دروس مستقاة من معركة أحد

دروس مستقاة من معركة أحد

أدّت الهزيمة في معركة أحد إلى حالةٍ شديدة في داخل الذّات الإسلاميّة، من الشّعور بالوهن والضّعف والحزن، في تساؤل نفسيّ عنيف: كيف حدث كلّ هذا؟ ولماذا؟

ويواجه القرآن هذا كلّه بالرَّفض لهذه الحالة في موقف المؤمنين: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخليّ أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشّعور بالكرامة والإحساس بالعزَّة. إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقيّ للأشياء، لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي إليه بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة. وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضّعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الرّوحي بالألـم والتّضحية في طريق الجهاد.

ولعلّ من الواضح أنَّ القرآن في هذه الآيات لا يريد أن يوحي إلى المؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذّات على الآخرين، لتصبّ في مجرى الأنانيّة الذاتيّة، بل كلّ ما يريده في ما نستوحيه من الآيات، هو الاستعلاء الرّوحيّ والرّساليّ على قوى الكفر والظّلم والطّغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.

ثم يلتفت إليهم في أسلوبٍ واقعيّ يريد للقضيَّة أن تعيش في نطاق أسبابها الطّبيعيّة الّتي أخضع اللّه لها كلّ ما في الظّواهر الكونيّة والإنسانيّة، فإنَّ قضيَّة النّصر والهزيمة في حياة الأفراد والجماعات، لا ترتبط بالجانب الغيبـيّ للحياة ليواجه الإنسان قضاياها من هذا الموقع، بحيث يدفعه ذلك إلى الشّكّ في منطلقات الإيمان وخطواته، بل ترتبط بالجانب الواقعيّ للأشياء؛ فإذا أخذ النَّاس بأسباب النَّصر، فإنَّهم سينتصرون وإن كانوا كافرين، وإذا تركوها انهزموا وإن كانوا مؤمنين، لأنَّ الله لا يريد أن يُحارب بالنّيابة عن المؤمنين، بل يريدهم أن يأخذوا بسنَّته، ويسيروا على حسب قوانينه، فينطلقوا إلى ساحات الصّراع من موقف الوعي للسّاحات ومتطلّباتها المادّية والمعنويّة. ولا مانع من اقتضاء حكمة الله أن يتدخّل في الحالات الصّعبة الّتي تمثِّل فيها الهزيمة حال انهيارٍ للإسلام والمسلمين، كما حدث ذلك في معركة بدر، ولكنَّها حالاتٌ طارئة لا تصل إلى مستوى القاعدة العامّة الثّابتة.

وهكذا خاطب اللّه المسلمين، بعد أن نهاهم عن الحزن والوهن، ودعاهم إلى الشّعور بالعلوّ في خطّ الإيمان، ووضعهم في واجهة الصّورة: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}، فإذا كان المسلمون قد انهزموا في المعركة في أحد وأصابهم القرح، فقد أصاب الكافرين مثل ذلك في بدر، فليست الهزيمة حالةً ثابتةً للمهزومين في بعض المعارك، وليس النّصر قانوناً حتميّاً دائماً في حياة المنتصرين في حالات النّصر؛ فقد ينتصر المهزوم في معركة جديدة، وقد ينهزم المنتصر {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. فقد تكون القوّة لفريقٍ من النَّاس فيما هيّأ اللّه لهم من أسباب القوّة، وقد تتبدّل الحال فتكون القوّة في الجانب الآخر والضّعف في جانب الأقوياء. تلك هي سنّة اللّه في الأرض الّتي تدفع الحياة إلى خطّ التّوازن، فلا ييأس المهزوم من النّصر، بل يظلّ يُلاحق التّجربة الحيّة التي تقود إليه، ولا يطغى المنتصر بانتصاره ويستسلم لنتائجه، بل يبقى في هاجس الهزيمة المرتقبة، فيُحافظ، من خلال ذلك، على مواجهة المستقبل بروحٍ متوازنة. وفي ذلك كلّه تتجدّد الحياة وتنمو، وتتكامل فُرَصها، وتتوازن حركاتها، ويتحرّك خطّ الصّراع في اتجاهٍ سليم.

{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}[1]، فإنَّ المواقف الصّعبة الّتي يواجه فيها النَّاس الهزائم، قد تزلزل النّفوس، وتدفع بعض المؤمنين إلى الرّيبة والشّكّ والتّراجع، وتزيد المؤمنين الآخرين ثباتاً وقوّةً وتحفّزاً وتصميماً على مواجهة التحدّيات، وبذلك ينكشف الإيمان المزيّف من الإيمان الخالص الصّحيح الثّابت...

... هذه بعض أجواء معركة أحد، في نهاياتها الّتي رافقت أجواء الهزيمة بعد النّصر، وأبرزت كثيراً من السّلبيّات الفكريّة والرّوحيّة في النّماذج المتنوّعة المتواجدة في المعركة: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}[2]، فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هرباً من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة؛ وانطلق الرَّسول يدعوهم إلى أخراهم فيقول: ارجعوا إليّ عباد اللّه، ارجعوا إنّي أنا رسول اللّه، من يكرّ فله الجنَّة {.. فأثابكم غمّاً بغمٍّ}[3] أي: غمّاً أذقتموه للرّسول بعصيانكم له، أو غمّاً مضاعفاً، أي غمّاً بعد غمّ، وغمّاً متصلاً بغمّ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللّه (ص) والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة... ما يوحي بأنَّهم كانوا ممتدين في هربهم في خطّ طويل ابتعد أولهم عنه، واقترب آخرون منه؛ فقد كان يريدهم أن يتوقفوا قليلاً ليدرس معهم طبيعة الموقف، ويُحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصر جديد، ولكنَّهم لا يلوون على أحد، فلا يلتفتون إلى نداء الرَّسول أو غيره، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم، فهربوا من الموت....

وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره اللّه في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذّاتيّ والنّدم المرير على ما قاموا به، وأفاقوا على واقعٍ لـم يحسبوا له حساباً، وذلك كردّ فعلٍ على الغمّ الّذي جلبوه للرّسول وللمسلمين والإسلام.

وقد أراد اللّه لهم من خلال ذلك، أن يعرّفهم كيف يربطون بين النّتائج وأسبابها، فلا يُبادرون إلى الاندفاع في موقفٍ إلاَّ بعد التّفكير والتأمّل في عواقبه، لأنَّهم باندفاعهم يملكون الذّهنيّة السّاذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها، لذا عليهم أن يملكوا الذهنيّة الّتي تجلس في كلّ مجال من هذه المجالات، لتحلّل وتناقش وتستنتج، من أجل أن تحوّل نقاط الضّعف إلى نقاط قوّة، وتغيّر السلبيّات إلى إيجابيّات. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَخَبِيرٌ}[4]. فإنّ الظّاهر منها أن اللّه أراد لهم أن يعيشوا الحالة النّفسيّة الّتي تمثِّل ما يشبه الصّدمة في الدّاخل على أساس ما حدث، من أجل أن تكون تجربةً ودرساً يُبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة.

إنَّ الخطّ الإسلاميّ في أمثال هذه الحالات الصّعبة الّتي يمرّ بها المسلمون في الواقع السّلبيّ الّذي قد تتمخَّض عنه الحرب بالهزيمة العسكريَّة، هو عدم السّقوط أمام التّجربة المرّة بالحزن العاطفيّ الّذي يجترّ معه الإنسان الآلام في حالة نفسيّةٍ مدمّرة، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته، فلا يصير إلى غلبةٍ أو نجاحٍ بعدها أبداً. فإنَّ الحزن عاطفة إنسانيّة نبيلة، ولكن لا بُدَّ للإنسان من أن يحرّكها في الاتجاه الإيجابيّ الّذي يثير في النّفس المرارة، لتدخل في هذا الجوّ في وعي التّجربة، لاستخلاص العبر منها، من أجل الدّخول في تجربةٍ جديدةٍ في مستقبلٍ جديدٍ. وهكذا يتحوَّل هذا الغمّ الّذي يمثِّل ضيقاً في الصَّدر، وألماً في الإحساس، إلى انفتاحٍ على كلّ مفردات القضيَّة السّلبيَّة، من أجل أن يتفهَّموا طبيعتها وتفاصيلها، على صعيد الخسائر البشريَّة والماديَّة والمعنويَّة، فالله لا يريد للحزن أن يكون طابع المجاهدين العاملين كنتيجةٍ للأوضاع المعقّدة في حياتهم، فعليهم أن يراقبوا اللّه في ذلك من خلال إيمانهم بأنَّه خبير بما يفعلونه، سواء كان ذلك من خلال باطن أفعالهم أو ظاهرها، لينفتحوا على مواقع الصّواب، من خلال المحاسبة الدّقيقة لكلّ الماضي المعقّد في انتظار المستقبل المنفتح. وهكذا يرتفع الحزن على الخسارة، ليحلّ محلّه الوعي والأمل بانتظار الرّبح في المستقبل الآتي.

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ}[5]، وعاد البعض إلى رسول الله(ص) وهم يعيشون هذه الصَّدمة الكبيرة، ويقارنون بين أسباب الهزيمة ونتائجها، وشعروا بالتَّقصير والنَّدم، وبدأوا بالتَّخطيط لحسابات المستقبل. وكان لا بُدَّ من حالة استرخاءٍ يستريحون فيها من متاعب المعركة وانفعالات النّدم، ليملكوا زمام  التفكير من جديد، فألقى الله عليهم النّعاس، ليعيشوا الإحساس بالأمن والطَّمأنينة، لتتجدَّد لهم طاقاتهم الّتي أتعبها الجهد، وتصفو أفكارهم الّتي كدَّرها الألم، وترتاح أعصابهم الّتي أرهقها الانفعال، فغابوا في سباتٍ عميق يفصلهم عن كلّ هذه الأجواء الخانقة من التوتّر والرُّعب والانفعال... وتلك هي الفئة المؤمنة الّتي لا تفقد صوابها، ولا ترتاب في إيمانها، ولا تتزلزل في مواقفها أمام الصّدمات والتحدِّيات والهزائم، بل تقف من جديد، لتفكّر في المستقبل من خلال دروس الحاضر، ولتواصل المسيرة، وتعتبر أنَّ كلّ ما حدث ما هو إلاَّ تجربة وامتحان واختبار قد يفشل الإنسان فيه وقد ينجح. ولكنَّ القضيَّة في كلا الحالين، تمثِّل العبرة الّتي يستفيد منها الفاشل كي يتفادى الفشل في المستقبل، ويتعلّم منها النّاجح كيف يمكن أن يستزيد من فرص النَّجاح في الحياة...

... وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الدّعوة إلى اللّه وفي حقل التّربية الإسلاميّة أن يواجهوه في ما يخوضونه من تحدّيات، وما يواجهونه من عقبات وصراعات، وما يدفعون إليه العاملين الآخرين من مهمّات ومسؤوليّات، فقد يكون من الأفضل أن لا ينهزموا أمام المصاعب، وأن لا يتعقّدوا منها. كما قد يكون من الخير لهم أن يوكلوا إلى العاملين معهم بعض القضايا الّتي تثير المتاعب والمشاكل في بعض مراحل الطّريق، من أجل بناء شخصيّتهم الإسلامّية بالصّدمات القويّة الّتي توقظ في داخلهم حسّ المواجهة للأخطاء والانحرافات، وتدفعهم إلى الوقوف بقوّة أمام الأعاصير القادمة من بعيد.

المصدر: من كتاب "مفاهيم حركيّة من وحي القرآن".


[1] ـ [آل عمران: 140].

[2] ـ [آل عمران: 153].

[3]   المصدر نفسه

[4]   المصدر نفسه

[5] ـ [آل عمران: 154].

أدّت الهزيمة في معركة أحد إلى حالةٍ شديدة في داخل الذّات الإسلاميّة، من الشّعور بالوهن والضّعف والحزن، في تساؤل نفسيّ عنيف: كيف حدث كلّ هذا؟ ولماذا؟

ويواجه القرآن هذا كلّه بالرَّفض لهذه الحالة في موقف المؤمنين: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخليّ أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشّعور بالكرامة والإحساس بالعزَّة. إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقيّ للأشياء، لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي إليه بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة. وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضّعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الرّوحي بالألـم والتّضحية في طريق الجهاد.

ولعلّ من الواضح أنَّ القرآن في هذه الآيات لا يريد أن يوحي إلى المؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذّات على الآخرين، لتصبّ في مجرى الأنانيّة الذاتيّة، بل كلّ ما يريده في ما نستوحيه من الآيات، هو الاستعلاء الرّوحيّ والرّساليّ على قوى الكفر والظّلم والطّغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.

ثم يلتفت إليهم في أسلوبٍ واقعيّ يريد للقضيَّة أن تعيش في نطاق أسبابها الطّبيعيّة الّتي أخضع اللّه لها كلّ ما في الظّواهر الكونيّة والإنسانيّة، فإنَّ قضيَّة النّصر والهزيمة في حياة الأفراد والجماعات، لا ترتبط بالجانب الغيبـيّ للحياة ليواجه الإنسان قضاياها من هذا الموقع، بحيث يدفعه ذلك إلى الشّكّ في منطلقات الإيمان وخطواته، بل ترتبط بالجانب الواقعيّ للأشياء؛ فإذا أخذ النَّاس بأسباب النَّصر، فإنَّهم سينتصرون وإن كانوا كافرين، وإذا تركوها انهزموا وإن كانوا مؤمنين، لأنَّ الله لا يريد أن يُحارب بالنّيابة عن المؤمنين، بل يريدهم أن يأخذوا بسنَّته، ويسيروا على حسب قوانينه، فينطلقوا إلى ساحات الصّراع من موقف الوعي للسّاحات ومتطلّباتها المادّية والمعنويّة. ولا مانع من اقتضاء حكمة الله أن يتدخّل في الحالات الصّعبة الّتي تمثِّل فيها الهزيمة حال انهيارٍ للإسلام والمسلمين، كما حدث ذلك في معركة بدر، ولكنَّها حالاتٌ طارئة لا تصل إلى مستوى القاعدة العامّة الثّابتة.

وهكذا خاطب اللّه المسلمين، بعد أن نهاهم عن الحزن والوهن، ودعاهم إلى الشّعور بالعلوّ في خطّ الإيمان، ووضعهم في واجهة الصّورة: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}، فإذا كان المسلمون قد انهزموا في المعركة في أحد وأصابهم القرح، فقد أصاب الكافرين مثل ذلك في بدر، فليست الهزيمة حالةً ثابتةً للمهزومين في بعض المعارك، وليس النّصر قانوناً حتميّاً دائماً في حياة المنتصرين في حالات النّصر؛ فقد ينتصر المهزوم في معركة جديدة، وقد ينهزم المنتصر {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. فقد تكون القوّة لفريقٍ من النَّاس فيما هيّأ اللّه لهم من أسباب القوّة، وقد تتبدّل الحال فتكون القوّة في الجانب الآخر والضّعف في جانب الأقوياء. تلك هي سنّة اللّه في الأرض الّتي تدفع الحياة إلى خطّ التّوازن، فلا ييأس المهزوم من النّصر، بل يظلّ يُلاحق التّجربة الحيّة التي تقود إليه، ولا يطغى المنتصر بانتصاره ويستسلم لنتائجه، بل يبقى في هاجس الهزيمة المرتقبة، فيُحافظ، من خلال ذلك، على مواجهة المستقبل بروحٍ متوازنة. وفي ذلك كلّه تتجدّد الحياة وتنمو، وتتكامل فُرَصها، وتتوازن حركاتها، ويتحرّك خطّ الصّراع في اتجاهٍ سليم.

{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}[1]، فإنَّ المواقف الصّعبة الّتي يواجه فيها النَّاس الهزائم، قد تزلزل النّفوس، وتدفع بعض المؤمنين إلى الرّيبة والشّكّ والتّراجع، وتزيد المؤمنين الآخرين ثباتاً وقوّةً وتحفّزاً وتصميماً على مواجهة التحدّيات، وبذلك ينكشف الإيمان المزيّف من الإيمان الخالص الصّحيح الثّابت...

... هذه بعض أجواء معركة أحد، في نهاياتها الّتي رافقت أجواء الهزيمة بعد النّصر، وأبرزت كثيراً من السّلبيّات الفكريّة والرّوحيّة في النّماذج المتنوّعة المتواجدة في المعركة: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}[2]، فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هرباً من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة؛ وانطلق الرَّسول يدعوهم إلى أخراهم فيقول: ارجعوا إليّ عباد اللّه، ارجعوا إنّي أنا رسول اللّه، من يكرّ فله الجنَّة {.. فأثابكم غمّاً بغمٍّ}[3] أي: غمّاً أذقتموه للرّسول بعصيانكم له، أو غمّاً مضاعفاً، أي غمّاً بعد غمّ، وغمّاً متصلاً بغمّ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللّه (ص) والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة... ما يوحي بأنَّهم كانوا ممتدين في هربهم في خطّ طويل ابتعد أولهم عنه، واقترب آخرون منه؛ فقد كان يريدهم أن يتوقفوا قليلاً ليدرس معهم طبيعة الموقف، ويُحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصر جديد، ولكنَّهم لا يلوون على أحد، فلا يلتفتون إلى نداء الرَّسول أو غيره، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم، فهربوا من الموت....

وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره اللّه في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذّاتيّ والنّدم المرير على ما قاموا به، وأفاقوا على واقعٍ لـم يحسبوا له حساباً، وذلك كردّ فعلٍ على الغمّ الّذي جلبوه للرّسول وللمسلمين والإسلام.

وقد أراد اللّه لهم من خلال ذلك، أن يعرّفهم كيف يربطون بين النّتائج وأسبابها، فلا يُبادرون إلى الاندفاع في موقفٍ إلاَّ بعد التّفكير والتأمّل في عواقبه، لأنَّهم باندفاعهم يملكون الذّهنيّة السّاذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها، لذا عليهم أن يملكوا الذهنيّة الّتي تجلس في كلّ مجال من هذه المجالات، لتحلّل وتناقش وتستنتج، من أجل أن تحوّل نقاط الضّعف إلى نقاط قوّة، وتغيّر السلبيّات إلى إيجابيّات. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَخَبِيرٌ}[4]. فإنّ الظّاهر منها أن اللّه أراد لهم أن يعيشوا الحالة النّفسيّة الّتي تمثِّل ما يشبه الصّدمة في الدّاخل على أساس ما حدث، من أجل أن تكون تجربةً ودرساً يُبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة.

إنَّ الخطّ الإسلاميّ في أمثال هذه الحالات الصّعبة الّتي يمرّ بها المسلمون في الواقع السّلبيّ الّذي قد تتمخَّض عنه الحرب بالهزيمة العسكريَّة، هو عدم السّقوط أمام التّجربة المرّة بالحزن العاطفيّ الّذي يجترّ معه الإنسان الآلام في حالة نفسيّةٍ مدمّرة، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته، فلا يصير إلى غلبةٍ أو نجاحٍ بعدها أبداً. فإنَّ الحزن عاطفة إنسانيّة نبيلة، ولكن لا بُدَّ للإنسان من أن يحرّكها في الاتجاه الإيجابيّ الّذي يثير في النّفس المرارة، لتدخل في هذا الجوّ في وعي التّجربة، لاستخلاص العبر منها، من أجل الدّخول في تجربةٍ جديدةٍ في مستقبلٍ جديدٍ. وهكذا يتحوَّل هذا الغمّ الّذي يمثِّل ضيقاً في الصَّدر، وألماً في الإحساس، إلى انفتاحٍ على كلّ مفردات القضيَّة السّلبيَّة، من أجل أن يتفهَّموا طبيعتها وتفاصيلها، على صعيد الخسائر البشريَّة والماديَّة والمعنويَّة، فالله لا يريد للحزن أن يكون طابع المجاهدين العاملين كنتيجةٍ للأوضاع المعقّدة في حياتهم، فعليهم أن يراقبوا اللّه في ذلك من خلال إيمانهم بأنَّه خبير بما يفعلونه، سواء كان ذلك من خلال باطن أفعالهم أو ظاهرها، لينفتحوا على مواقع الصّواب، من خلال المحاسبة الدّقيقة لكلّ الماضي المعقّد في انتظار المستقبل المنفتح. وهكذا يرتفع الحزن على الخسارة، ليحلّ محلّه الوعي والأمل بانتظار الرّبح في المستقبل الآتي.

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ}[5]، وعاد البعض إلى رسول الله(ص) وهم يعيشون هذه الصَّدمة الكبيرة، ويقارنون بين أسباب الهزيمة ونتائجها، وشعروا بالتَّقصير والنَّدم، وبدأوا بالتَّخطيط لحسابات المستقبل. وكان لا بُدَّ من حالة استرخاءٍ يستريحون فيها من متاعب المعركة وانفعالات النّدم، ليملكوا زمام  التفكير من جديد، فألقى الله عليهم النّعاس، ليعيشوا الإحساس بالأمن والطَّمأنينة، لتتجدَّد لهم طاقاتهم الّتي أتعبها الجهد، وتصفو أفكارهم الّتي كدَّرها الألم، وترتاح أعصابهم الّتي أرهقها الانفعال، فغابوا في سباتٍ عميق يفصلهم عن كلّ هذه الأجواء الخانقة من التوتّر والرُّعب والانفعال... وتلك هي الفئة المؤمنة الّتي لا تفقد صوابها، ولا ترتاب في إيمانها، ولا تتزلزل في مواقفها أمام الصّدمات والتحدِّيات والهزائم، بل تقف من جديد، لتفكّر في المستقبل من خلال دروس الحاضر، ولتواصل المسيرة، وتعتبر أنَّ كلّ ما حدث ما هو إلاَّ تجربة وامتحان واختبار قد يفشل الإنسان فيه وقد ينجح. ولكنَّ القضيَّة في كلا الحالين، تمثِّل العبرة الّتي يستفيد منها الفاشل كي يتفادى الفشل في المستقبل، ويتعلّم منها النّاجح كيف يمكن أن يستزيد من فرص النَّجاح في الحياة...

... وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الدّعوة إلى اللّه وفي حقل التّربية الإسلاميّة أن يواجهوه في ما يخوضونه من تحدّيات، وما يواجهونه من عقبات وصراعات، وما يدفعون إليه العاملين الآخرين من مهمّات ومسؤوليّات، فقد يكون من الأفضل أن لا ينهزموا أمام المصاعب، وأن لا يتعقّدوا منها. كما قد يكون من الخير لهم أن يوكلوا إلى العاملين معهم بعض القضايا الّتي تثير المتاعب والمشاكل في بعض مراحل الطّريق، من أجل بناء شخصيّتهم الإسلامّية بالصّدمات القويّة الّتي توقظ في داخلهم حسّ المواجهة للأخطاء والانحرافات، وتدفعهم إلى الوقوف بقوّة أمام الأعاصير القادمة من بعيد.

المصدر: من كتاب "مفاهيم حركيّة من وحي القرآن".


[1] ـ [آل عمران: 140].

[2] ـ [آل عمران: 153].

[3]   المصدر نفسه

[4]   المصدر نفسه

[5] ـ [آل عمران: 154].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية