بدأت السيّدة العذراء مريم عودتها إلى مجتمعها وأهلها، ولكن بصورة جديدة، فهذه الفتاة الطّاهرة العابدة التقيّة الورعة، الَّتي كانت من أطهر العذارى، وأكثرهنّ عفّةً، وأفضلهنّ في الالتزام بالقيم الرّوحيَّة الأخلاقيَّة، ما جعلها موضع احترام الجميع وتقديسهم، تعود ـ ويا للهول ـ حاملةً طفلاً تعلن لهم أنّه طفلها الّذي أنجبته ولم تكن قد تزوَّجت؛ فهل إنَّ الشّيطان أغراها وخطّط لها بالدّخول في علاقة غراميَّة مع شابٍّ فاسق، استغلّ خلوتها بنفسها ووحدتها في مكانها، فاستسلمت له وخضعت لأساليب الإغراء ولنداء الشَّهوة وللنّفس الأمّارة بالسّوء؟!
اتّهام مريم(ع) بالسّوء
وراحوا يتساءلون تساؤلاً استنكاريّاً، في حديث هامسٍ أوّلاً، وصارخٍ ثانياً، ثم وجّهوا إليها كلّ هذا الاتهّام بالسّوء والانحراف بطريقةٍ عنيفةٍ رافضة، ولكنَّها قرّرت أن تكسر الحاجز الَّذي قد يضعونه أمامها ليمنعوها من العودة إليهم بالطريقة المحترمة، وليطردوها من المجتمع، فوقفت موقف القويّ المتحدّي لكلّ أساليب الشّكّ والرّيب والاتهام لها في عفَّتها وطهارة سلوكها، وفي الدّرجة الرّفيعة في أخلاقها، بعد أن حصلت على الثِّقة بالوعد الإلهيّ بحمايتها من النّاس الّذين يريدون بها السّوء وإخراجها من دائرة الاحترام كامرأةٍ شريفة في الموقع الأعلى من الروحانيّة والإنسانيّة المتأصّلة في شخصيّتها، بما كان يتمثّل فيها من صفات الكمال الأخلاقيّ.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}، لتقدّمه إليهم كعنصرٍ جديدٍ ينتمي إلى الأسرة التي هي جزءٌ منها. وكانت المفاجأة لديهم، وبدأ التَّساؤل: لمن هذا الولد الذي تحمله مريم العذراء؟ هل من المعقول أن يكون ولدها، أو هو ولد شخصٍ آخر وامرأةٍ أخرى جاءت تحمله وتربّيه من ناحية إنسانيّة، لأنها هي العفيفة الطّاهرة التي عاشت حياتها في المحراب في عبادة الله الّذي وضعها في أعلى درجات الكرامة والقبول الحسن، وتعهَّدها بالنّبات الطيّب، وأودع في شخصيَّتها القيم، فكيف نفسِّر هذا؟
وانطلقت المسألة في مستوى الشكّ، ولكنَّ طريقتها في حمله ورعايته وعطفها عليه من خلال عاطفة الأمومة، قطع الشّكّ باليقين، فهذا وليدها، وهي أمّه، وهذا دليل انحرافها عن الخطِّ المستقيم!
وبدأ الهجوم: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّ}[1]، منكراً عظيماً عجيباً، لما توحي به ولادة هذا الطّفل من حدثٍ خطيرٍ يختزن الغرابة، ويدلّ على ممارسة المعصية الكبرى التي تمتنع عن القيام بها محقرات النّساء، فكيف تتحقَّق في حياة أفضلهنّ؟! إنّه أمرٌ لا يمكن تصديقه ولو نقله النّاقلون، لكنّ الواقع المحسوس الّذي نراه بأعيننا ماثلاً أمامنا يؤكِّده بكلّ قوّة!
توبيخ مريم(ع)
{يَا أُخْتَ هَارُونَ}[مريم: 28]. وقيل فيه أقوال:
(أحدها)، أنّ هارون كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل، ينسب إليه كلّ من عُرف بالصَّلاح، فعن ابن عباس وجماعة في رواية منسوبة إلى النبيّ(ص)، أنّ قولهم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ}، معناه يا شبيهة هارون في الصَّلاح، ما كان هذا معروفاً منك.
