتّصل بالعدوان الفكريّ العقديّ على خالق العقل والكون والحياة، الأمر الّذي قد يترك تأثيره القويّ في الوضع التكوينيّ، في انفطار السّماوات، وانشقاق الأرض، وسقوط الجبال، تماماً كما لو كانت حدثاً كونياً يثير الكون في تدميره، لأنَّ هذه المخلوقات الضَّخمة لا تتحمَّل الإساءة إلى الله في أيِّ موقعٍ من مواقع عظمته، لأنَّ ذلك يتنافى مع ربوبيّته التي تدير الكون كلَّه في كلّ نظامه الكونيّ... إنَّ هذه المخلوقات قد لا تعي بالعقل والوجدان معنى خطورة ذلك، ولكنَّها لو وعت النتائج السّلبيَّة في الجرأة على الله في هذه العقيدة، لواجهت الموقف بتلك الطريقة.
وهكذا، يواجه الخلق الّذين يلتزمون هذه العقيدة الخاطئة بالخطيئة، لأنّهم يعرفون في عمق وجودهم عبوديّتهم المطلقة لله، وأنّهم مخلوقون له ومحتاجون إليه، من دون فرقٍ بين مخلوق ومخلوق، فمهما ارتفعت درجات بعضهم عن بعض، فإنّها لا ترتفع عن درجة العبوديَّة لله، لأنَّ امتيازاتهم الذاتيَّة تتحرَّك في دائرة العبوديَّة والحاجة إلى الله في طبيعة الوجود والاستمرار به بكلِّ تفاصيله. ولعلَّ المراد بإتيان كلِّ هؤلاء للرّحمن في مواقع العبوديَّة، هو انقيادهم في وجودهم إليه، وفي إطاعتهم له، على أساس الاعتراف بالربوبيَّة الّتي تختزن عبوديَّتهم له والاعتراف بها بين يديه.
معنى الابن في المسيحيَّة
وهناك تفسير مسيحيّ لكلمة الابن، جاء في حوار مع المطران جورج خضر، قال: "فمن سمّيناه الابن هو الكلمة في أزليَّته، فإنّه صادر عن أبيه، بحيث يواجهه ولا يستقلّ عنه ولا ينفصل، ولا تجوز على الله مقولة العدد، فنحن لسنا واقعين في تثليثٍ عدديّ، ولعلّ شبه ذلك صدور الكلمة البشريَّة عن العقل، فهي ليست شيئاً آخر غيره، ولو ميّزناها بالولادة الفكريّة، فليس من عقل بلا كلمات، وما من كلمةٍ بلا عقلٍ يلدها، فبينهما مقابلة من زاوية، واتحاد كامل من زاوية".
وقد لاحظنا في مقابلتنا معه، أنَّ تفسيره لم يستطع أن يوضح المسألة من خلال الأمثلة الّتي ذكرها، إذ إنَّ الكلمة الصَّادرة عن العقل ليست العقل على نحو الاتّحاد. أمَّا الحديث عن القرآن كمثالٍ على الفكرة، فإنَّ سيادة المطران يعرف بالتّأكيد أنَّ هناك من المفكّرين المسلمين من يرى أنَّ القرآن مخلوقٌ كبقيّة المخلوقات، لأنّهم يعتبرون أنَّ أزليّته كأزليّة الأفعال الإلهيَّة، منافية للتوحيد.
وقد وردت كلمة "ابن الله" و"أبناء الله" و"أولاد الرّبّ"، وأُريدَ بها المعنى المجازيّ، كما جاء في العهد القديم في سفر التّثنية: "أنتم أولاد للرّبّ إلهكم"، وكما جاء بالنّسبة إلى داود(ع): "أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً"، وفي سفر المزامير جاء: "أنّي أخبر من جهة قضاء الربّ قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك"، ولم يدَّعِ أحدٌ أنّ النبيّ داود هو ابن الله، وقد استعمل بالمعنى المجازيّ في العهد الجديد، ففي رسالة بولس إلى أهل روميّة جاء: "إلى كلّ الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله"، وفي رسالة يوحنَّا الأولى: "وانظروا أيّة محبَّة أعطانا الأب حتى ندعى أولاد الله، من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنّه لا يعرفه"، فأعطى للبنوَّة هنا معنى الانقياد من أجل الوصول إلى محبَّة الربّ.
وقد جاء في رسالة يوحنّا الأولى: "فمن يفعل البرّ يسمَّى ابن الله، ومولود من الله، ومن يفعل الخطيئة فهو من أولاد إبليس"، فقد استعمل لفظ ابن الله بمعنى البارّ. وبالرّغم من كثرة الاستعمالات المجازيّة للبنوَّة ووضوحها، فإنَّ المسيحيّين يصرّون على البنوّة الحقيقيَّة، حتى إنَّ صاحب مجمع اللاهوت الكتابي، والّذي أقرَّ أنَّ فكرة الأبوّة الإلهيّة قد دخلت إلى الكتاب المقدَّس، كردّ فعلٍ تجاه مفاهيم الشّعوب المجاورة الّتي تدعو إلهها أباً لها، وأنّه مأخوذ بالمعنى الأدبيّ المجازيّ، والّذي يفترض نوعاً من السّلطان على أتباعه، يعود فينقض كلامه، فيتحوَّل إلى المعنى الوثني، ويدعي البنوَّة الحقيقيّة للمسيح في العهد الجديد، كالّذي رواه يوحنا في إنجيله: "الأب يحبّ الابن، وقد دفع كلّ شيءٍ بيده".
وفي نصوصٍ أخرى لبولس في رسالته إلى أهل رومية: "لأنّه إن كنَّا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته". وأكَّد صاحب القاموس البنوَّة بمعناها الحقيقي، فقال: "والمسيح بما أنّه ابن الله، فهو إله بكلِّ الكمالات غير المحدودة التي للجوهر الإلهيّ، والابن مساوٍ لله في الطّبيعة".
ولم تستطع الكنيسة في مراحلها المتعاقبة التحرّر من ربقة هذا التَّقليد الذي خلَّفه بولس المتأثّر بالثقافة الهيلينستيّة، بل قدَّست هذا التّراث وحافظت عليه، وظهرت أصواتٌ معارضةٌ في ظلّ الضَّجيج المتعالي، لتعبّر عن العقيدة التي تمثّل المسيحيّة الأولى، ومن أبرزهم القسّ آريوس، الذي انتشرت أفكاره ثمّ تلاشت تحت وطأة اضطهاد الكنيسة، والّذي رفض الاعتراف بالبدع التي أدخلها بولس على المسيحيّة، فكان يقول "بأنَّ الله واحد لم يلد ولم يولد، وأنّه أبديّ خالد وليس له بداية، وأنّه لا يتبدّل ولا يتغيّر، وأنَّ وجوده مخفيّ بسرٍّ أبديٍّ عن أعين كلّ مخلوق"، وكان يعارض أيَّ رأيٍ يتعلّق ببشريّة الله.
وهذه العقيدة هي الَّتي تلتقي بالعقيدة الإسلاميَّة التوحيديَّة، كما جاء في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}[5]. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [آل عمران: 185].
[2] [مريم: 34].
[3] [مريم: 35].
[4] [مريم: 88 ـ 93].
[5] [الإخلاص].