إن مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم، وتمسّ واقعها بالصميم، هي مشكلة
النظام الاجتماعي التي تتلخّص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي: ما هو النظام
الّذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟.
ومن الطبيعي أن تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير، وأن تكون في تعقيدها وتنوع ألوان
الاجتهاد في حلّها، مصدراً للخطر على الإنسانيّة ذاتها، لأنّ النظام داخل في حساب
الحياة الإنسانيّة، ومؤثّر في كيانها الاجتماعي بالصّميم.
وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تاريخ البشريّة، وقد واجهها
الإنسان منذ نشأت في واقعه الحياة الاجتماعية، وانبثقت الإنسانيّة الجماعيّة تتمثّل
في عدة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة.
فإنّ هذه العلاقات في حاجة - بطبيعة الحال - إلى توجيه وتنظيم شامل، وعلى مدى
انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه، يتوقّف استقرار المجتمع وسعادته.
وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانيّة في ميادينها الفكرية والسياسية إلى خوض جهاد طويل
وكفاح حافل بمختلف ألوان الصّراع، وبشتّى مذاهب العقل البشري، التي ترمي إلى إقامة
الصرح الاجتماعي وهندسته، ورسم خططه ووضع ركائزه. وكان جهاداً مرهقاً يضجّ بالمآسي
والمظالم، ويزخر بالضّحكات والدّموع، وتقترن فيه السعادة بالشّقاء.
كلّ ذلك لما كان يتمثّل في تلك الألوان الاجتماعيّة من مظاهر الشذوذ والانحراف، عن
الوضع الاجتماعي الصحيح. ولولا ومضات شعّت في لحظات من تاريخ هذا الكوكب، لكان
المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرّة، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.
ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي، لأنّنا لا
نقصد بهذه الدّراسة أن نؤرخ للإنسانيّة المعذَّبة، وأجوائها التي تقلّبت فيها منذ
الآماد البعيدة، وإنما نريد أن نواكب الإنسانيّة في واقعها الحاضر، وفي أشواطها
التي انتهت إليها، لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي إليها الشّوط، والساحل الطبيعي
الذي لا بدّ للسفينة أن تشق طريقها إليه وترسو عنده، لتصل إلى السلام والخير، وتؤوب
إلى حياة مستقرّة، يعمرها العدل والسعادة.. بعد جهد وعناء طويلين، وبعد تطواف عريض
في شتّى النواحي ومختلف الاتجاهات.
والواقع أنّ إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعيّة، أشدّ من إحساسه بها في أيّ
وقت مضى من أدوار التاريخ القديم، فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة، وأقوى
تحسّساً بتعقيداتها، لأنّ الإنسان الحديث أصبح يعي أنّ المشلكة من صنعه، وأن النظام
الاجتماعي لا يفرض عليه من أعلى بالشّكل الذي تفرض عليه القوانين الطبيعية، التي
تتحكم في علاقات الإنسان بالطبيعة.
على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحايين إلى النظام
الاجتماعي وكأنّه قانون طبيعي لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة. فكما لا يستطيع
أن يطوّر من قانون جاذبية الأرض، كذلك لا يستطيع أن يغيّر العلاقات الاجتماعية
القائمة. ومن الطبيعي أن الإنسان حين بدأ يؤمن بأنّ هذه العلاقات مظهر من مظاهر
السّلوك التي يختارها الإنسان نفسه، ولا يفقد إرادته في مجالها، أصبحت المشكلة
الاجتماعيّة تعكس فيه - في الإنسان الذي يعيشها فكرياً - مرارة ثورية بدلاً من
مرارة الاستسلام.
والإنسان الحديث من ناحية أخرى، أخذ يعاصر تطوّراً هائلاً في سيطرة الإنسانيّة على
الطبيعة لم يسبق له نظير. وهذه السيطرة المتنامية بشكل مرعب وبقفزات العمالقة، تزيد
في المشكلة الاجتماعية تعقيداً، وتضاعف من أخطارها، لأنها تفتح بين يدي الإنسان
مجالات جديدة وهائلة للاستغلال، وتضاعف من أهميّة النظام الاجتماعي الذي يتوقّف
عليه تحديد نصيب كلّ فرد من تلك المكاسب الهائلة التي تقدمها الطبيعة اليوم بسخاء
للإنسان.
وهو بعد هذا يملك من تجارب سلفه - على مرّ الزّمن - خبرةً أوسع وأكثر شمولاً وعمقاً
من الخبرات الاجتماعيّة، التي كان الإنسان القديم يمتلكها ويدرس المشكلة
الاجتماعيّة في ضوئها.
ومن الطبيعيّ أن يكون لهذه الخبرة الجديدة أثرها الكبير في تعقيد المشكلة، وتنوّع
الآراء في حلّها والجواب عليها.
الإنسانيّة ومعالجتها للمشكلة:
نريد الآن - وقد عرفنا المشكلة، أو السّؤال الأساسي الذي واجهته الإنسانيّة منذ
مارست وجودها الاجتماعي الواعي، وتفنّنت في المحاولات التي قدَّمتها للجواب عليه
عبر تاريخها المديد – نريد، وقد عرفنا ذلك، أن نلقي نظرة على ما تملكه الإنسانيّة
اليوم، وفي كلّ زمان، من الإمكانات والشروط الضرورية لإعطاء الجواب الصحيح على ذلك
السؤال الأساسي السالف الذكر: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانيّة وتسعد به في
حياتها الاجتماعيّة؟
فهل في مقدور الإنسانيّة أن تقدّم هذا الجواب؟
وما هو القدر الذي يتوفّر - في تركيبها الفكري والروحي - من الشروط اللازمة للنّجاح
في ذلك؟
وما هي نوعيّة الضمانات التي تكفل للإنسانيّة نجاحها في الامتحان، وتوفيقها في
الجواب الذي تعطيه على السؤال، وفي الطريقة التي تختارها لحلّ المشكلة الاجتماعيّة،
والتوصل إلى النظام الأصلح الكفيل بسعادة الإنسانيّة وتصعيدها إلى أرفع المستويات؟
وبتعبير أكثر وضوحاً: كيف تستطيع الإنسانيّة المعاصرة أن تدرك مثلاً: أنّ النظام
الديمقراطي الرأسمالي، أو دكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية أو غيرهما.. هو النظام
الأصلح؟ وإذا أدركت هذا أو ذاك، فما هي الضمانات التي تضمن لها أنها على حقّ وصواب
في إدراكها؟
ولو ضمنت هذا أيضاً، فهل يكفي إدراك النّظام الأصلح ومعرفة الإنسان به لتطبيقه وحلّ
المشكلة الاجتماعيّة على أساسه، أو يتوقّف تطبيق النظام على عوامل أخرى قد لا
تتوفّر بالرغم من معرفة صلاحه وجدارته؟ وترتبط هذه النقاط التي أثرناها الآن إلى حدّ
كبير، بالمفهوم العامّ عن المجتمع والكون، ولذلك تختلف طريقة معالجتها من قبل
الباحثين، تبعاً لاختلاف مفاهيمهم العامّة عن ذلك.
*من كتاب "المدرسة الإسلاميَّة".