محاضرات
12/08/2025

نداءُ الرَّسولِ (ص) في ذكرى مولدِهِ: حفظُ أمانةِ الرّسالةِ أمامَ التَّحدّيات

نداءُ الرَّسولِ (ص) في ذكرى مولدِهِ: حفظُ أمانةِ الرّسالةِ أمامَ التَّحدّيات

أن نتذكَّر رسول الله (ص) في الأذان عندما يُرفع، وفي الصَّلاة حين نتشهَّد، وفي كلّ مناسبة ننفتح فيها عليه وعلى اسمه.. أن نتذكَّره، فتلك مسؤوليَّة نحملها، وكيف لا، وهو من هو في حجمه، وعلوّ درجته، في قربه من ربّه، وفي انفتاحه على الإنسان كلّه والحياة كلّها، شخصٌ حمل في عقله كلَّ عقل الإنسان، وفي قلبه كلَّ العاطفة الَّتي تتفايض في قلوب النَّاس جميعًا، وفي حركته كلّ حركة العدل والحريَّة، لأنَّ قضيَّته كانت قضيَّة الرّسالات كلّها الَّتي حدَّثنا الله عنها بأنَّ الأساس فيها هو العدل، العدل الَّذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون طابع الحياة، فلا يكون هناك ظلم، سواء كان ظلم الإنسان للإنسان، أو ظلم الإنسان للحيوان، أو ظلم الإنسان للبيئة، أو ظلم الإنسان للحياة.
رسولُ العدلِ والحريَّة
إنَّ الله يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]. فكلُّ الكتب المنزلة جاءت من أجل أن تصنع في الإنسان عقل العدل، وقلب العدل، وحركة العدل؛ أن لا يفكّر الإنسان عندما يخطّط لأيّ مشروع في ظلم أحد، وأن لا يظلم النَّاسَ في مشاعره ونبضات قلبه، وأن تكون كلّ حركته في خطّ العدل.
لذلك، كان الرّسول (ص) رسولَ العدل، وكانت رسالته تخطيطًا دقيقًا لكلّ معانيه وتفاصيله؛ عدل الإنسان مع ربّه، وعدله مع نفسه، وعدله مع النَّاس، بدءاً من الدَّائرة الصَّغيرة، وهي دائرة العائلة، إلى الدَّوائر الأوسع الَّتي تمتدُّ حتَّى تشمل الإنسانيّة كلّها.
وهكذا كان رسول الحريَّة، لأنَّ الله أراد للإنسان أن يكون عبدًا له سبحانه، وأن يكون حرًّا أمام العالم كلّه، فليس لإنسان أيَّة سلطة على إنسان آخر إلَّا بالحقّ، فنحن جميعاً عباد الله، ولكنَّنا عندما نواجه حرَّيتنا، فنحن أحرار أمام النَّاس كلّهم، لا سلطة لأحد على أحد إلَّا بما سلَّطه الله عليه في حركة الحقّ. وقد قال عليّ (ع)، وهو تلميذ رسول الله الَّذي ربَّاه منذ طفولته الأولى، وكان يحتضنه ويعلّمه ويربّيه، وكان عليّ (ع) يقول: "وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ"(1)، قال وهو يخاطب في الإنسان إنسانيَّته وحرّيَّته: "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرًّا"(2). ليست لك الحريَّة في أن تسقط حرّيّتك، لأنَّ حرّيّتك جزء من إنسانيَّتك، وجزء من هبة ربّك لك. عندما يخلقك الله حرًّا، فليس لك أن تستعبد نفسك لأحد، مهما كانت درجته، ومهما كانت قيمته في المجتمع.
وهكذا جاء رسول الله (ص) من أجل أن يكون رسول الحريَّة الإنسانيَّة، ليقول للنَّاس: كونوا عبادًا لله ولا تكونوا عبادًا لغيره. إنَّ النَّاس عندما يعيشون بعض نواحي العظمة، فإنَّ عليكم أن تذكروهم بما اتَّصفوا به، لا أن تعيشوا العبوديَّة لهم. إنَّ الله كما ألغى صنميَّة الحجر، ألغى صنميَّة البشر، فليس لنا أن نسجد لبشر، أو أن نخضع لبشر، أو أن نسحق كلَّ نفوسنا لبشر، لأنَّنا عباد الله، ولا بدَّ أن نخلص في عبوديَّتنا له، بأن لا نشرك به أحدًا في أيّ معنى من معاني العبادة. ولذلك، فإنَّ الجوَّ الإيمانيَّ هو الجوّ الَّذي لا يمكن أن تنمو فيه عبادة الشَّخصيّة.
أن تقدّر شخصًا، فذلك ضروريّ، حتّى لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة، ولكن لا ترفعه عن مستوى بشريَّته.
من هو أفضل النَّاس وسيّد ولد آدم في عقيدتنا؟ هو رسول الله (ص)، ومع ذلك، قال الله عنه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]، مع أنَّ مسألة أن يوحَى إليه، هي من المسائل الَّتي يرتفع بها ويرتفع، لأنَّ مسألة الوحي ليست مسألة أن ينزل الله عليه كتابًا، بل أن يعطيه عقلًا يختزن الوحي كلَّه، وقلبًا ينبض بالوحي كلّه، وكيانًا يتحرَّك بالوحي كلّه، حتّى كان رسول الله (ص) تجسيدًا للقرآن. وقد طُلِبَ من إحدى زوجاته أن تتحدَّث عنه، فقالت: "هل أطنب أو أوجز؟"، قيل لها: "أوجزي". قالت: "كانَ خلُقُهُ القرآنَ"(3)، بحيث تجسَّد القرآن فيه، فليس في شخصيَّته أيّ شيء غير قرآنيّ. ولهذا قال الله لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]، لأنَّه كان الكتاب النَّاطق، كما كان القرآنُ الكتاب الصَّامت في كلماته.
وقد قال بعض الباحثين: إنَّ الله لو أنزل القرآن على النَّاس مذهّبًا مجلَّدًا بأفضل صورة فنيَّة، لما اتَّبعه النَّاس في البداية، ولكنَّ الله أرسل القرآن وأرسل الرَّسول، فكان النَّاس يستمعون إليه يتلو آيات الله، وكانوا يرون الآية متجسّدةً في شخصه؛ في حركته وأخلاقه وحنانه وعاطفته، وفي احتضانه لأمَّته.
مسؤوليَّة الذّكرى
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن عندما نتذكَّره، نتحمَّل مسؤوليَّة أن نعيشه، أن يكون فينا شيء منه، ولو بنسبة العشرة في المائة، أن نعيشه، بحيث يكون في عقلنا شيء من عقله، وأن يكون في قلبنا شيء من قلبه، وأن يكون في سلوكنا شيء من سلوكه، لأنَّ الله لم يرسله لنهتف باسمه في عمليَّة تعظيم، فهو ليس بحاجة إلى كلّ كلماتنا التَّعظيميَّة، ولا إلى كلّ تقاليدنا الشَّعبيَّة، لأنَّ الله عظَّمه، ولأنَّ الله اصطفاه، وعندما يصطفي الله عبدًا من عباده لرسالته، فهناك الشَّرف كلّ الشَّرف، وهناك العظمة كلّ العظمة.
لذلك مسألتنا مع رسول الله أن يبقى فينا هو، أن يبقى فينا من خلال ما يتميَّز به من الصّفات الإنسانيَّة، أن ينعكس كلّ هذا الخطّ المستقيم في شخصيَّته على سلوكنا، وعلى حياتنا الخاصَّة والعامَّة.
السَّبيل لكسب النَّاس
ونحن عندما نقرأ، أيُّها الأحبَّة، قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۚ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
إنَّ هذه الفقرة من الآية تريد أن تقول للنَّاس الَّذين يتحركون في خطّ الرّسالة، وفي خطّ القضايا العامَّة، الَّذين ينطلقون ليجذبوا النَّاس إلى أفكارهم، أو إلى مشروعهم، أو إلى قضاياهم، إنَّ الآية تقول لكلّ هؤلاء: إذا أردتم أن يقبل النَّاس بكم، وأن ينجذبوا إليكم، وأن يسيروا معكم، فحاولوا أن يكون القلبُ في كلّ واحد منكم قلبًا ليّنًا ودودًا عطوفًا، يمتلئ بحبّ النَّاس، لأنَّ القلب الَّذي ينغلق عن النَّاس، لا يمكن أن يفتح النَّاسُ قلوبهم له. افتح قلبك للنَّاس، يفتحوا قلوبهم لك، لكن عندما تكون غليظ القلب، وقاسي القلب، ومغلق القلب، فكيف يمكن للنَّاس أن يفتحوا لك قلوبهم؟ هذا أمر إنسانيّ، أيُّها الأحبَّة.
وهكذا، أن يكون لسانك ليّنًا، ينطق بالكلمة الحلوة الَّتي لا تثير الحساسيَّات، ولا العصبيَّات، ولا الحزازات، الَّتي تجمع ولا تفرّق، والَّتي تحبّب ولا تبغّض. إنَّ رسول الله (ص)، كما تشير الآية، استطاع أن يجمع النَّاس حوله من خلال قلبه اللّيّن ولسانه اللّيّن. فإذا كان رسول الله جمع النَّاس من خلال ذلك، وقال له الله: {ولَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، فهل أنت، أو أنا، والآخرون، يمكن أن يجتمع النَّاس علينا وعلى أفكارنا، في قسوة من قلوبنا، وغلظة من لساننا؟!
أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نعيش القضايا العامَّة، فإنَّ من شرط حيويَّة القضايا العامَّة، سواء كانت قضايا ثقافيَّة أو اجتماعيَّة أو سياسيَّة، هي أن نربح قلوب النَّاس وعقولهم. إنَّ القوَّة مهما كانت، قد تجعل النَّاس يسيرون وراءك، ولكن من الصَّعب أن تجعلهم يفتحون لك قلوبهم وعقولهم. كلَّما استطاع الإنسان أن يربح قلوب النَّاس، استطاع أن ينجح في رسالته وفي مشروعه.
وهكذا رأينا، أيُّها الأحبَّة، أنَّ عليّاً (ع) استوحى هذه الكلمة. هل يعجبكم عليّ بن أبي طالب؟ الكثيرون من النَّاس يعجبهم سيفه، ولكن لا يلتفتون إلى عقله وكلماته. يقول (ع): "احْصِدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"(4). اقتلع الشّرّ والحقد والعداوة من صدرك، واجعل قلبك يعيش الحبّ والخير للنَّاس، عندها، سترى أنَّ النَّاس، حتَّى الَّذين يظهرون الشَّرَّ، يفتحون قلوبهم لك.
الشَّتيمةُ لغةُ المتعصّبين
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش في مجتمع مغلق القلب، وقاسي الكلمات. هل هناك شعبٌ كشعوبنا العربيَّة، أو العالم الثَّالث، يملك من الشَّتائم ما نملكه؟ الشَّتائم هي لغة البيت بين الزَّوج والزَّوجة، وبين الأهل والأولاد، وهي لغتنا عندما نتنوّع دينيًّا، وعندما نتنوَّع مذهبيًّا وسياسيًّا، حتَّى إنَّنا عندما استنفدنا شتائم اللّغة العربيَّة، أصبحنا نستعير الشَّتائم من لغات أخرى، والله يقول لنا: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ - هذا كلام الله، وهذا خطّ رسوله (ص). هل هناك أكثر شرًّا في الجانب الفكريّ والعمليّ من الَّذين يشركون بعبادة الله غيره؟ ومع ذلك، يقول الله: لا تستخدموا لغة السّبّ معهم، لأنَّ الفعل يولّد ردَّ فعل - فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]. السَّبّ لا يحقّق أيَّة نتيجة في إقناع الآخرين، بل يزيد المتعصّب تعصّبًا.
وقد سمع عليّ (ع) وهو في حرب صفّين، قومًا من أهل العراق يسبّون أهل الشَّام، وكان عليّ رساليًّا حتَّى في حربه، كان يريد لجنده أن يكونوا رساليّين، ولا يريدهم أن يكونوا انفعاليّين. وقف خطيبًا فيهم، وقال لهم: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ - ولكن ماذا نفعل يا أمير المؤمنين ونحن نختلف معهم؟ هل نسكت، وهناك قضايا فكريَّة وسياسيَّة نختلف فيها معهم، أنصمت عن الحقّ؟ لا، ولكنَّ السّباب ليس أسلوبًا تثبتون به حقَّكم - وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَـهُمْ - قلتم إنَّهم يفعلون كذا وكذا - وَذَكَرْتُمْ حَالَـهُمْ - كيف هم في واقعهم - كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ - وهذه هي الرّوح الإنسانيَّة الإسلاميَّة عندما يختلف المسلمون بعضهم مع بعض - مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْـحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"(5).
هذا هو منطق الإسلام، وبذلك نعرف أنَّنا عندما نستخدم أسلوب الشَّتم والسُّباب، فلا نكون في الخطّ المستقيم للإسلام، وقد ورد في الحديث المأثور: "سبابُ المؤمِنِ فُسوقٌ، وقِتالُهُ كُفرٌ، وأكلُ لَحمِهِ مِن مَعصيَةِ اللَّهِ"، ونحن نأكل لحوم المؤمنين بالغيبة، ونستحلّ دماءهم لمجرَّد أيّ خلاف بيننا وبينهم، ونحن أيضًا نعيش الفسق في سبِّ بعضنا بعضاً.
مسؤوليَّةُ الدَّعوة
أيُّها الأحبَّة، أن نتذكَّر رسول الله (ص)، أن نتذكَّر كلَّ أولئك الصَّحابة من النّساء والرّجال الَّذين آمنوا به، والَّذين عاشوا معه، والَّذين تحمَّلوا الكثير من الآلام والمعاناة، حتَّى يثبتوا على إيمانهم، وحتَّى يجذبوا الآخرين إلى خطّ الإيمان. كان كلّ إنسان يدخل في الإسلام، يشعر بمسؤوليَّة أن يأتي في اليوم الثَّاني بإنسان آخر يعلن إسلامه لرسول الله (ص)، حتَّى إنَّ النّساء كنَّ في ذلك الوقت يعشن مسؤوليَّة الدَّعوة إلى الله، وإدخال الآخرين في الإسلام، حتَّى في القضايا الخاصَّة.
ينقل أنَّ امرأة كانت تسمَّى أمّ سليم، دخلت في الإسلام، ولكنَّ زوجها بقي كافرًا، وعندما بدأ ولدُها أولى كلماته، كانت تقول له: قل الله، قل محمَّد. كانت تعلّمه ذلك منذ طفولته، لتغرس فيه كلمات الإسلام حتَّى ينشأ مؤمنًا، وكان أبوه يقول لها: إنَّك تفسدين عليَّ ولدي، فتقول بل إنَّني أصلحه. ومات زوجها، وبعد ذلك، تقدَّم إليها شخص يخطبها، وكان كافرًا، فقالت له: إنَّي أقبل بالزّواج بك، ولكن على أن يكون مهري إسلامك. ورفض ذلك في البداية، وأحسَّت بأنَّه راغب بها، فكانت تجلس معه الجلسة تلو الجلسة، وتناقشه في عبادته للأصنام، وتبيّن له أنَّها أحجار لا تضرّ ولا تنفع، حتَّى استطاعت في نهاية المطاف أن تستغلّ عاطفته تجاهها، لتدخله في الإسلام من خلال هذا الأسلوب.
كانت هناك مسؤوليَّة، لم يكن الإسلام في وعي أيّ مسلم شيئًا ذاتيًّا يعيشه وينكفئ عن المسؤوليَّة، بل كان يمثّل حالة رساليّة في المسلم، بحيث إنَّه يشعر بالحاجة إلى أن يُدخِل الآخرين في الإسلام.
هل نعيش، أيُّها الأحبَّة، هذا الجوّ وهذه المسؤوليَّة؟ قد لا نملك الفرص في أن ندخل الآخرين في الإسلام، لكنَّنا نملك الفرص أن نعمّق الإسلام في نفوس أبنائنا، وفي نفوس أهلنا، وفي نفوس أصدقائنا، أن نعمّق الالتزام بالإسلام، والسَّير في خطّ التَّقوى، والإخلاص لله ولرسوله.
إنَّ الكثيرين منَّا لا يشعرون بأيّ مسؤوليَّة تجاه ذلك، إنَّهم يقولون: إنَّها مسؤوليَّة علماء الدّين، ولكنَّها مسؤوليّة كلّ مسلم ومسلمة {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104].
أن يعيش كلُّ جيل ليحمل رسالة الإسلام على كتفه؛ أن يحملها في عقله، ليعطي عقلُهُ شيئًا للإسلام، وفي قلبه، ليعطي قلبُهُ شيئًا للإسلام، وفي حركته، لكي تعطي حركتُهُ شيئًا للإسلام، الإسلام المنفتح، والإسلام الَّذي يعمل على أن يعيش النَّاس في المجتمعات في سلامٍ مع الله، وسلامٍ مع النَّفس، وسلامٍ مع النَّاس ومع الحياة كلّها. هكذا أرادنا الله، وأرادنا رسوله: "المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ"(6).
