كتابات
23/12/2019

أين يقف النصّ؟ وأين يبدأ العقل والاجتهاد؟

أين يقف النصّ؟ وأين يبدأ العقل والاجتهاد؟

عندما نريد أن نفكّر في ما هي القاعدة التي جعلت من النصّ وسيلة من وسائل إدراك الحقيقة، فإننا نجد أنّ النصّ انطلق من قاعدة فكريّة تؤمن بانطلاقه من مصادر المعرفة المعصومة المنفتحة على الحقيقة بكلّ صفاء.. والنص ليس مجرد حركة في الحرف، ولكنها في العقل، تعني أنّ المضمون النصي هو الحقيقة، تماماً كأية قاعدة فكرية تنطلق من عمق عقلي للدّليل العقلي للفكرة، أو من قاعدة تجريبيّة للدّليل الاستقرائي للفكرة، بحيث إنّ الإنسان عندما يؤسّس القاعدة الفكرية، فإنها تتحوّل عنده إلى نصّ يحرّك المفردات، أي تفاصيل هذا النص الفكري الذي قد لا يكون حرفاً، بل قاعدة يلتزم المفكّر بنتائجها.

عندما ندرس المسألة في هذا الاتجاه، فإننا لا نرى هناك فرقاً بين النص والقاعدة الفكرية، لأنهما ينطلقان من عمق في تأصيل النص في المضمون الفكري الذي يحتويه، كما هو تأصيل الفكرة في مضمونها الذي يتحتويه، باعتبار أنهما يخضعان معاً لقاعدة فكرية، تشير إلى أن يملك نافذة على الحقيقة، كما أن ذاك يملك نافذة على الحقيقة أيضاً.

ومن خلال ذلك، لا نجد هناك مساحة بين النص وبين العقل والاجتهاد، لأن العقل والاجتهاد يسبقان النص، من خلال أنهما الأساس اللّذان يعطيان النص قوّته، ويعطيان النص فاعليته.. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، فإننا عندما نحرّك النصّ، فإن العقل والاجتهاد يحاولان أن يفهما النصّ، وأن يدرسا طبيعته، باعتبار أنّ اللغة، ولا سيما اللغة العربية، تختزن في داخلها الحيوية المتحركة التي تدخل إلى النص لتدرسه، فإذا رأت أن النص يتضمن فكرة لا تلتقي بالحقيقة القاطعة في ما يدركه العقل من ذلك، فإن من الطبيعي أنّ هذا الاكتشاف يدلّ على أنّ المراد بالنصّ المعنى المجازي لا المعنى الحقيقي.

ونحن نعرف أنّ علماء البلاغة يعتبرون المعنى المجازي معنىً ظاهراً من اللّفظ، ولكن بواسطة القرينة، كما هو المعنى الحقيقي معنى ظاهر من اللّفظ.. وبهذا، فإنّ مسألة التأويل ليست من المسائل التي تتحدَّى المعنى المفهوم من اللّفظ، من خلال ما يحيط باللّفظ من إشارات تدرس ما هي الخطوط التي يتَّجه إليها في معناه. مثلاً، عندما نتَّجه إلى قول الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} الّذي يتحدَّث عن أنّ لله وجهاً أو {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} الّتي تتحدث عن حالة عضوية بالنسبة إل الذات الإلهية، أو {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، أو {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فإنّ ظاهر هذه الآيات يدل على أن لله حالة تشبه حالات المخلوقين.

في هذا المجال، عندما نستنطق اللّفظة في حرفيّتها، لا بدّ أن نقول إنّ لله وجهاً، وإن له يدين وجسداً يتّخذ شكلاً معيّناً في الجلوس وما إلى ذلك.. ولكننا عندما ننتهي إلى فكرةٍ فلسفية أو كلامية تقطع بأنّ الله لا يمكن أن يكون جسماً، لأنّ الجسم يعني الحاجة والفقر وعدم الغنى، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة العقلية، أو إذا استفدنا من آيات أخرى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أو {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}، وفهمنا منها أن الأبصار لا يمكن أن تدركه، لا من خلال وجود غطاء يحجبنا عنه، بل لأنّه ليس شيئاً يخضع للحسّ ليدركه الحسّ.

لو أننا فهمنا هذا، بقطع النظر عن المعارك الكلاميّة، فإننا نعتبر أن الدليل العقلي الرافض لجسدية الله، أو الدليل القرآني الآخر الذي يلتقي مع هذا الدليل العقلي في رفض الجسدية، يصلح أن يكون قرينة على أن المراد من الوجه هنا هو الذات، وأن المراد من اليدين هنا {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} هو القوّة، وأنّ المراد من الاستواء على العرش هو الاستيلاء والسيطرة وما إلى ذلك، مما يدخل في المعنى المجازي أو الكنائي.

ونحن نعرف أن هذين المعنيين يمثّلان فهماً طبيعياً من اللّفظ من خلال القرائن المحيطة، والقرينة قد تكون عقليّة وقد تكون لفظية.. نحن نعرف مثلاً أنّ لفظ الأسد موضوع للحيوان المفترس الخاص، ولكننا قد نقصد به الرجل الشجاع، وإذا قلت "رأيت أسداً يقرأ"، فإنك لا تستطيع أن تقول إنّ معناه أن الأسد هو حيوان مفترس، لأنّه لا يملك الإدراك الذي يستطيع معه القراءة، فكلمة "يقرأ" تصلح قرينة على أن المراد بالأسد هو المعنى المجازي لا الحقيقيّ.

لذلك، نحن نتصوّر أنّ مسألة التأويل ليست هروباً من النّصّ، بل هي استيحاء الأجواء المحيطة بالنص من قرائن لفظية أو عقلية توحي بأنّ المراد من النص هو غير المعنى الحقيقي بل المجازيّ.. من هنا، فإن النص لا يقيدنا بالمدلول من اللّفظ عندما تتوفر لنا الوسائل اللغوية التي توجه الكلام فيما يراد له، سواء من خلال لفظٍ يدلّ على ذلك أو فكرة تفرض ذلك.

كما أنّ النصّ عندما يعطينا فكرة، فإننا نستطيع أن ننفتح على آفاق الفكرة، عندما يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، ليعرّفنا أن كلّ الظواهر الكونية، سواء كانت ظواهر طبيعية أو إنسانية أو حيوانية، تخضع لقانون محدد يضبط لها كل مسارها بشكل أو بآخر، فإن الآية تعطينا الفكرة، أما ما هي هذه القوانين، فإننا نستطيع أن نقوم بجولة علميّة حول العالم في المجال الكوني أو الاجتماعي أو النفسي أو ما إلى ذلك، لنكتشف ما هو هذا القدر الذي خلقه الله سبحانه وتعالى "وجعل لكلّ شيءٍ حداً وقانوناً".

وعندما ينطلق النص في عالم التشريع، فإننا نحاول أن نتحرك في هذا الاتجاه لنفرق بين تشريع ينطلق من حالة تعبدية، كما في العبادة، أو تشريع ينطلق من حالة مفتوحة على قضايا الإنسان، مما يمكن لنا أن نفهم فيه حكمة وطبيعة التشريع، وعند ذلك، نستطيع أن نتحرك من شخصانية النصّ، لننطلق إلى الحكمة التي فرضت على الحكم الشرعيّ، والعلة التي انطلقت منها، لنوسع الفكرة إلى كل موقع من المواقع.

لذلك، نحن لا نعتبر أنّ النصّ يقيّدنا، هناك اجتهاد معيَّن ينطلق من قاعدة فكرية معيّنة تختلف عن القاعدة الإسلامية. في هذا المجال، قد يرفض الإسلاميون أو المسلمون هذا الاجتهاد الذي يختلف مع الاجتهاد الإسلامي، لا من جهة أنهم يرفضون الاجتهاد، ولكن لأنهم يرون أنّ هذا الاجتهاد مرتكز على قاعدة خطأ، وعند ذلك، يمكن أن نبحث في القاعدة.. مثلاً، نحن الآن نواجه في المجتمع مسألة الحرية الفردية للإنسان، حريّة الرّبح، حرية الإنتاج، بعيداً من الجانب الأخلاقي، حريّة الجنس، الحريّة التي يكفلها رأس المال، ربما ينطلق بعض المفكّرين ليضبطوا الإسلام متلبّساً بعدم انفتاحه على هذه الحرية، لأنّ هناك نصاً يقول إن للجنس دوراً معيّناً ومحدوداً بحدود مضبوطة بحياة الرّجل والمرأة، أو يضبط الإسلام متلبّساً برفض الحرية الاقتصادية، التي لا تلتقي بالجانب الأخلاقي في المسألة الفردية أو الاجتماعية، أو ما إلى ذلك من مفردات الحرية في حياة الإنسان، كما في مسألة الحجاب والسفور والعري والثياب وما إلى ذل.. هنا، قد يُتَّهم الإسلاميون بأن إخلاصهم للنصّ وجمودهم عليه جعلهم يلتزمون هذه الحرية، وبالتالي يلتزمون بخطّ يعطّل حركة العقل والاجتهاد لحساب جمود النصّ.. لكننا عندما ندرس القضية في العمق، فإننا لا نجد هناك تحدياً للعقل، ولكن النصيين فيما استوحوه من آفاق النص ومن القاعدة الفكرية التي يتحرّك فيها هذا الهيكل النصي المنفتح على أكثر من حكم شرعي أو مفهوم إسلامي، أنه يناقش هذا العقل في قاعدته.

لهذا، فإن الإسلاميين الذين يسمون بالنصّيين، أقصد الإسلاميين الذين يتهمون بخضوعهم للنص وبجمودهم عليه، إنهم يقولون لهؤلاء، إنكم تلتقون معنا في أنّه لا معنى للحرية المطلقة، فأنتم تنكرون الحرية المطلقة كما ننكرها نحن، لتقولوا إن الحرية نسبية كما نقول نحن بالحريّة النسبية، وعند ذلك، تكون المسألة في ما هو الأساس في نسبيّة الحرية؛ هل تتحرّك على أساس وجود قواعد أخلاقية تملك ضبط حركة الإنسان في خطّ منافعه ومصالحه، أو أن النسبية في الحرية تنطلق على أساس ملاحظة الجانب الاجتماعي في حركة الفرد في المجتمع، بعيداً من الجانب الأخلاقي، هذه مسألة عقليّة فلسفيّة يمكن أن يتناقش معها بعيداً من مسألة النص.

إننا كما قلنا في بداية الكلام، نستوحي الفكرة من النص، كما تستوحونها من القاعدة العقلية التي تقتلعونها منها، وعند ذلك، تكون المسألة أن هناك فكرة تقابل فكرة، وكلتاهما منطلقتان في عمقهما من حركة العقل في تركيز محتوى النصّ كفكر أساس، كما هو في تركيز محتوى الدليل العقلي كفكرٍ أساس، وبهذا، فإن النص لا يكون مشكلة، بل قد يمثّل ثباتاً عقلانياً يمنع الإنسان من أن ينطلق في دوائر القلق والحيرة والضّياع مما يعيشها الكثيرون من العقلانيّين.

*من كتاب "خطاب الإسلاميين والمستقبل".

عندما نريد أن نفكّر في ما هي القاعدة التي جعلت من النصّ وسيلة من وسائل إدراك الحقيقة، فإننا نجد أنّ النصّ انطلق من قاعدة فكريّة تؤمن بانطلاقه من مصادر المعرفة المعصومة المنفتحة على الحقيقة بكلّ صفاء.. والنص ليس مجرد حركة في الحرف، ولكنها في العقل، تعني أنّ المضمون النصي هو الحقيقة، تماماً كأية قاعدة فكرية تنطلق من عمق عقلي للدّليل العقلي للفكرة، أو من قاعدة تجريبيّة للدّليل الاستقرائي للفكرة، بحيث إنّ الإنسان عندما يؤسّس القاعدة الفكرية، فإنها تتحوّل عنده إلى نصّ يحرّك المفردات، أي تفاصيل هذا النص الفكري الذي قد لا يكون حرفاً، بل قاعدة يلتزم المفكّر بنتائجها.

عندما ندرس المسألة في هذا الاتجاه، فإننا لا نرى هناك فرقاً بين النص والقاعدة الفكرية، لأنهما ينطلقان من عمق في تأصيل النص في المضمون الفكري الذي يحتويه، كما هو تأصيل الفكرة في مضمونها الذي يتحتويه، باعتبار أنهما يخضعان معاً لقاعدة فكرية، تشير إلى أن يملك نافذة على الحقيقة، كما أن ذاك يملك نافذة على الحقيقة أيضاً.

ومن خلال ذلك، لا نجد هناك مساحة بين النص وبين العقل والاجتهاد، لأن العقل والاجتهاد يسبقان النص، من خلال أنهما الأساس اللّذان يعطيان النص قوّته، ويعطيان النص فاعليته.. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، فإننا عندما نحرّك النصّ، فإن العقل والاجتهاد يحاولان أن يفهما النصّ، وأن يدرسا طبيعته، باعتبار أنّ اللغة، ولا سيما اللغة العربية، تختزن في داخلها الحيوية المتحركة التي تدخل إلى النص لتدرسه، فإذا رأت أن النص يتضمن فكرة لا تلتقي بالحقيقة القاطعة في ما يدركه العقل من ذلك، فإن من الطبيعي أنّ هذا الاكتشاف يدلّ على أنّ المراد بالنصّ المعنى المجازي لا المعنى الحقيقي.

ونحن نعرف أنّ علماء البلاغة يعتبرون المعنى المجازي معنىً ظاهراً من اللّفظ، ولكن بواسطة القرينة، كما هو المعنى الحقيقي معنى ظاهر من اللّفظ.. وبهذا، فإنّ مسألة التأويل ليست من المسائل التي تتحدَّى المعنى المفهوم من اللّفظ، من خلال ما يحيط باللّفظ من إشارات تدرس ما هي الخطوط التي يتَّجه إليها في معناه. مثلاً، عندما نتَّجه إلى قول الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} الّذي يتحدَّث عن أنّ لله وجهاً أو {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} الّتي تتحدث عن حالة عضوية بالنسبة إل الذات الإلهية، أو {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، أو {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فإنّ ظاهر هذه الآيات يدل على أن لله حالة تشبه حالات المخلوقين.

في هذا المجال، عندما نستنطق اللّفظة في حرفيّتها، لا بدّ أن نقول إنّ لله وجهاً، وإن له يدين وجسداً يتّخذ شكلاً معيّناً في الجلوس وما إلى ذلك.. ولكننا عندما ننتهي إلى فكرةٍ فلسفية أو كلامية تقطع بأنّ الله لا يمكن أن يكون جسماً، لأنّ الجسم يعني الحاجة والفقر وعدم الغنى، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة العقلية، أو إذا استفدنا من آيات أخرى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أو {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}، وفهمنا منها أن الأبصار لا يمكن أن تدركه، لا من خلال وجود غطاء يحجبنا عنه، بل لأنّه ليس شيئاً يخضع للحسّ ليدركه الحسّ.

لو أننا فهمنا هذا، بقطع النظر عن المعارك الكلاميّة، فإننا نعتبر أن الدليل العقلي الرافض لجسدية الله، أو الدليل القرآني الآخر الذي يلتقي مع هذا الدليل العقلي في رفض الجسدية، يصلح أن يكون قرينة على أن المراد من الوجه هنا هو الذات، وأن المراد من اليدين هنا {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} هو القوّة، وأنّ المراد من الاستواء على العرش هو الاستيلاء والسيطرة وما إلى ذلك، مما يدخل في المعنى المجازي أو الكنائي.

ونحن نعرف أن هذين المعنيين يمثّلان فهماً طبيعياً من اللّفظ من خلال القرائن المحيطة، والقرينة قد تكون عقليّة وقد تكون لفظية.. نحن نعرف مثلاً أنّ لفظ الأسد موضوع للحيوان المفترس الخاص، ولكننا قد نقصد به الرجل الشجاع، وإذا قلت "رأيت أسداً يقرأ"، فإنك لا تستطيع أن تقول إنّ معناه أن الأسد هو حيوان مفترس، لأنّه لا يملك الإدراك الذي يستطيع معه القراءة، فكلمة "يقرأ" تصلح قرينة على أن المراد بالأسد هو المعنى المجازي لا الحقيقيّ.

لذلك، نحن نتصوّر أنّ مسألة التأويل ليست هروباً من النّصّ، بل هي استيحاء الأجواء المحيطة بالنص من قرائن لفظية أو عقلية توحي بأنّ المراد من النص هو غير المعنى الحقيقي بل المجازيّ.. من هنا، فإن النص لا يقيدنا بالمدلول من اللّفظ عندما تتوفر لنا الوسائل اللغوية التي توجه الكلام فيما يراد له، سواء من خلال لفظٍ يدلّ على ذلك أو فكرة تفرض ذلك.

كما أنّ النصّ عندما يعطينا فكرة، فإننا نستطيع أن ننفتح على آفاق الفكرة، عندما يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، ليعرّفنا أن كلّ الظواهر الكونية، سواء كانت ظواهر طبيعية أو إنسانية أو حيوانية، تخضع لقانون محدد يضبط لها كل مسارها بشكل أو بآخر، فإن الآية تعطينا الفكرة، أما ما هي هذه القوانين، فإننا نستطيع أن نقوم بجولة علميّة حول العالم في المجال الكوني أو الاجتماعي أو النفسي أو ما إلى ذلك، لنكتشف ما هو هذا القدر الذي خلقه الله سبحانه وتعالى "وجعل لكلّ شيءٍ حداً وقانوناً".

وعندما ينطلق النص في عالم التشريع، فإننا نحاول أن نتحرك في هذا الاتجاه لنفرق بين تشريع ينطلق من حالة تعبدية، كما في العبادة، أو تشريع ينطلق من حالة مفتوحة على قضايا الإنسان، مما يمكن لنا أن نفهم فيه حكمة وطبيعة التشريع، وعند ذلك، نستطيع أن نتحرك من شخصانية النصّ، لننطلق إلى الحكمة التي فرضت على الحكم الشرعيّ، والعلة التي انطلقت منها، لنوسع الفكرة إلى كل موقع من المواقع.

لذلك، نحن لا نعتبر أنّ النصّ يقيّدنا، هناك اجتهاد معيَّن ينطلق من قاعدة فكرية معيّنة تختلف عن القاعدة الإسلامية. في هذا المجال، قد يرفض الإسلاميون أو المسلمون هذا الاجتهاد الذي يختلف مع الاجتهاد الإسلامي، لا من جهة أنهم يرفضون الاجتهاد، ولكن لأنهم يرون أنّ هذا الاجتهاد مرتكز على قاعدة خطأ، وعند ذلك، يمكن أن نبحث في القاعدة.. مثلاً، نحن الآن نواجه في المجتمع مسألة الحرية الفردية للإنسان، حريّة الرّبح، حرية الإنتاج، بعيداً من الجانب الأخلاقي، حريّة الجنس، الحريّة التي يكفلها رأس المال، ربما ينطلق بعض المفكّرين ليضبطوا الإسلام متلبّساً بعدم انفتاحه على هذه الحرية، لأنّ هناك نصاً يقول إن للجنس دوراً معيّناً ومحدوداً بحدود مضبوطة بحياة الرّجل والمرأة، أو يضبط الإسلام متلبّساً برفض الحرية الاقتصادية، التي لا تلتقي بالجانب الأخلاقي في المسألة الفردية أو الاجتماعية، أو ما إلى ذلك من مفردات الحرية في حياة الإنسان، كما في مسألة الحجاب والسفور والعري والثياب وما إلى ذل.. هنا، قد يُتَّهم الإسلاميون بأن إخلاصهم للنصّ وجمودهم عليه جعلهم يلتزمون هذه الحرية، وبالتالي يلتزمون بخطّ يعطّل حركة العقل والاجتهاد لحساب جمود النصّ.. لكننا عندما ندرس القضية في العمق، فإننا لا نجد هناك تحدياً للعقل، ولكن النصيين فيما استوحوه من آفاق النص ومن القاعدة الفكرية التي يتحرّك فيها هذا الهيكل النصي المنفتح على أكثر من حكم شرعي أو مفهوم إسلامي، أنه يناقش هذا العقل في قاعدته.

لهذا، فإن الإسلاميين الذين يسمون بالنصّيين، أقصد الإسلاميين الذين يتهمون بخضوعهم للنص وبجمودهم عليه، إنهم يقولون لهؤلاء، إنكم تلتقون معنا في أنّه لا معنى للحرية المطلقة، فأنتم تنكرون الحرية المطلقة كما ننكرها نحن، لتقولوا إن الحرية نسبية كما نقول نحن بالحريّة النسبية، وعند ذلك، تكون المسألة في ما هو الأساس في نسبيّة الحرية؛ هل تتحرّك على أساس وجود قواعد أخلاقية تملك ضبط حركة الإنسان في خطّ منافعه ومصالحه، أو أن النسبية في الحرية تنطلق على أساس ملاحظة الجانب الاجتماعي في حركة الفرد في المجتمع، بعيداً من الجانب الأخلاقي، هذه مسألة عقليّة فلسفيّة يمكن أن يتناقش معها بعيداً من مسألة النص.

إننا كما قلنا في بداية الكلام، نستوحي الفكرة من النص، كما تستوحونها من القاعدة العقلية التي تقتلعونها منها، وعند ذلك، تكون المسألة أن هناك فكرة تقابل فكرة، وكلتاهما منطلقتان في عمقهما من حركة العقل في تركيز محتوى النصّ كفكر أساس، كما هو في تركيز محتوى الدليل العقلي كفكرٍ أساس، وبهذا، فإن النص لا يكون مشكلة، بل قد يمثّل ثباتاً عقلانياً يمنع الإنسان من أن ينطلق في دوائر القلق والحيرة والضّياع مما يعيشها الكثيرون من العقلانيّين.

*من كتاب "خطاب الإسلاميين والمستقبل".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية