لقد كانت بداية هذا العيد من نبيّ الله إبراهيم (ع) الَّذي عاش مع الله هو وولده تجربةً من أقسى التَّجارب الَّتي عاشها إنسان. وهذا النَّبيّ العظيم هو جدّ الأنبياء، وهو الَّذي انطلقت الأديان الإبراهيميَّة من خلاله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[البقرة: 131- 132]. {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162- 163].
ولذلك، فإنَّ إبراهيم (ع) أكَّد معنى الإسلام العام الَّذي يشمل كلَّ الرّسالات، وأن يكون الإنسان مسلماً لله، مستسلماً له بعقله وقلبه وكلّ حياته، وهذا ما ينبغي لنا أن نسير عليه، وقد قال الله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}[الحجّ: 78]. فتسمية المسلمين جاءت من النَّبيّ إبراهيم (ع).
فكيف كانت القصَّة؟
قصَّةُ الذَّبح
بعد أن عاش إبراهيم التحدّي مع أبيه وقومه، وأرادوا أن يحرقوه {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ - طلب من الله أن يرزقه ولداً صالحاً. وبهذا نتعلَّم من إبراهيم (ع)، أنّنا عندما نطلب من الله أن يرزقنا الولد، أن نطلب أولاداً صالحين، لا أن نطلب ولداً كيفما كان - فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ – غلام يعيش الحلم وسعة الأفق والرّوح وسعة العقل - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ – عندما سار هذا الغلام مع أبيه، التفت الأب الى ابنه الَّذي طلبه من الله - قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ – وقد كان الأنبياء يوحَى إليهم في المنام، فالوحي يمكن أن يكون من خلال نزول جبرائيل، وقد يكون من خلال الإيحاء إلى النَّبيّ في المنام، فأوحى الله إلى إبراهيم في منامه بذبح ابنه الَّذي كان قرَّةَ عينه - فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ – أنا لا أحبّ أن أقهرك، بل أريد أن أرى رأيك. وكان إسماعيل، هذا الولد الطيّب الحليم المؤمن الَّذي تربى على يد أبيه، كان مسلماً لله كأبيه، فلم يفكّر في الأمر، ولم يعترض عليه - قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ – فما دام هذا أمرَ الله، فافعل ما يأمرك الله به - سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ – فلن أجزع، ولن أصرخ، وسوف أتقبَّل أمر الله بكلّ رحابة صدر وتقوى.
- فَلَمَّا أَسْلَمَا – أسلما أمرهما لله - وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ – صرعَهُ استعداداً للقيام بعمليَّة الذَّبح، كما يُفعل مع الشَّاة عندما يرادُ ذبحها - وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا – لقد انتهت مهمَّتك الآن، لأنَّك لم ترَ في المنام أنَّك ذبحته، بل رأيت أنَّك تقوم بمقدّمات الذَّبح، وهي أن تصرعه، وأن تجرّب أن تبدأ الذَّبح، ولكن من دون أن تصل إلى نتيجته.
وقد أراد الله بهذه التَّجربة، أن يجعل من إبراهيم وولده قدوةً للعالم كلّه، في التّسليم لأمر الله وطاعته، ليتعلَّم النَّاس منهما أن يسلموا كلّ أمورهم لله.
- إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ – فأيُّ بلاء أعظم من هذا البلاء، أن يكلَّف الإنسان بذبح ولده؟! - وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ – فقد الله أنزل كبشاً كان فداءً لإسماعيل.
ويقال إنَّ الهدي الَّذي يذبحه الحجَّاج في منى، إنَّما يمثّل ذكرى لهذا الفداء الَّذي فدى الله به إسماعيل - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ - لأنَّه أخلص لله سبحانه وتعالى - كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[الصَّافّات: 98- 111].
عيدُ التَّضحيةِ والخير
هذه هي بداية هذا العيد، وهذا ما يريد الله لنا أن نقتدي به؛ أن نضحّي بشهواتنا وأطماعنا وأحقادنا، وبكلّ شيء لا يرضاه الله سبحانه وتعالى فينا، حتَّى يرضى الله عنَّا، تماماً كما ضحَّى إبراهيم بولده، وكما ضحَّى إسماعيل بنفسه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وبهذا، يكون هذا العيد عيداً للتَّضحية، وعيداً للحقّ، وعيداً للخير، وعيداً للانفتاح على الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، والإسلام له في كلّ المجالات، وهذا ما ينبغي لنا أن نستفيده، لنكون الأمَّة الَّتي تتحرَّك في خطّ إبراهيم (ع)، في إسلام العقل والقلب والوجه واللّسان لله سبحانه وتعالى.
الخطبة الثَّانية
إنَّ هذا العيد هو الَّذي أراد الله فيه للحجَّاج وغيرهم أن يقدّموا الذَّبائح، فالأضحية كما هي واجبة في حجّ التمتّع، فإنّها مستحبَّة في كلّ مكان في العالم، أن يضحّي الإنسان قربةً إلى الله، وأن يطعم الفقراء والمساكين من أضحيته في يوم عيد الأضحى، وهو محطَّة لتقوية عنصر التَّقوى بالتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.
مجازرُ باسمِ الدّين
كيف تحوّل هذا العيد الآن؟ لقد تحوَّل لدى بعض الَّذين يستحلّون دماء المسلمين والمسالمين إلى فرصةٍ لذبح النَّاس، وارتكاب المجازر في الآمنين، من خلال العصبيَّات التَّكفيريَّة، والذّهنيَّات المتخلّفة، حتَّى أصبح أكثر من بلد إسلاميّ لا يأمن فيه الإنسان على نفسه – فنحن نرى أنَّه هاجر من العراق ما يقارب الثّلاثة ملايين عراقيّ، هرباً من هذا الوضع الأمني الَّذي يُقتَلُ فيه النّاسُ ويشرَّدون من بلدانهم، وتُفجَّر فيه الأسواق والمزارات والمساجد وما إلى ذلك - ممن يفترض أن يعيشوا الإخوَّة الإيمانيَّة مع سائر المسلمين، والرّوح الإسلاميَّة المنفتحة على الآخر، وأن يتحركوا بهدى من روحيَّة هذا العيد الَّذي انطلق ليكون عيد وحدة يلبّي فيه المؤمنون نداء ربّهم، ليعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرَّقوا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103].
ثلاثة أعياد للأضحى؟!
وإنّنا نسأل الله في هذا العيد، أن يلهم القائمين على الشّؤون الشَّرعيَّة، توحيد رؤيتهم الاجتهاديَّة، سواء من جهة الشّروط الشَّرعيَّة، أو لجهة الاعتماد على الحساب الفلكيّ الدَّقيق، من أجل توحيد بدايات الشّهور في كلّ العالم الإسلاميّ، ولا سيَّما أنَّ المسألة ليست مسألة اجتماعيَّة بحتة، وإنَّما هي تتَّصل بالجانب الشَّرعيّ لتكليف النّاس، وإلَّا، فليس من المعقول أن يكون عيد الأضحى ثلاثة أعياد، الأربعاء والخميس والجمعة، وليس من المعقول أنَّ هذا العيد الَّذي أراد الله أن يكون عيد وحدة للمسلمين، يقفون فيه جميعاً ليصلّوا بين يديه سبحانه وتعالى موحَّدين، ليس من الطّبيعيّ أن يصلّي جماعة منهم يوم الأربعاء، وجماعة يوم الخميس، وجماعة يوم الجمعة، فهذا أمر يمثّل فضيحة إسلاميَّة في هذا المجال.
العالمُ الإسلاميّ: الاهتزازُ والضّعف
ومن جانب آخر، فإنَّ العالم الإسلاميَّ الَّذي يبلغ عدد سكّانه ما يقارب المليار والنّصف مليار، لا يزال في موقع الضّعف والتمزّق أمام المستكبرين الَّذين يسيطرون على مقدَّراته السياسيَّة، من خلال سعي الحكومات المهيمنة على بلاد المسلمين، الخاضعة للاستكبار، لإبقاء الأوضاع الإسلاميَّة في دائرة الخضوع والسَّيطرة، بعيداً من مواقع القوَّة في حركتها من أجل تقرير مصيرها في قضاياها الحيويَّة.
أمَّا من النَّاحية الاقتصاديَّة، فإنَّ كلَّ الموارد الَّتي تملكها الأمَّة من ثروات طبيعيّة في داخل الأرض وخارجها، ومن مواقع استراتيجيَّة مهمّة، باتت تحت سيطرة القوى الاستكباريَّة، ولا سيّما الأمريكيّة.
أمَّا ثروات الأمَّة النَّقديَّة، فتختزنها مصارف الدّول المستكبرة من أجل استثماراتها الّتي قد تختزنها الصّهيونيَّة من جهة، والدّول الكبرى من جهة أخرى. إنَّ ذلك كلَّه يجعل العالم الإسلاميّ الَّذي تعاني شعوبه الفقر والحرمان، مضطراً إلى الاقتراض من المستكبرين بفوائد مرتفعة، وشروط مدمّرة، والتزامات ثقافيَّة واجتماعيَّة وتربويَّة وسياسيَّة، الأمر الَّذي يجعل هذه الشّعوب لا تستفيد من الدّول الَّتي تسمّي نفسها دولاً إسلاميَّة، بل إنَّها تمنح قوَّتها الاقتصاديَّة للمستكبرين.
وتتضخّم المشكلة الإسلاميّة في الاحتلال الَّذي يسيطر على شعوبها، ليستغلّ كلَّ أوضاعها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وينشر الفوضى في كلّ مواقعها، ويستخدم مقدَّراتها لتنفيذ مشاريعه الّتي تنتج الأزمات الكبرى في كلّ منطقة من مناطقها، ويستغلّ احتلالها ليكون جسراً يعبر عليه إلى مصالحه الاستراتيجيَّة، هذا إلى جانب الضَّحايا الَّتي تتساقط في كلّ يوم بالعشرات أو المئات، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
وهكذا تتطوَّر المسألة لتخلق الفتن والحروب والاهتزازات الأمنيَّة للسَّيطرة على منابع النّفط، أو المواقع الاستراتيجيَّة لهذا البلد أو ذاك، الأمر الَّذي يجعلها تسقط تحت تأثير الفوضى، ومقتل الضَّحايا الأبرياء من دون معنى.
ومن جانب آخر، فإنَّ الاستكبار والصّهيونيَّة المتحالفة معه، يعملان على استغلال التنوّعات المذهبيَّة والطَّائفيَّة والعرقيَّة في عالمنا الإسلاميّ والعربيّ، وذلك بهدف خلق الفتن الَّتي تربك الواقع كلَّه، ما قد يترك تأثيره على العلاقات الإسلاميَّة الإسلاميَّة، أو الدينيَّة أو القوميَّة، بما يؤدّي إلى دمار المنطقة كلّها، على أساس الفوضى المجنونة.
إنَّ العالم الإسلاميّ يملك من المقدَّرات ما يجعله قادراً على أن يشارك في تقرير مصير العالم كلّه، ولكنَّ الضّعف الذَّاتيّ الدَّاخليّ من جهة، والقوى القاهرة المهيمنة عليه بفعل حرَّاس الاستكبار وموظَّفيه من جهة أخرى، يمنعانه من ذلك.
إنَّنا نناشد المسلمين في العالم في هذا العيد، أن يأخذوا بأسباب القوَّة والعزَّة والكرامة والحريَّة، ليكون عيداً يرتفع فيه الواقع الإسلاميّ إلى المستوى الأعلى الَّذي يريد الله له أن يكون خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لأنَّه لا عيد مع الضّعف والخضوع والمهانة والسّقوط تحت تأثير قوَّة الآخرين من المستكبرين.
حروبُ أمريكا في المنطقة
إنَّ علينا أن نعرف أنَّ أمريكا الَّتي يتجاذب إدارتها فريقٌ ممن يُعدُّون من الحمائم أو من الصّقور، لا تزال تفكّر في أن تكون بعض المواقع في العالم العربيّ والإسلاميّ ساحةً من ساحات مغامراتها وحروبها، لأنَّ ثمة في هذه الإدارة الأمريكيَّة من هو إسرائيليّ أكثر من الإسرائيليّين، وعلى رأس هؤلاء، نائب بوش، ديك تشيني، الَّذي لا يزال يبعث إلى كيان العدوّ من يبلّغه أنَّ الحرب على إيران لا تزال واردة.
إنَّنا نعرف تماماً أنَّ الحرب الأمريكيَّة على العراق انطلقت بتشجيع إسرائيليّ للتخلّص من موقع يعتبره العدوّ استراتيجيّاً في مواجهته. وندرك في هذه الأيَّام بالذَّات، أنَّ إسرائيل هي الوحيدة الَّتي قد تستفيد من حربٍ أمريكيَّةٍ ضدّ إيران، وهي الَّتي أصيبت بالصَّدمة بعد تقرير الاستخبارات الأمريكيَّة الأخير، ولذلك، فهي تريد استخدام القوَّة الأمريكيَّة لحسابها وحساب مصالحها، وإن أدَّى ذلك إلى نتائج مدمّرة على أمريكا ومصالحها، وعلى المنطقة برمَّتها.
ولذلك، فإنَّنا نقول للأمريكيّين وللمؤسَّسات الأمريكيَّة، لقد حان الوقت لكي تتخلَّصوا من مغامرات المحافظين الجدد الَّتي لا تأخذ مصالح أمريكا في الحسبان، وحان الوقت للعالم كلّه، كي يعمل لاحتواء هذا الفريق الأرعن المعادي للإنسان والإنسانيَّة، والسَّاعي لتدمير العالم وتعذيبه تحت عنوان الحروب الحسنة، وهي الحروب الَّتي كانت وبالاً على الإنسانيَّة كلّها، وأسهمت في اتّساع رقعة الإرهاب، وفي زيادة أعداد الإرهابيّين.
لبنان: عودةُ التَّعطيل!
أمَّا لبنان، فإنَّنا نلمح فيه عودة للأدوار التَّعطيليَّة على حساب الأدوار السَّاعية للحلّ، لأنَّ الإدارة الأمريكيَّة لا تريد لأحد أن يسجّل عليها أنَّها خسرت رهاناتها في لبنان. ونحن نعتقد أنَّ أيَّ توافق حقيقيّ مبنيّ على قواعد أساسيَّة متينة، هو الَّذي يمكن أن يؤسّس لاستقلالٍ حقيقيّ، ويمنع من التدخّلات الخارجيَّة في لبنان.
إنَّنا في الوقت الَّذي نشعر بالأسى أمام هذا الهبوط في الأداء أو في الخطاب السياسيّ في لبنان، نعتقد أنَّ الفرص لا تزال قائمةً لبناء حلول واقعيَّة متوازنة، ولا نريد للخطاب السياسيّ المشحون والمتوتّر أن يقود إلى اهتزازاتٍ سياسيَّةٍ توصلنا إلى مشاكل أمنيّة، لأنَّه يكفي للنَّاس ما تكتوي به من نيران الغلاء والأزمة الاقتصاديَّة والسياسيَّة.
*خطبة عيد الأضحى لسماحته، بتاريخ: 20/12/2007م.
لقد كانت بداية هذا العيد من نبيّ الله إبراهيم (ع) الَّذي عاش مع الله هو وولده تجربةً من أقسى التَّجارب الَّتي عاشها إنسان. وهذا النَّبيّ العظيم هو جدّ الأنبياء، وهو الَّذي انطلقت الأديان الإبراهيميَّة من خلاله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[البقرة: 131- 132]. {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162- 163].
ولذلك، فإنَّ إبراهيم (ع) أكَّد معنى الإسلام العام الَّذي يشمل كلَّ الرّسالات، وأن يكون الإنسان مسلماً لله، مستسلماً له بعقله وقلبه وكلّ حياته، وهذا ما ينبغي لنا أن نسير عليه، وقد قال الله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}[الحجّ: 78]. فتسمية المسلمين جاءت من النَّبيّ إبراهيم (ع).
فكيف كانت القصَّة؟
قصَّةُ الذَّبح
بعد أن عاش إبراهيم التحدّي مع أبيه وقومه، وأرادوا أن يحرقوه {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ - طلب من الله أن يرزقه ولداً صالحاً. وبهذا نتعلَّم من إبراهيم (ع)، أنّنا عندما نطلب من الله أن يرزقنا الولد، أن نطلب أولاداً صالحين، لا أن نطلب ولداً كيفما كان - فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ – غلام يعيش الحلم وسعة الأفق والرّوح وسعة العقل - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ – عندما سار هذا الغلام مع أبيه، التفت الأب الى ابنه الَّذي طلبه من الله - قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ – وقد كان الأنبياء يوحَى إليهم في المنام، فالوحي يمكن أن يكون من خلال نزول جبرائيل، وقد يكون من خلال الإيحاء إلى النَّبيّ في المنام، فأوحى الله إلى إبراهيم في منامه بذبح ابنه الَّذي كان قرَّةَ عينه - فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ – أنا لا أحبّ أن أقهرك، بل أريد أن أرى رأيك. وكان إسماعيل، هذا الولد الطيّب الحليم المؤمن الَّذي تربى على يد أبيه، كان مسلماً لله كأبيه، فلم يفكّر في الأمر، ولم يعترض عليه - قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ – فما دام هذا أمرَ الله، فافعل ما يأمرك الله به - سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ – فلن أجزع، ولن أصرخ، وسوف أتقبَّل أمر الله بكلّ رحابة صدر وتقوى.
- فَلَمَّا أَسْلَمَا – أسلما أمرهما لله - وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ – صرعَهُ استعداداً للقيام بعمليَّة الذَّبح، كما يُفعل مع الشَّاة عندما يرادُ ذبحها - وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا – لقد انتهت مهمَّتك الآن، لأنَّك لم ترَ في المنام أنَّك ذبحته، بل رأيت أنَّك تقوم بمقدّمات الذَّبح، وهي أن تصرعه، وأن تجرّب أن تبدأ الذَّبح، ولكن من دون أن تصل إلى نتيجته.
وقد أراد الله بهذه التَّجربة، أن يجعل من إبراهيم وولده قدوةً للعالم كلّه، في التّسليم لأمر الله وطاعته، ليتعلَّم النَّاس منهما أن يسلموا كلّ أمورهم لله.
- إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ – فأيُّ بلاء أعظم من هذا البلاء، أن يكلَّف الإنسان بذبح ولده؟! - وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ – فقد الله أنزل كبشاً كان فداءً لإسماعيل.
ويقال إنَّ الهدي الَّذي يذبحه الحجَّاج في منى، إنَّما يمثّل ذكرى لهذا الفداء الَّذي فدى الله به إسماعيل - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ - لأنَّه أخلص لله سبحانه وتعالى - كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[الصَّافّات: 98- 111].
عيدُ التَّضحيةِ والخير
هذه هي بداية هذا العيد، وهذا ما يريد الله لنا أن نقتدي به؛ أن نضحّي بشهواتنا وأطماعنا وأحقادنا، وبكلّ شيء لا يرضاه الله سبحانه وتعالى فينا، حتَّى يرضى الله عنَّا، تماماً كما ضحَّى إبراهيم بولده، وكما ضحَّى إسماعيل بنفسه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وبهذا، يكون هذا العيد عيداً للتَّضحية، وعيداً للحقّ، وعيداً للخير، وعيداً للانفتاح على الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، والإسلام له في كلّ المجالات، وهذا ما ينبغي لنا أن نستفيده، لنكون الأمَّة الَّتي تتحرَّك في خطّ إبراهيم (ع)، في إسلام العقل والقلب والوجه واللّسان لله سبحانه وتعالى.
الخطبة الثَّانية
إنَّ هذا العيد هو الَّذي أراد الله فيه للحجَّاج وغيرهم أن يقدّموا الذَّبائح، فالأضحية كما هي واجبة في حجّ التمتّع، فإنّها مستحبَّة في كلّ مكان في العالم، أن يضحّي الإنسان قربةً إلى الله، وأن يطعم الفقراء والمساكين من أضحيته في يوم عيد الأضحى، وهو محطَّة لتقوية عنصر التَّقوى بالتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.
مجازرُ باسمِ الدّين
كيف تحوّل هذا العيد الآن؟ لقد تحوَّل لدى بعض الَّذين يستحلّون دماء المسلمين والمسالمين إلى فرصةٍ لذبح النَّاس، وارتكاب المجازر في الآمنين، من خلال العصبيَّات التَّكفيريَّة، والذّهنيَّات المتخلّفة، حتَّى أصبح أكثر من بلد إسلاميّ لا يأمن فيه الإنسان على نفسه – فنحن نرى أنَّه هاجر من العراق ما يقارب الثّلاثة ملايين عراقيّ، هرباً من هذا الوضع الأمني الَّذي يُقتَلُ فيه النّاسُ ويشرَّدون من بلدانهم، وتُفجَّر فيه الأسواق والمزارات والمساجد وما إلى ذلك - ممن يفترض أن يعيشوا الإخوَّة الإيمانيَّة مع سائر المسلمين، والرّوح الإسلاميَّة المنفتحة على الآخر، وأن يتحركوا بهدى من روحيَّة هذا العيد الَّذي انطلق ليكون عيد وحدة يلبّي فيه المؤمنون نداء ربّهم، ليعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرَّقوا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103].
ثلاثة أعياد للأضحى؟!
وإنّنا نسأل الله في هذا العيد، أن يلهم القائمين على الشّؤون الشَّرعيَّة، توحيد رؤيتهم الاجتهاديَّة، سواء من جهة الشّروط الشَّرعيَّة، أو لجهة الاعتماد على الحساب الفلكيّ الدَّقيق، من أجل توحيد بدايات الشّهور في كلّ العالم الإسلاميّ، ولا سيَّما أنَّ المسألة ليست مسألة اجتماعيَّة بحتة، وإنَّما هي تتَّصل بالجانب الشَّرعيّ لتكليف النّاس، وإلَّا، فليس من المعقول أن يكون عيد الأضحى ثلاثة أعياد، الأربعاء والخميس والجمعة، وليس من المعقول أنَّ هذا العيد الَّذي أراد الله أن يكون عيد وحدة للمسلمين، يقفون فيه جميعاً ليصلّوا بين يديه سبحانه وتعالى موحَّدين، ليس من الطّبيعيّ أن يصلّي جماعة منهم يوم الأربعاء، وجماعة يوم الخميس، وجماعة يوم الجمعة، فهذا أمر يمثّل فضيحة إسلاميَّة في هذا المجال.
العالمُ الإسلاميّ: الاهتزازُ والضّعف
ومن جانب آخر، فإنَّ العالم الإسلاميَّ الَّذي يبلغ عدد سكّانه ما يقارب المليار والنّصف مليار، لا يزال في موقع الضّعف والتمزّق أمام المستكبرين الَّذين يسيطرون على مقدَّراته السياسيَّة، من خلال سعي الحكومات المهيمنة على بلاد المسلمين، الخاضعة للاستكبار، لإبقاء الأوضاع الإسلاميَّة في دائرة الخضوع والسَّيطرة، بعيداً من مواقع القوَّة في حركتها من أجل تقرير مصيرها في قضاياها الحيويَّة.
أمَّا من النَّاحية الاقتصاديَّة، فإنَّ كلَّ الموارد الَّتي تملكها الأمَّة من ثروات طبيعيّة في داخل الأرض وخارجها، ومن مواقع استراتيجيَّة مهمّة، باتت تحت سيطرة القوى الاستكباريَّة، ولا سيّما الأمريكيّة.
أمَّا ثروات الأمَّة النَّقديَّة، فتختزنها مصارف الدّول المستكبرة من أجل استثماراتها الّتي قد تختزنها الصّهيونيَّة من جهة، والدّول الكبرى من جهة أخرى. إنَّ ذلك كلَّه يجعل العالم الإسلاميّ الَّذي تعاني شعوبه الفقر والحرمان، مضطراً إلى الاقتراض من المستكبرين بفوائد مرتفعة، وشروط مدمّرة، والتزامات ثقافيَّة واجتماعيَّة وتربويَّة وسياسيَّة، الأمر الَّذي يجعل هذه الشّعوب لا تستفيد من الدّول الَّتي تسمّي نفسها دولاً إسلاميَّة، بل إنَّها تمنح قوَّتها الاقتصاديَّة للمستكبرين.
وتتضخّم المشكلة الإسلاميّة في الاحتلال الَّذي يسيطر على شعوبها، ليستغلّ كلَّ أوضاعها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وينشر الفوضى في كلّ مواقعها، ويستخدم مقدَّراتها لتنفيذ مشاريعه الّتي تنتج الأزمات الكبرى في كلّ منطقة من مناطقها، ويستغلّ احتلالها ليكون جسراً يعبر عليه إلى مصالحه الاستراتيجيَّة، هذا إلى جانب الضَّحايا الَّتي تتساقط في كلّ يوم بالعشرات أو المئات، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
وهكذا تتطوَّر المسألة لتخلق الفتن والحروب والاهتزازات الأمنيَّة للسَّيطرة على منابع النّفط، أو المواقع الاستراتيجيَّة لهذا البلد أو ذاك، الأمر الَّذي يجعلها تسقط تحت تأثير الفوضى، ومقتل الضَّحايا الأبرياء من دون معنى.
ومن جانب آخر، فإنَّ الاستكبار والصّهيونيَّة المتحالفة معه، يعملان على استغلال التنوّعات المذهبيَّة والطَّائفيَّة والعرقيَّة في عالمنا الإسلاميّ والعربيّ، وذلك بهدف خلق الفتن الَّتي تربك الواقع كلَّه، ما قد يترك تأثيره على العلاقات الإسلاميَّة الإسلاميَّة، أو الدينيَّة أو القوميَّة، بما يؤدّي إلى دمار المنطقة كلّها، على أساس الفوضى المجنونة.
إنَّ العالم الإسلاميّ يملك من المقدَّرات ما يجعله قادراً على أن يشارك في تقرير مصير العالم كلّه، ولكنَّ الضّعف الذَّاتيّ الدَّاخليّ من جهة، والقوى القاهرة المهيمنة عليه بفعل حرَّاس الاستكبار وموظَّفيه من جهة أخرى، يمنعانه من ذلك.
إنَّنا نناشد المسلمين في العالم في هذا العيد، أن يأخذوا بأسباب القوَّة والعزَّة والكرامة والحريَّة، ليكون عيداً يرتفع فيه الواقع الإسلاميّ إلى المستوى الأعلى الَّذي يريد الله له أن يكون خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لأنَّه لا عيد مع الضّعف والخضوع والمهانة والسّقوط تحت تأثير قوَّة الآخرين من المستكبرين.
حروبُ أمريكا في المنطقة
إنَّ علينا أن نعرف أنَّ أمريكا الَّتي يتجاذب إدارتها فريقٌ ممن يُعدُّون من الحمائم أو من الصّقور، لا تزال تفكّر في أن تكون بعض المواقع في العالم العربيّ والإسلاميّ ساحةً من ساحات مغامراتها وحروبها، لأنَّ ثمة في هذه الإدارة الأمريكيَّة من هو إسرائيليّ أكثر من الإسرائيليّين، وعلى رأس هؤلاء، نائب بوش، ديك تشيني، الَّذي لا يزال يبعث إلى كيان العدوّ من يبلّغه أنَّ الحرب على إيران لا تزال واردة.
إنَّنا نعرف تماماً أنَّ الحرب الأمريكيَّة على العراق انطلقت بتشجيع إسرائيليّ للتخلّص من موقع يعتبره العدوّ استراتيجيّاً في مواجهته. وندرك في هذه الأيَّام بالذَّات، أنَّ إسرائيل هي الوحيدة الَّتي قد تستفيد من حربٍ أمريكيَّةٍ ضدّ إيران، وهي الَّتي أصيبت بالصَّدمة بعد تقرير الاستخبارات الأمريكيَّة الأخير، ولذلك، فهي تريد استخدام القوَّة الأمريكيَّة لحسابها وحساب مصالحها، وإن أدَّى ذلك إلى نتائج مدمّرة على أمريكا ومصالحها، وعلى المنطقة برمَّتها.
ولذلك، فإنَّنا نقول للأمريكيّين وللمؤسَّسات الأمريكيَّة، لقد حان الوقت لكي تتخلَّصوا من مغامرات المحافظين الجدد الَّتي لا تأخذ مصالح أمريكا في الحسبان، وحان الوقت للعالم كلّه، كي يعمل لاحتواء هذا الفريق الأرعن المعادي للإنسان والإنسانيَّة، والسَّاعي لتدمير العالم وتعذيبه تحت عنوان الحروب الحسنة، وهي الحروب الَّتي كانت وبالاً على الإنسانيَّة كلّها، وأسهمت في اتّساع رقعة الإرهاب، وفي زيادة أعداد الإرهابيّين.
لبنان: عودةُ التَّعطيل!
أمَّا لبنان، فإنَّنا نلمح فيه عودة للأدوار التَّعطيليَّة على حساب الأدوار السَّاعية للحلّ، لأنَّ الإدارة الأمريكيَّة لا تريد لأحد أن يسجّل عليها أنَّها خسرت رهاناتها في لبنان. ونحن نعتقد أنَّ أيَّ توافق حقيقيّ مبنيّ على قواعد أساسيَّة متينة، هو الَّذي يمكن أن يؤسّس لاستقلالٍ حقيقيّ، ويمنع من التدخّلات الخارجيَّة في لبنان.
إنَّنا في الوقت الَّذي نشعر بالأسى أمام هذا الهبوط في الأداء أو في الخطاب السياسيّ في لبنان، نعتقد أنَّ الفرص لا تزال قائمةً لبناء حلول واقعيَّة متوازنة، ولا نريد للخطاب السياسيّ المشحون والمتوتّر أن يقود إلى اهتزازاتٍ سياسيَّةٍ توصلنا إلى مشاكل أمنيّة، لأنَّه يكفي للنَّاس ما تكتوي به من نيران الغلاء والأزمة الاقتصاديَّة والسياسيَّة.
*خطبة عيد الأضحى لسماحته، بتاريخ: 20/12/2007م.