لم يكن السيّد محمّد حسين فضل الله مرجعاً دينياً فحسب، فالتعدديَّة في الوظائف هي الميزة الكبرى الّتي تميّز بها عن فقهاء عصره وعلمائه ومفكّريه وخطبائه وأدبائه ومصلحيه والناشطين والمجدّدين فيه، فإن لم تتّخذه مرجعاً تُقلّده في العبادات والمعاملات، فلا بدّ لك من أن تستهوي إحدى روائعه الشعريّة، وأنت تتصفّح أحد دواوينه، فيعُجبك كشاعر مرهف بالإحساس، وممتلئ بالشاعريّة، أو تؤمن بإحدى التفاتاته الفكريَّة الَّتي لم يسبقه مفكّر في إثارتها، أو تنجذب إلى طريقته المثلى في تبنّي المقاومة الإسلاميّة ورعايتها، فهو مرجع المقاومة، كما يسميه المقاومون الأحرار، أو تُعجب بمنهجية إنشاء المؤسَّسات الثقافيّة والعلميّة، وتبنّي المواهب، أو رعاية الأيتام والمتعفّفين وذوي الاحتياجات الخاصّة، من خلال المؤسسات الخيرية التي أشرف على تأسيسها في حياته، وعمل جاهداً على تطويرها.
لذلك أحببناه، واستشعرنا رسالته التي أفنى عمره في سبيل إيصالها لكل الناس، دون تمييز، فرسالته هي رسالة الإسلام المحمدي الأصيل، الذي أراد أن يظهره للعالم بصورته الصحيحة، بعيداً عن الخرافة والتخلّف والغلوّ والعصبيّة والتطرّف.
كيف لا نحبهُ وهو أحد أهم رواد الوحدة الإسلامية الحقيقية! وهنا، نُسلط الضوء على تجربته العملية في مجال الوحدة، فلم تكن تحركاته الوحدوية مجرد شعارات فضفاضة أو مؤتمرات وندوات للتقريب بين الأديان والمذاهب بلا محتوى، بل ترجم نظرية الوحدة بشكل عمليّ، من خلال انفتاحه على الآخر، ودعوته الجادة إلى الحوار، والفتاوى الحكيمة التي بادر إلى إصدارها، وأهمها فتوى تحريم سبّ أمهات المؤمنين والرموز الإسلاميّة.
كيف لا نُحبّك يا فضلاً من الله، وأنت مرجع الحب الذي أنار لنا الطريق في أجواء العتمة التي نعيشها! لم نحظ بشرف لقائك لقاءً جسدياً، ولكن التقينا بك لقاء فكرياً، وتذوّقنا حلاوة نتاجاتك الفكرية الَّتي حرَّمت الراحة على نفسك من أجل التوصّل إليها، فقلت: "الراحة عليّ حرام".
لم يرتح جسدك حتى آخر نبضة من نبضات قلبك، الذي استوعب حتى من أعلن الحرب ضدك، ولم يتوقف انشغال فكرك حتى وأنت راقد في المستشفى التي فارقت فيها الحياة، وكانت وصيتك اختصاراً لكلّ تحركاتك: "لن أرتاح حتى تسقط إسرائيل، الله الله في المسجد وحفظ الإسلام"، كما كانت دليلاً قاطعاً على أنك عشت طيلة تلك الحياة للإسلام والمسلمين، ولكل الناس المتفكّرين، وكانت قراءتك للساحة لا تقتصر على البلد الذي تعيش فيه، بل لكلّ بلدان المنطقة، وكنت حليماً عارفاً بمخطّطات الاستكبار العالميّ.
أتذكّر كلماتك الاستباقيّة قبل احتلال وطنك العراق بعدة سنوات، إذ قلت حينها إنَّ أميركا زرعت الحاكم الهدّام لهدف بعيد، وهو أن يستقبل العراقيون أيّ جهة تخلّصهم من هذا الحكم الاستبدادي الظالم، وهذا ما حصل بالفعل.
سيّدي فضل الله، لأجل كلّ هذا أحببناك، وأنت أهل لهذه المحبّة، ونحن ممتنون لك، سائلين الله أن يرحمك برحمته الواسعة، وأن يسكنك في عليين مع الشّهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.