أن نعيش، أيُّها الأحبَّة، لنحمل الرّسالة في مرحلتنا، لأنَّ قضيَّة الإسلام، أنَّ كلَّ جيل لا بدَّ أن يحمل رسالته في مرحلته، ليمتدَّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
العملُ للحاضر
ومن هنا، فإنَّ قضيَّة أن نتعلَّم الإسلام وأن نعمل له، هي قضيَّة تدخل في صلب انتمائنا الإسلاميّ، وأن نعيش أيضًا همَّ المسلمين في كلّ قضاياهم، وفي كلّ أوضاعهم، أن لا نستريح للواقع السيّئ الَّذي يعيشه المسلمون، فيما يعيشونه من تمزّقات، سواء كانت تمزّقات مذهبيَّة، أو تمزّقات عرقيَّة، أو تمزّقات قوميَّة، أو سياسيَّة هنا وهناك، أن نعرف أنَّ هذا الواقع ليس هو الواقع الَّذي يحبّه الله ورسوله.
من الممكن جدًّا أنَّ الماضي قد حمل الكثير من التراكمات النَّفسيَّة، وتراكمات التخلّف والجهل، والتَّعقيدات الَّتي عاشها المسلمون في السَّابق، وتركوا لنا إرثًا من الحقد والعداوة والبغضاء، لكنَّ الله يقول لنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]. لقد عاشوا كسبهم خيرًا أو شرًّا، عاشوا واقعهم وحدةً أو انقسامًا، عاشوا حروبهم نصرًا أو هزيمة، وسيواجهون الموقف أمام الله. أمَّا أنتم، فكونوا أبناءهم، ولكنَّ الله لا يسأل الأبناء عمَّا فعله الآباء، كما لا يحمّل الآباءَ وزر ما يفعله الأبناء، إلَّا إذا كانوا مقصّرين {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان: 33]. ففي يوم الحساب، يقف النَّاس بين يدي الله، ليتحمَّل كلّ فرد نتيجة عمله، ولتتحمَّل كلّ أمَّة نتيجة عملها، فكما أنَّ هناك كتاباً للفرد، فهناك كتاب للأمَّة {وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا}[الجاثية: 28].
الوحدةُ وتماسكُ الأمَّة
لذلك، المسألة هي ما هو كسبنا الآن؟ كان كسبهم كلّ هذا الركام من الانفصال فيما بينهم، ومع ذلك، كان المسلمون، وهم مختلفون في الفقه وفي علم الكلام وغير ذلك، يصلّون في مساجد واحدة، فأصبح لكلّ مذهب من المسلمين مسجدٌ لا يأتي إليه أهل المذهب الآخر؛ هذا مسجد للسنَّة، وذاك مسجد للشّيعة، قد يتعقَّد أهل السنَّة من أن يجيء شيعيّ ليصلّي في هذا المسجد، وقد يتعقَّد أهل الشّيعة من أن يجيء سنّي ليصلّي في مسجدهم. أصبحت المساجد متمذهبة، لم نكتف بتمذهبنا، ولكنَّنا طيَّفنا المساجد ومذْهبناها، والله يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}[الجنّ: 18]، ولكنَّنا جعلناها لأنفسنا، وحاولنا أن نجذّر التَّفريق بين المسلمين فيها.
قد يقول قائلٌ: إنَّ هؤلاء يصلّون بشروط معيَّنة، وأولئك يصلّون بشروط معيَّنة، هذا يتكتّف وذاك يسبل، وهذا يغسل رجليه في الوضوء وذاك يمسح عليهما.. هذا صحيح، ولكنَّ الخلافات في الصَّلاة موجودة عند أهل السنَّة في مذاهبهم، وعند الشّيعة أيضاً، فهذا يفتي بشرط، وذاك يفتي بشرط آخر. لقد جرَّب أهل السنَّة اختلاف المذاهب، لا المذاهب الأربعة، ولكن هناك المذهب الظَّاهري، ومذهب الأوزاعي، ومذاهب أخرى موجودة، وقد جرَّب الشّيعة اختلاف الاجتهادات حتَّى الآن؛ فهذا مقلّد لفلان وله اجتهاده الخاصّ، وذاك مقلّد لفلان، ومع ذلك، التقى السنَّة على تنوّع المذاهب، والتقى الشّيعة على تنوّع الاجتهادات. فإذا كنّا قد جرَّبنا الوحدة في التنوّع هنا، وجرَّبنا الوحدة في التنوّع هناك، فلماذا لا نجرّبها في التنوّع بين الفريقين المسلمين؟
ربَّما يفكّر بعض المسلمين في هذا الجانب أو ذاك الجانب، بأنَّ هناك انحرافًا في العقيدة عند هذا الجانب يقترب فيه من الكفر، وأنَّ هناك انحرافًا في العقيدة في ذاك الجانب يقترب فيه من الكفر، لكنّ الله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59]. لقد وضع الله لنا برنامجًا، فعندما نختلف، فإنَّ كلَّ واحد منَّا يقول: قال الله وقال رسوله. فما دام كلامنا هو ما قاله الله ورسوله، فتعالوا نتفاهم. القرآن لغة عربيَّة، والسُّنَّة لغة عربيَّة، ونحن ندرس قواعد اللّغة العربيَّة ونفهمها، فلماذا لا نعمل على أساس أن يحاور بعضنا بعضًا؟ لماذا نكفّ عن ذلك؟ لماذا نستوحش من ذلك؟ لماذا يكون كلّ عملنا أن يسجّل أحدنا نقطة على الطَّرف الآخر حتَّى يأخذ كأس الإسلام؟! واللَّيلة، العالم كلّه مشغول بكأس العالم في كرة القدم، وكيف يسجّل هذا الفريق في مرمى الفريق الآخر حتَّى يفوز بكأس العالم. ونحن أيضًا، يحاول كلّ منّا أن يسجّل في مرمى الفريق الآخر حتَّى يفوز بكأس الإسلام!
الإسلامُ في مرمى الاستهداف
هذا واقع تخلّف. والعصبيَّة ليست دينًا، وهي بعيدة من الالتزام. أنا لا أقول للسّنيّ: كن شيعيًّا من دون أساس، أو أقول للشّيعيّ: كن سنيًّا من دون أساس، أنا أقول إنَّنا نلتقي على توحيد الله، وعلى رسالة رسوله، وعلى اليوم الآخر، وعلى كتاب الله، وعلى العبادات الأساسيَّة، إنّنا نلتقي على ثمانين في المائة على الأقلّ فيما اتَّفقنا عليه، مع الاختلاف في بعض التَّفاصيل، فلماذا نركّز على الفواصل فيما بيننا؟
لقد علَّمنا الله سبحانه في علاقتنا مع أهل الكتاب أن نبحث معهم عن الكلمة السّواء، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]. وكم بيننا وبين أهل الكتاب من فواصل في فهم التَّوحيد! وكم بيننا وبينهم من اختلافات في كثير من قضايا التَّشريع والمفاهيم العامَّة! ومع ذلك، أرادنا الله أن نخاطبهم: تعالوا إلى الأرض المشتركة فيما بيننا، بقطع النَّظر عن الاختلاف في التَّفاصيل. {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46]. هذا هو الأسلوب الإسلاميّ فيما يختلف فيه النَّاس، إذا كان هناك ما يتَّفقون عليه.
فلماذا لا نجرّب هذا الأسلوب في داخل الواقع الإسلاميّ؟ ولماذا لا نكون الواعين كأمَّة إسلاميَّة وكمجتمع إسلاميّ، ونحن نرى، أيُّها الأحبَّة، أنَّ هناك حربًا عالميَّة ضدَّ الإسلام. لقد وقفت رئيسة حكومة بريطانيا "مارغريت تاتشر" بعد سقوط الاتحاد السّوفييتي في مجتمع الحلف الأطلسي، ووقف بعدها أمين عام الحزب الأطلسي، وهم يفكّرون في فائدة الحلف الأطلسي الّذي كان وسيلةً من وسائل مواجهة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، وسقط الاتحاد السوفييتي، فما جدواه بعدها إذاً؟ ماذا قالوا؟ قالوا إنَّ الإسلام هو العدوّ الَّذي لا بدَّ لنا أن نستعدّ له لنحاربه. يعني الحلف الأطلسي في عمق امتداده، يعتبر أنَّ الإسلام عدوّ لمصالح دوله، لأنَّ الإسلام يريد الحريَّة للنَّاس، وهم لا يستفيدون من هذه الحريَّة، ويريد للمسلمين أن يعملوا على أساس استثمار كلّ ثرواتهم، وعلى أساس أن يكونوا الأمَّة المنتجة، وعلى أن يحقّقوا الاكتفاء الذّاتيّ، وأن يكونوا الأمَّة الَّتي تلبس مما تصنع، وتأكل مما تزرع، وعند ذلك، يفقد أولئك الكثير من أسواقنا، ولذلك اعتبرونا عدوًّا.
مخطَّطُ الاستكبارِ العالميّ
إنَّهم يخطّطون في المسألة الثَّقافيَّة كيف يسقطون الإسلام ثقافيًّا في نفوس المسلمين، وفي المسألة السياسيَّة، كيف يحوّلون المسلمين إلى مزق متناثرة في العالم، وفي المسألة الأمنيَّة، كيف يسيطرون على كلّ أمننا ليكون على هامش أمنهم.
ونحن نعرف أنَّهم خطَّطوا لتكون إسرائيل في قلب المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، لتفصل المنطقة العربيَّة بعضها عن بعض فلا تتَّحد، ولا تنطلق في موقف موحَّد واحد. ولا زالت القوى الاستخباراتيَّة تعمل على أساس أن تكون إسرائيل القوَّة الأولى. إنَّهم يصرّحون بدون تحفّظ: إنَّنا نعمل من أجل الأمن الإسرائيليّ، ومن أجل أن تحافظ إسرائيل على التفوّق النَّوعيّ في أسلحتها في كلّ واقع المنطقة العربيَّة أو منطقة الشَّرق الأوسط.
إنّهم يثيرون النَّكير على الهند والباكستان لأنّهما امتلكتا قنبلة نوويَّة، وإسرائيل تمتلك عشرات القنابل النَّوويَّة، ومئات الرؤوس الَّتي يمكن أن تطلق بها القنابل النَّوويَّة، ولا تحرك أمريكا ساكنًا، ولا تسمح لأحد بأن يتحدَّث بأيّ إدانة لإسرائيل.
حتَّى الآن، كان العرب يقولون: "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف"، وقبلوا بعد ذلك بالصّلح، ولكنَّ إسرائيل أرادت صلحًا يتمّ على أنقاض كلّ الواقع العربيّ، صلحًا يعطيها كلَّ فلسطين، وما حول فلسطين. وقد تنازل الفلسطينيّون أخيرًا بعدما وقعوا في مرحلة اتّفاق أوسلو، فقبلوا بالانسحاب في هذه المرحلة بثلاثة عشر في المائة، ورفضت إسرائيل. وحتَّى الآن، أمريكا ليست مستعدَّة أن تصرّح بأنَّ إسرائيل قد أفشلت مبادرتها، لأنَّها تريد لإسرائيل أن تكون الأقوى، ونحن ممزَّقون متفرقون، ولا نستطيع أن نجتمع في قمَّة عربيَّة، ولا في قمَّة إسلاميَّة، وهم يتوزَّعون الأدوار، لا تصدّقوا أنَّهم يختلفون، سواء كان حزب اللّيكود أو حزب العمل، إنَّهم يتوزَّعون الأدوار فيما بينهم. لقد جرَّبنا حزب العمل، وعرفنا كيف كان قاسيًا في حكومته.
تقديمُ مصلحةِ الإسلام
لذلك، أيُّها الأحبَّة، هذا الواقع الَّذي نعيشه الآن في قلب المنطقة العربيَّة والإسلامية، ألا يفرض علينا أن نفكّر كيف نحمي أنفسنا من سياسة الاستكبار العالميّ، ومن سياسة الصّهيونيَّة العالميَّة؟ كيف نتَّفق على أساس الأرض المشتركة، وهي حريَّة أوطاننا واستقلالها، وأن تكون لنا قوّتنا الاقتصاديَّة في العالم؟ ولكن كما قال ذاك الشَّخص: "على من تتلو مزاميرك يا داوود؟".
القضيَّة أنَّنا أدمنَّا الضّعف، وأدمنَّا الفرقة. اليهود اليوم طوائف ومذاهب متعدّدة، ولكنَّهم اتَّفقوا على أن تكون فلسطين لهم، وعلى أن يسيطروا على الواقع العربيّ. ونحن مشغولون بصراعاتنا وخلافاتنا فيما بيننا...
يقال إنَّ الفاتح عندما جاء ليفتح أبواب القسطنطينية، كان القوم فيها يتنازعون هل البيضة أصل الدَّجاجة أم الدَّجاجة أصل البيضة، ومشغولون بالبحث الفلسفيّ الفكريّ: هل الملائكة ذكور أم إناث؟ ألا ترون أنَّ الكثير مما نتنازع فيه، ومما نختلف فيه، يتحرَّك في هذا الاتّجاه، إن لم يكن بنفسه، لكنَّه في جوّه؟! نحن الآن نتنازع في أشياء كثيرة لا غنى فيها ولا فائدة.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نتذكَّر النَّبيّ (ص)، فإنَّ علينا أن نتذكَّر كيف نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع عدل، وكيف نحوّل أمَّتنا إلى أمَّة للحريَّة، وكيف ننطلق لنتَّحد بالله، ونتَّحد برسوله وبكتابه، ومن خلال الله ورسوله وكتابه، نعرف كيف نسيطر على خلافاتنا.
وهذا هو الَّذي عاشه المسلمون في السَّابق، لقد عاش المسلمون، وهم الَّذين نختلف باسمهم، خلافات في الخلافات. ومع ذلك، كيف واجهوا الموقف؟ كانت هناك بعض المشاكل، ولكن عندما شعروا بأنَّ هناك خطرًا على الإسلام، جمَّدوا كلَّ خلافاتهم، وساروا في المسيرة الإسلاميَّة الواحدة.
ونحن نقرأ في "نهج البلاغة" كيف أنَّ عليًّا (ع) شرح لنا تلك المرحلة. يقول: "فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي - وقف موقفًا حياديًّا - حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ، حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتنَهَنْهَ"(7).
وهكذا كان (ع) يقول: "لُأَسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً"(8)، قد يكون الظّلم عليَّ، فلا مشكلة، المهمّ أن لا يُظلَم المسلمون. هذا هو منطق عليّ بن أبي طالب (ع)، وهذا هو منطق تلك المرحلة.
رفقًا بالإسلامِ والأمَّة
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نرفق بالإسلام، وأن نرفق بالمسلمين. إنَّ الاستكبار العالميَّ لا يطلب رأس الشّيعة وحدهم، ولا يطلب رأس السنَّة وحدهم، إنَّه يطلب رأس الإسلام. وهكذا عرفنا كيف أنَّه عمل على أن يقهر الشّيعة عندما وقفوا في مواجهته، وأن يقهر السنَّة عندما وقفوا في مواجهته... قد يأتي في بعض الحالات ليكون مع السنَّة ضدّ الشّيعة، أو يكون مع الشّيعة ضدّ السنَّة، ولكنَّه في كلّ ذلك مع نفسه ومع مصلحته. رفقًا بالإسلام، رفقًا بأجيالنا القادمة.
أيُّها الأحبَّة، نحن جيل النَّكبة، نحن جيل المأساة، نحن جيل الهزيمة، علينا أن لا نعطي أبناءنا هزيمة جديدة ومأساة جديدة، علينا أن نعمل على أن نصون قاعدتنا، ونصون أمَّتنا، ونصون أوطاننا، من كلّ الَّذين يريدون أن يسقطونا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. علينا أن نعرف كيف نتوحَّد وكيف نتحاور فيما نختلف فيه، وكيف نعمل على أن نقدّم إلى أبنائنا وطنًا حرًّا قويًّا صامدًا في مواجهة كلّ التَّحدّيات.
أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نكون الأقوياء في فكرنا، الأقوياء في سياستنا، الأقوياء في اقتصادنا، الأقوياء في أمننا. {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال: 60]، لأنَّ الله لا يعتبر الضّعف مبرَّرًا {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۖ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النّساء: 97].
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نفهم الإسلام جيّدًا، وأن نعمل للإسلام جيّدًا، وأن نقف في موقف التحدّي والمواجهة بشكل جيّد، حتَّى نقف غدًا بين يدي رسول الله (ص) في رحاب الله، لنقول: "يا رسول الله، لقد حمَّلتنا الرّسالة، ولقد قلت لنا في كلام الله أن لا ننقلب على أعقابنا من بعدك: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144]. هل نستطيع أن نقول له: يا رسول الله، نحن لم ننقلب على أعقابنا، بل بقينا قوَّة لدينك، وقوَّة لأمَّتك، وقوَّة للحاضر والمستقبل؟!.
هذا نداء المولد، هذا نداء رسول الله، فهل نستمع إلى نداء رسول الله الَّذي هو نداء الوعي والخير والمحبَّة والوحدة؟
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[آل عمران: 103].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۖ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أولئك هم الفاسقون * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 - 20].
والحمد لله ربّ العالمين.
* محاضرة لسماحته في مدينة حمص - سوريا، في ذكرى المولد النّبويّ الشّريف (ص)، بتاريخ: 12/07/1998م.
 
*** 
1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
2- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 77.
3- الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص 364.
4 - نهج البلاغة، الحكمة 178.
5 - نهج البلاغة، من كلام له (ع)، وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشَّام أيَّام حربهم بصفين.
6- الأمالي، الشّيخ الصدوق، ص 539.
7- نهج البلاغة، من كتاب له (ع) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولَّاه إمارتها.
8 - نهج البلاغة، من خطبة له (ع) لما عزموا على بيعة عثمان.
أن نتذكَّر رسول الله (ص) في الأذان عندما يُرفع، وفي الصَّلاة حين نتشهَّد، وفي كلّ مناسبة ننفتح فيها عليه وعلى اسمه.. أن نتذكَّره، فتلك مسؤوليَّة نحملها، وكيف لا، وهو من هو في حجمه، وعلوّ درجته، في قربه من ربّه، وفي انفتاحه على الإنسان كلّه والحياة كلّها، شخصٌ حمل في عقله كلَّ عقل الإنسان، وفي قلبه كلَّ العاطفة الَّتي تتفايض في قلوب النَّاس جميعًا، وفي حركته كلّ حركة العدل والحريَّة، لأنَّ قضيَّته كانت قضيَّة الرّسالات كلّها الَّتي حدَّثنا الله عنها بأنَّ الأساس فيها هو العدل، العدل الَّذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون طابع الحياة، فلا يكون هناك ظلم، سواء كان ظلم الإنسان للإنسان، أو ظلم الإنسان للحيوان، أو ظلم الإنسان للبيئة، أو ظلم الإنسان للحياة.
رسولُ العدلِ والحريَّة
إنَّ الله يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]. فكلُّ الكتب المنزلة جاءت من أجل أن تصنع في الإنسان عقل العدل، وقلب العدل، وحركة العدل؛ أن لا يفكّر الإنسان عندما يخطّط لأيّ مشروع في ظلم أحد، وأن لا يظلم النَّاسَ في مشاعره ونبضات قلبه، وأن تكون كلّ حركته في خطّ العدل.
لذلك، كان الرّسول (ص) رسولَ العدل، وكانت رسالته تخطيطًا دقيقًا لكلّ معانيه وتفاصيله؛ عدل الإنسان مع ربّه، وعدله مع نفسه، وعدله مع النَّاس، بدءاً من الدَّائرة الصَّغيرة، وهي دائرة العائلة، إلى الدَّوائر الأوسع الَّتي تمتدُّ حتَّى تشمل الإنسانيّة كلّها.
وهكذا كان رسول الحريَّة، لأنَّ الله أراد للإنسان أن يكون عبدًا له سبحانه، وأن يكون حرًّا أمام العالم كلّه، فليس لإنسان أيَّة سلطة على إنسان آخر إلَّا بالحقّ، فنحن جميعاً عباد الله، ولكنَّنا عندما نواجه حرَّيتنا، فنحن أحرار أمام النَّاس كلّهم، لا سلطة لأحد على أحد إلَّا بما سلَّطه الله عليه في حركة الحقّ. وقد قال عليّ (ع)، وهو تلميذ رسول الله الَّذي ربَّاه منذ طفولته الأولى، وكان يحتضنه ويعلّمه ويربّيه، وكان عليّ (ع) يقول: "وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ"(1)، قال وهو يخاطب في الإنسان إنسانيَّته وحرّيَّته: "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرًّا"(2). ليست لك الحريَّة في أن تسقط حرّيّتك، لأنَّ حرّيّتك جزء من إنسانيَّتك، وجزء من هبة ربّك لك. عندما يخلقك الله حرًّا، فليس لك أن تستعبد نفسك لأحد، مهما كانت درجته، ومهما كانت قيمته في المجتمع.
وهكذا جاء رسول الله (ص) من أجل أن يكون رسول الحريَّة الإنسانيَّة، ليقول للنَّاس: كونوا عبادًا لله ولا تكونوا عبادًا لغيره. إنَّ النَّاس عندما يعيشون بعض نواحي العظمة، فإنَّ عليكم أن تذكروهم بما اتَّصفوا به، لا أن تعيشوا العبوديَّة لهم. إنَّ الله كما ألغى صنميَّة الحجر، ألغى صنميَّة البشر، فليس لنا أن نسجد لبشر، أو أن نخضع لبشر، أو أن نسحق كلَّ نفوسنا لبشر، لأنَّنا عباد الله، ولا بدَّ أن نخلص في عبوديَّتنا له، بأن لا نشرك به أحدًا في أيّ معنى من معاني العبادة. ولذلك، فإنَّ الجوَّ الإيمانيَّ هو الجوّ الَّذي لا يمكن أن تنمو فيه عبادة الشَّخصيّة.
أن تقدّر شخصًا، فذلك ضروريّ، حتّى لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة، ولكن لا ترفعه عن مستوى بشريَّته.
من هو أفضل النَّاس وسيّد ولد آدم في عقيدتنا؟ هو رسول الله (ص)، ومع ذلك، قال الله عنه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]، مع أنَّ مسألة أن يوحَى إليه، هي من المسائل الَّتي يرتفع بها ويرتفع، لأنَّ مسألة الوحي ليست مسألة أن ينزل الله عليه كتابًا، بل أن يعطيه عقلًا يختزن الوحي كلَّه، وقلبًا ينبض بالوحي كلّه، وكيانًا يتحرَّك بالوحي كلّه، حتّى كان رسول الله (ص) تجسيدًا للقرآن. وقد طُلِبَ من إحدى زوجاته أن تتحدَّث عنه، فقالت: "هل أطنب أو أوجز؟"، قيل لها: "أوجزي". قالت: "كانَ خلُقُهُ القرآنَ"(3)، بحيث تجسَّد القرآن فيه، فليس في شخصيَّته أيّ شيء غير قرآنيّ. ولهذا قال الله لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]، لأنَّه كان الكتاب النَّاطق، كما كان القرآنُ الكتاب الصَّامت في كلماته.
وقد قال بعض الباحثين: إنَّ الله لو أنزل القرآن على النَّاس مذهّبًا مجلَّدًا بأفضل صورة فنيَّة، لما اتَّبعه النَّاس في البداية، ولكنَّ الله أرسل القرآن وأرسل الرَّسول، فكان النَّاس يستمعون إليه يتلو آيات الله، وكانوا يرون الآية متجسّدةً في شخصه؛ في حركته وأخلاقه وحنانه وعاطفته، وفي احتضانه لأمَّته.
مسؤوليَّة الذّكرى
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن عندما نتذكَّره، نتحمَّل مسؤوليَّة أن نعيشه، أن يكون فينا شيء منه، ولو بنسبة العشرة في المائة، أن نعيشه، بحيث يكون في عقلنا شيء من عقله، وأن يكون في قلبنا شيء من قلبه، وأن يكون في سلوكنا شيء من سلوكه، لأنَّ الله لم يرسله لنهتف باسمه في عمليَّة تعظيم، فهو ليس بحاجة إلى كلّ كلماتنا التَّعظيميَّة، ولا إلى كلّ تقاليدنا الشَّعبيَّة، لأنَّ الله عظَّمه، ولأنَّ الله اصطفاه، وعندما يصطفي الله عبدًا من عباده لرسالته، فهناك الشَّرف كلّ الشَّرف، وهناك العظمة كلّ العظمة.
لذلك مسألتنا مع رسول الله أن يبقى فينا هو، أن يبقى فينا من خلال ما يتميَّز به من الصّفات الإنسانيَّة، أن ينعكس كلّ هذا الخطّ المستقيم في شخصيَّته على سلوكنا، وعلى حياتنا الخاصَّة والعامَّة.
السَّبيل لكسب النَّاس
ونحن عندما نقرأ، أيُّها الأحبَّة، قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۚ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
إنَّ هذه الفقرة من الآية تريد أن تقول للنَّاس الَّذين يتحركون في خطّ الرّسالة، وفي خطّ القضايا العامَّة، الَّذين ينطلقون ليجذبوا النَّاس إلى أفكارهم، أو إلى مشروعهم، أو إلى قضاياهم، إنَّ الآية تقول لكلّ هؤلاء: إذا أردتم أن يقبل النَّاس بكم، وأن ينجذبوا إليكم، وأن يسيروا معكم، فحاولوا أن يكون القلبُ في كلّ واحد منكم قلبًا ليّنًا ودودًا عطوفًا، يمتلئ بحبّ النَّاس، لأنَّ القلب الَّذي ينغلق عن النَّاس، لا يمكن أن يفتح النَّاسُ قلوبهم له. افتح قلبك للنَّاس، يفتحوا قلوبهم لك، لكن عندما تكون غليظ القلب، وقاسي القلب، ومغلق القلب، فكيف يمكن للنَّاس أن يفتحوا لك قلوبهم؟ هذا أمر إنسانيّ، أيُّها الأحبَّة.
وهكذا، أن يكون لسانك ليّنًا، ينطق بالكلمة الحلوة الَّتي لا تثير الحساسيَّات، ولا العصبيَّات، ولا الحزازات، الَّتي تجمع ولا تفرّق، والَّتي تحبّب ولا تبغّض. إنَّ رسول الله (ص)، كما تشير الآية، استطاع أن يجمع النَّاس حوله من خلال قلبه اللّيّن ولسانه اللّيّن. فإذا كان رسول الله جمع النَّاس من خلال ذلك، وقال له الله: {ولَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، فهل أنت، أو أنا، والآخرون، يمكن أن يجتمع النَّاس علينا وعلى أفكارنا، في قسوة من قلوبنا، وغلظة من لساننا؟!
أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نعيش القضايا العامَّة، فإنَّ من شرط حيويَّة القضايا العامَّة، سواء كانت قضايا ثقافيَّة أو اجتماعيَّة أو سياسيَّة، هي أن نربح قلوب النَّاس وعقولهم. إنَّ القوَّة مهما كانت، قد تجعل النَّاس يسيرون وراءك، ولكن من الصَّعب أن تجعلهم يفتحون لك قلوبهم وعقولهم. كلَّما استطاع الإنسان أن يربح قلوب النَّاس، استطاع أن ينجح في رسالته وفي مشروعه.
وهكذا رأينا، أيُّها الأحبَّة، أنَّ عليّاً (ع) استوحى هذه الكلمة. هل يعجبكم عليّ بن أبي طالب؟ الكثيرون من النَّاس يعجبهم سيفه، ولكن لا يلتفتون إلى عقله وكلماته. يقول (ع): "احْصِدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"(4). اقتلع الشّرّ والحقد والعداوة من صدرك، واجعل قلبك يعيش الحبّ والخير للنَّاس، عندها، سترى أنَّ النَّاس، حتَّى الَّذين يظهرون الشَّرَّ، يفتحون قلوبهم لك.
الشَّتيمةُ لغةُ المتعصّبين
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش في مجتمع مغلق القلب، وقاسي الكلمات. هل هناك شعبٌ كشعوبنا العربيَّة، أو العالم الثَّالث، يملك من الشَّتائم ما نملكه؟ الشَّتائم هي لغة البيت بين الزَّوج والزَّوجة، وبين الأهل والأولاد، وهي لغتنا عندما نتنوّع دينيًّا، وعندما نتنوَّع مذهبيًّا وسياسيًّا، حتَّى إنَّنا عندما استنفدنا شتائم اللّغة العربيَّة، أصبحنا نستعير الشَّتائم من لغات أخرى، والله يقول لنا: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ - هذا كلام الله، وهذا خطّ رسوله (ص). هل هناك أكثر شرًّا في الجانب الفكريّ والعمليّ من الَّذين يشركون بعبادة الله غيره؟ ومع ذلك، يقول الله: لا تستخدموا لغة السّبّ معهم، لأنَّ الفعل يولّد ردَّ فعل - فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]. السَّبّ لا يحقّق أيَّة نتيجة في إقناع الآخرين، بل يزيد المتعصّب تعصّبًا.
وقد سمع عليّ (ع) وهو في حرب صفّين، قومًا من أهل العراق يسبّون أهل الشَّام، وكان عليّ رساليًّا حتَّى في حربه، كان يريد لجنده أن يكونوا رساليّين، ولا يريدهم أن يكونوا انفعاليّين. وقف خطيبًا فيهم، وقال لهم: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ - ولكن ماذا نفعل يا أمير المؤمنين ونحن نختلف معهم؟ هل نسكت، وهناك قضايا فكريَّة وسياسيَّة نختلف فيها معهم، أنصمت عن الحقّ؟ لا، ولكنَّ السّباب ليس أسلوبًا تثبتون به حقَّكم - وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَـهُمْ - قلتم إنَّهم يفعلون كذا وكذا - وَذَكَرْتُمْ حَالَـهُمْ - كيف هم في واقعهم - كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ - وهذه هي الرّوح الإنسانيَّة الإسلاميَّة عندما يختلف المسلمون بعضهم مع بعض - مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْـحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"(5).
هذا هو منطق الإسلام، وبذلك نعرف أنَّنا عندما نستخدم أسلوب الشَّتم والسُّباب، فلا نكون في الخطّ المستقيم للإسلام، وقد ورد في الحديث المأثور: "سبابُ المؤمِنِ فُسوقٌ، وقِتالُهُ كُفرٌ، وأكلُ لَحمِهِ مِن مَعصيَةِ اللَّهِ"، ونحن نأكل لحوم المؤمنين بالغيبة، ونستحلّ دماءهم لمجرَّد أيّ خلاف بيننا وبينهم، ونحن أيضًا نعيش الفسق في سبِّ بعضنا بعضاً.
مسؤوليَّةُ الدَّعوة
أيُّها الأحبَّة، أن نتذكَّر رسول الله (ص)، أن نتذكَّر كلَّ أولئك الصَّحابة من النّساء والرّجال الَّذين آمنوا به، والَّذين عاشوا معه، والَّذين تحمَّلوا الكثير من الآلام والمعاناة، حتَّى يثبتوا على إيمانهم، وحتَّى يجذبوا الآخرين إلى خطّ الإيمان. كان كلّ إنسان يدخل في الإسلام، يشعر بمسؤوليَّة أن يأتي في اليوم الثَّاني بإنسان آخر يعلن إسلامه لرسول الله (ص)، حتَّى إنَّ النّساء كنَّ في ذلك الوقت يعشن مسؤوليَّة الدَّعوة إلى الله، وإدخال الآخرين في الإسلام، حتَّى في القضايا الخاصَّة.
ينقل أنَّ امرأة كانت تسمَّى أمّ سليم، دخلت في الإسلام، ولكنَّ زوجها بقي كافرًا، وعندما بدأ ولدُها أولى كلماته، كانت تقول له: قل الله، قل محمَّد. كانت تعلّمه ذلك منذ طفولته، لتغرس فيه كلمات الإسلام حتَّى ينشأ مؤمنًا، وكان أبوه يقول لها: إنَّك تفسدين عليَّ ولدي، فتقول بل إنَّني أصلحه. ومات زوجها، وبعد ذلك، تقدَّم إليها شخص يخطبها، وكان كافرًا، فقالت له: إنَّي أقبل بالزّواج بك، ولكن على أن يكون مهري إسلامك. ورفض ذلك في البداية، وأحسَّت بأنَّه راغب بها، فكانت تجلس معه الجلسة تلو الجلسة، وتناقشه في عبادته للأصنام، وتبيّن له أنَّها أحجار لا تضرّ ولا تنفع، حتَّى استطاعت في نهاية المطاف أن تستغلّ عاطفته تجاهها، لتدخله في الإسلام من خلال هذا الأسلوب.
كانت هناك مسؤوليَّة، لم يكن الإسلام في وعي أيّ مسلم شيئًا ذاتيًّا يعيشه وينكفئ عن المسؤوليَّة، بل كان يمثّل حالة رساليّة في المسلم، بحيث إنَّه يشعر بالحاجة إلى أن يُدخِل الآخرين في الإسلام.
هل نعيش، أيُّها الأحبَّة، هذا الجوّ وهذه المسؤوليَّة؟ قد لا نملك الفرص في أن ندخل الآخرين في الإسلام، لكنَّنا نملك الفرص أن نعمّق الإسلام في نفوس أبنائنا، وفي نفوس أهلنا، وفي نفوس أصدقائنا، أن نعمّق الالتزام بالإسلام، والسَّير في خطّ التَّقوى، والإخلاص لله ولرسوله.
إنَّ الكثيرين منَّا لا يشعرون بأيّ مسؤوليَّة تجاه ذلك، إنَّهم يقولون: إنَّها مسؤوليَّة علماء الدّين، ولكنَّها مسؤوليّة كلّ مسلم ومسلمة {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104].
أن يعيش كلُّ جيل ليحمل رسالة الإسلام على كتفه؛ أن يحملها في عقله، ليعطي عقلُهُ شيئًا للإسلام، وفي قلبه، ليعطي قلبُهُ شيئًا للإسلام، وفي حركته، لكي تعطي حركتُهُ شيئًا للإسلام، الإسلام المنفتح، والإسلام الَّذي يعمل على أن يعيش النَّاس في المجتمعات في سلامٍ مع الله، وسلامٍ مع النَّفس، وسلامٍ مع النَّاس ومع الحياة كلّها. هكذا أرادنا الله، وأرادنا رسوله: "المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ"(6).
أن نعيش، أيُّها الأحبَّة، لنحمل الرّسالة في مرحلتنا، لأنَّ قضيَّة الإسلام، أنَّ كلَّ جيل لا بدَّ أن يحمل رسالته في مرحلته، ليمتدَّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
العملُ للحاضر
ومن هنا، فإنَّ قضيَّة أن نتعلَّم الإسلام وأن نعمل له، هي قضيَّة تدخل في صلب انتمائنا الإسلاميّ، وأن نعيش أيضًا همَّ المسلمين في كلّ قضاياهم، وفي كلّ أوضاعهم، أن لا نستريح للواقع السيّئ الَّذي يعيشه المسلمون، فيما يعيشونه من تمزّقات، سواء كانت تمزّقات مذهبيَّة، أو تمزّقات عرقيَّة، أو تمزّقات قوميَّة، أو سياسيَّة هنا وهناك، أن نعرف أنَّ هذا الواقع ليس هو الواقع الَّذي يحبّه الله ورسوله.
من الممكن جدًّا أنَّ الماضي قد حمل الكثير من التراكمات النَّفسيَّة، وتراكمات التخلّف والجهل، والتَّعقيدات الَّتي عاشها المسلمون في السَّابق، وتركوا لنا إرثًا من الحقد والعداوة والبغضاء، لكنَّ الله يقول لنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]. لقد عاشوا كسبهم خيرًا أو شرًّا، عاشوا واقعهم وحدةً أو انقسامًا، عاشوا حروبهم نصرًا أو هزيمة، وسيواجهون الموقف أمام الله. أمَّا أنتم، فكونوا أبناءهم، ولكنَّ الله لا يسأل الأبناء عمَّا فعله الآباء، كما لا يحمّل الآباءَ وزر ما يفعله الأبناء، إلَّا إذا كانوا مقصّرين {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان: 33]. ففي يوم الحساب، يقف النَّاس بين يدي الله، ليتحمَّل كلّ فرد نتيجة عمله، ولتتحمَّل كلّ أمَّة نتيجة عملها، فكما أنَّ هناك كتاباً للفرد، فهناك كتاب للأمَّة {وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا}[الجاثية: 28].
الوحدةُ وتماسكُ الأمَّة
لذلك، المسألة هي ما هو كسبنا الآن؟ كان كسبهم كلّ هذا الركام من الانفصال فيما بينهم، ومع ذلك، كان المسلمون، وهم مختلفون في الفقه وفي علم الكلام وغير ذلك، يصلّون في مساجد واحدة، فأصبح لكلّ مذهب من المسلمين مسجدٌ لا يأتي إليه أهل المذهب الآخر؛ هذا مسجد للسنَّة، وذاك مسجد للشّيعة، قد يتعقَّد أهل السنَّة من أن يجيء شيعيّ ليصلّي في هذا المسجد، وقد يتعقَّد أهل الشّيعة من أن يجيء سنّي ليصلّي في مسجدهم. أصبحت المساجد متمذهبة، لم نكتف بتمذهبنا، ولكنَّنا طيَّفنا المساجد ومذْهبناها، والله يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}[الجنّ: 18]، ولكنَّنا جعلناها لأنفسنا، وحاولنا أن نجذّر التَّفريق بين المسلمين فيها.
قد يقول قائلٌ: إنَّ هؤلاء يصلّون بشروط معيَّنة، وأولئك يصلّون بشروط معيَّنة، هذا يتكتّف وذاك يسبل، وهذا يغسل رجليه في الوضوء وذاك يمسح عليهما.. هذا صحيح، ولكنَّ الخلافات في الصَّلاة موجودة عند أهل السنَّة في مذاهبهم، وعند الشّيعة أيضاً، فهذا يفتي بشرط، وذاك يفتي بشرط آخر. لقد جرَّب أهل السنَّة اختلاف المذاهب، لا المذاهب الأربعة، ولكن هناك المذهب الظَّاهري، ومذهب الأوزاعي، ومذاهب أخرى موجودة، وقد جرَّب الشّيعة اختلاف الاجتهادات حتَّى الآن؛ فهذا مقلّد لفلان وله اجتهاده الخاصّ، وذاك مقلّد لفلان، ومع ذلك، التقى السنَّة على تنوّع المذاهب، والتقى الشّيعة على تنوّع الاجتهادات. فإذا كنّا قد جرَّبنا الوحدة في التنوّع هنا، وجرَّبنا الوحدة في التنوّع هناك، فلماذا لا نجرّبها في التنوّع بين الفريقين المسلمين؟
ربَّما يفكّر بعض المسلمين في هذا الجانب أو ذاك الجانب، بأنَّ هناك انحرافًا في العقيدة عند هذا الجانب يقترب فيه من الكفر، وأنَّ هناك انحرافًا في العقيدة في ذاك الجانب يقترب فيه من الكفر، لكنّ الله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59]. لقد وضع الله لنا برنامجًا، فعندما نختلف، فإنَّ كلَّ واحد منَّا يقول: قال الله وقال رسوله. فما دام كلامنا هو ما قاله الله ورسوله، فتعالوا نتفاهم. القرآن لغة عربيَّة، والسُّنَّة لغة عربيَّة، ونحن ندرس قواعد اللّغة العربيَّة ونفهمها، فلماذا لا نعمل على أساس أن يحاور بعضنا بعضًا؟ لماذا نكفّ عن ذلك؟ لماذا نستوحش من ذلك؟ لماذا يكون كلّ عملنا أن يسجّل أحدنا نقطة على الطَّرف الآخر حتَّى يأخذ كأس الإسلام؟! واللَّيلة، العالم كلّه مشغول بكأس العالم في كرة القدم، وكيف يسجّل هذا الفريق في مرمى الفريق الآخر حتَّى يفوز بكأس العالم. ونحن أيضًا، يحاول كلّ منّا أن يسجّل في مرمى الفريق الآخر حتَّى يفوز بكأس الإسلام!
الإسلامُ في مرمى الاستهداف
هذا واقع تخلّف. والعصبيَّة ليست دينًا، وهي بعيدة من الالتزام. أنا لا أقول للسّنيّ: كن شيعيًّا من دون أساس، أو أقول للشّيعيّ: كن سنيًّا من دون أساس، أنا أقول إنَّنا نلتقي على توحيد الله، وعلى رسالة رسوله، وعلى اليوم الآخر، وعلى كتاب الله، وعلى العبادات الأساسيَّة، إنّنا نلتقي على ثمانين في المائة على الأقلّ فيما اتَّفقنا عليه، مع الاختلاف في بعض التَّفاصيل، فلماذا نركّز على الفواصل فيما بيننا؟
لقد علَّمنا الله سبحانه في علاقتنا مع أهل الكتاب أن نبحث معهم عن الكلمة السّواء، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]. وكم بيننا وبين أهل الكتاب من فواصل في فهم التَّوحيد! وكم بيننا وبينهم من اختلافات في كثير من قضايا التَّشريع والمفاهيم العامَّة! ومع ذلك، أرادنا الله أن نخاطبهم: تعالوا إلى الأرض المشتركة فيما بيننا، بقطع النَّظر عن الاختلاف في التَّفاصيل. {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46]. هذا هو الأسلوب الإسلاميّ فيما يختلف فيه النَّاس، إذا كان هناك ما يتَّفقون عليه.
فلماذا لا نجرّب هذا الأسلوب في داخل الواقع الإسلاميّ؟ ولماذا لا نكون الواعين كأمَّة إسلاميَّة وكمجتمع إسلاميّ، ونحن نرى، أيُّها الأحبَّة، أنَّ هناك حربًا عالميَّة ضدَّ الإسلام. لقد وقفت رئيسة حكومة بريطانيا "مارغريت تاتشر" بعد سقوط الاتحاد السّوفييتي في مجتمع الحلف الأطلسي، ووقف بعدها أمين عام الحزب الأطلسي، وهم يفكّرون في فائدة الحلف الأطلسي الّذي كان وسيلةً من وسائل مواجهة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، وسقط الاتحاد السوفييتي، فما جدواه بعدها إذاً؟ ماذا قالوا؟ قالوا إنَّ الإسلام هو العدوّ الَّذي لا بدَّ لنا أن نستعدّ له لنحاربه. يعني الحلف الأطلسي في عمق امتداده، يعتبر أنَّ الإسلام عدوّ لمصالح دوله، لأنَّ الإسلام يريد الحريَّة للنَّاس، وهم لا يستفيدون من هذه الحريَّة، ويريد للمسلمين أن يعملوا على أساس استثمار كلّ ثرواتهم، وعلى أساس أن يكونوا الأمَّة المنتجة، وعلى أن يحقّقوا الاكتفاء الذّاتيّ، وأن يكونوا الأمَّة الَّتي تلبس مما تصنع، وتأكل مما تزرع، وعند ذلك، يفقد أولئك الكثير من أسواقنا، ولذلك اعتبرونا عدوًّا.
مخطَّطُ الاستكبارِ العالميّ
إنَّهم يخطّطون في المسألة الثَّقافيَّة كيف يسقطون الإسلام ثقافيًّا في نفوس المسلمين، وفي المسألة السياسيَّة، كيف يحوّلون المسلمين إلى مزق متناثرة في العالم، وفي المسألة الأمنيَّة، كيف يسيطرون على كلّ أمننا ليكون على هامش أمنهم.
ونحن نعرف أنَّهم خطَّطوا لتكون إسرائيل في قلب المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، لتفصل المنطقة العربيَّة بعضها عن بعض فلا تتَّحد، ولا تنطلق في موقف موحَّد واحد. ولا زالت القوى الاستخباراتيَّة تعمل على أساس أن تكون إسرائيل القوَّة الأولى. إنَّهم يصرّحون بدون تحفّظ: إنَّنا نعمل من أجل الأمن الإسرائيليّ، ومن أجل أن تحافظ إسرائيل على التفوّق النَّوعيّ في أسلحتها في كلّ واقع المنطقة العربيَّة أو منطقة الشَّرق الأوسط.
إنّهم يثيرون النَّكير على الهند والباكستان لأنّهما امتلكتا قنبلة نوويَّة، وإسرائيل تمتلك عشرات القنابل النَّوويَّة، ومئات الرؤوس الَّتي يمكن أن تطلق بها القنابل النَّوويَّة، ولا تحرك أمريكا ساكنًا، ولا تسمح لأحد بأن يتحدَّث بأيّ إدانة لإسرائيل.
حتَّى الآن، كان العرب يقولون: "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف"، وقبلوا بعد ذلك بالصّلح، ولكنَّ إسرائيل أرادت صلحًا يتمّ على أنقاض كلّ الواقع العربيّ، صلحًا يعطيها كلَّ فلسطين، وما حول فلسطين. وقد تنازل الفلسطينيّون أخيرًا بعدما وقعوا في مرحلة اتّفاق أوسلو، فقبلوا بالانسحاب في هذه المرحلة بثلاثة عشر في المائة، ورفضت إسرائيل. وحتَّى الآن، أمريكا ليست مستعدَّة أن تصرّح بأنَّ إسرائيل قد أفشلت مبادرتها، لأنَّها تريد لإسرائيل أن تكون الأقوى، ونحن ممزَّقون متفرقون، ولا نستطيع أن نجتمع في قمَّة عربيَّة، ولا في قمَّة إسلاميَّة، وهم يتوزَّعون الأدوار، لا تصدّقوا أنَّهم يختلفون، سواء كان حزب اللّيكود أو حزب العمل، إنَّهم يتوزَّعون الأدوار فيما بينهم. لقد جرَّبنا حزب العمل، وعرفنا كيف كان قاسيًا في حكومته.
تقديمُ مصلحةِ الإسلام
لذلك، أيُّها الأحبَّة، هذا الواقع الَّذي نعيشه الآن في قلب المنطقة العربيَّة والإسلامية، ألا يفرض علينا أن نفكّر كيف نحمي أنفسنا من سياسة الاستكبار العالميّ، ومن سياسة الصّهيونيَّة العالميَّة؟ كيف نتَّفق على أساس الأرض المشتركة، وهي حريَّة أوطاننا واستقلالها، وأن تكون لنا قوّتنا الاقتصاديَّة في العالم؟ ولكن كما قال ذاك الشَّخص: "على من تتلو مزاميرك يا داوود؟".
القضيَّة أنَّنا أدمنَّا الضّعف، وأدمنَّا الفرقة. اليهود اليوم طوائف ومذاهب متعدّدة، ولكنَّهم اتَّفقوا على أن تكون فلسطين لهم، وعلى أن يسيطروا على الواقع العربيّ. ونحن مشغولون بصراعاتنا وخلافاتنا فيما بيننا...
يقال إنَّ الفاتح عندما جاء ليفتح أبواب القسطنطينية، كان القوم فيها يتنازعون هل البيضة أصل الدَّجاجة أم الدَّجاجة أصل البيضة، ومشغولون بالبحث الفلسفيّ الفكريّ: هل الملائكة ذكور أم إناث؟ ألا ترون أنَّ الكثير مما نتنازع فيه، ومما نختلف فيه، يتحرَّك في هذا الاتّجاه، إن لم يكن بنفسه، لكنَّه في جوّه؟! نحن الآن نتنازع في أشياء كثيرة لا غنى فيها ولا فائدة.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نتذكَّر النَّبيّ (ص)، فإنَّ علينا أن نتذكَّر كيف نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع عدل، وكيف نحوّل أمَّتنا إلى أمَّة للحريَّة، وكيف ننطلق لنتَّحد بالله، ونتَّحد برسوله وبكتابه، ومن خلال الله ورسوله وكتابه، نعرف كيف نسيطر على خلافاتنا.
وهذا هو الَّذي عاشه المسلمون في السَّابق، لقد عاش المسلمون، وهم الَّذين نختلف باسمهم، خلافات في الخلافات. ومع ذلك، كيف واجهوا الموقف؟ كانت هناك بعض المشاكل، ولكن عندما شعروا بأنَّ هناك خطرًا على الإسلام، جمَّدوا كلَّ خلافاتهم، وساروا في المسيرة الإسلاميَّة الواحدة.
ونحن نقرأ في "نهج البلاغة" كيف أنَّ عليًّا (ع) شرح لنا تلك المرحلة. يقول: "فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي - وقف موقفًا حياديًّا - حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ، حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتنَهَنْهَ"(7).
وهكذا كان (ع) يقول: "لُأَسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً"(8)، قد يكون الظّلم عليَّ، فلا مشكلة، المهمّ أن لا يُظلَم المسلمون. هذا هو منطق عليّ بن أبي طالب (ع)، وهذا هو منطق تلك المرحلة.
رفقًا بالإسلامِ والأمَّة
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نرفق بالإسلام، وأن نرفق بالمسلمين. إنَّ الاستكبار العالميَّ لا يطلب رأس الشّيعة وحدهم، ولا يطلب رأس السنَّة وحدهم، إنَّه يطلب رأس الإسلام. وهكذا عرفنا كيف أنَّه عمل على أن يقهر الشّيعة عندما وقفوا في مواجهته، وأن يقهر السنَّة عندما وقفوا في مواجهته... قد يأتي في بعض الحالات ليكون مع السنَّة ضدّ الشّيعة، أو يكون مع الشّيعة ضدّ السنَّة، ولكنَّه في كلّ ذلك مع نفسه ومع مصلحته. رفقًا بالإسلام، رفقًا بأجيالنا القادمة.
أيُّها الأحبَّة، نحن جيل النَّكبة، نحن جيل المأساة، نحن جيل الهزيمة، علينا أن لا نعطي أبناءنا هزيمة جديدة ومأساة جديدة، علينا أن نعمل على أن نصون قاعدتنا، ونصون أمَّتنا، ونصون أوطاننا، من كلّ الَّذين يريدون أن يسقطونا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. علينا أن نعرف كيف نتوحَّد وكيف نتحاور فيما نختلف فيه، وكيف نعمل على أن نقدّم إلى أبنائنا وطنًا حرًّا قويًّا صامدًا في مواجهة كلّ التَّحدّيات.
أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نكون الأقوياء في فكرنا، الأقوياء في سياستنا، الأقوياء في اقتصادنا، الأقوياء في أمننا. {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال: 60]، لأنَّ الله لا يعتبر الضّعف مبرَّرًا {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۖ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النّساء: 97].
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نفهم الإسلام جيّدًا، وأن نعمل للإسلام جيّدًا، وأن نقف في موقف التحدّي والمواجهة بشكل جيّد، حتَّى نقف غدًا بين يدي رسول الله (ص) في رحاب الله، لنقول: "يا رسول الله، لقد حمَّلتنا الرّسالة، ولقد قلت لنا في كلام الله أن لا ننقلب على أعقابنا من بعدك: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144]. هل نستطيع أن نقول له: يا رسول الله، نحن لم ننقلب على أعقابنا، بل بقينا قوَّة لدينك، وقوَّة لأمَّتك، وقوَّة للحاضر والمستقبل؟!.
هذا نداء المولد، هذا نداء رسول الله، فهل نستمع إلى نداء رسول الله الَّذي هو نداء الوعي والخير والمحبَّة والوحدة؟
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[آل عمران: 103].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۖ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أولئك هم الفاسقون * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 - 20].
والحمد لله ربّ العالمين.
* محاضرة لسماحته في مدينة حمص - سوريا، في ذكرى المولد النّبويّ الشّريف (ص)، بتاريخ: 12/07/1998م.
 
*** 
1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
2- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 77.
3- الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص 364.
4 - نهج البلاغة، الحكمة 178.
5 - نهج البلاغة، من كلام له (ع)، وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشَّام أيَّام حربهم بصفين.
6- الأمالي، الشّيخ الصدوق، ص 539.
7- نهج البلاغة، من كتاب له (ع) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولَّاه إمارتها.
8 - نهج البلاغة، من خطبة له (ع) لما عزموا على بيعة عثمان.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية