هناك فكرة شائعة بين النَّاس، بأنَّ عقل المرأة أقلّ من عقل الرَّجل، حتَّى إنَّ بعضهم قلَّص النّسبة، فاعتبر أنّ عقلها لا يبلغ النّصف، ويتذرّع البعض في حججه تلك بما ورد في حديث عن أمير المؤمنين(ع) في (نهج البلاغة) عن النّساء، أنّهنّ نواقص العقول ونواقص الحظوظ ونواقص الدِّين، وعلَّل ذلك بأنَّ نقصان العقل يعرف من أنَّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فشهادة المرأة نصف شهادة الرّجل، وأمَّا أنهنّ نواقص الحظوظ، فإنَّ حصَّة الرّجل ضعف حصّة الأنثى: {
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء: 176 ]، وأمّا أنّهن نواقص الدّين، فقعودهنّ عن الصّلاة والصّوم أيّام الحيض. والسؤال الّذي يطرح: هل ما ورد من التّعليل يفيد أنَّ المرأة تملك عقلاً أقلّ من عقل الرّجل؟
نقصٌ أم إيمان؟!
بدايةً، لناحية تعليل مسألة نقصان عقلها بأنّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فعندما نأتي إلى قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[البقرة: 282]، الوارد في تعليل أن يكون هناك امرأتان في مقام الشَّهادة، فإنَّ ما نستنتجه، هو أنَّ الشّهادة لا بدَّ من أنْ تكون شهادة عدل، سواء كان رجلاً أو امرأة، لأنّ الضلال يكون إما من جهة النسيان أو من جهة الغفلة، والآية القرآنية لم تتحدّث عن مسألة عقل المرأة، وإنما تحدّثت عنه احتياطاً للعدالة، لأنّ الشاهد يمثِّل عنصراً أساسياً في عالم الحكم، ولذلك، لا بدَّ من أنْ يكون الشاهد عادلاً، ويشترط فيه أن يتحلَّى بقوّة الضّبط أو البصر، وقد تحدَّث بعض العلماء عن أنَّ المرأة أقلّ ضبطاً من الرجل، ولذلك، كان من الضّروريّ ضمّ امرأة أخرى، حتى إذا نسيت إحداهن ذكّرتها الأخرى، وهذا لا يعني نقصاناً في العقل، إذ إنَّ مسألة تعدّد المرأة في مقام الشّهادة ليس منطلقاً من نقصان العقل، وإنما هو منطلق من احتياط للعدالة، فيمكن أن يكون الشاهد عادلاً وموثوقاً به، ولكن يمكن أنْ يشتبه أو ينسى، وبهذا يردّ على تفسير نقصان العقل بالنقص في الضبط. ومن المعروف أنّ المطلوب في البيّنة هو تعدّد الشّاهد، فلا يقبل إلا شهادة عدلين، من خلال انضمام رجل عدلٍ آخر إليه، فإذا أردنا أنْ نستفيد أنَّ التعدد في الشهادة دليل على نقص العقل، فذلك يقتضي أيضاً نقص عقل الرّجل؛ لأنّ المطلوب في شهادة الرّجل التعدّد أيضاً، وذلك ما لا يلتزم به أحد.
بالنِّسبة إلى نقصان الحظّ لجهة ما ورد في قوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النّساء: 11]، فإنَّ حقيقة المسألة، أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما أخذ من المرأة ذلك في هذه الحالة، حمَّل الرّجل ما لم يحمِّله للمرأة. فالمرأة ليس عليها مهر، وليس عليها نفقة، لا على نفسها ولا على زوجها، ولا على الأولاد، وليس عليها دية، إذ إنَّ العصبة تدفع الدية في مثل هذه الموارد. والعصبة هم الرّجال من الأقرباء.
أمّا قضيّة نقصان الدّين بسبب قعودهنّ عن الصّلاة والصّيام، فإنّه صحيح، بمعنى أنّهنّ يخسرن شيئاً من الدّين بترك العبادة في زمن الحيض، لكنَّه في حقيقته التزامٌ بأمرِ الله سبحانه وتعالى في ترك الصّلاة والصّيام، وهذا يدلّ على كمال الدّين، فلولا أنَّ الله نهاهنّ عن الصّلاة والصّوم في حالة الحيض، لصلّين وصمن.
من ناحيةٍ أخرى، نرى أنّه لا فرق بين الرّجال والنّساء في كلّ الأمور الشرعيّة، من واجبات ومحرّمات مشتركة، وينحصر الفرق في الأمور الخاصّة بالنّساء في عالم الحيض أو ما أشبه ذلك. ولا يمكن أنْ يقال إنّ الدّليل على نقصان عقولهنّ، أنَّ الرّجل يتحمَّل المسؤوليّة في البيت والمرأة لا تتحمَّل ذلك، فإنَّ لذلك تفسيراً، وهو أنَّ المرأة مبتلاة بالحمل والإرضاع والدَّورة الشّهريّة وما إلى ذلك، ما يجعل قدرتها الجسديّة على القيام بمسؤوليّة البيت الزوجي، أقلّ من قدرة الرّجل في هذا العالم الّذي يتَّصل بالجانب الجسديّ، ولا يتَّصل بالجانب العقليّ أو الجانب الآخر[1].
نماذج تاريخيّة
لقد استطاعت المرأة تأكيد موقعها الفاعل في مواقفها الثّابتة المرتكزة على قاعدة الفكر والإيمان، وهو ما نلاحظه من خلال بعض التّجارب التّاريخيّة الّتي عاشت فيها بعض النِّساء في ظروف متوازنة، في نشأتها العقليَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، وهذا ما حدّثنا الله عنه في شخصيّة مريم وامرأة فرعون، وما حدّثنا التّاريخ عنه في شخصيّة خديجة الكبرى أمّ المؤمنين، وفاطمة الزّهراء وزينب ابنة عليّ(ع)... فإنَّ المواقف التي تمثّلت في حياة أولئك النّسوة العظيمات، تؤكِّد الوعي الكامل المنفتح على القضايا الكبرى الّتي عاشت في حياتهنَّ على مستوى حركة القوّة في الفكر والمسؤوليَّة والمواجهة للتحدّيات المحيطة بهنّ في السّاحة العامّة. وقد لا يملك الإنسان أن يفرِّق بينهنّ وبين الرّجال الّذين عاشوا في مرحلتهنّ بأيِّ ميزة عقليّة أو إيمانيّة في القضايا المشتركة.
وإذا كان بعض النّاس يتحدّث عن بعض الخصوصيّات غير العاديّة في شخصيّات هاتيك النّساء، فإنّنا لا نجد هناك خصوصيّة إلاَّ الظروف الطبيعيّة الّتي كفلت لهنّ إمكانات النموّ الرّوحيّ والعقليّ والالتزام العمليّ، بالمستوى الّذي تتوازن فيه عناصر الشخصيَّة بشكل طبيعيّ في مسألة النموِّ الذّاتيّ. ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول في وجود عناصر غيبيّة مميّزة تخرجهنّ عن مستوى المرأة العاديّ، لأنّ ذلك لا يخضع لأيّ إثبات قطعيّ، مع ملاحظة أنَّ الله سبحانه تحدَّث عن اصطفاء بعض النّساء، وهي مريم(ع)، من خلال الروحانيّة الّتي تميّزها، والسّلوك المستقيم في طاعتها لله، فيما قصَّه الله علينا من ملامح شخصيّتها عندما كفلها زكريّا، وعندما واجهت الموقف الصّعب في حملها لعيسى(ع) وفي ولادتها له. ولا بدّ من التوقّف عند شخصيّة امرأة فرعون الّتي كانت تعيش في القمّة من الجاه والنّعيم، ولكنّها تمرّدت على ذلك كلّه، وهكذا ضربها الله مثلاً للمؤمنين والمؤمنات، لتكون القدوة لهم في النّموذج الأمثل للقوّة الإيمانيّة الإنسانيّة المتمرّدة على سلطان الظّلم بكلّ إغراءاته وملذّاته، كما ضرب الله مريم ـ من بعدها ـ لهم مثلاً في الصّفة الأخلاقيّة في مستوى القمّة، كما كانت النّموذج الأمثل في التّصديق بكلمات ربّها وكتبه، وفي القنوت الخاشع لله في حياتها كلّها، حتّى كانت حياتها صلاةً كلّها. وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التّحريم: 11].
ونحن نعرف أنّ اعتبار المرأة المؤمنة القويّة قدوةً ومثلاً حيّاً للرّجال والنّساء من المؤمنين والمؤمنات، يدلُّ دلالة واضحة على أنّ القرآن يعترف للمرأة بقدرتها على أن تكون الإنسان القويّ الّذي يستعلي على كلّ مواقع السّقوط، ويتمرّد على كلّ نوازع الضّعف، ما يدلّ على أنّ المرأة في نموذجها الأمثل، يمكن أن تكون المثال للرّجل كما هي المثال للمرأة، من موقع الإنسانيّة المشتركة الّتي تستطيع أن تندفع في عطائها الإنسانيّ الأخلاقيّ في الموقف، بالمستوى الّذي تُلغى فيه فوارق الجنس أمام وحدة العقل والإرادة والحركة والموقف.
وإذا كنّا نتحدّث عن بعض النّماذج القرآنيّة، أو بعض الأسماء التّاريخيّة الإسلاميّة التي تمثّل البطولات الكبيرة للمرأة، فإنّنا سنلاحظ في قراءتنا للتّاريخ، النّسوة اللاتي جسّدن التفوّق في مجتمعهنّ، فيما يملكنه من قدراتٍ ومواهب ومواقف، تؤكّد القدرة الإنسانيّة للمرأة على أن تتجاوز نقاط ضعفها لتحوّلها إلى نقاط قوّة لتبلغ بها المستوى الرَّفيع.
وفي العصور المتأخّرة، وفي العصر الحاضر، نجد التَّجربة الإنسانيَّة في العلم والثّقافة والحركة السياسيَّة والاجتماعيَّة تقدِّم لنا الكثير من النّساء اللاتي استطعن أن يؤكّدن وجودهنَّ وتجربتهنَّ الرّائدة المعبِّرة عن مواقع القوّة الإنسانيَّة الدالّة على قدرة المرأة على التحدّي والثّبات والإبداع في مختلف المجالات العامَّة والخاصَّة، ما يوحي بوجود نوعٍ من التّوازن في القدرات الإنسانيّة في الظّروف المشتركة بين الرّجل والمرأة.
هذه صورة عن الواقع الحيّ الّذي يعيشه الرّجل والمرأة في الواقع الإنسانيّ الّذي يوحي بأنّ اختلاف الجنس في الطّبيعة الإنسانيّة، لم يمنع الاتّفاق على الوحدة في القوّة الفكريّة والإرادة الصّلبة والمرونة العمليّة لدى الرّجال والنّساء، مع توفّر ظروف القوّة والإبداع[2].
في النّظرة الإسلاميّة، نجد أنَّ قيمة الإنسان هي في إنسانيّته، والذّكورة والأنوثة هما خطَّان تفصيليّان في التنوّع الإنسانيّ الّذي يملك كلّ جانبٍ منهما غنى يقدّمه للحياة لتغتني به، فالأنوثة تقدّم حالةً من الغنى الرّوحيّ والعاطفيّ والحركيّ، والذّكورة تعطي نوعاً من الغنى العقليّ والرّوحيّ والعاطفيّ وما إلى ذلك. وهكذا تتكامل الأدوار وتتحقّق إنسانيّة الرّجل والمرأة من خلال هذا التّكامل.
[1] محاضرة للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، عنوانها: "المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام"، في ٦/١٢/٢٠١٣م، 13 شوَّال 1424 هـ.
[2] محاضرة للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، عنوانها: "تأمّلات إسلاميّة حول المرأة".