(ثانيها)، أنَّ هارون كان أخاها لأبيها، وليس من أمّها، وكان معروفاً بحسن الطّريقة، عن الكلبي.
(ثالثها)، أنَّ هارون هو أخو موسى، فنسبت إليه لأنها من ولده، كما يقال: "يا أخا تميم"، عن السدّي.
(رابعها)، أنَّه كان رجلاً فاسقاً مشهوراً بالعهر والفساد، فنسبت إليه، وقيل لها: يا شبيهته في قبح فعله، عن سعيد بن جبير[2].
ولعلَّ الأوفق بالسّياق هو القول الأوَّل، لأنهم كانوا يريدون توبيخها بأنّها كانت معروفةً بالصّلاح كهارون المعروف بذلك، ليقولوا لها: كيف انقلبت من امرأةٍ صالحةٍ إلى امرأةٍ فاسقةٍ فيما يوحي به عملك هذا من الوقوع في معصية الزّنا؟ فماذا دهاك؟ وما الّذي أدّى بك إلى هذا الانحراف الخطير؟
{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}، فقد كان من رجال الله الصّالحين المطيعين لله في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ}[3] كالنّساء البغايا، بل كانت من الصّالحات في إخلاصها لربّها، وفي سعيها للحصول على محبَّته ورضاه، ما جعلها تنذر لله أن يكون حملها في خدمة العابدين في بيت المقدس. لقد كان أبواك صالحين عفيفين، فمن أين ورثت هذا السّلوك السيّئ؟!
وهكذا، كان أسلوبهم القاسي معها باتّهامها بالفجور، وبإسقاطها من أعينهم، وظنّوا أنها قد تعتذر وتطلب العفو، وتبرّر ما حصل لها بأنّها تعرَّضت لاعتداءٍ ظالمٍ باغتصابها، من دون أن تتمكّن من الدّفاع عن نفسها، فكان هذا الولد الّذي لا ذنب لها به نتيجة ذلك. ولكنّها خيّبت ظنّهم في تأثير كلامهم فيها، وإصابتها بالإحباط، وتدمير ثقتها بنفسها، وإقرارها بما نسبوه إليها، وتوجَّهت إليهم بكلّ عظمة المرأة القويّة التي استمدَّت القوّة من إيمانها بربّها، الّذي وعدها برعايته لها، وإنقاذها ممّن يريد السّوء بها...
معجزة تكلّم عيسى(ع) في مهده
فلم تردّ عليهم، ولم تقف في موقف الدّفاع عن نفسها، {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}؛ إلى هذا الوليد الّذي تحمله، بكلّ هدوءٍ ووداعةٍ وقوّة، ليكلّموه ويسألوه، لأنها لا تملك أن تتحدَّث إليهم، وفاءً بنذرها في صوم الصَّمت، ولأنّ دفاعها ـ مهما كان قويّاً ـ لن يتقبّلوه أو يصدّقوه، فهي لا تملك دليلاً حسيّاً أو شهوداً موثوقين على ذلك. وخيِّل إليهم أنها تهذي أو تسخر منهم، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّ}[4]، باعتبار أنّه في الموقع الّذي يوضع فيه في المهد، فهل ينطق من هو مثله وفي مثل عمره لينطق هو بالجواب، فضلاً عن قدرته على الوعي والإدراك، وإدارة الكلام في الجدال والدّفاع عن أمّه؟ وبالتّالي، ما مقدار ما يُحسنه إذا كان يستطيع النّطق؟
ولكنَّ انتظارهم لم يطل، وواجهتهم الصَّدمة القويّة، وجاءتهم المفاجأة من حيث لا يحتسبون، وعقدت ألسنتهم من حيث لا ينتظرون، بما يشبه الصّاعقة التي هزّت كياناتهم وأسقطت منطقهم، فقد بدأ الطّفل الرّضيع بتوضيح الموقف بكلامٍ واضحٍ صريح: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّ}[5].
وهكذا، بدأ يتحدَّث إليهم عن صفته المستقبليَّة، مما يريد الله له أن ينفتح عليه من المسؤوليَّة التّوجيهيّة في هداية النّاس، وفي رفع مستواهم، بإبلاغهم موارد المعرفة ومصادرها في الإيمان بالله وسرّ ربوبيّته وأصالة توحيده في الألوهيّة والعبادة والطاعة، وفي نظام حياة النّاس، بما يكفل لهم القوّة والاستقرار والنّموّ والتطوّر والإنتاج والخير الواسع للحياة كلِّها وللإنسان كلّه، وذلك من خلال الكتاب الذي يوحي به الله إليه، والكتاب الّذي سبق إنزاله على النبيّ موسى من التّوراة التي صدّق بها، وهذا ما يريد الله له أن يحقِّقه من موقع النبوّة التي تمتدّ مسؤوليَّتها إلى النّاس كافّةً.
ولكنَّ النبيَّ عيسى(ع) يبقى في ذلك كلّه، وفيما أحاط خَلقه وقدراته من أسرار، وفي ولادته التي مثَّلت خَرْقاً للقانون الطّبيعيّ الذي وضعه الله للنَّاس كلّهم بعد خلق آدم، يبقى عبداً لله، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلا به، ولا يتحرّك في أيّ وضعٍ غير عاديٍّ إلا بإذنه، فلا داعي للغلوّ في أمره، والارتفاع به فوق مستوى البشريَّة عند النَّظر إليه في المستقبل فيما يقوم به، مما لا طاقة للبشر على القيام به، لأنَّ ما يفعله لا ينطلق من قدرةٍ ذاتيّة، بل من قدرةٍ ربّانيّة، فلا دور له إلا دور النبوّة الهادية إلى هدى الله ووحيه، والرّسالة المنفتحة على ما يحقِّق للنَّاس المصالح ويبعد عنهم المفاسد، من خلال الإنجيل الّذي يتضمَّن رسالة الله ووحيه وتعاليمه وتشريعاته، وتلك هي صفة عيسى الواقعيَّة التي عبّر عنها بتلك الكلمات المختصرة، في التَّأكيد أنّه يعيش بشريّة الإنسان، ورساليّة النبيّ، وحركة الوحي في الدَّعوة.
وما نلاحظه، أنَّ عيسى(ع) لم يتحدَّث ـ فيما أنطقه الله به من كلمات ـ عن تجربة أمِّه في الحمل والولادة وطبيعة الإعجاز البارز فيها، لأنَّ ما نطق به كان تفسيراً صارخاً معبّراً عن الوضع غير الطبيعيّ الّذي حقَّقه الله في الواقع المتمثّل بتجربة أمِّه، فيما أكرمها الله به وأودعه في ذاتها القدسيَّة، وفي الآية المتمثّلة بوليدها، والرّحمة المنطلقة في حياته المستقبليّة، من خلال دوره الرساليّ الّذي هو الرّحمة الواسعة للعالمين.
وهذا ما أراد الطّفل المعجزة المقبل على النبوّة، والخاضع لعبوديّة الله، أن يبيِّنه للنّاس في حياته الخاصَّة والعامَّة، وأنّه جاء ليمثّل النَّفع للنّاس: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}، والبركة هي نماء الخير في حياة النَّاس، من علمٍ نافعٍ يرفع مستواهم، وعملٍ صالحٍ يغني وجودهم، وينمِّي حركتهم، ويحقِّق لهم مواقع القوّة، ويحيطها بدائرةٍ أخلاقيّةٍ، تحميهم من الانحراف وتحمي الآخرين من عدوانهم.
وقد جاء في مفردات الرّاغب: "وجعلني مباركاً"، أي موضع الخيرات الإلهيّة. وهذه هي صفة الأنبياء الّذين أرسلهم الله إلى النّاس من أجل أن يحقِّقوا لهم السموّ الرّوحيّ الإنساني، والحركة الخيّرة النّافعة، والحريّة والعزّة والكرامة والسَّلام، الّذي يجمع النّاس على المحبّة والرّحمة، وقيل: نفّاعاً أينما توجّهت.
وصيّة الله لعيسى(ع)
{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّ}[6]، وهما الرّكنان العظيمان اللَّذان يأمر الرّسل النّاس بأدائهما والمحافظة عليهما. وفي ذلك إشارة إلى عمق هذين العملين البارزين في شريعة النبيّ عيسى(ع)، وهما الصَّلاة بما تؤمِّنه من سموّ الرّوح عبر ارتفاعها إلى رحاب الله في مواقع القرب إليه، في خطّ العبوديّة الخالصة للألوهيّة المقدَّسة، والزّكاة، بما تفرضه من احتواءٍ للحرمان الإنساني بالدّعم والمساعدة، وحلّ المشكلة المعيشيّة والمساعدة المادّيّة، قربةً إلى الله وخضوعاً له، حيث يصبح السّموّ الرّوحيّ في آفاق الله مقدِّمةً للانطلاق إلى الواقع من الموقع نفسه.
وهكذا، يلتقي الجانب السّماويّ بالجانب الأرضيّ في المضمون الرّوحيّ لكلِّ الرّسالات، في أهدافها التي تسعى إلى الوصول إلى الكمال الإنسانيّ الّذي يلتقي بالله في يقظةٍ حضوريّةٍ في عالم الغيب والشَّهادة.
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي}، بما يمثّله البرّ من رأفةٍ ورحمةٍ ورعايةٍ لهذه الإنسانة الطيّبة الّتي تحوي أمومتها كلَّ معاني الخير والعطاء، ما يجعل البرَّ هنا اعترافاً بالجميل، وشكراً للنِّعمة، وعاطفةً إنسانيّةً تشمل الوالدين، وتمتدّ إلى كلِّ النّاس الآخرين من حوله الّذين يحسنون إليه، {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّ}[7]، بما يعبّر عنه بالجبروت النَّفسيّ، من طغيان الفكر والشّعور والسّلوك والقسوة العمليَّة، من موقع الإحساس الأنانيّ بأنَّ للذَّات الحقّ على النّاس دون أن يكونَ لأحدٍ منهم الحقّ عليها، وما تنتجه الشَّقاوة من مشاكل متنوّعة للنَّاس في حياتهم، ومن الضَّغط عليهم بالسّوء والعذاب.
{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ}، بما تمثِّله مرحلة الولادة من وداعةٍ وسلامٍ روحيٍّ وبراءةٍ طفوليَّة تنشر السَّلام والفرح والمرح حولها وعلى من يحيط بها، {وَيَوْمَ أَمُوتُ}، عند حلول الأجل الَّذي قدَّره الله لي في هذه الحياة، لألقى وجه ربّي منفتحاً على الإيمان والخير والطَّاعة له، فأعيش في رحابه السَّلام الرّوحيَّ عند قدومي عليه مؤمناً طائعاً مرضياً عنده.
{وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ}[8]، لأرى في ذلك الموقف كيف يمنحني الله رضوانه لأعيش في رحمته ونعمته في دار السَّلام.
على هذه الصّورة، قدَّم عيسى نفسه وهو في المهد وفي أحضان أمّه، إلى النَّاس الّذين أنكروا على والدته أمرها، ولم يُبقِ شيئاً غامضاً في المسألة. ولم يتحدَّث القرآن عن ردِّ فعلهم على ذلك، وربما كان السَّبب فيه أنّهم واجهوا الموقف بإيمانٍ وقناعةٍ وصدمةٍ إيجابيّة، لعدم امتلاكهم شيئاً سلبيّاً يقولونه حول الموضوع، أو لأنَّ الفكرة الّتي أراد الله إثارتها من خلال القصَّة، لا تحتاج إلى التطرّق إلى هذه النّقطة في سياق القصَّة. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [مريم: 27].
[2] تفسير مجمع البيان، الشّيخ الطبرسي، ج 6، ص 419.
[3] [مريم: 28].
[4] [مريم: 29].
[5] [مريم: 30].
[6] [مريم: 31].
[7] [مريم: 32].
[8] [مريم: 33].