لانزال في أجواء الهجرة النبوية الشريفة. وعندما نتحدّث عن الهجرة، فلا بدّ من
أن نتحدث عن المرحلة التي سبقت الهجرة، لنتعرَّف من خلال ذلك بعض المحطات التي كان
النبي يقف عندها الرسول(ص) في حركته في الرسالة، مما يمتد بنا إلى كل مواقع الأجيال.
ولا بدّ لنا من أن ندرس الظروف التي عاشها النبيّ والمسلمون في تلك المرحلة،
لنتعرّف من خلال ذلك طبيعة المعاناة التي عاشها الرسول في خطِّ الرّسالة والمسلمون
معه، لنتعرّف أنَّ مسألة المعاناة في حركة الرسالة هي مسؤوليَّة كلّ جيلٍ من أجيال
الإسلام... وهكذا نتعرّف الظروف المباشرة التي عاشت في مرحلة الهجرة، وهل إنّ هجرة
النبيّ كانت خوفاً كما يحاول البعض أن يوحي، أو كانت خطّةً رتّب النبيّ(ص) كلّ
ظروفها، وأشرف الله سبحانه وتعالى على كلّ حركتها.
إعداد النبيّ قبل الرّسالة
نحن نعرف أنَّ النبي(ص) بعث رسولاً في الأربعين من عمره، وكان قبل الرسالة يعيش
متأمّلاً متعبّداً مفكّراً في غار حراء، وكان النبيّ آنذاك يعدّه الله إعداداً
عقليّاً وروحياً وحركياً للرسالة، أي أنّ الرسالة التي أرسل الله بها رسوله، لم
تنطلق من حالة فراغ، بل كان هناك إعداد إلهيّ للنبيّ(ص) في الخطوط العامّة التي
يراد من خلالها بناء شخصيّته.
نحن لا نجد هناك نصوصاً كثيرة حول هذا الموضوع، ولكنّ علياً(ع) في نهج البلاغة،
يحدّثنا عن طفولته مع رسول الله، وكيف كان رسول الله يضمّه في حضنه وينيّمه في
فراشه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمه إيّاه، وكان يلقي إليه في كلّ يوم خلقاً من أخلاقه،
وكان(ع) يتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه.
في هذا الجوّ الّذي تحدّث به عليّ(ع) عن شخصيّته التي بناها رسول الله منذ طفولته،
مما لم يتيسّر لأيّ واحد من الصحابة، وهذا من لطف الله بعليّ(ع)، إضافةً إلى ألطافه
الكبرى. ولهذا، كانت الكلمة التي يقولها كثير من المسلمون عن عليّ: "كرّم الله وجهه"،
يعني "كرّم الله وجهه عن السجود لصنم"، وأنه ليس هناك من المسلمين الذين دخلوا في
الإسلام من لم يسجد لصنم. ولكنّ عليّاً(ع) وحده من بين الصحابة لم يسجد لصنم قطّ،
بل بدأ طفولته وهو يسجد لله مع رسول الله.
في هذا الجوّ، كان(ع) يقول عن رسول الله: "ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه(ص) مِنْ لَدُنْ
أَنْ كَانَ فَطِيماً، أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ
الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه"، بمعنى أنَّ
الله كان يثقّف رسوله، وعليّ هو أصدق الصادقين عن تلك الفترة، عندما يحدِّث عن رسول
الله وعن تلك الفترة التي كان يعيشها، كان عندما يأتي الملك ليثقّف النبيّ، كان عليٌّ
يراه، لأنَّ النبيّ(ص) قال لعليّ: "يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى،
ولكنَّك لست بنبيّ".
فالمهمّ أنّ النبيّ(ص) كان الله يعدّه إعداداً من جانبين:
أوّلاً: في هذه التهيئة النفسيّة الروحيّة التأمليّة، وفي هذا الإعداد الثقافي، إذا
صحّ التعبير، من خلال ملكٍ عظيمٍ من أعظم ملائكته. أمّا تفاصيل الرسالة، فقد تركها
الله لما بعد بعثته، ولذلك قال تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا
الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُور}.
كان النبيّ(ص) رسالياً في أخلاقه وفي روحانيّته وفي فكره قبل أن يبعث بالرسالة،
بحيث إنّ كلّ عناصر شخصية الرسول(ص) كانت مجتمعة فيه، ولم يبق إلا أن يبعثه الله
رسولاً. ولذلك عاش(ص) أربعين سنة في قومه، ولم يتحدّث أيّ شخص بأيّ نقطة ضعف عنه،
وكان رسول الله يعيش مع الناس، وكان يخرج ليتعبّد ويتأمّل.
وعندما أرسله الله بالرسالة، أراد له في البداية أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أراد
له أن ينذر أمّ القرى، وهي مكَّة، وما حولها، ثم قال له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وهذا ما أعطى حركة الرّسالة عالميّتها. ثم أراد
الله له أن ينطلق برسالته علناً، لأن بعض مؤرّخي السيرة يقولون إنّ النبيّ بقي ثلاث
سنين يدعو إلى الله سراً، حتى يهيّئ القاعدة للرّسالة، ثم أراد الله أن ينطلق بها:
{يا أيها المدثّر* قم فأنذر* وربك فكبِّر...}، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً
ثَقِيلاً...}.
بدء الدّعوة العلنيّة
وهكذا، بدأ النبيّ(ص) الدعوة العلنيّة، وبدأ التحدي منذ ذلك الوقت. في البداية،
كانت قريش ترى هذا المسلم أو ذاك يدخل في الإسلام، فكانت لا تعتبر أنّه يشكّل خطراً
عليها، بل تعتبر أنّ هؤلاء الجماعة مسألة ليست مهمّة، ولكن عندما بدأ النبيّ
بالتحدّي، وبدأت الدعوة إلى التّوحيد والتحدّي للأصنام، وأصبح يتكلّم بقوّة، هنا
شعرت قريش بالخطر من هذه الدعوة الجديدة، ومن هذا الموقف الصّلب الّذي وقفه رسول
الله(ص)، وحاولوا أن يحاصروه.. جاؤوا إلى عمّه أبي طالب، وهو الذي كفل النبيّ(ص)
بعد أبيه عبد المطلب، وطلبوا منه أن يتوسَّط مع النبيّ، لأنّهم من الأساس لم
يتصوَّروا أن النبيّ صاحب رسالة، بل إنه رجل أراد أن يحصل على موقع اجتماعي...
عادةً، كثير من الناس الذين يريدون أن يبحثوا عن ذاتهم في المواقع الاجتماعيّة،
يحاولون أن يطلقوا تياراً سياسيّاً، تياراً اجتماعيّاً، صرعة من الصرعات، حتّى يلتفّ
حولهم الناس، ويحقّقوا ما يريدون.
هكذا ظنّت قريش في الرّسول(ص)، أنّه كان يريد الملك والسيادة، فقالوا لأبي طالب: إن
كان يريد منصباً، نصّبناه علينا، وإن كان يريد مالاً، فهذه أموالنا بين يديه، فقال
النبيّ(ص) الكلمة المعروفة: "يا عمّ، والله لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في
يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه".
منهج التّفكير الموضوعيّ
وانطلقت الاضطهادات للنبيّ(ص)، وكانوا يستغلون عمّه أبا لهب، وكان النبيّ يمشي
ويدعو الناس، وعمه من ورائه يقول: لا تصدّقوا ابن أخي فإنه مجنون.. ولم يكن النبيّ
يتعقّد أو يثور ولا يغضب ولا ينهزم نفسياً، بل إنّ الله علمه أن يتحدّث مع هؤلاء
بطريقة منهجيّة، ويجب أن نتعلّم هذه الطّريقة نحن أيضاً، عندما كانوا يقولون عنه
إنه مجنون، بعد أن قالوا عنه إنّه ساحر وشاعر وكاذب، وإنَّ ما جاء به هي أساطير
الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً، وقالوا إنّه مجنون.. ولكن، كيف واجه
النبيّ هذه التّهم؟
كان يعلّمهم منهج التفكير الموضوعي العقلاني الّذي إذا أخذوا به، أمكنهم أن يحكموا
هل هو مجنون أو ليس بمجنون. قال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}. الشيء
الأوّل الذي أطلبه منكم، أن تنفصلوا عن بعضكم البعض، لأنّ هذا الجوّ الجماعي يفقد
الإنسان استقلاله الفكريّ. بعض علماء النفس يسمّونه العقل الجمعي، بمعنى أنَّ
الإنسان عندما يكون بين الجماعة، يفقد عقله الفرديّ، ويصير عقله عقل الجماعة.
الحمّى الجماهيريّه، حمّى المجموع، تفقد الإنسان هدوء العقل وهدوء الفكر. ولذلك، من
أخطر الأجواء هي الأجواء الجماهيريّة التي تقودها بعض العناصر التي تثير غرائزها،
وتجعلها تهتف وتندفع بطريقة معيَّنة، بحيث يتحرَّك الناس معها من دون أن يفكّروا،
لأنه مع المجتمع، يفقد الإنسان تفكيره. ولذلك، قال لهم النبيّ(ص) كما علّمه الله: {أَن
تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُو}، فعندما تجلسون واحداً
واحداً، أو اثنين اثنين، يرجع لكم عقلكم، وتغيب عنكم هذه الحمَّى الجماهيريَّة التي
سيطرت على عقولكم، ثم تتفكَّرون في كلماتي؛ {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ}، هل هي
كلمات عاقل أو مجنون؟ في أعمالي، في سيرتي، في أخلاقي، في مواقفي... {إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
لم يكن هدف النبيّ(ص) أن يدافع عن نفسه، ولكن كان هدفه أن يعلّم الناس المنهج الذي
يستطيعون من خلاله أن يفكّروا بطريقة سليمة. وهذا المنهج القرآني النبويّ هو ما
نحتاجه، أيّها الأحبَّة، لأنّنا في مجتمعنا، سواء المجتمع العائلي أو العشائري، أو
الأوضاع الاجتماعيَّة القائمة على العصبيَّة، أو الأوضاع السياسيَّة، ربما تحرِّك
وضعاً جماهيريّاً ضدّ إنسان، ضدّ جماعة، ضدّ خطّ معيَّن، بنحو أنَّ الجماهير تندفع
من خلال العناصر التي تؤثِّر في الجماهير...
ونحن مما نحمد عليه الله الّذي لا يحمد على مكروه سواه! أنّنا عندنا في هذا العالم
أجهزة مخابرات كثيرة؛ مخابرات دولية وإقليمية ومحلية وحزبية إلى آخر القائمة،
ودورها أن تشحن الجماهير، أن تستثير غرائز الجماهير، أن تلعب على نقاط ضعف الجماهير.
وعندئذٍ ينطلق الناس بالحديث دون أن يفكّر أحد في هذا الشّيء الذي يتحدّثون به، ما
الأساس فيه؟ ما المصدر؟... وهذا الإمام عليّ(ع)، وهو في خطّ منهج النبيّ(ص) يقول: "بين
الحقّ والباطل أربع أصابع". قالوا: وضِّح لنا يا أمير المؤمنين، قال: "الباطل أن
تقول سمعت، والحقّ أن تقول رأيت".
ونحن نحتاج أن نأخذ بهذا المنهج، وكثيراً ما توجَّه إلى كثير من النّاس في الواقع
السياسي والواقع الدّيني والواقع الاجتماعي... فما أكثر ما يظلم الناسُ الناسَ،
بالكلمات التي تنطلق من الغرائز لا من العقل ولا من الإيمان!
تمدّد الرّسالة
وهكذا ثار النبيّ(ص)، وكان يُسَبّ وكان يُشتَم وكان يرمَى بالحجارة، ولكنه(ص) كان
يقول: "اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون". لا تعذّبهم يا ربّ، لأن عقولهم تحجّرت
بفعل كلّ هذه الجاهليات، ولأنّ قلوبهم تحجّرت، ولأنّ حياتهم تحجَّرت، وهم يحتاجون
إلى وقت لتزول كلّ هذه الحجارة الفكرية والعاطفيّة والحياتية منهم.
وبدأ الناس يدخلون في الدّين، وكان كلّ شخص يسلم ـ كما تقول كتب السّيرة ـ يشعر بأنَّ
إسلامه حمّله مسؤوليَّة أن يأتي بمسلمٍ آخر، وإذا باليوم الثاني يأتي بشخص مسلم،
لأنَّ الإسلام، حسب ما فهمه المسلمون الأوّلون، والذي يجب أن نفهمه أيضاً في
مرحلتنا، هو مسؤوليّة، فعندما تصير مؤمناً، فإنّ عليك أن تفكّر في أنّ مسؤوليّتك أن
تعيش إيمانك في نفسك، وأن تأتي بمؤمن آخر.. فأنت لم تكن تصلّي وصرت تصلّي، ولم تكن
تصوم وصرت الآن تصوم، كنت تشرب الخمر وتركته... وهكذا، عندما يعيش الإيمان في قلبك،
تتحسّس أنّ الله سوف يسألك: كم مؤمناً جذبت إلى الإيمان؟! هذه مسؤوليّة كلّ مسلم
ومسلمة.
وبهذا امتدّ الإسلام واتسع، لأن المسلمين، سواء كانوا علماء أو تجاراً أو عمالاً،
عندما كانوا ينطلقون في العالم، كانوا يشعرون بأن عليهم المسؤوليَّة في أن يحوّلوا
كلّ منطقة يحلّون بها إلى منطقة إسلاميّة.
فكما أنّ أهل الكفر وأهل الفسق وأهل الفجور، يعملون لجرّ النّاس إليهم، نحن علينا
أن نعمل بطريقتنا أيضاً، لأنّه "لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضّلال".
اضطهاد قريش للمسلمين
وهكذا انطلق المسلمون، إلى أن بدأت قريش تشعر بالخطر، لأنّ الدعوة كانت مستمرّة من
خلال النبيّ، والوحي كان ينزل حتى يثقّف المسلمين، والمسلمون يعيشون هذه الروحانيّة
والصّلابة، فالمسلمون في ذلك الوقت، مع أنهم كانوا مستضعفين، إلا أنّهم كانوا في
مستوى من الصلابة بحيث إنهم لا يصرخون.
بلال الحبشي كانت توضع الصخور على صدره في رمضاء مكّة حتى يقول كلمة الكفر، ولكنّه
كان يقول: أحد أحد.
ياسر وسميّة أبوا عمار، أريد لهما أن يقولا كلمة الكفر بالسّياط على الصخور المحرقة،
تضرب ظهورهما بالسياط، وكانوا يقولون: لا إله إلا الله، إلى أن طعن ياسر وسمية
واستشهدا، وكانا أوّل شهيدين في الإسلام.
ابنهما عمّار كان شابّاً ما استطاع أن يتحمّل، فنطق بكلمة الكفر، ولكن عندما نطق
بها، جاء مرعوباً إلى رسول الله، قال له: ماذا بك؟ قال: يا رسول الله، لقد نطقت
بكلمة الكفر تحت الضّرب والتعذيب. قال: "يا عمّار، إنّ الله أنزل فيك قرآناً: {إِلاَّ
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}. يا عمّار، إن عادوا فعد".
وهكذا، ضاق المسلمون بالتّعذيب، وكانوا مستعدّين للمواجهة، ولكن النبيّ(ص) كان
يمنعهم ويقول لهم لم أؤذن بالقتال.
مرحلة مكة كانت مرحلة الدعوة، وكان هدف النبيّ(ص) أن لا يثير المسلمون أي مشكلة في
المواجهة مع قريش، لأن الناس عندها ينشغلون بالمعركة وتنسى القضيّة.
كان النبيّ يستغل مرحلة مكّة باعتبارها مكاناً للحجّ، وباعتبارها مكاناً ثقافياً،
وسوق عكاظ كانت سوقاً تجارية للمنطقة كلها، فكان يريد أن يوصل الرسالة إلى أهل مكّة
ومن حولها، وكان يستفيد من الناس الذين يأتون من المنطقة العربية، حتى يؤدي إليهم
الرسالة، ويختصر سفرات إلى تلك الأماكن.
لذلك منعهم أن يدخلوا في معركة، وقال لم أؤمر بالقتال. ووصل التعذيب ببعض المسلمين
حدّاً كبيراً، إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وكانت هناك هجرتان كما يقول
المؤرخون. وأرسلت قريش بعض الأشخاص لتأليب ملك الحبشة عليهم، ووقف المسلمون، ووقف
جعفر بن أبي طالب بكلّ قوّة، وأعطى صورة مشرقة للإسلام لملك الحبشة، حتى فشلت
مؤامرة قريش، لأنّ المسلمين في ذلك الوقت كانوا يتحركون على أساس الرسالة.
خطّة لاغتيال الرّسول(ص)
وهكذا، عاش النبيّ، وبدأ يعدّ العدّة لإيجاد بلد يكون قاعدة إسلاميّة للإسلام،
فاستقبل بعض أهل المدينة.
كان في المدينة يهود، وكان اليهود يحدّثون أهل المدينة بأنّ هناك نبيّاً سوف يظهر،
وسوف نكون نحن أتباعه، فسمعوا باسم رسول الله والمشاكل التي تحدث بينه وبين قريش،
فقالوا هذا الذي تحدّثنا به اليهود، فأرسلوا وفداً بايع النبيّ، ثم وفداً ثانياً،
وأرسل النبيّ إليهم بعض المسلمين المثقّفين، مثل مصعب بن عمير الذي استشهد في أحد،
إلى أن صارت يثرب تعتبر القاعدة القويَّة التي يمكن أن يهاجر النبيّ إليها ليقيم
فيها المجتمع الإسلامي.
في هذه الحال، بدأت قريش تشعر بالخطر، لأنها سمعت بما حدث خارج مكَّة، وأن دعوته
انتشرت، فعقد المؤتمر "النَّدوة"، وقدِّمت فيه اقتراحات حول طريقة مواجهة دعوة
النبيّ(ص)، فكان من الاقتراحات: أن نحبسه حتى يموت، واقتراح آخر، أن نخرجه فيموت
عطشاً في الصحراء، أو نقتله... طبعاً، كلّ اقتراح واجه معارضة من البعض، الاقتراح
الأوّل، كان الاعتراض أنّه قد يأتي أصحابه وبنو هاشم ويخرجونه. أيضاً، إذا فرضنا
أننا أطلقناه في الصحراء، فعنده أصحاب وأتباع، فينجو وينطلق إلى القبائل ويؤثّر
فيهم، لأن كلامه يسحر. أمّا اقتراح القتل، فخافوا من بني هاشم أن يأخذوا بالثأر.
وكان الاقتراح، أنّه إذا كنتم تخافون من بني هاشم، فأتوا بعشرة شباب من كلّ فخذ من
قريش، يقفون على رأسه عند الفجر، ثم يجردون سيوفهم عليهم بضربة واحدة، فيضيع دمه
بين عشائر قريش، وعندها، لن يقدر بنو هاشم على الوقوف بوجه كلّ العشائر التابعة
لقريش. فاتّفقوا أنّ هذا هو الرأي...
مبيت عليّ في فراش الرّسول
ولكنّ الله سبحانه وتعالى أخبر النبيّ بالخطّة، وأمره في ذاك الوقت بأن يهاجر. ومن
هو الّذي يغطّي انسحاب النّبيّ، والنبيّ معروف بيته؟ والنبيّ(ص) لم يكن عنده مثل
عليّ(ع). فطلب منه(ص) أن يبيت على فراشه، وأخبره بالخطَّة، وأنّه عند طلوع الفجر،
ستكون هناك عشرة سيوف مسلطة فوق رأسك. فماذا كان ردّ فعل الإمام عليّ(ع) في ذلك
الوقت، وهو ابن 22 سنة أو 23 سنة، شاب أحلامه أمامه، ليس المطلوب منه أن يقاتل، بل
أن ينام والسيوف فوق رأسه. تصوروا القصة حتى تعرفوا عظمة مبيت عليّ(ع) على فراش
رسول الله(ص).
ماذا كان ردّ فعل الإمام عليّ؛ هل قال له: يا رسول الله، أنا أخاف، لا، بل قال له:
أوتسلم؟ أنا مسؤوليّتي أن أكون معك لأحميك، لأنَّ حياتك هي حياة الأمَّة وحياة
الرسالة، لذلك، إنّ كلّ همّي ليس أن أسلم أو لا أسلم، بل هل تسلم أنت أو لا تسلم.
قال بلى، قال: "إذاً، اذهب راشداً مهديّاً، لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت
عليّ".
وهكذا، انطلق النبيّ(ص)، وأحاطت به ألطاف الله سبحانه وتعالى، وكان واثقاً مطمئنّاً
وهو يقطع الصحراء بين مكّة والمدينة، والقوم وراءه يقتفون أثره، وقد دخل الغار،
وكان معه أبو بكر، وجاء الّذين يقتفون الأثر، ووقفوا على فم الغار. فكيف رتّب الله
القضيّة؟
بعث حمامةً باضت في فم الغار، وعنكبوتاً نسجت خيوطها على فم الغار، ومدخل الغار
ضّيق، ما يعني أنّه لا يستطيع أحد الدّخول، وأيّ حركة وتنكسر البيضة.
مقتفي الأثر يقول هنا ينتهي الأثر، ولا بدَّ من أن يكون في الداخل، والآخرون
يستغربون، باعتبار بيت العنكبوت لايزال سليماً. وهذا ما حدّثنا الله عنه في القرآن:
{... فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ - الّذي ارتجف وارتعد خوفاً - لا
تَحْزَنْ – لماذا الخوف- إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
– الطمأنينة والهدوء النفسي والثقة بالله والقوّة - وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ
تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى - وحبطت مؤامرتهم -
وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وحدّثنا الله أيضاً عن
المؤامرة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ}، إذا أراد الله أن يدبر خطّة، فإن خطته تنجح فوق كلّ الخطط.
المؤاخاة بين المسلمين
وبدأ النبيّ(ص) في المدينة، وسنتحدث عن ذلك لاحقاً، إن شاء الله، لكن هناك نقطة
أحبّ أن نلتقطها من جهة مجتمعنا الإسلاميّ، وهي أنّ النبيّ(ص) حتى يربط المجتمع
المسلم ببعضه البعض، آخى بين المؤمنين.
هناك أخوَّة عامَّة وهناك أخوَّة خاصَّة، وقد أراد الرّسول(ص) أن يقيم روابط شخصيّة
بين المسلم والمسلم الآخر، وعندما جاء إلى المدينة، وجاء المهاجرون بعده، آخى بين
المهاجرين والأنصار، حتى لا تصير عقدة بين المهاجرين من مكَّة الفقراء، والّذين ليس
عندهم شيء، وبين الأنصار الأثرياء، وكي لا يتصوَّروا أنهم كلّ عليهم.
كما في هذه الأيّام نسمع، أنّ مقدونيا عندما أريد أن يأتي إليها الألبان المسلمون
من كوسوفو، لم يقبلوا، باعتبار أن وجودهم سيسبّب تداعيات وإرباكاً للمجتمع وما أشبه
ذلك.. كذلك عندما أتى الفلسطينيّون إلى لبنان، حيث قال الكثيرون إنّ وجودهم سيحدث
في لبنان مشكلة، وسيختلّ التوازن الطّائفي وما أشبه ذلك.
وما فعله النبيّ(ص)، استطاع أن يركِّز العلاقة بين المسلمين... وقد تحدَّث الله عن
الأنصار بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
ثم أنزل الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
عليّ والرّسول أخوان
وعندما آخى النبيّ بين المسلمين، بقي الإمام عليّ(ع) وحيداً، فقال له: يا رسول
الله، وأنا؟ فأجابه: "أما ترضى أن تكون أخي في الدّنيا والآخرة؟"، فصار عليّ أخا
رسول الله.
وهذه الإخوّة الخاصّة بين المهاجرين أنفسهم وبين المهاجرين والأنصار والإخوّة
العامة، هي التي جعلت من المجتمع المسلم مجتمعاً مترابطاً، يحسّ فيه المسلم بأنّ
المسلم الآخر هو أخوه في الإيمان، وجعل الله إخوة الإيمان أعظم من أخوة النسب.
وحتى إن النبيّ(ص) أراد أن يعمّق الإحساس بالإخوّة الإيمانية، بحيث أراد من
المسلمين أن يكونوا في أخوّتهم كما تكون أعضاء الجسد الواحد، فقال: "مثل المؤمنين
في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء
بالحمّى والسهر"، وأراد لكلّ مسلم أن يهتمّ بأمور المسلمين الآخرين، فقال: "من لم
يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وأن ينصر المسلم أخاه المسلم: "من سمع رجلاً
ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم".
وهذا، أيّها الأحبّة، مما لا بدّ من أن نعيشه. الأخوة الإيمانية التي هي أعظم في
المنطق الإسلامي من الأخوّة النسبيّة، لأن ما يربطك بأخيك في النسب هو أبوك وأمّك،
وما يربطك بأخيك في الإسلام هو الله ورسوله وأولياؤه. ومن الطبيعي أن الرابطة التي
ترتكز على الله ورسوله وأوليائه، هي أعظم من الرابطة التي تكون من خلال انتسابك إلى
أخيك من خلال الدم من خلال الأب والأم.
حقّ المسلم على المسلم
وهناك حقوق للأخ المسلم على المسلم الآخر. لا نريد الإطالة في هذا المجال، لكن هناك
نقطتين في الجانب السلبي لموقف الأخ من أخيه؛ الجانب الأوّل: إذا قال المؤمن لأخيه
أنت عدوّي فقد كفر أحدهما.. المسلمون السنّة يقولون الشّيعة أعداؤنا، والمسلمون
الشيعة يقولون عن السنّة إنهم أعداؤهم، وما إلى ذلك.. وهكذا في داخل السنّة وداخل
الشّيعة، هناك الحنفي المالكي والإمامي والزيدي، وما شاء الله.. إذا قال المسلم
للمسلم أنت عدوي فقد كفر أحدهما.
لماذا؟ لأنَّ الله يقول هذا أخوك، وأنت تقول هذا عدوّي، فالله يقول شيئاً، وأنت
تناقض كلام الله، والإنسان الذي يكذّب الله فهو كافر.
انتبهوا من المشاحنات السياسيّة، هذا يقول فلان عدوّ، ونحن نعيشها، مجتمع التحاقد
السياسي، التحاقد المذهبي، التحاقد الاجتماعي، التحاقد الديني، الاختلاف في
الرأي... هذا موجود. بالمناسبة، نحن الآن في كلّ عاشوراء، نلاحظ جماعة تقوم
بالاحتفال للإمام الحسين(ع)، وجماعة أخرى تقوم بالاحتفال، واحد يريد تعليق اليافطة
هنا، والآخر يريدها في المكان نفسه.. ما هذا التخلّف؟ علينا أن نحترم الحسين(ع)
فنلتقي عنده، ونتوحّد عنده، علينا أن نجعل من عاشوراء قاعدة للوحدة، ولا نجعل منها
قاعدة للاختلاف والتحاقد والتنازع، فإنّ هذا يأكل الدين كما يأكل الواقع الاجتماعي
والسياسي.
في عاشوراء في بعض البلدان، في باكستان مثلاً، ما من سنة تمرّ إلا ويكون هناك دماء
تسال بين الشيعة والسنّة!
يجب أن نعيش الإخوّة لله من خلال هذا الخطّ الإسلاميّ القرآنيّ {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
الأمر الثّاني السلبيّ: هناك حديث عن الأئمّة(ع): "إنَّ أقرب ما يكون العبد إلى
الكفر ـ بينه وبين الكفر مسافة بسيطة ـ أن يؤاخي الرّجل الرّجل علىٰ الدّين، فيحصي
عليه زلّاته ليعيّره بها يوماً ما". أصدقاء مع بعضهم البعض، أزواج، صديقات...
يتصاحبون، ولكن كل واحد ينتظر الآخر ليخطئ خطأً ويسجّله له، حتى عندما تدور
الدائرة، وتقع الواقعة بينهما، يقول أنا أعرف كلّ عيوب فلان وكلّ مشاكله وكلّ
الأشياء الخفيّة، وهذا أقرب ما يكون الرّجل من الكفر.
نحن في مجتمعنا الإسلاميّ، كم نعمل على أن نحصي على بعضنا البعض الزّلات والأخطاء،
حتى نعنّفه بها أو نعيّره بها؟!
الإسلام هو الضمانة
أيّها الأحبّة، الإسلام هو الضمانة لسلامة المجتمع، والوحدة الإسلامية هي الضمانة
لسلامة المجتمع، وهي الضمانة لسلامة المصير في الدنيا والآخرة.
تذكّروا قول رسول الله(ص)، وهو يتحدّث عن التحاقد والتنازع، يقول: "لا أقول حالقة
الشّعر، ولكنّها حالقة الدين".
هذا التحاقد، وهذه الروح التدميرية التي يحملها مسلم على مسلم آخر، هذه الأساليب
التشهيرية التي يحاول أن يشهّر من خلالها مسلم بمسلم آخر، هذه تحلق دينك بالتمام،
فتأتي إلى الله وكأن لا دين لك، كما تحلق الموس الشّعر.
لذلك، نحن الآن في مجلس الحسين، وفي مجلس رسول الله، وفي مجلس عليّ والزهراء
والأئمّة...فلنكن معهم فكراً وقولاً وعملاً، وعلينا أن نعرف أنّ الأئمّة(ع) ليس
عندهم إلا حساب الله: "من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا
عدوّ. والله لا تنال ولايتنا إلا بالورع".
أيها الأحبّة، عاشورا ء مدرسة، فتعلّموا كيف تكونون مسلمين، والحسين خرج لطلب
الإصلاح في أمّة جدّه، فتعلموا من الحسين كيف تصلحون عقولكم وقلوبكم وحياتكم إذا
كان فيها بعض الفساد.
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصّالحين على أنفسهم، والحمد لله ربّ
العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محاضرة عاشورائيّة، ألقاها سماحته في اللّيلة الثّالثة من عاشوراء، بتاريخ 18- 4
-1999