هناك الصراع الفكري العقيدي بين الإسلام والتيارات الفكرية المادية والعلمانية التي تتحدّى مفاهيم الإسلام في اللاهوت والشريعة والمنهج؛ فقد تحرّكت المسألة الفكرية لمناقشات فكرة الغيب في العقيدة، وقضايا الحريات ومسائل حقوق الإنسان، ولا سيّما المرأة بشكل خاصّ، إضافةً إلى مسألة الحكم في الإسلام والمذهب الاقتصادي والعنف والتطرّف ونحو ذلك، مما يفرض التوفر على دراسة ذلك كلّه، ومناقشة الأفكار والآراء المضادّة، من أجل تركيز المفاهيم الإسلاميّة على قاعدةٍ فكريّة صلبة لتحديد الفواصل بين الإسلام وغيره من التيّارات الأخرى، لكيلا يختلط الأمر على المسلمين. فقد نجد البعض ممّن يريدون التّوفيق بين الإسلام والاتجاهات الفكريّة الأخرى، يعملون على إعطاء المفاهيم الإسلامية بعضاً من خصائص المفاهيم العلمانيّة، أو إسباغ بعض عناوينها على الإسلام، كالديمقراطية واللّيبرالية... بعيداً من العمق الفكري الذي تختزنه هذه العناوين.
وقد تكون المشكلة الحادّة في هذا الموضوع، أنَّ المراكز العلمية، والمواقع الفكريّة، والحركات العلمانيّة، بدأت تفرض نفسها على الواقع الإسلامي، من خلال كونها تمثّل المواقع التي يتحرّك في داخلها الشباب في أجواء التربية والسياسة والاجتماع... باعتبار أنها المحاضن التي فرضت أساليبها ووسائلها واتجاهاتها الفكرية والسياسية على الواقع الإسلامي كلّه، فقد استطاع التطوّر المعاصر أن يفرض أسلوبه في الدارسة والمنهج، والخطّ الفكري، والمواد الثقافية على مدارسنا، ومناهجنا وخطوطنا الثقافية في أكثر من صعيد...
وإنَّنا لا نتعقد من الأخذ بالجديد مما توصل إليه الآخرون، لكنَّنا في الوقت نفسه نحتاج إلى نهضةٍ ثقافيةٍ إسلامية تناقش ذلك كلّه، في عملية نقدٍ وتقويم وتأهيل للمنهج الإسلامي على مستوى الفكر والمنهج والأسلوب، لئلا يكون التفاعل الثقافي على حساب الأصالة الإسلامية، مما قد يترك تأثيره على التصوّر والحركة والواقع.
إنَّنا ندعو إلى دخول العلماء والمفكّرين المسلمين في العصر، ليعيشوا في داخل ذهنيّته، ويتمثّلوا روحه، ويتعرّفوا أسلوبه ومنهجه، ويواجهوا قضاياه بالبحث والتحليل، في مقارنة بين طروحاته والطروحات الإسلاميّة، ويستعدّوا للوقوف أمام تحدّياته الفكرية، وليطلقوا في وجهه التحدّيات الكبرى، حفاظاً على حركة الإسلام الثقافية في الوجدان الإسلامي للأجيال الطالعة التي قد تضيع في متاهات الثقافة المعاصرة، فتبتعد عن الأجواء الثقافية الإسلاميّة.
وهناك الصراع السياسي الحادّ المفتوح بين الإسلام والغرب، فقد بدأ الغرب بكلّ أجهزته السياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية والإعلامية... في حرب مفتوحة على الحركة الإسلامية الجديدة التي تطرح قضايا الحريّة والعدالة على أساس الإسلام، لتدفع الواقع الإسلاميّ في ساحة حركة الأمّة نحو النمّو والتقدّم والأصالة، من أجل الحصول على مواقع القوّة إلى جانب المواقع القوية في العالم، لتكون مستقلة في التخطيط لتنمية طاقاتها في سبيل الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، على مستوى حاجاتها، وفي القرارات السياسية والأمنية، وفي الحركة الاجتماعية، وفي جميع مجالات الحياة. فقد بدأ الغرب يرى في ذلك خطراً على مصالحه في العالم الإسلامي، وفي العالم الثالث بشكل عامّ، لأنَّ سياسته كانت ولاتزال قائمة على اقتسام مناطق النفوذ بين دوله في الدوائر الأوروبية والأمريكية، ولذلك، فإنه يرى في كلّ حركة تحرّر، وفي كلّ شعار وحدةٍ، وفي كلّ خطّة تنمية مستقلّة في أية دولة من الدول الإسلامية، خطراً على مصالحه وامتيازاته؛ فهو يرى أنَّ ثروات العالم الإسلامي تمثّل الشريان الحيويّ لاقتصاده ورخائه، ما يجعل من الحركة الإسلامية التي تطالب باستغلال العالم الإسلامي لهذه الثروات، لتحقيق شروط قوّتها في سياسة الاكتفاء الذاتي التي هي أساس الاستقلال، لأنَّ الحاجات التي يملكها الآخرون هي التي تستعبد الشعوب في واقعها السياسي والاقتصادي، يجعلها تحت رحمة القوى التي تملك ذلك كلّه.
وهكذا رأينا الغرب يتحرّك بشكل مباشرٍ أو غير مباشر، لمحاصرة الحركة الإسلامية العالمية في مواقعها الإقليمية هنا وهناك، من خلال الأجهزة المخابراتية، والسلطات الموظفة من قِبَلهِ في هذا البلد الإسلامي أو ذاك؛ بحيث يحارب المسلمون بعضهم بعضاً من أجل المحافظة على مصالح الغرب في بلادهم، بفعل الإيحاء إلى هذا المسؤول الرسمي المسلم أو ذاك بأنَّ بقاءه في موقعه مشروط بمواجهته الحركة الإسلامية في بلده. وهكذا بدأ هؤلاء يحاصرون الإسلاميين في حرياتهم السياسية والثقافية، ويضغطون عليهم في الجانب الأمني، ويقومون بإثارة كلّ الاتهامات السلبية ضدّ قياداتهم، لإيداعهم في السجون، وإبعادهم عن قواعدهم الشعبية، ما يؤدي إلى حركة عنف شعبية مضادة، ردّاً على حركة العنف الرسمية؛ الأمر الذي حوّل البلاد إلى ما يشبه الفوضى الأمنيّة، نتيجة الأساليب التي تمارسها الدولة التي تقوم بالمجازر في أكثر من موقع لتلصقها بالإسلاميّين، لتشويه صورتهم لدى الأمَّة، ووصفهم بأنهم فئات إرهابيّة، إضافةً إلى الفوضى الفكرية التي قد تعيش في أذهان بعض المسلمين العاملين في الحقل السياسي، انطلاقاً من ثقافتهم الإسلامية الساذجة في الخطّ الحركي.
ومما يزيد الأمر سوءاً، قيام هذه الأجهزة بتوظيف بعض المواقع الدينية الإسلامية الرسمية وغير الرسمية لمواجهة الحركة الإسلامية، باسم مجابهة التطرف، ومحاربة الإرهاب، والتنظير للمنهج الاعتدالي الذي يدعو إلى المصالحة مع الأنظمة، والخضوع لمخططاتها، وتبرير سياساتها الخاضعة للمخططات الاستكبارية؛ باسم الضرورات التي تمنح الشرعية لكلّ النتائج السلبية لمشاريعها السياسية، باسم الاضطرار إلى ذلك، من دون دراسة للعوامل الخفيّة الكامنة وراء ذلك كلّه.
لقد أعلن الحلف الأطلسي الإسلام عدّواً للغرب، بعد سقوط العدّو الآخر ـ وهو الاتحاد السوفياتي ـ وعلى هذا الأساس، بدأت الحرب على الإسلام الحركيّ باسم الحرب على التطرّف والإرهاب والتعصب... وغير ذلك من الكلمات التي أراد الغرب منها تبرير حربه حتى لدى المسلمين، باعتبار أنَّ هؤلاء يسيئون إلى العالم الإسلامي لا إلى الغرب وحده، ليثير النّاس ضدّه، ولا سيما مع حركة "وعّاظ السلاطين" في الاتجاه نفسه.
إنَّ الواقع الذي نواجهه هو هذه الحرب الثقافية والسياسية والأمنية والإعلامية التي تتحدَّى الواقع الإسلاميّ الحركيّ كلّه.
وإنَّنا ـ في هذا المجال ـ نرى ضرورة التوفر على مواجهة الموقف بدقّة وحذرٍ وشموليّة... وذلك من خلال العمل على وحدة الحركة الإسلامية في العالم، ودراسة الأساليب والوسائل التي تستخدمها في هذه الحرب، من أجل القيام بحركة نقديّةٍ عميقة لمحاكمة بعض الأخطاء والانحرافات التي يمارسها بعض الإسلاميّين في خطّ المواجهة، ما يجعل للأعداء أكثر من فرصة ذهبيّة لتشويه صورة الإسلاميّين لدى الشعب والأمّة؛ هذا، مع القيام بعملية توزيع الأدوار تبعاً لتنوّع المناطق والمواقع، ليتولى كلّ موقع دوره الإعلاميّ أو السياسيّ أو الثقافيّ... لدعم الحركة الإسلامية في هذا البلد أو ذاك...
*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".