كتابات
14/06/2016

الانتماء إلى الإسلام بين الخطّين الفكريّ والعمليّ

الانتماء إلى الإسلام بين الخطّين الفكريّ والعمليّ

إنَّ السّؤال الّذي يفرض نفسه علينا دائماً في عمليَّة الانتماء، ولا سيّما الانتماء إلى الإسلام: هل إنّ الإنسان المنتمي يواجه كلّ الخطوط التفصيلية التي يتحرّك فيها انتماؤه، أم أنّه يملك الخيار بين أن يرفض بعضاً ويقبل بعضاً، فيرفض ما لا ينسجم مع مزاجه أو مع مصالحه أو بعض أوضاعه الاجتماعيّة، ويقبل ما ينسجم مع ذلك؟ أو أنَّ قضيّة الانتماء تقتضي تركيز القاعدة الّتي تجعل انتماءك شرعيّاً من خلال قناعاتك بالفكرة وبالخطّ، وأنّ عليك أن تقبل كلّ فروعها جملةً وتفصيلاً؟ لأنَّ الإنسان إذا آمن بالأصل، فلن يمثّل الفرع لديه شيئاً جديداً، فلا بدَّ من أن يؤمن به ولا يرفضه، بل يكون الفرع منطلقاً من الأصل الّذي يمثّل القاعدة، ذلك أنَّ الخطَّ يختزن في داخله كلّ الفروع.

الانتماء الشّكليّ

وهناك نماذج من النّاس تنتمي إلى فكر معيّن، فإذا صادفها خطّ من خطوط هذا الفكر بما لا ينسجم مع مزاجها ومع مصالحها، رفضته، وعلَّلت ذلك بمختلف التّعليلات، وأمّا إذا كان منسجماً معها، انفتحت عليه.

إنّ الله يحدّثنا عن هذا النَّموذج، ثمّ يحدِّثنا بعد ذلك عن النموذج الإسلامي الذي يمثّله المؤمنون في عمليّة انتمائهم إلى الإسلام. ففي سورة النّور يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} ، فهذا هو العنوان الكبير الذي يقدّمونه أمام الناس، عندما يعلنون انتماءهم الفكري إلى الإسلام، وهو ما نصطلح عليه بــ (الخطّ الفكري)، ثم عندما تتحرّك التجربة في الواقع {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، يُعرِضون وينحرفون ويتحدَّثون بطريقةٍ أخرى، أو يتحرّكون بخطٍّ آخر، وقد يكون كما قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}([1])، لأنَّ المؤمن هو الّذي يتحرَّك في خطِّه العمليّ، وفي امتدادات خطّه الفكريّ، بحيث لا يكون هناك أيّ فاصل بين منطق الفكرة ومنطق العمل.

فهؤلاء مؤمنون بالشَّكل فقط، في حين أنَّ مسألة الإيمان هي مسألة تتَّصل بالعمق؛ عمق الاقتناع في عقلك، وعمق الإحساس في شعورك، وعمق الحركة في اتجاهاتك. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، عندما يواجهون الواقع، فيما هو الحقّ وفيما هو الباطل، وقيل لهم إنّكم مؤمنون، والمؤمن لا بدَّ من أن يرجع إلى الله وإلى رسوله، لأنّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ}([2])  تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}([3]) ، لا ينفتحون على هذه الدعوة، ولا يستجيبون لله ولرسوله، ولا يحكّمون الله ورسوله، بل يحكِّمون الطّاغوت الّذي يتحرّك في غير خطّ الله ورسوله {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ}، يأتوا إليه، ويظهروا الإذعان والتّسليم، لا من موقع الإيمان، بل من موقع معرفتهم بأنَّ الحقَّ لهم، ما يجعل الإذعان إذعاناً للمصلحة للذّات، لا للحقّ في الإيمان.

الاحتكام حسب المصلحة

أمّا عندما يحدث الخلاف بيننا وبين فريق آخر، وعندما تندلع مشكلة، فحينئذٍ يُسأل المختصّون: ما هو الحكم الّذي يمكن أن يصدر في هذه القضية؟ فإذا رأوا أنَّ الحكم الذي سيصدر ينسجم مع مصالحهم، جاؤوا إلى ساحة حكم الله ورسوله، وأعلنوا حماسهم له وتقبّلهم له، أمّا إذا رأوا أنَّ الحكم لم يكن لصالحهم، بل لصالح خصمهم، رفضوا ذلك {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هل كانوا منافقين عندما أعلنوا إيمانهم، فكانوا يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر، والنفاق ـــ كما هو معلوم ـــ مرض وهو أن تعيش حياتك في شخصية مزدوجة، فشخصيتك المعلنة تمثّل خطاً وشخصيتك الخفيّة تمثّل خطاً آخر {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً}([4])، إنّه المرض العقلي والمرض النفسي والمرض الشعوري والمرض العملي، {أَمِ ارْتَابُوا}، شكّوا في الحقّ بعدما كانوا يؤمنون به {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}، يخافون أن يظلمهم الله، ولم يسألوا أنفسهم لماذا يظلم الله النّاس، فالّذي يظلم، كما جاء في دعاء زين العابدين(ع)، هو الضّعيف، من يأكل مالك بغير حقّ، ومن يضربك بغير حقّ، ومن يتّهمك بغير حقّ، ومن يسبّك بغير حقّ، فهو لا ينطلق من موقع قوّة، وإنّما ينطلق من موقع ضعف، ذلك لأنَّ ضعف موقفه وضعف حجَّته الّتي يدافع عنها، تفرض عليه أن يهرب إلى الإمام، فيظلمك وينتهك حرمتك: "وإنّما يحتاج إلى الظّلم الضّعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً"، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}([5])، الّذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحقيقة، وظلموا الإنسان والحياة كلّها، وهذا تعبير قرآني يعبّر به عن المنحرفين بأنّهم الظّالمون، لأنَّ الإنسان المنحرف لا يظلم نفسه عندما ينحرف بها عن الخطِّ المستقيم، ولكنّه يظلم النَّاس عندما يحرّك الخطَّ المنحرف ليحكم حياتهم، ويظلم الحياة عندما يبتعد بها عن خطِّ الاستقامة التي يبني لها قوّتها وثباتها وانطلاقها وانفتاحها، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الّذين ظلموا ربّهم بالمعصية، لأنَّ من حقِّ الله أن يُطاع ولا يُعصى، وظلموا أنفسهم فاستحقّوا غضب الله وسخطه، وظلموا الإنسان من حولهم عندما حرّكوا في حياته الانحراف، وظلموا الحياة عندما أبعدوها عن خطِّ الاستقامة. ثم يقول الله سبحانه وتعالى بأنّ هذا النموذج هو نموذج النّاس الظالمين لأنفسهم وللناس.

انتماء المؤمن

غير أنّ هناك المؤمن الحقّ الذي ينطلق من قاعدة واحدة، ويسير في خطّ واحد، المؤمن الذي لا يعيش الازدواجيّة بين ما هو فكره وبين ما هو عليه، لا يعيش الازدواجيّة والاهتزاز بين ما يعلنه للنّاس وما يعيشه في نفسه. إنّ المؤمن واحدٌ، ينطلق في خطٍّ واحد، ويؤمن بإله واحد، ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}([6])، لأنّهم آمنوا بالله، وانطلق إيمانهم ليحكم كلّ وجدانهم، وليتحرّك في كلّ حياتهم. وعندما آمنوا بالرّسول، عرفوا أنّه هو الّذي يمثّل وحي الله بكلّ صدق وبكل عصمة. ولذلك عندما آمنوا بالقاعدة، تحرّكوا بشكل عفويّ وطبيعيّ لا يحتاج إلى المزيد من الفكر، تحرّكوا في الخطّ المستقيم {اَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وأولئك هم الّذين يطابق قولهم فعلهم، ويطابق إيمانهم العلني إيمانهم الباطني، الداخلي، الفكري، وأولئك هم المفلحون.

ثمّ يعطي الله سبحانه وتعالى الخطّ والقاعدة العامّة للفائزين، من هم الفائزون عند الله؟ مَن هم النّاجحون؟ {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}([7])  وقد حدّثنا الله عن الفائزين في آيةٍ أخرى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}([8]).

الإخلاص في الانتماء

وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ يعطينا الله سبحانه وتعالى القاعدة، ولا بدَّ لنا من أن ننطلق في الحياة على كلّ الأصعدة، سواء كان ذلك في العقيدة أو في الخطّ، لننطلق من فكرة واحدة. ركّز عقيدتك وركّز خطّك وركّز انتماءك أوّلاً، وقبل أن تنتمي إلى أيّ فكر إسال عنه: على أيّ أساس يقوم هذا الانتماء؟ فكّر بعلم وبوعي، وعندما تضع خطّة، فكّر من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، فإذا اقتنعت بما تعتقد به على أساس من وعيٍ وفكرٍ، واستوعبت ما تنتمي إليه على أساس دراسة عميقة، وإذا رسمت خطَّك في الحياة على أساس الوضوح في البداية والنّهاية، عند ذلك أغمض عينيك وسرْ، لأنَّ عقيدتك هي النّور الّذي يشرق في قلبك، وهي الزَّخم الّذي يحرّك لك خطواتك، ولأنَّ انتماءك الحقّ هو الّذي يحدِّد لك مواقفك ومواقعك، ولأنَّ الخطَّ الّذي درسته جيِّداً في هندسة فكريّة وروحيّة وثقافيّة، هو الّذي يحدِّد لك أين البداية وإلى أين النّهاية. ولا تكن مزدوج الشخصيّة ولا تكن شخصاً يعيش الشّيء وضدّه، ولا تكن الإنسان الّذي يعيش في نفسه حرباً بين شخصيّتين، إنَّ الله الواحد يريد لك أن تكون الإنسان الواحد المتنوّع الأبعاد، ويريد لك أن يكون الخطّ الّذي تسير فيه واحداً، والفكر واحداً، والعاطفة واحدةً، والحركة في خطّ ذلك كلّه.

ـــ أيّها الأحبّة ـــ إنَّ قصّتنا هي قصّة الإخلاص. قل مع عليّ(ع) في دعاء كميل: "فإليك يا ربّ نصبتُ وجهي، وإليكَ يا ربّ مددتُ يدي"، وانطلق بعد ذلك {وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([9]). فمع الله الواحد في العقيدة الواحدة والخطّ الواحد، ننطلق في حياتنا الفكرية وفي علاقاتنا الاجتماعيّة. فإذا كنتُ أؤمن بالله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أؤمن برسول الله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أنتمي إلى الإسلام وكنتَ تنتمي إليه، فأين الإثنينيّة بيننا؟ فنحن واحد في تنوّع الموقف، وواحد في الفكر والإيمان والعقيدة. وفي ضوء هذا، علينا أن نكتشف وحدتنا بإيماننا وبربّنا وبنبيِّنا وبالإسلام كلّه، لنستطيع أن نتحرَّك في وحدة تختزن التنوّع من دون أن يسيء هذا التنوّع إلى الوحدة.

والحمد لله ربِّ العالمين.

فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الخامسة عشرة، بتاريخ: 21/9/1996.


([1]) سورة النور، الآية: 47.

([2]) سورة النساء، الآية: 59.

([3]) سورة النور، الآية: 48.

([4]) سورة البقرة، الآية: 10

([5]) سورة النور، الآية: 49 ـ 50.

([6]) سورة النور، الآية: 51.

([7]) سورة النور، الآية: 52.

([8]) سورة الحشر، الآية: 20.

([9]) سورة البقرة، الآية: 115.

إنَّ السّؤال الّذي يفرض نفسه علينا دائماً في عمليَّة الانتماء، ولا سيّما الانتماء إلى الإسلام: هل إنّ الإنسان المنتمي يواجه كلّ الخطوط التفصيلية التي يتحرّك فيها انتماؤه، أم أنّه يملك الخيار بين أن يرفض بعضاً ويقبل بعضاً، فيرفض ما لا ينسجم مع مزاجه أو مع مصالحه أو بعض أوضاعه الاجتماعيّة، ويقبل ما ينسجم مع ذلك؟ أو أنَّ قضيّة الانتماء تقتضي تركيز القاعدة الّتي تجعل انتماءك شرعيّاً من خلال قناعاتك بالفكرة وبالخطّ، وأنّ عليك أن تقبل كلّ فروعها جملةً وتفصيلاً؟ لأنَّ الإنسان إذا آمن بالأصل، فلن يمثّل الفرع لديه شيئاً جديداً، فلا بدَّ من أن يؤمن به ولا يرفضه، بل يكون الفرع منطلقاً من الأصل الّذي يمثّل القاعدة، ذلك أنَّ الخطَّ يختزن في داخله كلّ الفروع.

الانتماء الشّكليّ

وهناك نماذج من النّاس تنتمي إلى فكر معيّن، فإذا صادفها خطّ من خطوط هذا الفكر بما لا ينسجم مع مزاجها ومع مصالحها، رفضته، وعلَّلت ذلك بمختلف التّعليلات، وأمّا إذا كان منسجماً معها، انفتحت عليه.

إنّ الله يحدّثنا عن هذا النَّموذج، ثمّ يحدِّثنا بعد ذلك عن النموذج الإسلامي الذي يمثّله المؤمنون في عمليّة انتمائهم إلى الإسلام. ففي سورة النّور يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} ، فهذا هو العنوان الكبير الذي يقدّمونه أمام الناس، عندما يعلنون انتماءهم الفكري إلى الإسلام، وهو ما نصطلح عليه بــ (الخطّ الفكري)، ثم عندما تتحرّك التجربة في الواقع {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، يُعرِضون وينحرفون ويتحدَّثون بطريقةٍ أخرى، أو يتحرّكون بخطٍّ آخر، وقد يكون كما قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}([1])، لأنَّ المؤمن هو الّذي يتحرَّك في خطِّه العمليّ، وفي امتدادات خطّه الفكريّ، بحيث لا يكون هناك أيّ فاصل بين منطق الفكرة ومنطق العمل.

فهؤلاء مؤمنون بالشَّكل فقط، في حين أنَّ مسألة الإيمان هي مسألة تتَّصل بالعمق؛ عمق الاقتناع في عقلك، وعمق الإحساس في شعورك، وعمق الحركة في اتجاهاتك. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، عندما يواجهون الواقع، فيما هو الحقّ وفيما هو الباطل، وقيل لهم إنّكم مؤمنون، والمؤمن لا بدَّ من أن يرجع إلى الله وإلى رسوله، لأنّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ}([2])  تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}([3]) ، لا ينفتحون على هذه الدعوة، ولا يستجيبون لله ولرسوله، ولا يحكّمون الله ورسوله، بل يحكِّمون الطّاغوت الّذي يتحرّك في غير خطّ الله ورسوله {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ}، يأتوا إليه، ويظهروا الإذعان والتّسليم، لا من موقع الإيمان، بل من موقع معرفتهم بأنَّ الحقَّ لهم، ما يجعل الإذعان إذعاناً للمصلحة للذّات، لا للحقّ في الإيمان.

الاحتكام حسب المصلحة

أمّا عندما يحدث الخلاف بيننا وبين فريق آخر، وعندما تندلع مشكلة، فحينئذٍ يُسأل المختصّون: ما هو الحكم الّذي يمكن أن يصدر في هذه القضية؟ فإذا رأوا أنَّ الحكم الذي سيصدر ينسجم مع مصالحهم، جاؤوا إلى ساحة حكم الله ورسوله، وأعلنوا حماسهم له وتقبّلهم له، أمّا إذا رأوا أنَّ الحكم لم يكن لصالحهم، بل لصالح خصمهم، رفضوا ذلك {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هل كانوا منافقين عندما أعلنوا إيمانهم، فكانوا يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر، والنفاق ـــ كما هو معلوم ـــ مرض وهو أن تعيش حياتك في شخصية مزدوجة، فشخصيتك المعلنة تمثّل خطاً وشخصيتك الخفيّة تمثّل خطاً آخر {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً}([4])، إنّه المرض العقلي والمرض النفسي والمرض الشعوري والمرض العملي، {أَمِ ارْتَابُوا}، شكّوا في الحقّ بعدما كانوا يؤمنون به {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}، يخافون أن يظلمهم الله، ولم يسألوا أنفسهم لماذا يظلم الله النّاس، فالّذي يظلم، كما جاء في دعاء زين العابدين(ع)، هو الضّعيف، من يأكل مالك بغير حقّ، ومن يضربك بغير حقّ، ومن يتّهمك بغير حقّ، ومن يسبّك بغير حقّ، فهو لا ينطلق من موقع قوّة، وإنّما ينطلق من موقع ضعف، ذلك لأنَّ ضعف موقفه وضعف حجَّته الّتي يدافع عنها، تفرض عليه أن يهرب إلى الإمام، فيظلمك وينتهك حرمتك: "وإنّما يحتاج إلى الظّلم الضّعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً"، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}([5])، الّذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحقيقة، وظلموا الإنسان والحياة كلّها، وهذا تعبير قرآني يعبّر به عن المنحرفين بأنّهم الظّالمون، لأنَّ الإنسان المنحرف لا يظلم نفسه عندما ينحرف بها عن الخطِّ المستقيم، ولكنّه يظلم النَّاس عندما يحرّك الخطَّ المنحرف ليحكم حياتهم، ويظلم الحياة عندما يبتعد بها عن خطِّ الاستقامة التي يبني لها قوّتها وثباتها وانطلاقها وانفتاحها، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الّذين ظلموا ربّهم بالمعصية، لأنَّ من حقِّ الله أن يُطاع ولا يُعصى، وظلموا أنفسهم فاستحقّوا غضب الله وسخطه، وظلموا الإنسان من حولهم عندما حرّكوا في حياته الانحراف، وظلموا الحياة عندما أبعدوها عن خطِّ الاستقامة. ثم يقول الله سبحانه وتعالى بأنّ هذا النموذج هو نموذج النّاس الظالمين لأنفسهم وللناس.

انتماء المؤمن

غير أنّ هناك المؤمن الحقّ الذي ينطلق من قاعدة واحدة، ويسير في خطّ واحد، المؤمن الذي لا يعيش الازدواجيّة بين ما هو فكره وبين ما هو عليه، لا يعيش الازدواجيّة والاهتزاز بين ما يعلنه للنّاس وما يعيشه في نفسه. إنّ المؤمن واحدٌ، ينطلق في خطٍّ واحد، ويؤمن بإله واحد، ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}([6])، لأنّهم آمنوا بالله، وانطلق إيمانهم ليحكم كلّ وجدانهم، وليتحرّك في كلّ حياتهم. وعندما آمنوا بالرّسول، عرفوا أنّه هو الّذي يمثّل وحي الله بكلّ صدق وبكل عصمة. ولذلك عندما آمنوا بالقاعدة، تحرّكوا بشكل عفويّ وطبيعيّ لا يحتاج إلى المزيد من الفكر، تحرّكوا في الخطّ المستقيم {اَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وأولئك هم الّذين يطابق قولهم فعلهم، ويطابق إيمانهم العلني إيمانهم الباطني، الداخلي، الفكري، وأولئك هم المفلحون.

ثمّ يعطي الله سبحانه وتعالى الخطّ والقاعدة العامّة للفائزين، من هم الفائزون عند الله؟ مَن هم النّاجحون؟ {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}([7])  وقد حدّثنا الله عن الفائزين في آيةٍ أخرى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}([8]).

الإخلاص في الانتماء

وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ يعطينا الله سبحانه وتعالى القاعدة، ولا بدَّ لنا من أن ننطلق في الحياة على كلّ الأصعدة، سواء كان ذلك في العقيدة أو في الخطّ، لننطلق من فكرة واحدة. ركّز عقيدتك وركّز خطّك وركّز انتماءك أوّلاً، وقبل أن تنتمي إلى أيّ فكر إسال عنه: على أيّ أساس يقوم هذا الانتماء؟ فكّر بعلم وبوعي، وعندما تضع خطّة، فكّر من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، فإذا اقتنعت بما تعتقد به على أساس من وعيٍ وفكرٍ، واستوعبت ما تنتمي إليه على أساس دراسة عميقة، وإذا رسمت خطَّك في الحياة على أساس الوضوح في البداية والنّهاية، عند ذلك أغمض عينيك وسرْ، لأنَّ عقيدتك هي النّور الّذي يشرق في قلبك، وهي الزَّخم الّذي يحرّك لك خطواتك، ولأنَّ انتماءك الحقّ هو الّذي يحدِّد لك مواقفك ومواقعك، ولأنَّ الخطَّ الّذي درسته جيِّداً في هندسة فكريّة وروحيّة وثقافيّة، هو الّذي يحدِّد لك أين البداية وإلى أين النّهاية. ولا تكن مزدوج الشخصيّة ولا تكن شخصاً يعيش الشّيء وضدّه، ولا تكن الإنسان الّذي يعيش في نفسه حرباً بين شخصيّتين، إنَّ الله الواحد يريد لك أن تكون الإنسان الواحد المتنوّع الأبعاد، ويريد لك أن يكون الخطّ الّذي تسير فيه واحداً، والفكر واحداً، والعاطفة واحدةً، والحركة في خطّ ذلك كلّه.

ـــ أيّها الأحبّة ـــ إنَّ قصّتنا هي قصّة الإخلاص. قل مع عليّ(ع) في دعاء كميل: "فإليك يا ربّ نصبتُ وجهي، وإليكَ يا ربّ مددتُ يدي"، وانطلق بعد ذلك {وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([9]). فمع الله الواحد في العقيدة الواحدة والخطّ الواحد، ننطلق في حياتنا الفكرية وفي علاقاتنا الاجتماعيّة. فإذا كنتُ أؤمن بالله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أؤمن برسول الله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أنتمي إلى الإسلام وكنتَ تنتمي إليه، فأين الإثنينيّة بيننا؟ فنحن واحد في تنوّع الموقف، وواحد في الفكر والإيمان والعقيدة. وفي ضوء هذا، علينا أن نكتشف وحدتنا بإيماننا وبربّنا وبنبيِّنا وبالإسلام كلّه، لنستطيع أن نتحرَّك في وحدة تختزن التنوّع من دون أن يسيء هذا التنوّع إلى الوحدة.

والحمد لله ربِّ العالمين.

فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الخامسة عشرة، بتاريخ: 21/9/1996.


([1]) سورة النور، الآية: 47.

([2]) سورة النساء، الآية: 59.

([3]) سورة النور، الآية: 48.

([4]) سورة البقرة، الآية: 10

([5]) سورة النور، الآية: 49 ـ 50.

([6]) سورة النور، الآية: 51.

([7]) سورة النور، الآية: 52.

([8]) سورة الحشر، الآية: 20.

([9]) سورة البقرة، الآية: 115.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية