محاضرات
27/08/2025

مسؤوليَّةُ العالِم بينَ السّلوكِ الأخلاقيّ والتَّحصيلِ العلميّ

مسؤوليَّةُ العالِم بينَ السّلوكِ الأخلاقيّ والتَّحصيلِ العلميّ

هناك كلمة في الجانب الأخلاقيّ، ممّا نريد أن ننبّه عليه، وهي في نقطتين:
أمرٌ أقربُ إلى الكفر!
النّقطة الأولى، هي الحديث الَّذي تكرَّر عن النَّبيّ (ص) وعن أهل البيت (ع): "أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ، أَنْ يُؤَاخِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ، فَيُحْصِي عَلَيْهِ زَلَّاتِهِ لِيُعَيّرَهُ بِها يَوْماً مَا"1.
فعندما يصبح هناك صداقة بين اثنين، فمن الطَّبيعيّ أن ينفتح الصَّديق على صديقه، فيتعرَّف أسراره، ويطّلع على عيوبه، ويُحصيها عليه، حفظًا أو كتابةً، ولربّما يكون قاصدًا لهذا الأمر، بحيث يجعل من الصَّداقة وسيلةً للتعرّف إلى أسرار صديقه، ليُشهّر به عند الخلاف أو لأيّ سبب آخر، باعتبار أنّه يعرف كلّ عيوبه وأسراره ونقائصه. ومع الأسف، فإنَّ هذه المسألة صارت موجودة حتّى في أجواء طلَّاب العلم.
فهذا التَّعبير: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ"، باعتبار أنَّ الإيمان يجعل الإنسان يستشعر الأخوَّة الإيمانيَّة الَّتي تجعله يحفظ أخاه في غيبته، ولا يُشهّر به أو يُعيّره. وفي الحديث عندنا، أنَّ "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يرْتَكِبَهُ"2، لأنَّ على كلّ إنسان أن يعرف أنَّه كما للآخرين عيوب، فله عيوبه أيضاً، فعليه أن لا يُحدّق بعيوب النَّاس، إذا أراد لهم أن لا يحدّقوا بعيوبه.
هذه نقطة ينبغي على الإنسان أن يكون ملتفتًا إليها في سلوكه، حتَّى لا يصل إلى هذه المرتبة.
للمؤمنِ وجهٌ واحد
النّقطة الثَّانية هي الحديث الَّذي يقول: "بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ وذَا لِسَانَيْنِ؛ يُطْرِي أَخَاه شَاهِداً، ويَأْكُلُه غَائِباً"3، أي أنَّ على الإنسان أن يكون بوجه واحد.
وهنا حالتان، فهناك حالة المعاشرة، ولها آداب معيَّنة، وهناك مسألة اتّخاذ المواقف من أخيك، أن تتَّخذ موقفاً إيجابيّاً تجاهه، بحيث تمدحه وتشيد به وتؤيّده، فإذا غاب عنك، اغتبته وأكلت لحمه، وشهَّرت به، واتّخذت منه موقفاً آخر.. وهذا لا ينسجم مع الإيمان، لأنَّ المؤمن لا بدَّ أن يكون بوجه واحد، وأن يكون في خطّ واحد. فإذا كان الشَّخص ممن يجوز تأييده، فعلى المؤمن أن يؤيّده في جميع الحالات، وإذا كان ممن لا يجوز تأييده، فعليه أن لا يؤيّده، وأن يتَّبع الأخلاق الإسلاميَّة في قضيَّة المواجهة، فيمكنك أن لا تؤيّد شخصاً، لكن لا يجوز لك أن تغتابه، أو أن تسبَّه، أو تُشهّر به، وفق الأخلاق الإسلاميَّة العامَّة!
وكما قال الإمام الصَّادق (ع) لبعض أصحابه: "إِنَّ الْحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَحْسَنُ لِمَكَانِكَ مِنَّا، وَإِنَّ الْقَبِيحَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ وَإِنَّهُ مِنْكَ أَقْبَح"4. والنّسبة إلى أهل البيت (ع) ليست نسبة شخصيَّة، بل هي نسبة إلى خطّ الولاية، وخصوصًا بالنّسبة إلى الإنسان الَّذي يضع نفسه في موقع المرشد للنَّاس والواعظ لهم، فالحسن منه أحسن، والقبيح منه أقبح، لأنَّ موقعه في النَّاس هو موقع القدوة وموقع الاتّباع.
مسؤوليَّة العمامة وتأثيرها
ولعلَّ من المشاكل الَّتي وقعنا فيها، أنَّ السَّلبيَّات الَّتي تظهر في بعض علماء الدّين أو طلَّاب العلم، جعلت الكثيرين من النَّاس يتعقَّدون من الدّين نفسه، بحيث إنّهم يقولون لو كان هذا الدّين حقّاً لأخذ به هؤلاء. وقد شهدنا مثل هذه المظاهر في لبنان وإيران؛ ففي إيران، نتيجة بعض السّلبيَّات الَّتي أخذ بها بعض علماء الدّين أو بعض طلّاب العلم، وصلت الأمور إلى حدّ الإهانة، بحيث يمكن لمعمَّم أن لا تتوقّف له سيّارة أجرة مثلاً، وقد تكون بعض المسائل حقيقة وقد لا تكون حقيقة، ولكن النَّتيجة هي هذه، فعندما يتجاوز عالم الدّين أو طالب العلم الأمور الأخلاقيَّة والشَّرعيَّة، عندها سنجد النَّاس يكفرون بالرَّمز وبالدّين، وقد يؤخذ البريء بذنب المجرم، فيصبح هناك تعميم، فيقال: كلّ المعمَّمين هكذا، كلّ الطَّلبة هكذا، كلّ العلماء هكذا...
وهناك نقطة يجب أن نعرفها، وهي أنَّ لبنان بلد الطَّوائف، فيه سنَّة وشيعة، وفيه مسيحيّون بطوائفهم، وفيه دروز، وفيه ملحدون. لذلك، تختلف الصّورة في لبنان عن الصّورة في أيّ بلد آخر، فإيران، مثلاً، بلد مسلم، والمسيحيّون فيها أو غير الشّيعة لا يمثّلون شيئًا نسبة إلى المسلمين الشّيعة، وهكذا في البلدان الأخرى. ففي لبنان أيضًا، صار هذا الأمر ينعكس على الصّورة الإسلاميَّة لدى غير المسلمين، وعلى صورة الشّيعة لدى غير الشّيعة.
صحيح أنَّنا لسنا معصومين، وكلّنا نخطئ، لكن عندما نضع هذه العمامة، سواء كنَّا نضعها فوق رؤوسنا أو داخل رؤوسنا، باعتبار أنَّ طالب العلم يكون معمّماً في الدَّاخل وإن لم يضع العمامة على رأسه بعد، فعندما تكون المسألة هكذا، فعلينا أن نتحمَّل مسؤوليَّة العمامة ومسؤوليَّة الموقع.
ولذلك، ربما كانت بعض الأخلاق مستحبَّة، ولكنَّها تصبح بالعنوان الثَّانويّ واجبة.
لا قيمةَ لعمامةٍ بلا علم
وفي ختام المسألة، وقبل هذه العطلة القسريَّة5، ما أحبُّه لكم، وأشعر بمسؤوليَّته تجاهكم أيضًا، أن تكونوا العلماء، أن لا يكون الدَّرس مجرَّد شيء تقليديّ عندكم، بل لا بدَّ لكلّ درس تدرسونه أن يضيف شيئًا إلى عقولكم، وشيئًا إلى علمكم. فلا تعتبروا الدَّرس خارج نطاق أعمالكم، فهو العمل. لذلك، لا يقل أحدكم إنَّه لا وقت عنده ليقرأ، أو ليحفظ، أو ليكتب الدَّرس مثلًا، أو ليتباحث، لأنَّ الإنسان عندما يصبح في هذا الموقع، فينبغي أن يكون عالمـًا، وأوَّل ما عليه، أن يكون عالـمًا بالفقه والأصول، وأن يكون مثقَّفاً بالثَّقافات الأخرى، بأن يكون إنسانًا معاصرًا في ثقافته، وإن كان الأساس يبقى تخصّصه في الفقه والأصول.
وكما أردّد لنفسي دائماً، أقول لكم إنَّ علينا أن نبقى في حالة طوارئ علميَّة، أن نقرأ دائماً، وأن نذاكر دائماً، وأن نسأل دائماً، حتَّى نجعل من أنفسنا حاجة للعصر، حاجة للمؤمنين الَّذين يريدون أن يعرفوا تكاليفهم الشَّرعيَّة، حاجة لتلامذتنا الَّذين ندرّسهم، وحاجة للنَّاس المعاصرين الَّذين يريدون أن يفهموا الإسلام ويعرفوه.
فحرام حرام حرام، أن يضع الإنسان عمامة على رأسه ولا يكون عنده علم، فهو بذلك يكون مجرماً وخائناً للإسلام بهذا المعنى، لأنَّه سوف يعطي صورة متخلّفة وسيّئة وصورة الجهل عن الإسلام. فالعمامة ليست دكَّانًا، ولا وسيلة من وسائل التَّعيّش، بل هي رسالة، ولا بدَّ للرّسالة أن نأخذ بأسبابها.
هناك جيل الآن، مع الأسف، صار الجوّ العامّ عنده هو جوّ عدم التَّحصيل وعدم الدّراسة وعدم الثَّقافة، والانشغال بالعمل الحزبيّ، وأنا لست ضدّ العمل الحزبيّ، لكنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}6، بينما نحن لم يعد هناك فرق بيننا وبين الآخرين في الجهل...
فعلى الإنسان أن يجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى، وإذا كان بإمكانه أن يمثّل على النَّاس، وأن يستعرض أمامهم عضلاته ويقول أنا عالم، وأنا أعلم من فلان، وأنا أكبر من فلان، لكنَّه لا يستطيع أن يمثّل على نفسه.
وكما يقول الإمام عليّ (ع): "مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ؛ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا، أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ"7.
نسأل الله أن يوفّقنا للعلم وللعمل به، ولطاعته، وللسَّير على ما يحبّ ويرضى، وأسألكم الدّعاء.
* كلمة لسماحته لطلّاب العلوم الدينية – الدراسات العليا (البحث الخارج)، بتاريخ: 07/02/2002 م.
 
***
1- الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 355.
2- الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 356. 
3- الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 343.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج47، ص 350.
5- عطلة قسريَّة للدرس بسبب الذهاب لأداء فريضة الحج.
6- التّوبة: 122.
7- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج4، ص 16.

 
 
هناك كلمة في الجانب الأخلاقيّ، ممّا نريد أن ننبّه عليه، وهي في نقطتين:
أمرٌ أقربُ إلى الكفر!
النّقطة الأولى، هي الحديث الَّذي تكرَّر عن النَّبيّ (ص) وعن أهل البيت (ع): "أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ، أَنْ يُؤَاخِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ، فَيُحْصِي عَلَيْهِ زَلَّاتِهِ لِيُعَيّرَهُ بِها يَوْماً مَا"1.
فعندما يصبح هناك صداقة بين اثنين، فمن الطَّبيعيّ أن ينفتح الصَّديق على صديقه، فيتعرَّف أسراره، ويطّلع على عيوبه، ويُحصيها عليه، حفظًا أو كتابةً، ولربّما يكون قاصدًا لهذا الأمر، بحيث يجعل من الصَّداقة وسيلةً للتعرّف إلى أسرار صديقه، ليُشهّر به عند الخلاف أو لأيّ سبب آخر، باعتبار أنّه يعرف كلّ عيوبه وأسراره ونقائصه. ومع الأسف، فإنَّ هذه المسألة صارت موجودة حتّى في أجواء طلَّاب العلم.
فهذا التَّعبير: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ"، باعتبار أنَّ الإيمان يجعل الإنسان يستشعر الأخوَّة الإيمانيَّة الَّتي تجعله يحفظ أخاه في غيبته، ولا يُشهّر به أو يُعيّره. وفي الحديث عندنا، أنَّ "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يرْتَكِبَهُ"2، لأنَّ على كلّ إنسان أن يعرف أنَّه كما للآخرين عيوب، فله عيوبه أيضاً، فعليه أن لا يُحدّق بعيوب النَّاس، إذا أراد لهم أن لا يحدّقوا بعيوبه.
هذه نقطة ينبغي على الإنسان أن يكون ملتفتًا إليها في سلوكه، حتَّى لا يصل إلى هذه المرتبة.
للمؤمنِ وجهٌ واحد
النّقطة الثَّانية هي الحديث الَّذي يقول: "بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ وذَا لِسَانَيْنِ؛ يُطْرِي أَخَاه شَاهِداً، ويَأْكُلُه غَائِباً"3، أي أنَّ على الإنسان أن يكون بوجه واحد.
وهنا حالتان، فهناك حالة المعاشرة، ولها آداب معيَّنة، وهناك مسألة اتّخاذ المواقف من أخيك، أن تتَّخذ موقفاً إيجابيّاً تجاهه، بحيث تمدحه وتشيد به وتؤيّده، فإذا غاب عنك، اغتبته وأكلت لحمه، وشهَّرت به، واتّخذت منه موقفاً آخر.. وهذا لا ينسجم مع الإيمان، لأنَّ المؤمن لا بدَّ أن يكون بوجه واحد، وأن يكون في خطّ واحد. فإذا كان الشَّخص ممن يجوز تأييده، فعلى المؤمن أن يؤيّده في جميع الحالات، وإذا كان ممن لا يجوز تأييده، فعليه أن لا يؤيّده، وأن يتَّبع الأخلاق الإسلاميَّة في قضيَّة المواجهة، فيمكنك أن لا تؤيّد شخصاً، لكن لا يجوز لك أن تغتابه، أو أن تسبَّه، أو تُشهّر به، وفق الأخلاق الإسلاميَّة العامَّة!
وكما قال الإمام الصَّادق (ع) لبعض أصحابه: "إِنَّ الْحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَحْسَنُ لِمَكَانِكَ مِنَّا، وَإِنَّ الْقَبِيحَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ وَإِنَّهُ مِنْكَ أَقْبَح"4. والنّسبة إلى أهل البيت (ع) ليست نسبة شخصيَّة، بل هي نسبة إلى خطّ الولاية، وخصوصًا بالنّسبة إلى الإنسان الَّذي يضع نفسه في موقع المرشد للنَّاس والواعظ لهم، فالحسن منه أحسن، والقبيح منه أقبح، لأنَّ موقعه في النَّاس هو موقع القدوة وموقع الاتّباع.
مسؤوليَّة العمامة وتأثيرها
ولعلَّ من المشاكل الَّتي وقعنا فيها، أنَّ السَّلبيَّات الَّتي تظهر في بعض علماء الدّين أو طلَّاب العلم، جعلت الكثيرين من النَّاس يتعقَّدون من الدّين نفسه، بحيث إنّهم يقولون لو كان هذا الدّين حقّاً لأخذ به هؤلاء. وقد شهدنا مثل هذه المظاهر في لبنان وإيران؛ ففي إيران، نتيجة بعض السّلبيَّات الَّتي أخذ بها بعض علماء الدّين أو بعض طلّاب العلم، وصلت الأمور إلى حدّ الإهانة، بحيث يمكن لمعمَّم أن لا تتوقّف له سيّارة أجرة مثلاً، وقد تكون بعض المسائل حقيقة وقد لا تكون حقيقة، ولكن النَّتيجة هي هذه، فعندما يتجاوز عالم الدّين أو طالب العلم الأمور الأخلاقيَّة والشَّرعيَّة، عندها سنجد النَّاس يكفرون بالرَّمز وبالدّين، وقد يؤخذ البريء بذنب المجرم، فيصبح هناك تعميم، فيقال: كلّ المعمَّمين هكذا، كلّ الطَّلبة هكذا، كلّ العلماء هكذا...
وهناك نقطة يجب أن نعرفها، وهي أنَّ لبنان بلد الطَّوائف، فيه سنَّة وشيعة، وفيه مسيحيّون بطوائفهم، وفيه دروز، وفيه ملحدون. لذلك، تختلف الصّورة في لبنان عن الصّورة في أيّ بلد آخر، فإيران، مثلاً، بلد مسلم، والمسيحيّون فيها أو غير الشّيعة لا يمثّلون شيئًا نسبة إلى المسلمين الشّيعة، وهكذا في البلدان الأخرى. ففي لبنان أيضًا، صار هذا الأمر ينعكس على الصّورة الإسلاميَّة لدى غير المسلمين، وعلى صورة الشّيعة لدى غير الشّيعة.
صحيح أنَّنا لسنا معصومين، وكلّنا نخطئ، لكن عندما نضع هذه العمامة، سواء كنَّا نضعها فوق رؤوسنا أو داخل رؤوسنا، باعتبار أنَّ طالب العلم يكون معمّماً في الدَّاخل وإن لم يضع العمامة على رأسه بعد، فعندما تكون المسألة هكذا، فعلينا أن نتحمَّل مسؤوليَّة العمامة ومسؤوليَّة الموقع.
ولذلك، ربما كانت بعض الأخلاق مستحبَّة، ولكنَّها تصبح بالعنوان الثَّانويّ واجبة.
لا قيمةَ لعمامةٍ بلا علم
وفي ختام المسألة، وقبل هذه العطلة القسريَّة5، ما أحبُّه لكم، وأشعر بمسؤوليَّته تجاهكم أيضًا، أن تكونوا العلماء، أن لا يكون الدَّرس مجرَّد شيء تقليديّ عندكم، بل لا بدَّ لكلّ درس تدرسونه أن يضيف شيئًا إلى عقولكم، وشيئًا إلى علمكم. فلا تعتبروا الدَّرس خارج نطاق أعمالكم، فهو العمل. لذلك، لا يقل أحدكم إنَّه لا وقت عنده ليقرأ، أو ليحفظ، أو ليكتب الدَّرس مثلًا، أو ليتباحث، لأنَّ الإنسان عندما يصبح في هذا الموقع، فينبغي أن يكون عالمـًا، وأوَّل ما عليه، أن يكون عالـمًا بالفقه والأصول، وأن يكون مثقَّفاً بالثَّقافات الأخرى، بأن يكون إنسانًا معاصرًا في ثقافته، وإن كان الأساس يبقى تخصّصه في الفقه والأصول.
وكما أردّد لنفسي دائماً، أقول لكم إنَّ علينا أن نبقى في حالة طوارئ علميَّة، أن نقرأ دائماً، وأن نذاكر دائماً، وأن نسأل دائماً، حتَّى نجعل من أنفسنا حاجة للعصر، حاجة للمؤمنين الَّذين يريدون أن يعرفوا تكاليفهم الشَّرعيَّة، حاجة لتلامذتنا الَّذين ندرّسهم، وحاجة للنَّاس المعاصرين الَّذين يريدون أن يفهموا الإسلام ويعرفوه.
فحرام حرام حرام، أن يضع الإنسان عمامة على رأسه ولا يكون عنده علم، فهو بذلك يكون مجرماً وخائناً للإسلام بهذا المعنى، لأنَّه سوف يعطي صورة متخلّفة وسيّئة وصورة الجهل عن الإسلام. فالعمامة ليست دكَّانًا، ولا وسيلة من وسائل التَّعيّش، بل هي رسالة، ولا بدَّ للرّسالة أن نأخذ بأسبابها.
هناك جيل الآن، مع الأسف، صار الجوّ العامّ عنده هو جوّ عدم التَّحصيل وعدم الدّراسة وعدم الثَّقافة، والانشغال بالعمل الحزبيّ، وأنا لست ضدّ العمل الحزبيّ، لكنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}6، بينما نحن لم يعد هناك فرق بيننا وبين الآخرين في الجهل...
فعلى الإنسان أن يجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى، وإذا كان بإمكانه أن يمثّل على النَّاس، وأن يستعرض أمامهم عضلاته ويقول أنا عالم، وأنا أعلم من فلان، وأنا أكبر من فلان، لكنَّه لا يستطيع أن يمثّل على نفسه.
وكما يقول الإمام عليّ (ع): "مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ؛ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا، أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ"7.
نسأل الله أن يوفّقنا للعلم وللعمل به، ولطاعته، وللسَّير على ما يحبّ ويرضى، وأسألكم الدّعاء.
* كلمة لسماحته لطلّاب العلوم الدينية – الدراسات العليا (البحث الخارج)، بتاريخ: 07/02/2002 م.
 
***
1- الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 355.
2- الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 356. 
3- الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 343.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج47، ص 350.
5- عطلة قسريَّة للدرس بسبب الذهاب لأداء فريضة الحج.
6- التّوبة: 122.
7- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج4، ص 16.

 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية