اختلف الناس في أمر عيسى اختلافاً شديداً، اختلفوا في أصل وجوده، واختلفوا في
طبيعته، واختلفوا في موته.. فمن قائل: لا وجود له إطلاقاً، وإنما هو بطل أسطوري،
ظهر هذا القول في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا في القرن التاسع عشر، وهو أسخف من
السّخف، لأنّه تماماً كقول من ينفي الطوائف المسيحية والإسلامية التي تؤمن
بالمسيح.. ومن قائل: إنه إله، وقائل: بل هو إنسان، وقائل: هو إله وإنسان في وقت
واحد، وقالت اليهود فيه وفي أمّه ما يهتزّ له العرش .
واختلف المسلمون فيما بينهم، فقال أكثرهم: إنّ المسيح لم يمت، وإنه حي في السماء،
أو في مكان ما بجسمه وروحه، وإنه يخرج في آخر الزمان إلى الأرض، ثم يتوفاه الله بعد
ذلك الوفاة الحقيقيّة.. وقال كثير من المسلمين: إنّه مات حقيقة، وإن الذي ارتفع إلى
السماء روحه، لا جسمه .
وسبب هذا الاختلاف بين المسلمين هو اختلاف ظاهر النصّ، فالآية 158 من سورة النساء
تقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ
اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمً}[النساء: 157، 158]. وهذه
الآية ظاهرة في أنّه حيّ، إضافةً إلى أحاديث نبويّة في معناها. ولكن الآية 117 من
سورة المائدة تقول: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.. وقريب منها الآية التي نحن بصددها، وهي: {إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران: 55]. فإن المتبادر من الوفاة
هو الموت، وإن المعنى الظاهر أني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع، كما قال في
إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّ}[مريم: 57].
وكما قال في الشّهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ}[آل عمران: 169].
والذين قالوا: إن عيسى حيّ بجسمه وروحه أوّلوا ( توفّيتني، ومتوفّيك) بوجوه، أرجحها
- نسبيّاً - أنّ القصد هو التشبيه بالوفاة، لا الوفاة الحقيقيّة، لأنه إذا رفع إلى
السّماء، فقد انقطعت علاقته بالأرض، وصار كالميت .
أما الذين قالوا: إنه مات حقيقة، فقد أوّلوا {وما قَتَلُوهُ
وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهً لَهُمْ}، بأنّ اليهود لم يقتلوا مبادئ عيسى
وتعاليمه بقتله وصلبه، ولكن خيِّل إليهم أنهم قد قضوا على تعاليمه بذلك، مع أنها
مازالت قائمة، وستبقى إلى يوم يبعثون .
ونحن نميل إلى القول الأول، وأن عيسى حيّ رفعه الله إليه بعد أن توفّاه بنحو من
الأنحاء - غير الموت - نميل إلى هذا بالنّظر إلى ظاهر الآية، وإلى ما روي عن الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) من طريق السنّة والشّيعة أنه مازال حيّاً..
ومع هذا، فلا نرى أية فائدة من التحقيق والتدقيق في هذا الموضوع، لأنّ الايمان
بكيفية وفاته ورفعه ليس من أصول الدين، ولا المذهب، ولا من فروعه في شيء، وإنما هو
موضوع من الموضوعات الخارجيّة لا تتصل بحياتنا من قريب أو بعيد.. والله سبحانه لا
يسأل الناس غداً ويقول لهم: بيّنوا كيف توفّيت عيسى؟ وكيف رفعته؟.. إن ما يجب علينا
الإيمان به هو أن عيسى نبيّ مرسل من الله، وأنّه خلق بكلمة من الله، وأن أمّه
قدّيسة.. هذا، إلى أن البحث في هذا الموضوع لا ينتهي بالباحث إلى الجزم واليقين
بكيفية وفاته، ولا بكيفيّة رفعه، فالأولى إيكال ذلك إلى الله سبحانه.
{إِذْ قالَ الله يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ
إِلَيَّ}. بعد أن صمّم اليهود على قتل عيسى، ودبّروا الأمر لذلك، بشّره الله
بنجاته منهم، وإبطال مكرهم وكيدهم، وأنه لن يقتل، ولن يصلب، بل يتوفّاه الله حين
انتهاء أجله وفاة طبيعيّة، وأنه تعالى سينقله إلى عالم لا يناله أحد فيه بأذى، ولا
سلطان فيه لأحد عليه سوى الله. وهذا هو معنى قوله تعالى: {ومُطَهِّرُكَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُو}، أي أبعدك عن أرجاسهم، ودنس معاشرتهم، وعمّا
يريدونه بك من الشرّ.
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[آل عمران: 55]. المراد بالتفوّق هنا التفوّق
نفساً وكمالاً، لا التفوق سلطاناً ومالاً.. وليس من شكّ أن الذين آمنوا بعيسى أفضل
وأكمل من الذين كذّبوه .
{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. لا يحتاج هذا إلى تفسير، لأنّ المعنى
الظّاهر هو المراد. أجل، إنّ ضمير الخطاب هنا يشمل الغائبين في كلّ زمان ومكان من
الّذين اختلفوا في السيّد المسيح، أو في صفة من صفاته.
*من كتاب "تفسير الكاشف"، ج2.
اختلف الناس في أمر عيسى اختلافاً شديداً، اختلفوا في أصل وجوده، واختلفوا في
طبيعته، واختلفوا في موته.. فمن قائل: لا وجود له إطلاقاً، وإنما هو بطل أسطوري،
ظهر هذا القول في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا في القرن التاسع عشر، وهو أسخف من
السّخف، لأنّه تماماً كقول من ينفي الطوائف المسيحية والإسلامية التي تؤمن
بالمسيح.. ومن قائل: إنه إله، وقائل: بل هو إنسان، وقائل: هو إله وإنسان في وقت
واحد، وقالت اليهود فيه وفي أمّه ما يهتزّ له العرش .
واختلف المسلمون فيما بينهم، فقال أكثرهم: إنّ المسيح لم يمت، وإنه حي في السماء،
أو في مكان ما بجسمه وروحه، وإنه يخرج في آخر الزمان إلى الأرض، ثم يتوفاه الله بعد
ذلك الوفاة الحقيقيّة.. وقال كثير من المسلمين: إنّه مات حقيقة، وإن الذي ارتفع إلى
السماء روحه، لا جسمه .
وسبب هذا الاختلاف بين المسلمين هو اختلاف ظاهر النصّ، فالآية 158 من سورة النساء
تقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ
اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمً}[النساء: 157، 158]. وهذه
الآية ظاهرة في أنّه حيّ، إضافةً إلى أحاديث نبويّة في معناها. ولكن الآية 117 من
سورة المائدة تقول: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.. وقريب منها الآية التي نحن بصددها، وهي: {إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران: 55]. فإن المتبادر من الوفاة
هو الموت، وإن المعنى الظاهر أني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع، كما قال في
إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّ}[مريم: 57].
وكما قال في الشّهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ}[آل عمران: 169].
والذين قالوا: إن عيسى حيّ بجسمه وروحه أوّلوا ( توفّيتني، ومتوفّيك) بوجوه، أرجحها
- نسبيّاً - أنّ القصد هو التشبيه بالوفاة، لا الوفاة الحقيقيّة، لأنه إذا رفع إلى
السّماء، فقد انقطعت علاقته بالأرض، وصار كالميت .
أما الذين قالوا: إنه مات حقيقة، فقد أوّلوا {وما قَتَلُوهُ
وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهً لَهُمْ}، بأنّ اليهود لم يقتلوا مبادئ عيسى
وتعاليمه بقتله وصلبه، ولكن خيِّل إليهم أنهم قد قضوا على تعاليمه بذلك، مع أنها
مازالت قائمة، وستبقى إلى يوم يبعثون .
ونحن نميل إلى القول الأول، وأن عيسى حيّ رفعه الله إليه بعد أن توفّاه بنحو من
الأنحاء - غير الموت - نميل إلى هذا بالنّظر إلى ظاهر الآية، وإلى ما روي عن الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) من طريق السنّة والشّيعة أنه مازال حيّاً..
ومع هذا، فلا نرى أية فائدة من التحقيق والتدقيق في هذا الموضوع، لأنّ الايمان
بكيفية وفاته ورفعه ليس من أصول الدين، ولا المذهب، ولا من فروعه في شيء، وإنما هو
موضوع من الموضوعات الخارجيّة لا تتصل بحياتنا من قريب أو بعيد.. والله سبحانه لا
يسأل الناس غداً ويقول لهم: بيّنوا كيف توفّيت عيسى؟ وكيف رفعته؟.. إن ما يجب علينا
الإيمان به هو أن عيسى نبيّ مرسل من الله، وأنّه خلق بكلمة من الله، وأن أمّه
قدّيسة.. هذا، إلى أن البحث في هذا الموضوع لا ينتهي بالباحث إلى الجزم واليقين
بكيفية وفاته، ولا بكيفيّة رفعه، فالأولى إيكال ذلك إلى الله سبحانه.
{إِذْ قالَ الله يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ
إِلَيَّ}. بعد أن صمّم اليهود على قتل عيسى، ودبّروا الأمر لذلك، بشّره الله
بنجاته منهم، وإبطال مكرهم وكيدهم، وأنه لن يقتل، ولن يصلب، بل يتوفّاه الله حين
انتهاء أجله وفاة طبيعيّة، وأنه تعالى سينقله إلى عالم لا يناله أحد فيه بأذى، ولا
سلطان فيه لأحد عليه سوى الله. وهذا هو معنى قوله تعالى: {ومُطَهِّرُكَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُو}، أي أبعدك عن أرجاسهم، ودنس معاشرتهم، وعمّا
يريدونه بك من الشرّ.
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[آل عمران: 55]. المراد بالتفوّق هنا التفوّق
نفساً وكمالاً، لا التفوق سلطاناً ومالاً.. وليس من شكّ أن الذين آمنوا بعيسى أفضل
وأكمل من الذين كذّبوه .
{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. لا يحتاج هذا إلى تفسير، لأنّ المعنى
الظّاهر هو المراد. أجل، إنّ ضمير الخطاب هنا يشمل الغائبين في كلّ زمان ومكان من
الّذين اختلفوا في السيّد المسيح، أو في صفة من صفاته.
*من كتاب "تفسير الكاشف"، ج2.