الإمامُ الصَّادق (ع): إرثُ النّبوَّة في الحكمة والعلم والانفتاح

الإمامُ الصَّادق (ع): إرثُ النّبوَّة في الحكمة والعلم والانفتاح

يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أئمَّة أهل البيت (ع)، الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق، الّذي نلتقي بذكرى وفاته في هذا اليوم، الخامس والعشرين من شهر شوَّال.
ونحن عندما نريد أن نستذكر هذا الإمام العظيم، فإنَّنا نريد أن نؤكّد التزامنا بالإسلام في خطّ أهل البيت (ع) الَّذين انطلقوا من رسالة الإسلام، وبذلوا في سبيل تثبيتها وتقويتها وتحريكها في الحياة، كلَّ فكرهم وجهدهم ودمائهم، وكلّ ما يملكون من الحياة.
إنَّ إخلاصنا لأهل البيت (ع) ينطلق من أنّهم ذابوا في الله، وباعوا أنفسهم له، وكانت حياتهم كلّها لله سبحانه. ومن هنا، انطلقوا مع الله ومع رسوله (ص)، فلا كلمة لهم إلَّا كلمة الله، ولا حديث لهم إلَّا حديث رسول الله.
وهذا ما كان الإمام جعفر الصَّادق (ع) يردّده في أكثر من موقف، فكان يقول: "حديثي حديثُ أبي، وحديثُ أبي حديثُ جَدِّي، وحديثُ جَدِّي حديثُ الحُسَينِ، وحديثُ الحُسَينِ حديثُ الحَسَنِ، وحديثُ الحَسَنِ حديثُ أَميرِ المُؤمِنينَ، وحديثُ أَميرِ المُؤمِنينَ حديثُ رَسولِ اللهِ (ص)، وحديثُ رَسولِ اللهِ (ص) قَولُ اللهِ عزَّ وجلَّ".
وهذا ما عبّر عنه بعض الشّعراء: 
                 ووَالِ أناساً قولُهُم وحديثُهُم            روى جدُّنا عنْ جبرئيلَ عنِ الباري 
 مرحلة الإمام الصَّادق (ع)
وهكذا نلتقي مع هذا الإمام العظيم الَّذي وفّرت له الظروف السياسيَّة في زمانه هامشاً أوسع في الحركة، بخلاف ما كان عليه الحال في عهد الأئمَّة الَّذين سبقوه أو جاؤوا بعده، حيث كانت الضّغوط العبَّاسيّة والأمويّة تُقيّد حرّية أئمّة أهل البيت (ع) ونشاطهم، وتلاحق أتباعهم، وتضيّق الخناق على من يسلك نهجهم أو يتحرّك في خطّ ولايتهم.
فالمرحلة الّتي عاشها الإمام الصَّادق (ع)، كانت مرحلة انتقال الخلافة من الأمويّين إلى العبَّاسيّين. ومن هنا، فقد استفاد الإمام من هذه الفرصة الَّتي حدثت في عهده، فملأ الواقع الإسلاميَّ كلَّه علماً وفكراً وتوجيهاً في كلّ المجالات الّتي كان يتحرَّك فيها النَّاس، حتّى إنَّ مدرسته كانت تتَّسع لمن يلتقي معه في الخطّ والمذهب ولمن لا يلتقي معه فيهما، فكان (ع) يبذل علمه وفكره لهؤلاء جميعاً.
ونحن نعرف أنَّ أبا حنيفة النّعمان، إمام المذهب الحنفي، كان من تلامذة الإمام الصَّادق (ع)، وكان يقول، كما ورد عنه: "لولا السَّنتان، لهلك النّعمان"، فهو يقول إنّه لولا السَّنتان اللّتان تلمَّذ فيهما على الإمام الصَّادق (ع)، واستفاد فيهما من علومه، لهلك، لأنّهما أضاءتا له الكثير من مواقع العلم وحركته.
وكان يقول أيضاً: "أعلمُ النَّاسِ أعلمُهم باختلافِ النَّاس"، في إشارة إلى الإمام الصَّادق (ع) الَّذي كان يعرف كلَّ الاختلافات والآراء الموجودة في الواقع الإسلاميّ في زمانه، بكلّ تفاصيلها وفروعها وأوضاعها.
وينقل عن مالك بن أنس، وهو إمام المذهب المالكيّ، قوله: "ما رَأَتْ عَيْنٌ، وَلَا سَمِعَتْ أُذُنٌ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَفْضَلَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد الصَّادِقِ، فَضْلًا وَعِلْماً وَعِبَادَةً وَوَرَعاً"، ويقول عنه: "وَكانَ كَثِيرَ الحَديثِ، طَيِّبَ المُجالَسَةِ".
وهكذا نرى أنَّ كلَّ الّذين عاصروه وعايشوه، كانوا ينطلقون من مجلسه وهم يشعرون بالامتلاء من العلم والفضل والورع وتقوى الله سبحانه وتعالى.
المبادرةُ لتعليم النَّاس
وكان فيما روي عنه، يقول كلمة جدّه عليّ (ع)، عندما كان يقول للنَّاس: "سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني"، كان يحسّ بمسؤوليَّة أن يطلب من النَّاس أن يسألوه، لأنَّه يشعر بأنَّ عليه أن يبذل علمه للنَّاس، وأن يدعوهم ليحدّثوه عن مشاكلهم وقضاياهم، وعن علامات الاستفهام الَّتي تدور في رؤوسهم. وهذا هو نهج أهل البيت (ع)، كما هو نهج جدّهم رسول الله (ص)؛ أنَّهم كانوا يبتدئون النَّاس بالعلم، ويدعونهم إلى أن يسألوهم عمَّا يجهلونه.
وهذا أمرٌ لا بدَّ أن تلتف إليه العامَّة من النَّاس، كلّ النَّاس، لأنَّ الكثيرين منهم، وأنتم منهم، يجهلون أشياء كثيرة، وفي عقولهم علامات استفهام كثيرة حول الكثير مما يسمعونه أو يقرؤونه أو يفكّرون فيه. لذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يريد من النَّاس دائماً أن يسألوا أهل الذّكر.. فإذا كنتم مع كلّ إنسان يملك علماً، ولا سيَّما علم الإسلام، وأنتم المسلمون، فلا بدَّ لكم أن تسألوا دائماً.. لا تتحرَّجوا من سؤال أيّ إنسان عالم، لأنَّ الله فرض عليكم أن تسألوا، وفرض عليكم أن تتعلَّموا، كما فرض على العلماء أن يُعلِّموا، حتَّى إنَّ من وظيفة العالم الرّساليّ أن يدعو النَّاس إلى أن يسألوه، وإلى أن يتعلَّموا منه..
وهكذا كانت كلمة عليّ (ع) حتّى في آخر لحظات حياته، فقد جاء في سيرته أنَّه كان في حالة تشبه الاحتضار بعد أن ضربه ابن ملجم، وكان النَّاس يأتونه عائدين له في مرضه، وكان، وهو في هذه الحالة، يقول للنَّاس، كما جاء في السّيرة: "سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني"، إنَّكم لم تتعلَّموا الكثير منّي، وقد بقي لي سويعات في هذه الحياة، وأنا أريد منكم أن تستغلّوا ذلك، لأنَّكم بعدها لن تجدوا عليّاً الّذي يجيب عن كلّ سؤال.
وهكذا كان الإمام جعفر الصَّادق (ع)، وكان كلُّ الأئمَّة (ع)، يطلبون من النَّاس أن يسألوهم وأن يتعلَّموا منهم، لأنَّ الله يريد للمسلمين أن يكونوا الواعين لإسلامهم، وأن يعيشوا فهم الإسلام، ولا يريد لهم أن يكونوا جاهلين، بل أن يكونوا عالمين متعلّمين، وهذا ما تحدَّث به الإمام عليّ (ع)، عندما قسَّم النَّاس إلى ثلاثة أقسام، في حديثه المرويّ عنه في "نهج البلاغة": "يا كُمَيْلُ، احْفَظْ عَنّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ؛ عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ – وهم الّذين لا يعيشون الوعي والعلم - لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ".
إرثٌ ضخمٌ ومتنوّع
وتلك هي عظمة أهل البيت (ع)، وعظمة الإمام جعفر الصَّادق (ع)، فلو رأينا ما تركه الإمام الصَّادق من تراث، مما كان يحدّث به النَّاس ابتداءً، ومما كان يجيب فيه عن أسئلة النَّاس، لرأينا أنَّه تراثٌ ضخم متنوّع، لا يترك قضيَّة من قضايا النَّاس إلَّا ويتحدَّث عنها، ولا يترك أيَّ شيء يختلف فيه النَّاس، إلَّا وأعطاهم فيه الفكرةَ الحقّ.
ومن هنا، فإنَّنا عندما نقرأ تراث الإمام الصَّادق (ع)، نرى فيه كلَّ قضايانا، وكلَّ حياتنا، وكلَّ ما نتساءل عنه ونفكّر فيه، لأنَّه كان ينظر بنور الله، ويغترف من ينبوع رسول الله الَّذي هو ينبوع الإسلام، في كلّ ما يعرض للإنسان من قليل وكثير.
وقد ذكر المؤرّخون فيمن روى عنه الحديث، ومن تعلَّم منه العلم، أنَّ الَّذين رووا العلم عنه كانوا أربعة آلاف شخص. وروى البعض أنَّه (ع) دخل مسجد الكوفة، وكانت المساجد آنذاك هي المدارس، ورأى في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، يعني تسعمائة أستاذ وعالم، وكلّ يقول: "حَدَّثَني جعفرُ بنُ محمَّد الصَّادق"، من دون فرقٍ بين الإنسان الَّذي يلتزم خطَّ أهل البيت (ع) من الشّيعة، أو ممن لا يلتزم خطَّهم في هذا المجال.
اتّباعُ سبيلِ الحوار
ونحن نقرأ في تاريخه، أنَّه في أيَّام الحجّ، كان يجلس في المسجد الحرام إلى جانب بيت الله، ويكون النَّاس مشغولين بالعبادة، ويكون (ع) مشغولاً باستقبال الزَّنادقة والملاحدة الَّذين يأتون إليه، ويطلقون أمامه الكلمات الحادَّة القاسية، حتَّى إنَّ بعضهم كان يسخر من طواف الطَّائفين. ولكنَّ الإمام كان يستمع إليهم بكلّ عقل مفتوح، وصدر واسع، وبكلّ كلام حلو، ويناقشهم ويحاورهم، حتَّى يخضعهم لمنطقه، وكان يعمل على أساس أن لا يردع إنساناً يريد أن يناقشه أو يحاوره، وكان يعتبر أنَّ هذا من العبادة.
وقد قال ابن المقفَّع صاحب كتاب "كليلة ودمنة"، وهو من رجالات الفكر في عصره آنذاك: "لَا أَرَى أَحَدًا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّد الصَّادِقِ"، وكان بعضهم يقول: "مَا أَقُولُ فِي شَخْصٍ يَتَرَوَّحُ إِذَا شَاءَ – بمعنى أنّه يتحوَّل إلى روح، بحيث لا تحسّ بجسده - وَيَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ، مِثْلَ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّد".
كان (ع) يؤمن من خلال ما علَّمه الله إيّاه في كتابه، وعلَّمه إيّاه رسول الله في سيرته، أنَّ علينا أن نفتح عقولنا لمن يختلف معنا في الرأي، وأن نوسّع صدونا لمن نختلف معه في العقيدة، فلا نتضايق من سؤال، ولا نتعقَّد من أيّ فكرة مضادَّة، لأنَّ الإنسان الَّذي يريد أن يهدي النَّاس إلى الحقّ، وأن يدعوهم إلى الله، وأن يفتح عقولهم عليه، لا بدَّ أن يوسّع صدره، وأن يليّن لسانه، وأن يفتح قلبه، ويحرّك عقله، ليواجه الحجَّة بالحجَّة، والفكرة بالفكرة، لأنَّك لا تستطيع أن تهدي إنساناً وتجذبه إلى خطّك إذا شتمته أو شتمت مقدَّساته، أو إذا ضربته، فالضَّرب قد يُخضِع الجسد، والكلمات القاسية الشَّاتمة أو المؤذية قد تُسقِط الإنسان، ولكنَّها لا تقنعه..
جرّبْ، لو كان عندك وجهة نظر، أو فكرة معيَّنة تختلف فيها مع وجهة نظر أخرى وفكرة أخرى، وجاءك صاحب هذه الفكرة وصار يشتمك، ويقول لك أنت لا تفهم، وأنت غبيّ، وأنَّ فكرتك كلّها كفر وضلال، ويمكن أن يهدّدك بالضَّرب والأذيّة، وقد تسكت، ولكن هل يقنعك؟ أكيد لن يقنعك.
إنَّ مجتمع الحياة يحتاج منّا عندما نختلف، أن نعمل على أن يهدي بعضنا بعضاً، وأن يقنع بعضنا بعضاً. أنت في البيت قد تختلف مع زوجتك، فقد تكون لها وجهة نظر تختلف عن وجهة نظرك، وقد تقول لها أن ليس لك كلمة أمامي، وقد تضربها، ولكنَّ الأكيد أنّك لن تربح عقلها وفكرها بذلك، كذلك ابنك عندما يفكّر بما يخالف فكرتك، وتقول له أنا أبوك، وليس لك أيّ كلمة أمامي، ولا أريد أن أسمع كلامك ووجهة نظرك، فقد يسكت لأنّه يخاف منك، أو لأنّه يحترمك ويهابك، لكنَّ عقل ابنك يبقى في اتجاه آخر، ولا تربح عقله بذلك أو تقنعه.
وهكذا في كلّ القضايا الَّتي نتنازع فيها.. كلّ النَّاس الّذين يحاولون أن يهدّدوا الّذين يختلفون معهم في الرَّأي أو يقمعوهم، هم أناس ضعفاء، لأنَّ الإنسان الَّذي يملك الحجَّة، لا يحتاج إلى أن يستعمل قوَّته، فالقوَّة الجسديَّة نستعملها في صراع الجسد، أمَّا صراع العقل فنستعمل فيه قوَّة العقل. ولهذا، نلاحظ أنَّ الله قال لرسوله (ص): {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الّتي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، أن ننطلق بالكلمة الحلوة، وبالحجَّة القويَّة في هذا المجال، حتَّى نستطيع أن نقنع الآخرين. نحن الآن عندما نختلف مع أحد، فلا ينبغي أن نعنّفه ونغضب منه، بل أن نقنعه ونجذبه إلى صفّنا، حتّى يفكَّر معنا ويتحرَّك معنا، وهذا إنما يكون إذا استطعنا أن نقنعه بفكرنا.
الجدالُ بالحقّ
لذلك، علينا دائماً، أيُّها الأحبَّة، إذا كنَّا نحمل أيَّ فكر، أن نقوّي قناعتنا بهذا الفكر، حتَّى نستطيع أن نقنع الآخرين به. وهذا ما كان الإمام الصَّادق (ع) يتحرَّك به، وكان يعلّم تلامذته، أنَّهم إذا أرادوا أن يجادلوا النَّاس، فإنَّ عليهم أن يجادلوهم بالحقَّ لا بالباطل، لأنَّ الحقَّ يغني صاحبه عن الباطل. ويروى أنَّ الإمام (ع) سمع ذات يوم بعض تلامذته يناقش شخصاً في قضيَّة من القضايا، وكان هذا التّلميذ يحاول أن يردَّ ذاك الشَّخص بالحقّ والباطل حتَّى يسيطر عليه، فقال له الإمام (ع): "تمزجُ الحقَّ بِالبَاطِلِ، وَقَلِيلُ الحَقِّ يَكْفي مِنْ كَثِيرِ البَاطِلِ".
عندما تريد أن تناقش شخصاً في قضيَّة، حاول أن تناقشه بما تملك من الحقّ، لا أن تناقشه بالباطل، وإن كان الباطل يسقطه، لأنَّ المسألة عندنا ليست أن نسكت الّذين نخاصمهم، بل أن نقنعهم.
هذا هو أسلوب الإمام جعفر الصَّادق (ع)، ولذلك كان النَّاس يأتون إليه، ولا يخافون من أن يسألوه أيَّ سؤال. ونحن نعتقد أنَّ من وظيفة علماء الدّين والمثقّفين والمسؤولين في أيّ حقل من الحقول العامَّة، أن يفسحوا المجال للنَّاس أن يسألوهم عن كلّ شيء، أن لا يتعقَّدوا من شيء، وقد قلنا مراراً أن "لا مقدَّسات في الحوار"، فيمكن لأيّ إنسانٍ أن يحاور بكلّ شيءٍ يخطر في فكره ليسأل الآخرين عنه.
وأنا أقول لكم، أيُّها الأحبَّة، استيحاءً من كلام الله ورسوله، ومن سيرة أئمَّتنا (ع)، وفي مقدَّمهم الإمام جعفر الصَّادق (ع): اسألوا عن كلّ شيء، عن كلّ ما يخطر في ذهنكم ممّا تجهلونه، لا تتركوا في عقولكم شيئاً حائراً، ولا تتركوا عقدةً حول أيّ فكرة، حاولوا أن تسألوا دائماً من يغنيكم جوابه، ومن يملك العلم والمسؤوليَّة والحقّ والخوف من الله، حتَّى تكون حياتكم علماً متحركاً، ووعياً دائماً في كلّ ما يهمّكم أمره.
نهجُ الانفتاح
ثمَّ نلاحظ أنَّ من ميزات الإمام جعفر الصَّادق (ع)، أنّه أراد من شيعة أهل البيت (ع) أن ينفتحوا على المسلمين الآخرين، كان يريد للمسلمين السَّائرين في خطّ أهل البيت أن لا ينفصلوا عن الواقع الإسلاميّ العامّ، وأن لا يغيبوا عن جماعة المسلمين، حتَّى لو كان المسلمون الآخرون يختلفون معهم في المذهب، ولا أن ينعزلوا عن الواقع الإسلاميّ لتكون هناك محلّة للشّيعة ومحلَّة للسنَّة، وكان يقول للشّيعة في علاقتهم مع السنَّة: "صِلُوا عَشائِرَهُمْ، وَاشْهَدُوا جَنائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضاهُمْ، وَأَدُّوا حُقوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنكُم إِذا وَرَعَ في دِينِهِ، وَصَدَقَ الحَديثَ، وَأَدَّى الأَمانةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قيلَ هذَا جَعْفَريٌّ، فَيَسُرُّني ذَلِكَ، وَيَدخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرورُ، وَقيلَ هذَا أَدَبُ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّد". وكان يقول: "كُونُوا لَنَا زَيْناً، وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنا شَيْناً".
كان (ع) يريد للشّيعة أن لا يعزلوا أنفسهم عن واقع المسلمين، لأنَّ انعزالهم يضعف الإسلام عندما ينعزل فريقٌ عن فريق، ويبعد الحوار عنهم عندما يكون كلّ طرف في جانب، فإنَّ هذا الانفصال الجسديّ والاجتماعيّ، يجعل المسلمين لا يتحاورون فيما اختلفوا فيه، ولا يتلاقون فيما اتَّفقوا عليه، والله يريد للمسلمين دائماً أن ينفتح بعضهم على بعض، ليحاور بعضهم بعضاً، وليناقش بعضهم بعضاً، لأنَّ الحوار مع الاجتماع والوحدة، يمكن أن يوصل الجميع إلى نقاط لقاء، وإذا لم يوصلهم إلى نقاط لقاء، فإنَّه يوصلهم إلى نقاط تفاهم فيما بينهم.
أهميّةُ الوحدةِ الإسلاميّة
إنَّ ما نراه، أيُّها الأحبَّة، في واقعنا الإسلاميّ الآن، أنَّ هذا الفريق الإسلاميّ يتَّهم فريقاً إسلاميّاً آخر بالكفر أو الشّرك أو الضَّلال، وذاك الفريق يتَّهم هذا الفريق، وأغلب ذلك إنّما ينشأ من جهل المسلمين بعضهم ببعض، وبسبب التَّقاطع فيما بينهم وانفصال بعضهم عن بعض، ويأتي الّذين يريدون أن يثيروا الفتنة بين المسلمين، يأتي فريق من هناك، قد تكون له علاقات مخابراتيَّة بأجهزة بعيدة من الإسلام، ليدسَّ في ذهن هذا المسلم ما يعقّده من المسلم الآخر، وعندما لا يتلاقى بعضهما مع بعض، فإنَّ كلَّ واحد منهما سوف يحمل الفكرة السَّلبيَّة عن الآخر، وبذلك تكون المشكلة. ولذلك، كلَّما تلاقينا أكثر، وتحاورنا أكثر، ورجعنا فيما نختلف فيه إلى الله ورسوله، فإنَّنا نستطيع عند ذلك أن نحقّق الكثير من فرص اللّقاء.
لقد قلنا مراراً، ولا نزال نقول، إنَّنا عندما نتحدَّث عن الوحدة الإسلاميَّة، فإنَّنا لا نريد بهذه الوحدة أن يكون السنّيّ شيعيّاً بدون أساس، أو يكون الشّيعيُّ سنّيّاً بدون أساس، أو أن نقضي وقتنا بالمجاملات، ولكن نقول إنَّ الوحدة الإسلاميَّة هي أن نتوحَّد فيما اتَّفقنا عليه من الإسلام، وما اتَّفقنا فيه منه كثيرٌ كثير، وأن نتوحَّد فيما يواجهنا من تحدّيات، وما يواجهنا من التحدّيات للإسلام كلّه وللمسلمين كلّهم كثيرٌ كثير، وأن نتوحَّد في مواجهة الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لنستطيع أن نحقّق القوَّة لنا، وأن لا تكون ريحنا هباءً في هذا المجال.
إنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، هي أنَّنا قد نعيش مشكلة، فقد نجد فريقاً من المسلمين يسبّ فريقاً آخر، والفريق الآخر يسبّ هذا الفريق، ولكن علينا أن نكبّر عقولنا، ونوسّع صدورنا، وقد قال عليّ (ع) كلمةً رائدةً في هذا المجال: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ". فعندما يحمل غيرُكَ الشَّرَّ ضدَّك، حاول أنت أن تقلع الشَّرَّ من صدرك، لا تتحرَّك بردّ الفعل، بحيث إذا سبَّك الآخرون سببتهم، وإذا سبّوا مقدَّساتك سببت مقدَّساتهم، بل وسّع صدرك، وقل كما قال رسول الله (ص): "اللَّهمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُون"، وعندما يكون صدرك مملوءاً بالمحبَّة، وفارغاً من الحقد، فستنطلق هذه المحبَّة إلى قلوب الآخرين، لتنتزع المحبَّةُ هذا الحقدَ من صدورهم.
الحربُ على الإسلامِ كلّه
علينا أن نتعلَّم، أيُّها الأحبَّة، من كلّ تجاربنا، ومن كلّ المشاكل الّتي تحيط بنا، ومن كلّ حركة الأجهزة المخابراتيَّة في العالم الّتي تحاول أن تمزّقنا، كي لا ينطلق المسلمون في وحدة سياسيَّة ثقافيَّة اقتصاديَّة تواجه الاستكبار كلَّه والكفر كلَّه، إنَّ علينا أن نتعلَّم من كلّ تجاربنا هذه، أنَّ التفرقة والتمزّق والنزاعات المذهبيَّة والطَّائفيَّة، لن تستطيع أن تجعل الشّيعة يربحون شيئاً، ولا أن تجعل السنَّة يربحون شيئاً، بل إنَّها تجعل الكافر والمستكبر يربحان الكثير من ذلك، لأنَّ الجميع يريدون رأس الإسلام، ولا يريدون رأس الشّيعة وحدهم، ولا رأس السنَّة وحدهم.
لذلك نجد أنَّ المستكبرين في الأرض وحلفاءهم من الكافرين، لا يفرّقون بين موقع شيعيّ وموقع سنّيّ، عندما يتحرَّك هذا الموقع أو ذاك الموقع ليواجه مصالحهم وأطماعهم، وليتحدَّى خططهم.. إنَّهم وقفوا ضدَّ إيران، وقيل إنّهم يقفون ضدَّ الإسلام الشّيعي، ولكنَّهم وقفوا ضدّ أفغانستان، وضدّ المسلمين في فلسطين، وضدّ المسلمين في الشيشان، وفي البوسنة والهرسك، وهكذا يقفون ضدّ المسلمين في كلّ مكان، لماذا؟ لأنَّ القضيَّة المطروحة الآن في واقع الاستكبار العالميّ، ليست مشكلة الرَّفض عند الشّيعة، بل هي مشكلة الرَّفض عند المسلمين جميعاً..
سبيلُ العزَّةِ والحرّيّة
إنَّهم يعلنون الحرب الآن، كما أعلنوا في قمَّة شرم الشّيخ، على ما يسمّونه الإسلام الأصوليّ، أو حركة الإرهاب الأصوليَّة، أو ما إلى ذلك، والواقع أنَّها معركة ضدَّ الإسلام كلّه، وضدَّ المسلمين كلّهم، لأنَّ من يسمّونهم المسلمين الأصوليّين، لا ينطلقون من موقع إرهاب من أجل أن يسيئوا إلى أمن النَّاس، أو أن يدمّروا حياة النَّاس، إنما ينطلقون من خلال أنّهم يريدون أن يكونوا الأحرار في بلادهم، والأحرار في سياستهم واقتصادهم وأمنهم وتقرير مصيرهم، هؤلاء الَّذين انطلقوا لأنَّهم تعلَّموا من الإسلام أن يكون المسلم عزيزاً، فكما هي العزَّة لله ولرسوله، فإنّها للمؤمنين أيضاً {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8]، وتعلَّموا من الإمام جعفر الصَّادق (ع) في تفسيره لهذه الآية، أنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن يذلَّ نفسه، فالإنسان الّذي هو جزء من المجتمع والأمَّة، ليس حرّاً أن يذلّ نفسه لأحد، لأنَّ الله لا يريد له ذلك، ولأنَّ الأمَّة لا ينبغي أن تسمح له بذلك.
قال الإمام جعفر الصَّادق (ع): "إنَّ الله فوَّضَ إلى المؤمنِ أمورَهُ كلَّها - كُلْ ما تشاء من حلال، والبسْ ما تشاء من حلال، واشربْ ما تشاء من حلال، وتلذَّذْ بما تشاء من حلال، ولكن لا تكن ذليلاً، لأنَّ الله - ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً".
فالله لم يعطك حريّة أن تذلّ نفسك، فالله الَّذي خلقك، والَّذي يملك منك ما لا تملك من نفسك، يقول لك أنا أرفض أن تكون ذليلاً، أنا ربُّك الّذي خلقك، وأنت ملكي وعبدي، إيَّاك أن تستعبد نفسك لغيرك.. لتكن عبوديّتك لي وحدي، وحرّاً أمام العالم كلّه.. فكما أنَّ الله يقول لك: لا تشرب الخمر، لا تزن، لا تسرق، فإنَّه يقول لك لا تذلّ نفسك. بل ربما كانت الخطيئة هنا أكثر من الخطيئة هناك، لأنَّ هناك خطيئة تتعلَّق بفعل من أفعالك، أمَّا خطيئة الذّلّ، فتتعلَّق بكيانك كلّه، وتتعلّق بحركتك وموقعك في أمَّتك، فتسيء إلى أمَّتك من خلال ذلك.
وهكذا رأينا أنَّ الإمام جعفر الصَّادق (ع) الَّذي نحتاج أن نستحضر كلماته، لتكون النّور الَّذي يضيء لنا درب الحريَّة، قال: "إِنَّ الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِن تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ، لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِن أُسِرَ وَقُهِرَ، وَاسْتُبْدِلَ بِالْيُسْرِ عُسْراً".
الحرُّ لا يشعر بفقدان حرَّيته عندما يُسجَن في الزنزانة، ولا بفقدان حرّيَّته عندما يُؤسَر ويعذَّب ويُضرَب ويُحاصَر ويُضطهَد، لأنَّ الإنسان المؤمن يستمدُّ حرّيّته من داخل إرادته، فعندما تكون إرادتك حرّة، فحتّى لو كان جسدك في زنزانة، تبقى الإنسان الحرّ، وبعض النَّاس قد يأخذون حرّيتهم في الحركة، ولكنَّهم في الواقع عبيد، لأنَّ إرادتهم مستعبدة، ولأنَّ قرارهم مستعبد، وحركتهم، فيما يؤيّدونه أو يرفضونه، خاضعة لأناس آخرين.. والله يكره للإنسان أن يستضعف نفسه، وهذا ما قاله الله: {إِنَّ الّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ – كان النَّاس يستضعفوننا، فنخضع لهم فيما يفرضونه علينا من فكر وبرامج، ومن خطوات ومواقف - قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النّساء: 97]، ساء مصير الَّذين يستضعفون أنفسهم، وهم قادرون على أن ينطلقوا ليأخذوا مواقع القوَّة هنا وهناك.
وقد قالها عليّ (ع)، وخذوا من عليّ هذا النَّهج، لا تستغرقوا في بطولته الجسديَّة، ولكن استغرقوا في بطولته الفكريَّة والرّوحيَّة، كان (ع) يخاطب كلَّ واحد منَّا: "لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرَكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً". فالله خلقك حرّاً لا عبداً لأحد، فلا تستعبد نفسك لغيرك، ابقَ الحرَّ أمام النَّاس وأمام العالم في كلّ شيء.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ المسلمين المنفتحين على الإسلام كلّه، هم المنفتحون على الحريَّة كلّها، وعلى العدالة كلّها، وهم المطالبون بأن يكونوا أحراراً في دنياهم، وأن يكونوا العادلين الّذين يعيشون في أجواء العدل عندما يحكمون في حياتهم.
قمَّةُ الشَّرّ
إنَّنا واجهنا هذه القمَّة الّتي أسميناها قمَّة الشّرّ، وهي قمَّة الشّرّ العالميّ الّذي يحاول أن يقهر الخير ويسقطه.. سمّوها هم قمَّة صانعي السَّلام، ولكن عن أيّ سلام يتحدَّثون؟! إنَّهم لا يتحدَّثون عن سلام الشّعوب، ولكنَّهم يتحدَّثون عن سلام الصَّهاينة والاستكبار الأمريكيّ. أيّ سلام هو هذا السَّلام؟ ما الَّذي حصل عليه الفلسطينيّون الآن مما أريد لهم أن يحصلوا عليه؟ لأنَّ الواقع العالميّ جعل فلسطين الـ 48 إسرائيل، وتسالم أكثر العالم على ذلك، وأبقوا منطقة سمّوها الأراضي المحتلَّة، وهي الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، وأرادوا أن يكون هناك سلام بين الفلسطينيّين واليهود، بحيث يُعطَى الفلسطينيّون حكماً ذاتيّاً يمكن أن يحلموا في المستقبل بأن يتحوَّل إلى دولة صغيرة في هذا الجزء من العالم!
وبحسب الإحصائيَّات، فما أخذه الفلسطينيّون الآن من أراضي الضفَّة الغربيَّة وغزّة، هو إمَّا 6% أو 7 % فقط من الأراضي الفلسطينيّة، وقيل إنَّ الصّراع بين فلسطين وإسرائيل قد انتهى.. ولكنَّ الصّراع ينتهي بينك وبين عدوّك عندما تأخذ حقَّك، وعندما تأخذ شيئاً مهمّاً من حقّك، أمَّا أن يكون حقّك الّذي تأخذه بنسبة 6% أو 7%، فأيُّ سلام يمكن أن يرتكز على مثل هذا الحقّ؟
ثمَّ من خلال هذه الـ 6% أو الـ 7%، ماذا أُعطيَ الفلسطينيّون؟ إنّهم ليس لهم حريَّة في السياسة الخارجيَّة، أو في إدارة اقتصادهم، أو في الاستفادة من المياه الموجودة في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، ليس لهم الحريَّة إلَّا أن يديروا أمورهم في داخلهم إدارة بلديّة أو ما يشبه الإدارة البلديَّة...
جهادٌ وليس إرهاباً
لذلك إنَّهم يتحدَّثون: لماذا قام هؤلاء المجاهدون في حماس وغير حماس، بما قاموا به من العلميَّات الاستشهاديَّة؟ إنَّهم يتحدَّثون عن الإرهاب، وأنا أتساءل: إذا كان الإرهاب هو حركة يقوم بها الإرهابيّ من أجل أن يستفيد مادّيّاً، فالإرهابيّ الّذي يهجم على بنك ليسرقه، ينطلق من أجل أن يستفيد ماديّاً في حياته، وعندما يهجم على شخص ليسلبه، يمكن أن يستفيد منه شيئاً معيّناً، وهكذا، فإذا كان الإرهاب هو هذا، فما معنى أن يكون الإنسان إرهابيّاً ليفجّر نفسه؟ أنت يمكن أن تقنع شخصاً بأن يقوم بأمر ما مقابل مال أو مقابل خدمات وشهوات معيّنة، ولكن إذا كان هناك شخص يريد أن يموت، وأن يحوّل نفسه إلى قنبلة متفجّرة، فبماذا يستفيد؟! فلو لم يكن هذا الشَّخص يشعر بالقهر والاضطهاد بما لا حدود له، ويشعر بالظّلم الكبير، فلماذا يفجّر نفسه؟! ومن الشَّباب الّذين يقومون بالعمليَّات الاستشهاديَّة شباب جامعيّون، وشباب ناجحون في حياتهم الماديَّة، وليسوا من الشَّباب الفقراء الّذين قد يقال إنَّهم ليس هناك ما يخسرونه، أو الجاهلين الّذين يمكن أن يخدعهم أحد.. لقد اعتقلت العصابات الصّهيونيَّة بعد هذه الأحداث ثلاثين شخصاً ممن كانوا رفاق أحد هؤلاء المجاهدين الاستشهاديّين، وهم أعلنوا للمحقّق الإسرائيليّ أنَّهم كانوا يستعدّون جميعاً للقيام بعمليَّات استشهاديَّة.
إنَّنا نتساءل: أيَّة ذهنيَّة إرهابيَّة تنطلق هنا؟ إنَّهم يتحدَّثون عن المأساة؛ بقولون لقد قُتِل مدنيون، وقتل أبرياء، وقتل أطفال! أليست هذه نغمة الرئيس الأمريكيّ، ونغمة بقيَّة رؤساء أوروبا، ونغمة كلّ هؤلاء الأذلّاء الأذلّاء الّذين لا نعرف كلمةً في الحقارة نقولها لهم، وهم هؤلاء العرب الَّذين هرولوا إلى هذه القمَّة ليبكوا الإسرائيليّين الّذين سقطوا بدموع أمريكيَّة، لأنَّ الدموع العربيَّة القاهرة لا يمكن أن تبكي مثل هؤلاء، لكنَّ أمريكا أعطتهم دموعها كما أعطتهم فرحها، فأصبحوا يفرحون أمريكيّاً ويبكون أمريكيّاً، لأنَّهم خرجوا عن كلّ معنى العروبة، لأنَّ العروبة حتَّى لو ابتعدت عن خطّ الدّين، فإنَّها تحمل قيماً، كما قال الإمام الحسين (ع) عندما خاطب شيعة آل سفيان: "وَيْحَكُمْ، يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَارًا فِي دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عربًا كَمَا تَزْعُمُونَ"، لأنَّ في العروبة قيماً ومبادئ وأخلاقاً...
إرهابٌ صهيونيٌّ وأمريكيّ
وهكذا نقول لمثل هؤلاء الّذين لم يتحدَّث واحد منهم عن آلام الشَّعب الفلسطيني الّذي يقاد الآن بعقوبات جماعيَّة تشمل الشَّيخ والطَّفل والمرأة كما تشمل الشَّباب، لم يتحدَّث أحد عن ذلك الطّفل الرّضيع الَّذي أصيب بالتهاب رئويّ، ووقفت أمّه عند الحاجز الإسرائيليّ، ولم يمكّنوها من الذَّهاب به إلى المستشفى، ومات الطّفل عند الحاجز، ولم يتحدَّثوا عن تلك الأمّ الّتي جاءت ووقفت عند الحاجز الإسرائيليّ من أجل أن تذهب إلى المستشفى لتلد، ولم يمكّنوها من ذلك، وأسقطت توأماً عند الحاجز، لم يتحدَّث كلينتون عن ذلك، ولم يتحدَّث أيّ أحد من الاتحاد الأوروبي أو من العرب عن ذلك.
إنَّهم يتحدَّثون عن هؤلاء الإرهابيّين أنَّهم قتلوا مدنيّين، وإنَّنا نتساءل: كم قتلت إسرائيل من مدنيّينا نحن في لبنان؟ لقد كنتم بالأمس في ذكرى 14 آذار، إنَّ أقلّ إحصائيَّة لما سقط في الاجتياح الإسرائيلي هي ألف شخص، وبما يضاف إليه في الـ 82، وبما يضاف إليه في الـ 93، ومن كلّ الهجمات بالطَّائرات والمدافع والصَّواريخ الّتي تدمّر في كلّ يوم بيوتنا، وأمريكا لا تتحدَّث عن أيّ شيء، وإنما تعتبر أنَّهم يهاجمون الإرهابيّين.
وهكذا لم يتحدَّث أحد عن مآسي لبنان والإرهاب الإسرائيليّ، وآلام الشَّعب الفلسطيني الّذي يعاني من الواقع الإسرائيليّ، ولم يتحدَّث أحد عن المشرَّدين الفلسطينيّين الّذين يعيشون خارج بلادهم ولا يسمح لهم بالعودة، وهم بالملايين، ولم يتحدَّث أحد عن اللّبنانيّين الّذين هُجّروا بفعل الاجتياح الإسرائيليّ الأوَّل والثَّاني والثَّالث عن مناطقهم، وهم لا يستطيعون العودة إليها.
كانت المسألة أنَّ 60 يهوديّاً، وفيهم غير اليهود، قتلوا وثار العالم، أمَّا أن يُقتَلَ منّا عشرات الألوف، فإنَّ ذلك لا يحرّك أيّ شيء من ضمير العالم.. إنَّهم يقولون دائماً، عندما يعتذرون عن سقوط المدنيّين، إنَّ الحرب هي الحرب، وإنَّ الحرب تفرض سقوط مدنيّين.. فلماذا إذا أسقطتم أنتم مدنيّين بفعل ما تفرضه قوانين الحرب، تريدون للعالم أن يجد لكم التّبريرات، بينما لا يبرَّر للمجاهدين الّذين سُلِبَتْ أرضهم، وسُلِبَتْ كلّ ثرواتهم، وسُلِبَ مستقبلهم ومصيرهم، عندما يتحرّكون في الحرب؟!
إنَّها الحرب؛ إنَّ إسرائيل أعلنت حرباً على حماس وعلى الجهاد الإسلاميّ، فهل اغتيال الدكتور فتحي الشّقاقي حرب أم سلم، وهل اغتيال يحيي عيَّاش حرب أم سلم؟!
إذا بدأْتَ الحرب فعليك أن تتحمَّل نتائجها. عندما لا يستطيع هؤلاء المجاهدون أن يردّوا بطريقة، فلا بدَّ أن يردّوا بطريقة أخرى. ثمَّ نحن قلنا إنَّ كل مَن احتلَّ بيتاً، حتَّى لو كان لا يحمل بندقيَّة، فهو محارب. إنَّ الاحتلال يُعتبرُ عملَ حرب، سواء كان الاحتلال احتلالَ دولةٍ لأرضِ دولة، أو كان الاحتلالُ احتلالَ بيتِ شخصٍ من قبل شخصٍ آخر، لذلك نحن نقول إنَّ كلّ هؤلاء محاربون.
إنَّنا لا نريد أن نشجّع على قتل المدنيّين، ولكنَّنا نقول: لماذا تبحثون عن النَّتائج الظَّاهرة ولا تبحثون عن أسبابها؟ اسألوا أنفسكم: لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ لماذا يفجّرون أنفسهم ويضحّون بها؟! إنَّهم يفعلون ذلك لأنَّ لهم وطناً سُلِبُوه، ولأنَّ لهم مصيراً أضاعه الآخرون.
مسؤوليّةٌ أمريكيّةٌ مباشرة
ولذلك، نحن لا نحترم مثل هذه القمَّة، ولا مثل هؤلاء الرؤساء، ولا سيَّما الرئيس الأمريكيّ الّذي انطلق من أجل أن يحصل على كميَّة معيَّنة من الأصوات اليهوديَّة، ومن التَّأييد اليهوديّ، أو المتأثّرين باليهود في الانتخابات الأمريكيَّة، ومن أجل أن يقوّيَ موقع فريقه في داخل المجتمع الصّهيونيّ، فعمل على أن يفعل ما لم يفعله رئيس أمريكيّ قبله، بأن يحضر المؤتمر الأمنيّ الّذي أُعِدَّ من أجل القيام بعمليَّات أمنيَّة خفيّة سريَّة في كلّ المنطقة، والّتي يمكن أن تشمل الاغتيالات والتفجيرات والقصف هنا وهناك.
إنَّنا من منطلق حضور الرئيس الأمريكي مجلسَ الوزراء الإسرائيليّ المصغَّر، مع وزير خارجيَّته، ومع رئيس المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، نقول إنَّ كلَّ شخص تغتاله إسرائيل، وكلّ سيارة ملغومة تبعثها إسرائيل إلى المنطقة، وكلّ قصف إسرائيليّ لهذا الموقع أو ذاك، إنما هو مسؤوليَّة الرئيس الأمريكيّ بشكل مباشر، لأنَّه كان عضواً في مجلس الوزراء الإسرائيليّ، وبذلك نعتبر أنَّ أمريكا تحوَّلت إلى هامش إسرائيليّ بعد أن كانت دولة عظمى. فالدولة العظمى أصبحت إسرائيل، وأمَّا أمريكا، فإنَّ رئيسها ينطلق من أجل أن يكون أحد أفراد مجلس الوزراء الإسرائيليّ. إنَّه يحمل المسؤوليَّة في أيَّة عمليَّة أمنيَّة تقوم بها إسرائيل، وبذلك، فإنَّنا نعتبر أنَّه دخل بشكل عضويّ أمنيّ فريقاً في الحرب بين إسرائيل وبين الَّذين يرفضونها ويرفضون احتلالها.
إنَّنا نسجّل هذه النقطة على الرئيس الأمريكيّ الّذي لم يعد مجرَّد فريق منحاز إلى إسرائيل، ولكنَّه أصبح عضواً في الحكومة الإسرائيليَّة المصغَّرة. ولذلك، فإنَّنا نعتبره تماماً كأيّ عضو في الحكومة الإسرائيليَّة المصغَّرة في هذا المجال.
ونحن نلاحظ أنَّ هذا الرَّجل الّذي يخلو قلبه من كلّ رحمة، كيف أنَّه عندما سئل في مؤتمره الصّحفيّ عن العقوبات الجماعيَّة الّتي يقوم بها اليهود ضدَّ الشَّعب الفلسطينيّ، عندما يدمّرون البيوت، ويحاصرون الشّعب كلَّه حتَّى يجوع، أجاب بكلّ برودة أعصاب، وبكلّ وحشيَّة القلب، إنَّها مسألة تتَّصل بالأمن، ومن حقّ إسرائيل أن تدافع عن أمنها، حتَّى لو كان ذلك على حساب الإنسان الفلسطيني المستضعف في هذا المجال.
إنَّهم يطلبون الآن من سوريا ومن إيران أن تدينا العمليّات الاستشهاديّة، ولكنَّنا نقول لهم: لماذا لم تطلبوا من إسرائيل، أو تطلب أمريكا من نفسها ومن العالم، أن تدين المجازر الّتي وقعت ضدّ الفلسطينيين وضدّ اللّبنانيّين؟ هل إنَّ مسألة حقوق الإنسان تنحصر بالإنسان الإسرائيليّ؟ أليس للفلسطينيّ أيّ حقّ في إنسانيَّته؟
قمّةٌ لدعمِ إسرائيل!
لذلك، إنَّنا نجد أنَّ هذه القمَّة إنّما انطلقت من أجل دعم إسرائيل، ومن أجل إعطائها كلَّ الحريَّة في أن تعمل ما تعمله في المنطقة، ومن أجل أن تضغط على الواقع العربي الّذي حضرت أغلب دوله في هذا المؤتمر، وعقدوا قمَّة مع إسرائيل، وعملوا أيضاً على أن يعطوا إسرائيل كلَّ حميميَّة، حتَّى إنَّ بعضهم أخذه الحماس لها، فدعا رئيس وزراء العدوّ إلى زيارة بلده في أيّ وقت شاء، كأنَّه يقول:
يَا ضَيْفَنَا لَوْ زُرْتَنَا لَوَجَدْتَنَا نَحْنُ الضُّيُوفَ وَأَنْتَ رَبُّ المَنْزِلِ
والعرب، طبعاً، جماعة مضيافون! والمضيف يقدّم لضيفه كلّ شيء، ونحن نعرف أنَّ إسرائيل كانت ضيفاً سيّئاً في المنطقة كلّها، لأنَّها دمَّرت اقتصاد المنطقة وسياستها.
إنَّ المسألة أنَّه حتَّى الآن، لم تنجح أيّ دعوة من قبل الجامعة العربيَّة لعقد قمَّة عربيَّة يلتقي فيها العرب بعضهم مع بعض، ولكنَّهم عندما دُعُوا إلى قمَّة مع العدوّ الصّهيونيّ، بادروا إليها مهرولين. ويحضرني في هذا المجال بيتٌ لشاعر عربيّ سوريّ – عمر أبو ريشة - عندما عقد هؤلاء العربان مؤتمراً في الرّباط أريدَ من خلاله فتح المجال أمام التَّفاوض الإسرائيليّ، قال:
                خافوا على العارِ أنْ يُمحَى فكانَ لهم      على الرّباطِ لدعمِ العارِ مؤتمرُ
  لأنّهم يريدون حفظ العار الّذي أدمنوه وعاشوه.
مسؤوليَّةُ الشّعوب
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، عندما نواجه مثل هذه القمَّة، قمَّة الشَّرّ، فإنَّ مسؤوليَّتنا كشعوب تزداد، ولا سيَّما بعدما سقطت أغلب الأنظمة العربيَّة في مستنقع التَّبعيَّة للإسرائيليّين، وفي وحول الذُّلّ الأمريكيّ، ولم يبق لها شيء من العنفوان ولا من الكرامة... إنَّ الشّعوب العربيَّة، والأمّة الإسلاميَّة، بل كلّ أمَّة تحترم نفسها، لا يمكن أن ترى في هذه القمَّة تمثيلًا لها، لا من قريب ولا من بعيد.. خذوا درساً علّموه لأطفالكم، وهو أنَّ أمريكا مستعدَّة أن تبيد العالم العربيَّ كلّه لمصلحة أيّ فرد من إسرائيل، ومستعدَّة أن تسقط كلَّ واقعنا أمام حمايتها لواقع إسرائيل، إنَّ أمريكا لا تستحقُّ أن تتصدَّر قيادة العالم، لأنّها تمثّل الشّرّ كلّه، والظّلم كلّه..
قلناها مراراً، ليست عندنا عقدة من الشَّعب الأمريكي، ولكنَّ مشكلتنا مع أمريكا هي في هذه الإدارة الأمريكيَّة، وهؤلاء الرّؤساء المستعدّين لأن يبيعوا العالم كلَّه لمجرَّد الحصول على أصوات انتخابيَّة من اليهود، حتَّى أصبح اليهود هم الَّذين يحكمون أمريكا، وليس قادة أمريكا هم الَّذين يحكمونها.
لذلك، علينا أن نختزن هذه المسألة في نفوسنا، نحن نريد أن نكون أصدقاء مع الشَّعب الأمريكيّ، ونريد من الشَّعب الأمريكيّ أن يفهمنا جيّداً، وأن يفهم أنَّنا نحبّ الحريَّة كما يحبّها، وأنَّنا نحبُّ الاستقلال كما يحبُّه، ونحبُّ أن تكون لنا كرامتنا كما يحبُّ أن تكون له كرامته.
وهكذا بالنّسبة إلى شعوب العالم كلّه، فنحن لا نريد أن نسيء إلى أحد من شعوب العالم.. إنَّ الإسلاميّين ينفتحون على العالم كلّه، لأنَّ العالم هو ساحة رسالتهم للدَّعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنَّنا نريد أن نقول إنَّنا نحبّ حرَّيتنا، ولا نقبل من أحد أن ينتقص منها، ونحبّ أرضنا، لأنّها حركة إنسانيَّتنا في الحياة، ولا نريد لأحد أن يحتلّ أرضنا.. أبعدوا الاحتلال عن أرضنا، وأبعدوا الظّلم عن مجتمعاتنا، وتعالوا لنتصافح، ولننطلق في بناء العالم على أساسٍ من السّلم العادل ومن الحريَّة.
إنَّنا لا نزال نعيش الاحتلال في بلادنا، وأنتم لا تفهمون معنى المسألة، لأنَّكم في هذا الجيل، لم تجرّبوا احتلالاً في أوروبا ولا في أمريكا، ولذلك فإنَّكم لا تفهمون ما معنى أن يحتلّ شعب شعباً آخر...
أمريكا سببُ مآسينا
إنَّنا عندما نستعيد ذكرى الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في الـ 78، والّذي لم تتحرّك أوروبا ولا أمريكا بشكل جدّيّ في سبيل إنهائه، فإنَّنا نحتفل بالكثير من الشّهداء الّذين سقطوا، وبالكثير من النّساء اللَّاتي ترمَّلن، والأطفال الّذين تيتَّموا، والأبرياء الّذين خسروا حياتهم، والبيوت الّتي دُمّرَتْ، كلّ ذلك بفعل الأسلحة الأمريكيَّة والمساعدة الأمريكيّة.
لذلك، نحن سنبقى نذكّر أطفالنا وأجيالنا، بأنَّ أمريكا كانت وراء وجود إسرائيل، ووراء كلّ مآسينا وآلامنا. قد لا نستطيع الآن أن نواجه المسألة بالطَّريقة الَّتي تُسقِط الاستكبار العالميّ، ولكنَّنا نقول إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يجعل الظّلم دائماً، ولا أن يجعل المظلوميَّة دائمة {وتلك الأيَّام نداولها بين النَّاس}[آل عمران: 140].
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26].
ونبقى مع الإمام جعفر الصَّادق (ع)، لنكون الأعزَّاء والأحرار، ولنكون الأمَّة الَّتي تحافظ على قوَّتها وحرّيَّتها في مواجهة أيّ موقع من مواقع القوَّة، ونظلّ مع الله لنسمع قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس}[آل عمران: 140].
معَ المجاهدينَ في لبنان
وفي ختام المطاف، نحاول من هذا الموقع وهذا الموقف، أن نشدّ على أيدي أحبابنا وشبابنا من المجاهدين هنا في لبنان، الّذين استطاعوا بين يوم وآخر أن يكبّدوا العدوّ خسائر في ضبَّاطه وجنوده وآليَّاته..
ونحن أيضاً نتوجَّه إلى الشَّعب اللّبنانيّ بجميع طوائفه، عندما انطلق رسل دعم المقاومة الإسلاميّة في كلّ المناطق، فكان الشَّعب، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يستقبلهم بكلّ فرح؛ لم تفرّقهم طوائفهم ولا أحزابهم.. إنَّنا رأينا في هذا الفرح الرّوحيّ، وفي هذا العطاء السَّخيّ لدعم المقاومة الإسلاميَّة، أنَّ الشَّعب اللّبنانيَّ قد توحَّد بالمقاومة، لا فرقَ بين مسيحيّيه ومسلميه، ولا بين أحزابه ومنظَّماته، ولا بين مناطقه، إنَّهم يقفون من أجل يقولوا للعالم: إنَّنا مع المقاومة، ندعمها بالمال والموقف، وإذا استطعنا أن ندعمها بالنَّفس أيضاً.
وكنت أحبّ لو استبدل الدَّاعون إلى الإضراب بالأمس، لو استبدلوا بذلك الدَّعوة إلى العمل، أن ينطلق اللّبنانيُّون بأجمعهم ليحتفلوا في مصانعهم ومزارعهم، ليقدّموا يوم عمل للمقاومة. نحن لا نشجّع على الإضراب الَّذي لا يعطي النَّاس نتائج، ولكن علينا أن نتعلَّم عندما تكون لنا مقاومة تحتاج إلى الدَّعم، وعندما يكون لنا جنوبٌ وبقاع غربيّ يحتاج إلى الدَّعم، أن لا ندعمه بالاحتفالات، ولا بالبالونات الّتي نطلقها في الهواء، ولا بالكلمات الفضفاضة بالاحتفالات الرّسميّة وغير الرّسميّة، فيوم عمل واحد لو انطلق فيه اللّبنانيّون جميعاً، وقدَّموه إلى المقاومة والمحرومين في الجنوب والبقاع الغربي، لكان أفضل من كلّ هذه الخطب والاحتفالات، لأنَّنا لا نريد بالونات تتحرَّك في الهواء، ولكنَّنا نريد قنابل متفجّرة تتحرَّك في العدوّ، ونريد شعباً يقف بكلّ قوَّة من أجل أن يؤكّد أنَّه مع المجاهدين الّذين يحافظون على حرّيّته وكرامته.
والحمد لله ربّ العالمين.

* خطبة الجماعة لسماحته في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ:15/03/1996م.
يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أئمَّة أهل البيت (ع)، الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق، الّذي نلتقي بذكرى وفاته في هذا اليوم، الخامس والعشرين من شهر شوَّال.
ونحن عندما نريد أن نستذكر هذا الإمام العظيم، فإنَّنا نريد أن نؤكّد التزامنا بالإسلام في خطّ أهل البيت (ع) الَّذين انطلقوا من رسالة الإسلام، وبذلوا في سبيل تثبيتها وتقويتها وتحريكها في الحياة، كلَّ فكرهم وجهدهم ودمائهم، وكلّ ما يملكون من الحياة.
إنَّ إخلاصنا لأهل البيت (ع) ينطلق من أنّهم ذابوا في الله، وباعوا أنفسهم له، وكانت حياتهم كلّها لله سبحانه. ومن هنا، انطلقوا مع الله ومع رسوله (ص)، فلا كلمة لهم إلَّا كلمة الله، ولا حديث لهم إلَّا حديث رسول الله.
وهذا ما كان الإمام جعفر الصَّادق (ع) يردّده في أكثر من موقف، فكان يقول: "حديثي حديثُ أبي، وحديثُ أبي حديثُ جَدِّي، وحديثُ جَدِّي حديثُ الحُسَينِ، وحديثُ الحُسَينِ حديثُ الحَسَنِ، وحديثُ الحَسَنِ حديثُ أَميرِ المُؤمِنينَ، وحديثُ أَميرِ المُؤمِنينَ حديثُ رَسولِ اللهِ (ص)، وحديثُ رَسولِ اللهِ (ص) قَولُ اللهِ عزَّ وجلَّ".
وهذا ما عبّر عنه بعض الشّعراء: 
                 ووَالِ أناساً قولُهُم وحديثُهُم            روى جدُّنا عنْ جبرئيلَ عنِ الباري 
 مرحلة الإمام الصَّادق (ع)
وهكذا نلتقي مع هذا الإمام العظيم الَّذي وفّرت له الظروف السياسيَّة في زمانه هامشاً أوسع في الحركة، بخلاف ما كان عليه الحال في عهد الأئمَّة الَّذين سبقوه أو جاؤوا بعده، حيث كانت الضّغوط العبَّاسيّة والأمويّة تُقيّد حرّية أئمّة أهل البيت (ع) ونشاطهم، وتلاحق أتباعهم، وتضيّق الخناق على من يسلك نهجهم أو يتحرّك في خطّ ولايتهم.
فالمرحلة الّتي عاشها الإمام الصَّادق (ع)، كانت مرحلة انتقال الخلافة من الأمويّين إلى العبَّاسيّين. ومن هنا، فقد استفاد الإمام من هذه الفرصة الَّتي حدثت في عهده، فملأ الواقع الإسلاميَّ كلَّه علماً وفكراً وتوجيهاً في كلّ المجالات الّتي كان يتحرَّك فيها النَّاس، حتّى إنَّ مدرسته كانت تتَّسع لمن يلتقي معه في الخطّ والمذهب ولمن لا يلتقي معه فيهما، فكان (ع) يبذل علمه وفكره لهؤلاء جميعاً.
ونحن نعرف أنَّ أبا حنيفة النّعمان، إمام المذهب الحنفي، كان من تلامذة الإمام الصَّادق (ع)، وكان يقول، كما ورد عنه: "لولا السَّنتان، لهلك النّعمان"، فهو يقول إنّه لولا السَّنتان اللّتان تلمَّذ فيهما على الإمام الصَّادق (ع)، واستفاد فيهما من علومه، لهلك، لأنّهما أضاءتا له الكثير من مواقع العلم وحركته.
وكان يقول أيضاً: "أعلمُ النَّاسِ أعلمُهم باختلافِ النَّاس"، في إشارة إلى الإمام الصَّادق (ع) الَّذي كان يعرف كلَّ الاختلافات والآراء الموجودة في الواقع الإسلاميّ في زمانه، بكلّ تفاصيلها وفروعها وأوضاعها.
وينقل عن مالك بن أنس، وهو إمام المذهب المالكيّ، قوله: "ما رَأَتْ عَيْنٌ، وَلَا سَمِعَتْ أُذُنٌ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَفْضَلَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد الصَّادِقِ، فَضْلًا وَعِلْماً وَعِبَادَةً وَوَرَعاً"، ويقول عنه: "وَكانَ كَثِيرَ الحَديثِ، طَيِّبَ المُجالَسَةِ".
وهكذا نرى أنَّ كلَّ الّذين عاصروه وعايشوه، كانوا ينطلقون من مجلسه وهم يشعرون بالامتلاء من العلم والفضل والورع وتقوى الله سبحانه وتعالى.
المبادرةُ لتعليم النَّاس
وكان فيما روي عنه، يقول كلمة جدّه عليّ (ع)، عندما كان يقول للنَّاس: "سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني"، كان يحسّ بمسؤوليَّة أن يطلب من النَّاس أن يسألوه، لأنَّه يشعر بأنَّ عليه أن يبذل علمه للنَّاس، وأن يدعوهم ليحدّثوه عن مشاكلهم وقضاياهم، وعن علامات الاستفهام الَّتي تدور في رؤوسهم. وهذا هو نهج أهل البيت (ع)، كما هو نهج جدّهم رسول الله (ص)؛ أنَّهم كانوا يبتدئون النَّاس بالعلم، ويدعونهم إلى أن يسألوهم عمَّا يجهلونه.
وهذا أمرٌ لا بدَّ أن تلتف إليه العامَّة من النَّاس، كلّ النَّاس، لأنَّ الكثيرين منهم، وأنتم منهم، يجهلون أشياء كثيرة، وفي عقولهم علامات استفهام كثيرة حول الكثير مما يسمعونه أو يقرؤونه أو يفكّرون فيه. لذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يريد من النَّاس دائماً أن يسألوا أهل الذّكر.. فإذا كنتم مع كلّ إنسان يملك علماً، ولا سيَّما علم الإسلام، وأنتم المسلمون، فلا بدَّ لكم أن تسألوا دائماً.. لا تتحرَّجوا من سؤال أيّ إنسان عالم، لأنَّ الله فرض عليكم أن تسألوا، وفرض عليكم أن تتعلَّموا، كما فرض على العلماء أن يُعلِّموا، حتَّى إنَّ من وظيفة العالم الرّساليّ أن يدعو النَّاس إلى أن يسألوه، وإلى أن يتعلَّموا منه..
وهكذا كانت كلمة عليّ (ع) حتّى في آخر لحظات حياته، فقد جاء في سيرته أنَّه كان في حالة تشبه الاحتضار بعد أن ضربه ابن ملجم، وكان النَّاس يأتونه عائدين له في مرضه، وكان، وهو في هذه الحالة، يقول للنَّاس، كما جاء في السّيرة: "سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني"، إنَّكم لم تتعلَّموا الكثير منّي، وقد بقي لي سويعات في هذه الحياة، وأنا أريد منكم أن تستغلّوا ذلك، لأنَّكم بعدها لن تجدوا عليّاً الّذي يجيب عن كلّ سؤال.
وهكذا كان الإمام جعفر الصَّادق (ع)، وكان كلُّ الأئمَّة (ع)، يطلبون من النَّاس أن يسألوهم وأن يتعلَّموا منهم، لأنَّ الله يريد للمسلمين أن يكونوا الواعين لإسلامهم، وأن يعيشوا فهم الإسلام، ولا يريد لهم أن يكونوا جاهلين، بل أن يكونوا عالمين متعلّمين، وهذا ما تحدَّث به الإمام عليّ (ع)، عندما قسَّم النَّاس إلى ثلاثة أقسام، في حديثه المرويّ عنه في "نهج البلاغة": "يا كُمَيْلُ، احْفَظْ عَنّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ؛ عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ – وهم الّذين لا يعيشون الوعي والعلم - لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ".
إرثٌ ضخمٌ ومتنوّع
وتلك هي عظمة أهل البيت (ع)، وعظمة الإمام جعفر الصَّادق (ع)، فلو رأينا ما تركه الإمام الصَّادق من تراث، مما كان يحدّث به النَّاس ابتداءً، ومما كان يجيب فيه عن أسئلة النَّاس، لرأينا أنَّه تراثٌ ضخم متنوّع، لا يترك قضيَّة من قضايا النَّاس إلَّا ويتحدَّث عنها، ولا يترك أيَّ شيء يختلف فيه النَّاس، إلَّا وأعطاهم فيه الفكرةَ الحقّ.
ومن هنا، فإنَّنا عندما نقرأ تراث الإمام الصَّادق (ع)، نرى فيه كلَّ قضايانا، وكلَّ حياتنا، وكلَّ ما نتساءل عنه ونفكّر فيه، لأنَّه كان ينظر بنور الله، ويغترف من ينبوع رسول الله الَّذي هو ينبوع الإسلام، في كلّ ما يعرض للإنسان من قليل وكثير.
وقد ذكر المؤرّخون فيمن روى عنه الحديث، ومن تعلَّم منه العلم، أنَّ الَّذين رووا العلم عنه كانوا أربعة آلاف شخص. وروى البعض أنَّه (ع) دخل مسجد الكوفة، وكانت المساجد آنذاك هي المدارس، ورأى في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، يعني تسعمائة أستاذ وعالم، وكلّ يقول: "حَدَّثَني جعفرُ بنُ محمَّد الصَّادق"، من دون فرقٍ بين الإنسان الَّذي يلتزم خطَّ أهل البيت (ع) من الشّيعة، أو ممن لا يلتزم خطَّهم في هذا المجال.
اتّباعُ سبيلِ الحوار
ونحن نقرأ في تاريخه، أنَّه في أيَّام الحجّ، كان يجلس في المسجد الحرام إلى جانب بيت الله، ويكون النَّاس مشغولين بالعبادة، ويكون (ع) مشغولاً باستقبال الزَّنادقة والملاحدة الَّذين يأتون إليه، ويطلقون أمامه الكلمات الحادَّة القاسية، حتَّى إنَّ بعضهم كان يسخر من طواف الطَّائفين. ولكنَّ الإمام كان يستمع إليهم بكلّ عقل مفتوح، وصدر واسع، وبكلّ كلام حلو، ويناقشهم ويحاورهم، حتَّى يخضعهم لمنطقه، وكان يعمل على أساس أن لا يردع إنساناً يريد أن يناقشه أو يحاوره، وكان يعتبر أنَّ هذا من العبادة.
وقد قال ابن المقفَّع صاحب كتاب "كليلة ودمنة"، وهو من رجالات الفكر في عصره آنذاك: "لَا أَرَى أَحَدًا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّد الصَّادِقِ"، وكان بعضهم يقول: "مَا أَقُولُ فِي شَخْصٍ يَتَرَوَّحُ إِذَا شَاءَ – بمعنى أنّه يتحوَّل إلى روح، بحيث لا تحسّ بجسده - وَيَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ، مِثْلَ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّد".
كان (ع) يؤمن من خلال ما علَّمه الله إيّاه في كتابه، وعلَّمه إيّاه رسول الله في سيرته، أنَّ علينا أن نفتح عقولنا لمن يختلف معنا في الرأي، وأن نوسّع صدونا لمن نختلف معه في العقيدة، فلا نتضايق من سؤال، ولا نتعقَّد من أيّ فكرة مضادَّة، لأنَّ الإنسان الَّذي يريد أن يهدي النَّاس إلى الحقّ، وأن يدعوهم إلى الله، وأن يفتح عقولهم عليه، لا بدَّ أن يوسّع صدره، وأن يليّن لسانه، وأن يفتح قلبه، ويحرّك عقله، ليواجه الحجَّة بالحجَّة، والفكرة بالفكرة، لأنَّك لا تستطيع أن تهدي إنساناً وتجذبه إلى خطّك إذا شتمته أو شتمت مقدَّساته، أو إذا ضربته، فالضَّرب قد يُخضِع الجسد، والكلمات القاسية الشَّاتمة أو المؤذية قد تُسقِط الإنسان، ولكنَّها لا تقنعه..
جرّبْ، لو كان عندك وجهة نظر، أو فكرة معيَّنة تختلف فيها مع وجهة نظر أخرى وفكرة أخرى، وجاءك صاحب هذه الفكرة وصار يشتمك، ويقول لك أنت لا تفهم، وأنت غبيّ، وأنَّ فكرتك كلّها كفر وضلال، ويمكن أن يهدّدك بالضَّرب والأذيّة، وقد تسكت، ولكن هل يقنعك؟ أكيد لن يقنعك.
إنَّ مجتمع الحياة يحتاج منّا عندما نختلف، أن نعمل على أن يهدي بعضنا بعضاً، وأن يقنع بعضنا بعضاً. أنت في البيت قد تختلف مع زوجتك، فقد تكون لها وجهة نظر تختلف عن وجهة نظرك، وقد تقول لها أن ليس لك كلمة أمامي، وقد تضربها، ولكنَّ الأكيد أنّك لن تربح عقلها وفكرها بذلك، كذلك ابنك عندما يفكّر بما يخالف فكرتك، وتقول له أنا أبوك، وليس لك أيّ كلمة أمامي، ولا أريد أن أسمع كلامك ووجهة نظرك، فقد يسكت لأنّه يخاف منك، أو لأنّه يحترمك ويهابك، لكنَّ عقل ابنك يبقى في اتجاه آخر، ولا تربح عقله بذلك أو تقنعه.
وهكذا في كلّ القضايا الَّتي نتنازع فيها.. كلّ النَّاس الّذين يحاولون أن يهدّدوا الّذين يختلفون معهم في الرَّأي أو يقمعوهم، هم أناس ضعفاء، لأنَّ الإنسان الَّذي يملك الحجَّة، لا يحتاج إلى أن يستعمل قوَّته، فالقوَّة الجسديَّة نستعملها في صراع الجسد، أمَّا صراع العقل فنستعمل فيه قوَّة العقل. ولهذا، نلاحظ أنَّ الله قال لرسوله (ص): {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الّتي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، أن ننطلق بالكلمة الحلوة، وبالحجَّة القويَّة في هذا المجال، حتَّى نستطيع أن نقنع الآخرين. نحن الآن عندما نختلف مع أحد، فلا ينبغي أن نعنّفه ونغضب منه، بل أن نقنعه ونجذبه إلى صفّنا، حتّى يفكَّر معنا ويتحرَّك معنا، وهذا إنما يكون إذا استطعنا أن نقنعه بفكرنا.
الجدالُ بالحقّ
لذلك، علينا دائماً، أيُّها الأحبَّة، إذا كنَّا نحمل أيَّ فكر، أن نقوّي قناعتنا بهذا الفكر، حتَّى نستطيع أن نقنع الآخرين به. وهذا ما كان الإمام الصَّادق (ع) يتحرَّك به، وكان يعلّم تلامذته، أنَّهم إذا أرادوا أن يجادلوا النَّاس، فإنَّ عليهم أن يجادلوهم بالحقَّ لا بالباطل، لأنَّ الحقَّ يغني صاحبه عن الباطل. ويروى أنَّ الإمام (ع) سمع ذات يوم بعض تلامذته يناقش شخصاً في قضيَّة من القضايا، وكان هذا التّلميذ يحاول أن يردَّ ذاك الشَّخص بالحقّ والباطل حتَّى يسيطر عليه، فقال له الإمام (ع): "تمزجُ الحقَّ بِالبَاطِلِ، وَقَلِيلُ الحَقِّ يَكْفي مِنْ كَثِيرِ البَاطِلِ".
عندما تريد أن تناقش شخصاً في قضيَّة، حاول أن تناقشه بما تملك من الحقّ، لا أن تناقشه بالباطل، وإن كان الباطل يسقطه، لأنَّ المسألة عندنا ليست أن نسكت الّذين نخاصمهم، بل أن نقنعهم.
هذا هو أسلوب الإمام جعفر الصَّادق (ع)، ولذلك كان النَّاس يأتون إليه، ولا يخافون من أن يسألوه أيَّ سؤال. ونحن نعتقد أنَّ من وظيفة علماء الدّين والمثقّفين والمسؤولين في أيّ حقل من الحقول العامَّة، أن يفسحوا المجال للنَّاس أن يسألوهم عن كلّ شيء، أن لا يتعقَّدوا من شيء، وقد قلنا مراراً أن "لا مقدَّسات في الحوار"، فيمكن لأيّ إنسانٍ أن يحاور بكلّ شيءٍ يخطر في فكره ليسأل الآخرين عنه.
وأنا أقول لكم، أيُّها الأحبَّة، استيحاءً من كلام الله ورسوله، ومن سيرة أئمَّتنا (ع)، وفي مقدَّمهم الإمام جعفر الصَّادق (ع): اسألوا عن كلّ شيء، عن كلّ ما يخطر في ذهنكم ممّا تجهلونه، لا تتركوا في عقولكم شيئاً حائراً، ولا تتركوا عقدةً حول أيّ فكرة، حاولوا أن تسألوا دائماً من يغنيكم جوابه، ومن يملك العلم والمسؤوليَّة والحقّ والخوف من الله، حتَّى تكون حياتكم علماً متحركاً، ووعياً دائماً في كلّ ما يهمّكم أمره.
نهجُ الانفتاح
ثمَّ نلاحظ أنَّ من ميزات الإمام جعفر الصَّادق (ع)، أنّه أراد من شيعة أهل البيت (ع) أن ينفتحوا على المسلمين الآخرين، كان يريد للمسلمين السَّائرين في خطّ أهل البيت أن لا ينفصلوا عن الواقع الإسلاميّ العامّ، وأن لا يغيبوا عن جماعة المسلمين، حتَّى لو كان المسلمون الآخرون يختلفون معهم في المذهب، ولا أن ينعزلوا عن الواقع الإسلاميّ لتكون هناك محلّة للشّيعة ومحلَّة للسنَّة، وكان يقول للشّيعة في علاقتهم مع السنَّة: "صِلُوا عَشائِرَهُمْ، وَاشْهَدُوا جَنائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضاهُمْ، وَأَدُّوا حُقوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنكُم إِذا وَرَعَ في دِينِهِ، وَصَدَقَ الحَديثَ، وَأَدَّى الأَمانةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قيلَ هذَا جَعْفَريٌّ، فَيَسُرُّني ذَلِكَ، وَيَدخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرورُ، وَقيلَ هذَا أَدَبُ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّد". وكان يقول: "كُونُوا لَنَا زَيْناً، وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنا شَيْناً".
كان (ع) يريد للشّيعة أن لا يعزلوا أنفسهم عن واقع المسلمين، لأنَّ انعزالهم يضعف الإسلام عندما ينعزل فريقٌ عن فريق، ويبعد الحوار عنهم عندما يكون كلّ طرف في جانب، فإنَّ هذا الانفصال الجسديّ والاجتماعيّ، يجعل المسلمين لا يتحاورون فيما اختلفوا فيه، ولا يتلاقون فيما اتَّفقوا عليه، والله يريد للمسلمين دائماً أن ينفتح بعضهم على بعض، ليحاور بعضهم بعضاً، وليناقش بعضهم بعضاً، لأنَّ الحوار مع الاجتماع والوحدة، يمكن أن يوصل الجميع إلى نقاط لقاء، وإذا لم يوصلهم إلى نقاط لقاء، فإنَّه يوصلهم إلى نقاط تفاهم فيما بينهم.
أهميّةُ الوحدةِ الإسلاميّة
إنَّ ما نراه، أيُّها الأحبَّة، في واقعنا الإسلاميّ الآن، أنَّ هذا الفريق الإسلاميّ يتَّهم فريقاً إسلاميّاً آخر بالكفر أو الشّرك أو الضَّلال، وذاك الفريق يتَّهم هذا الفريق، وأغلب ذلك إنّما ينشأ من جهل المسلمين بعضهم ببعض، وبسبب التَّقاطع فيما بينهم وانفصال بعضهم عن بعض، ويأتي الّذين يريدون أن يثيروا الفتنة بين المسلمين، يأتي فريق من هناك، قد تكون له علاقات مخابراتيَّة بأجهزة بعيدة من الإسلام، ليدسَّ في ذهن هذا المسلم ما يعقّده من المسلم الآخر، وعندما لا يتلاقى بعضهما مع بعض، فإنَّ كلَّ واحد منهما سوف يحمل الفكرة السَّلبيَّة عن الآخر، وبذلك تكون المشكلة. ولذلك، كلَّما تلاقينا أكثر، وتحاورنا أكثر، ورجعنا فيما نختلف فيه إلى الله ورسوله، فإنَّنا نستطيع عند ذلك أن نحقّق الكثير من فرص اللّقاء.
لقد قلنا مراراً، ولا نزال نقول، إنَّنا عندما نتحدَّث عن الوحدة الإسلاميَّة، فإنَّنا لا نريد بهذه الوحدة أن يكون السنّيّ شيعيّاً بدون أساس، أو يكون الشّيعيُّ سنّيّاً بدون أساس، أو أن نقضي وقتنا بالمجاملات، ولكن نقول إنَّ الوحدة الإسلاميَّة هي أن نتوحَّد فيما اتَّفقنا عليه من الإسلام، وما اتَّفقنا فيه منه كثيرٌ كثير، وأن نتوحَّد فيما يواجهنا من تحدّيات، وما يواجهنا من التحدّيات للإسلام كلّه وللمسلمين كلّهم كثيرٌ كثير، وأن نتوحَّد في مواجهة الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لنستطيع أن نحقّق القوَّة لنا، وأن لا تكون ريحنا هباءً في هذا المجال.
إنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، هي أنَّنا قد نعيش مشكلة، فقد نجد فريقاً من المسلمين يسبّ فريقاً آخر، والفريق الآخر يسبّ هذا الفريق، ولكن علينا أن نكبّر عقولنا، ونوسّع صدورنا، وقد قال عليّ (ع) كلمةً رائدةً في هذا المجال: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ". فعندما يحمل غيرُكَ الشَّرَّ ضدَّك، حاول أنت أن تقلع الشَّرَّ من صدرك، لا تتحرَّك بردّ الفعل، بحيث إذا سبَّك الآخرون سببتهم، وإذا سبّوا مقدَّساتك سببت مقدَّساتهم، بل وسّع صدرك، وقل كما قال رسول الله (ص): "اللَّهمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُون"، وعندما يكون صدرك مملوءاً بالمحبَّة، وفارغاً من الحقد، فستنطلق هذه المحبَّة إلى قلوب الآخرين، لتنتزع المحبَّةُ هذا الحقدَ من صدورهم.
الحربُ على الإسلامِ كلّه
علينا أن نتعلَّم، أيُّها الأحبَّة، من كلّ تجاربنا، ومن كلّ المشاكل الّتي تحيط بنا، ومن كلّ حركة الأجهزة المخابراتيَّة في العالم الّتي تحاول أن تمزّقنا، كي لا ينطلق المسلمون في وحدة سياسيَّة ثقافيَّة اقتصاديَّة تواجه الاستكبار كلَّه والكفر كلَّه، إنَّ علينا أن نتعلَّم من كلّ تجاربنا هذه، أنَّ التفرقة والتمزّق والنزاعات المذهبيَّة والطَّائفيَّة، لن تستطيع أن تجعل الشّيعة يربحون شيئاً، ولا أن تجعل السنَّة يربحون شيئاً، بل إنَّها تجعل الكافر والمستكبر يربحان الكثير من ذلك، لأنَّ الجميع يريدون رأس الإسلام، ولا يريدون رأس الشّيعة وحدهم، ولا رأس السنَّة وحدهم.
لذلك نجد أنَّ المستكبرين في الأرض وحلفاءهم من الكافرين، لا يفرّقون بين موقع شيعيّ وموقع سنّيّ، عندما يتحرَّك هذا الموقع أو ذاك الموقع ليواجه مصالحهم وأطماعهم، وليتحدَّى خططهم.. إنَّهم وقفوا ضدَّ إيران، وقيل إنّهم يقفون ضدَّ الإسلام الشّيعي، ولكنَّهم وقفوا ضدّ أفغانستان، وضدّ المسلمين في فلسطين، وضدّ المسلمين في الشيشان، وفي البوسنة والهرسك، وهكذا يقفون ضدّ المسلمين في كلّ مكان، لماذا؟ لأنَّ القضيَّة المطروحة الآن في واقع الاستكبار العالميّ، ليست مشكلة الرَّفض عند الشّيعة، بل هي مشكلة الرَّفض عند المسلمين جميعاً..
سبيلُ العزَّةِ والحرّيّة
إنَّهم يعلنون الحرب الآن، كما أعلنوا في قمَّة شرم الشّيخ، على ما يسمّونه الإسلام الأصوليّ، أو حركة الإرهاب الأصوليَّة، أو ما إلى ذلك، والواقع أنَّها معركة ضدَّ الإسلام كلّه، وضدَّ المسلمين كلّهم، لأنَّ من يسمّونهم المسلمين الأصوليّين، لا ينطلقون من موقع إرهاب من أجل أن يسيئوا إلى أمن النَّاس، أو أن يدمّروا حياة النَّاس، إنما ينطلقون من خلال أنّهم يريدون أن يكونوا الأحرار في بلادهم، والأحرار في سياستهم واقتصادهم وأمنهم وتقرير مصيرهم، هؤلاء الَّذين انطلقوا لأنَّهم تعلَّموا من الإسلام أن يكون المسلم عزيزاً، فكما هي العزَّة لله ولرسوله، فإنّها للمؤمنين أيضاً {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8]، وتعلَّموا من الإمام جعفر الصَّادق (ع) في تفسيره لهذه الآية، أنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن يذلَّ نفسه، فالإنسان الّذي هو جزء من المجتمع والأمَّة، ليس حرّاً أن يذلّ نفسه لأحد، لأنَّ الله لا يريد له ذلك، ولأنَّ الأمَّة لا ينبغي أن تسمح له بذلك.
قال الإمام جعفر الصَّادق (ع): "إنَّ الله فوَّضَ إلى المؤمنِ أمورَهُ كلَّها - كُلْ ما تشاء من حلال، والبسْ ما تشاء من حلال، واشربْ ما تشاء من حلال، وتلذَّذْ بما تشاء من حلال، ولكن لا تكن ذليلاً، لأنَّ الله - ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً".
فالله لم يعطك حريّة أن تذلّ نفسك، فالله الَّذي خلقك، والَّذي يملك منك ما لا تملك من نفسك، يقول لك أنا أرفض أن تكون ذليلاً، أنا ربُّك الّذي خلقك، وأنت ملكي وعبدي، إيَّاك أن تستعبد نفسك لغيرك.. لتكن عبوديّتك لي وحدي، وحرّاً أمام العالم كلّه.. فكما أنَّ الله يقول لك: لا تشرب الخمر، لا تزن، لا تسرق، فإنَّه يقول لك لا تذلّ نفسك. بل ربما كانت الخطيئة هنا أكثر من الخطيئة هناك، لأنَّ هناك خطيئة تتعلَّق بفعل من أفعالك، أمَّا خطيئة الذّلّ، فتتعلَّق بكيانك كلّه، وتتعلّق بحركتك وموقعك في أمَّتك، فتسيء إلى أمَّتك من خلال ذلك.
وهكذا رأينا أنَّ الإمام جعفر الصَّادق (ع) الَّذي نحتاج أن نستحضر كلماته، لتكون النّور الَّذي يضيء لنا درب الحريَّة، قال: "إِنَّ الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِن تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ، لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِن أُسِرَ وَقُهِرَ، وَاسْتُبْدِلَ بِالْيُسْرِ عُسْراً".
الحرُّ لا يشعر بفقدان حرَّيته عندما يُسجَن في الزنزانة، ولا بفقدان حرّيَّته عندما يُؤسَر ويعذَّب ويُضرَب ويُحاصَر ويُضطهَد، لأنَّ الإنسان المؤمن يستمدُّ حرّيّته من داخل إرادته، فعندما تكون إرادتك حرّة، فحتّى لو كان جسدك في زنزانة، تبقى الإنسان الحرّ، وبعض النَّاس قد يأخذون حرّيتهم في الحركة، ولكنَّهم في الواقع عبيد، لأنَّ إرادتهم مستعبدة، ولأنَّ قرارهم مستعبد، وحركتهم، فيما يؤيّدونه أو يرفضونه، خاضعة لأناس آخرين.. والله يكره للإنسان أن يستضعف نفسه، وهذا ما قاله الله: {إِنَّ الّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ – كان النَّاس يستضعفوننا، فنخضع لهم فيما يفرضونه علينا من فكر وبرامج، ومن خطوات ومواقف - قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النّساء: 97]، ساء مصير الَّذين يستضعفون أنفسهم، وهم قادرون على أن ينطلقوا ليأخذوا مواقع القوَّة هنا وهناك.
وقد قالها عليّ (ع)، وخذوا من عليّ هذا النَّهج، لا تستغرقوا في بطولته الجسديَّة، ولكن استغرقوا في بطولته الفكريَّة والرّوحيَّة، كان (ع) يخاطب كلَّ واحد منَّا: "لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرَكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً". فالله خلقك حرّاً لا عبداً لأحد، فلا تستعبد نفسك لغيرك، ابقَ الحرَّ أمام النَّاس وأمام العالم في كلّ شيء.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ المسلمين المنفتحين على الإسلام كلّه، هم المنفتحون على الحريَّة كلّها، وعلى العدالة كلّها، وهم المطالبون بأن يكونوا أحراراً في دنياهم، وأن يكونوا العادلين الّذين يعيشون في أجواء العدل عندما يحكمون في حياتهم.
قمَّةُ الشَّرّ
إنَّنا واجهنا هذه القمَّة الّتي أسميناها قمَّة الشّرّ، وهي قمَّة الشّرّ العالميّ الّذي يحاول أن يقهر الخير ويسقطه.. سمّوها هم قمَّة صانعي السَّلام، ولكن عن أيّ سلام يتحدَّثون؟! إنَّهم لا يتحدَّثون عن سلام الشّعوب، ولكنَّهم يتحدَّثون عن سلام الصَّهاينة والاستكبار الأمريكيّ. أيّ سلام هو هذا السَّلام؟ ما الَّذي حصل عليه الفلسطينيّون الآن مما أريد لهم أن يحصلوا عليه؟ لأنَّ الواقع العالميّ جعل فلسطين الـ 48 إسرائيل، وتسالم أكثر العالم على ذلك، وأبقوا منطقة سمّوها الأراضي المحتلَّة، وهي الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، وأرادوا أن يكون هناك سلام بين الفلسطينيّين واليهود، بحيث يُعطَى الفلسطينيّون حكماً ذاتيّاً يمكن أن يحلموا في المستقبل بأن يتحوَّل إلى دولة صغيرة في هذا الجزء من العالم!
وبحسب الإحصائيَّات، فما أخذه الفلسطينيّون الآن من أراضي الضفَّة الغربيَّة وغزّة، هو إمَّا 6% أو 7 % فقط من الأراضي الفلسطينيّة، وقيل إنَّ الصّراع بين فلسطين وإسرائيل قد انتهى.. ولكنَّ الصّراع ينتهي بينك وبين عدوّك عندما تأخذ حقَّك، وعندما تأخذ شيئاً مهمّاً من حقّك، أمَّا أن يكون حقّك الّذي تأخذه بنسبة 6% أو 7%، فأيُّ سلام يمكن أن يرتكز على مثل هذا الحقّ؟
ثمَّ من خلال هذه الـ 6% أو الـ 7%، ماذا أُعطيَ الفلسطينيّون؟ إنّهم ليس لهم حريَّة في السياسة الخارجيَّة، أو في إدارة اقتصادهم، أو في الاستفادة من المياه الموجودة في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، ليس لهم الحريَّة إلَّا أن يديروا أمورهم في داخلهم إدارة بلديّة أو ما يشبه الإدارة البلديَّة...
جهادٌ وليس إرهاباً
لذلك إنَّهم يتحدَّثون: لماذا قام هؤلاء المجاهدون في حماس وغير حماس، بما قاموا به من العلميَّات الاستشهاديَّة؟ إنَّهم يتحدَّثون عن الإرهاب، وأنا أتساءل: إذا كان الإرهاب هو حركة يقوم بها الإرهابيّ من أجل أن يستفيد مادّيّاً، فالإرهابيّ الّذي يهجم على بنك ليسرقه، ينطلق من أجل أن يستفيد ماديّاً في حياته، وعندما يهجم على شخص ليسلبه، يمكن أن يستفيد منه شيئاً معيّناً، وهكذا، فإذا كان الإرهاب هو هذا، فما معنى أن يكون الإنسان إرهابيّاً ليفجّر نفسه؟ أنت يمكن أن تقنع شخصاً بأن يقوم بأمر ما مقابل مال أو مقابل خدمات وشهوات معيّنة، ولكن إذا كان هناك شخص يريد أن يموت، وأن يحوّل نفسه إلى قنبلة متفجّرة، فبماذا يستفيد؟! فلو لم يكن هذا الشَّخص يشعر بالقهر والاضطهاد بما لا حدود له، ويشعر بالظّلم الكبير، فلماذا يفجّر نفسه؟! ومن الشَّباب الّذين يقومون بالعمليَّات الاستشهاديَّة شباب جامعيّون، وشباب ناجحون في حياتهم الماديَّة، وليسوا من الشَّباب الفقراء الّذين قد يقال إنَّهم ليس هناك ما يخسرونه، أو الجاهلين الّذين يمكن أن يخدعهم أحد.. لقد اعتقلت العصابات الصّهيونيَّة بعد هذه الأحداث ثلاثين شخصاً ممن كانوا رفاق أحد هؤلاء المجاهدين الاستشهاديّين، وهم أعلنوا للمحقّق الإسرائيليّ أنَّهم كانوا يستعدّون جميعاً للقيام بعمليَّات استشهاديَّة.
إنَّنا نتساءل: أيَّة ذهنيَّة إرهابيَّة تنطلق هنا؟ إنَّهم يتحدَّثون عن المأساة؛ بقولون لقد قُتِل مدنيون، وقتل أبرياء، وقتل أطفال! أليست هذه نغمة الرئيس الأمريكيّ، ونغمة بقيَّة رؤساء أوروبا، ونغمة كلّ هؤلاء الأذلّاء الأذلّاء الّذين لا نعرف كلمةً في الحقارة نقولها لهم، وهم هؤلاء العرب الَّذين هرولوا إلى هذه القمَّة ليبكوا الإسرائيليّين الّذين سقطوا بدموع أمريكيَّة، لأنَّ الدموع العربيَّة القاهرة لا يمكن أن تبكي مثل هؤلاء، لكنَّ أمريكا أعطتهم دموعها كما أعطتهم فرحها، فأصبحوا يفرحون أمريكيّاً ويبكون أمريكيّاً، لأنَّهم خرجوا عن كلّ معنى العروبة، لأنَّ العروبة حتَّى لو ابتعدت عن خطّ الدّين، فإنَّها تحمل قيماً، كما قال الإمام الحسين (ع) عندما خاطب شيعة آل سفيان: "وَيْحَكُمْ، يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَارًا فِي دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عربًا كَمَا تَزْعُمُونَ"، لأنَّ في العروبة قيماً ومبادئ وأخلاقاً...
إرهابٌ صهيونيٌّ وأمريكيّ
وهكذا نقول لمثل هؤلاء الّذين لم يتحدَّث واحد منهم عن آلام الشَّعب الفلسطيني الّذي يقاد الآن بعقوبات جماعيَّة تشمل الشَّيخ والطَّفل والمرأة كما تشمل الشَّباب، لم يتحدَّث أحد عن ذلك الطّفل الرّضيع الَّذي أصيب بالتهاب رئويّ، ووقفت أمّه عند الحاجز الإسرائيليّ، ولم يمكّنوها من الذَّهاب به إلى المستشفى، ومات الطّفل عند الحاجز، ولم يتحدَّثوا عن تلك الأمّ الّتي جاءت ووقفت عند الحاجز الإسرائيليّ من أجل أن تذهب إلى المستشفى لتلد، ولم يمكّنوها من ذلك، وأسقطت توأماً عند الحاجز، لم يتحدَّث كلينتون عن ذلك، ولم يتحدَّث أيّ أحد من الاتحاد الأوروبي أو من العرب عن ذلك.
إنَّهم يتحدَّثون عن هؤلاء الإرهابيّين أنَّهم قتلوا مدنيّين، وإنَّنا نتساءل: كم قتلت إسرائيل من مدنيّينا نحن في لبنان؟ لقد كنتم بالأمس في ذكرى 14 آذار، إنَّ أقلّ إحصائيَّة لما سقط في الاجتياح الإسرائيلي هي ألف شخص، وبما يضاف إليه في الـ 82، وبما يضاف إليه في الـ 93، ومن كلّ الهجمات بالطَّائرات والمدافع والصَّواريخ الّتي تدمّر في كلّ يوم بيوتنا، وأمريكا لا تتحدَّث عن أيّ شيء، وإنما تعتبر أنَّهم يهاجمون الإرهابيّين.
وهكذا لم يتحدَّث أحد عن مآسي لبنان والإرهاب الإسرائيليّ، وآلام الشَّعب الفلسطيني الّذي يعاني من الواقع الإسرائيليّ، ولم يتحدَّث أحد عن المشرَّدين الفلسطينيّين الّذين يعيشون خارج بلادهم ولا يسمح لهم بالعودة، وهم بالملايين، ولم يتحدَّث أحد عن اللّبنانيّين الّذين هُجّروا بفعل الاجتياح الإسرائيليّ الأوَّل والثَّاني والثَّالث عن مناطقهم، وهم لا يستطيعون العودة إليها.
كانت المسألة أنَّ 60 يهوديّاً، وفيهم غير اليهود، قتلوا وثار العالم، أمَّا أن يُقتَلَ منّا عشرات الألوف، فإنَّ ذلك لا يحرّك أيّ شيء من ضمير العالم.. إنَّهم يقولون دائماً، عندما يعتذرون عن سقوط المدنيّين، إنَّ الحرب هي الحرب، وإنَّ الحرب تفرض سقوط مدنيّين.. فلماذا إذا أسقطتم أنتم مدنيّين بفعل ما تفرضه قوانين الحرب، تريدون للعالم أن يجد لكم التّبريرات، بينما لا يبرَّر للمجاهدين الّذين سُلِبَتْ أرضهم، وسُلِبَتْ كلّ ثرواتهم، وسُلِبَ مستقبلهم ومصيرهم، عندما يتحرّكون في الحرب؟!
إنَّها الحرب؛ إنَّ إسرائيل أعلنت حرباً على حماس وعلى الجهاد الإسلاميّ، فهل اغتيال الدكتور فتحي الشّقاقي حرب أم سلم، وهل اغتيال يحيي عيَّاش حرب أم سلم؟!
إذا بدأْتَ الحرب فعليك أن تتحمَّل نتائجها. عندما لا يستطيع هؤلاء المجاهدون أن يردّوا بطريقة، فلا بدَّ أن يردّوا بطريقة أخرى. ثمَّ نحن قلنا إنَّ كل مَن احتلَّ بيتاً، حتَّى لو كان لا يحمل بندقيَّة، فهو محارب. إنَّ الاحتلال يُعتبرُ عملَ حرب، سواء كان الاحتلال احتلالَ دولةٍ لأرضِ دولة، أو كان الاحتلالُ احتلالَ بيتِ شخصٍ من قبل شخصٍ آخر، لذلك نحن نقول إنَّ كلّ هؤلاء محاربون.
إنَّنا لا نريد أن نشجّع على قتل المدنيّين، ولكنَّنا نقول: لماذا تبحثون عن النَّتائج الظَّاهرة ولا تبحثون عن أسبابها؟ اسألوا أنفسكم: لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ لماذا يفجّرون أنفسهم ويضحّون بها؟! إنَّهم يفعلون ذلك لأنَّ لهم وطناً سُلِبُوه، ولأنَّ لهم مصيراً أضاعه الآخرون.
مسؤوليّةٌ أمريكيّةٌ مباشرة
ولذلك، نحن لا نحترم مثل هذه القمَّة، ولا مثل هؤلاء الرؤساء، ولا سيَّما الرئيس الأمريكيّ الّذي انطلق من أجل أن يحصل على كميَّة معيَّنة من الأصوات اليهوديَّة، ومن التَّأييد اليهوديّ، أو المتأثّرين باليهود في الانتخابات الأمريكيَّة، ومن أجل أن يقوّيَ موقع فريقه في داخل المجتمع الصّهيونيّ، فعمل على أن يفعل ما لم يفعله رئيس أمريكيّ قبله، بأن يحضر المؤتمر الأمنيّ الّذي أُعِدَّ من أجل القيام بعمليَّات أمنيَّة خفيّة سريَّة في كلّ المنطقة، والّتي يمكن أن تشمل الاغتيالات والتفجيرات والقصف هنا وهناك.
إنَّنا من منطلق حضور الرئيس الأمريكي مجلسَ الوزراء الإسرائيليّ المصغَّر، مع وزير خارجيَّته، ومع رئيس المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، نقول إنَّ كلَّ شخص تغتاله إسرائيل، وكلّ سيارة ملغومة تبعثها إسرائيل إلى المنطقة، وكلّ قصف إسرائيليّ لهذا الموقع أو ذاك، إنما هو مسؤوليَّة الرئيس الأمريكيّ بشكل مباشر، لأنَّه كان عضواً في مجلس الوزراء الإسرائيليّ، وبذلك نعتبر أنَّ أمريكا تحوَّلت إلى هامش إسرائيليّ بعد أن كانت دولة عظمى. فالدولة العظمى أصبحت إسرائيل، وأمَّا أمريكا، فإنَّ رئيسها ينطلق من أجل أن يكون أحد أفراد مجلس الوزراء الإسرائيليّ. إنَّه يحمل المسؤوليَّة في أيَّة عمليَّة أمنيَّة تقوم بها إسرائيل، وبذلك، فإنَّنا نعتبر أنَّه دخل بشكل عضويّ أمنيّ فريقاً في الحرب بين إسرائيل وبين الَّذين يرفضونها ويرفضون احتلالها.
إنَّنا نسجّل هذه النقطة على الرئيس الأمريكيّ الّذي لم يعد مجرَّد فريق منحاز إلى إسرائيل، ولكنَّه أصبح عضواً في الحكومة الإسرائيليَّة المصغَّرة. ولذلك، فإنَّنا نعتبره تماماً كأيّ عضو في الحكومة الإسرائيليَّة المصغَّرة في هذا المجال.
ونحن نلاحظ أنَّ هذا الرَّجل الّذي يخلو قلبه من كلّ رحمة، كيف أنَّه عندما سئل في مؤتمره الصّحفيّ عن العقوبات الجماعيَّة الّتي يقوم بها اليهود ضدَّ الشَّعب الفلسطينيّ، عندما يدمّرون البيوت، ويحاصرون الشّعب كلَّه حتَّى يجوع، أجاب بكلّ برودة أعصاب، وبكلّ وحشيَّة القلب، إنَّها مسألة تتَّصل بالأمن، ومن حقّ إسرائيل أن تدافع عن أمنها، حتَّى لو كان ذلك على حساب الإنسان الفلسطيني المستضعف في هذا المجال.
إنَّهم يطلبون الآن من سوريا ومن إيران أن تدينا العمليّات الاستشهاديّة، ولكنَّنا نقول لهم: لماذا لم تطلبوا من إسرائيل، أو تطلب أمريكا من نفسها ومن العالم، أن تدين المجازر الّتي وقعت ضدّ الفلسطينيين وضدّ اللّبنانيّين؟ هل إنَّ مسألة حقوق الإنسان تنحصر بالإنسان الإسرائيليّ؟ أليس للفلسطينيّ أيّ حقّ في إنسانيَّته؟
قمّةٌ لدعمِ إسرائيل!
لذلك، إنَّنا نجد أنَّ هذه القمَّة إنّما انطلقت من أجل دعم إسرائيل، ومن أجل إعطائها كلَّ الحريَّة في أن تعمل ما تعمله في المنطقة، ومن أجل أن تضغط على الواقع العربي الّذي حضرت أغلب دوله في هذا المؤتمر، وعقدوا قمَّة مع إسرائيل، وعملوا أيضاً على أن يعطوا إسرائيل كلَّ حميميَّة، حتَّى إنَّ بعضهم أخذه الحماس لها، فدعا رئيس وزراء العدوّ إلى زيارة بلده في أيّ وقت شاء، كأنَّه يقول:
يَا ضَيْفَنَا لَوْ زُرْتَنَا لَوَجَدْتَنَا نَحْنُ الضُّيُوفَ وَأَنْتَ رَبُّ المَنْزِلِ
والعرب، طبعاً، جماعة مضيافون! والمضيف يقدّم لضيفه كلّ شيء، ونحن نعرف أنَّ إسرائيل كانت ضيفاً سيّئاً في المنطقة كلّها، لأنَّها دمَّرت اقتصاد المنطقة وسياستها.
إنَّ المسألة أنَّه حتَّى الآن، لم تنجح أيّ دعوة من قبل الجامعة العربيَّة لعقد قمَّة عربيَّة يلتقي فيها العرب بعضهم مع بعض، ولكنَّهم عندما دُعُوا إلى قمَّة مع العدوّ الصّهيونيّ، بادروا إليها مهرولين. ويحضرني في هذا المجال بيتٌ لشاعر عربيّ سوريّ – عمر أبو ريشة - عندما عقد هؤلاء العربان مؤتمراً في الرّباط أريدَ من خلاله فتح المجال أمام التَّفاوض الإسرائيليّ، قال:
                خافوا على العارِ أنْ يُمحَى فكانَ لهم      على الرّباطِ لدعمِ العارِ مؤتمرُ
  لأنّهم يريدون حفظ العار الّذي أدمنوه وعاشوه.
مسؤوليَّةُ الشّعوب
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، عندما نواجه مثل هذه القمَّة، قمَّة الشَّرّ، فإنَّ مسؤوليَّتنا كشعوب تزداد، ولا سيَّما بعدما سقطت أغلب الأنظمة العربيَّة في مستنقع التَّبعيَّة للإسرائيليّين، وفي وحول الذُّلّ الأمريكيّ، ولم يبق لها شيء من العنفوان ولا من الكرامة... إنَّ الشّعوب العربيَّة، والأمّة الإسلاميَّة، بل كلّ أمَّة تحترم نفسها، لا يمكن أن ترى في هذه القمَّة تمثيلًا لها، لا من قريب ولا من بعيد.. خذوا درساً علّموه لأطفالكم، وهو أنَّ أمريكا مستعدَّة أن تبيد العالم العربيَّ كلّه لمصلحة أيّ فرد من إسرائيل، ومستعدَّة أن تسقط كلَّ واقعنا أمام حمايتها لواقع إسرائيل، إنَّ أمريكا لا تستحقُّ أن تتصدَّر قيادة العالم، لأنّها تمثّل الشّرّ كلّه، والظّلم كلّه..
قلناها مراراً، ليست عندنا عقدة من الشَّعب الأمريكي، ولكنَّ مشكلتنا مع أمريكا هي في هذه الإدارة الأمريكيَّة، وهؤلاء الرّؤساء المستعدّين لأن يبيعوا العالم كلَّه لمجرَّد الحصول على أصوات انتخابيَّة من اليهود، حتَّى أصبح اليهود هم الَّذين يحكمون أمريكا، وليس قادة أمريكا هم الَّذين يحكمونها.
لذلك، علينا أن نختزن هذه المسألة في نفوسنا، نحن نريد أن نكون أصدقاء مع الشَّعب الأمريكيّ، ونريد من الشَّعب الأمريكيّ أن يفهمنا جيّداً، وأن يفهم أنَّنا نحبّ الحريَّة كما يحبّها، وأنَّنا نحبُّ الاستقلال كما يحبُّه، ونحبُّ أن تكون لنا كرامتنا كما يحبُّ أن تكون له كرامته.
وهكذا بالنّسبة إلى شعوب العالم كلّه، فنحن لا نريد أن نسيء إلى أحد من شعوب العالم.. إنَّ الإسلاميّين ينفتحون على العالم كلّه، لأنَّ العالم هو ساحة رسالتهم للدَّعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنَّنا نريد أن نقول إنَّنا نحبّ حرَّيتنا، ولا نقبل من أحد أن ينتقص منها، ونحبّ أرضنا، لأنّها حركة إنسانيَّتنا في الحياة، ولا نريد لأحد أن يحتلّ أرضنا.. أبعدوا الاحتلال عن أرضنا، وأبعدوا الظّلم عن مجتمعاتنا، وتعالوا لنتصافح، ولننطلق في بناء العالم على أساسٍ من السّلم العادل ومن الحريَّة.
إنَّنا لا نزال نعيش الاحتلال في بلادنا، وأنتم لا تفهمون معنى المسألة، لأنَّكم في هذا الجيل، لم تجرّبوا احتلالاً في أوروبا ولا في أمريكا، ولذلك فإنَّكم لا تفهمون ما معنى أن يحتلّ شعب شعباً آخر...
أمريكا سببُ مآسينا
إنَّنا عندما نستعيد ذكرى الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في الـ 78، والّذي لم تتحرّك أوروبا ولا أمريكا بشكل جدّيّ في سبيل إنهائه، فإنَّنا نحتفل بالكثير من الشّهداء الّذين سقطوا، وبالكثير من النّساء اللَّاتي ترمَّلن، والأطفال الّذين تيتَّموا، والأبرياء الّذين خسروا حياتهم، والبيوت الّتي دُمّرَتْ، كلّ ذلك بفعل الأسلحة الأمريكيَّة والمساعدة الأمريكيّة.
لذلك، نحن سنبقى نذكّر أطفالنا وأجيالنا، بأنَّ أمريكا كانت وراء وجود إسرائيل، ووراء كلّ مآسينا وآلامنا. قد لا نستطيع الآن أن نواجه المسألة بالطَّريقة الَّتي تُسقِط الاستكبار العالميّ، ولكنَّنا نقول إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يجعل الظّلم دائماً، ولا أن يجعل المظلوميَّة دائمة {وتلك الأيَّام نداولها بين النَّاس}[آل عمران: 140].
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26].
ونبقى مع الإمام جعفر الصَّادق (ع)، لنكون الأعزَّاء والأحرار، ولنكون الأمَّة الَّتي تحافظ على قوَّتها وحرّيَّتها في مواجهة أيّ موقع من مواقع القوَّة، ونظلّ مع الله لنسمع قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس}[آل عمران: 140].
معَ المجاهدينَ في لبنان
وفي ختام المطاف، نحاول من هذا الموقع وهذا الموقف، أن نشدّ على أيدي أحبابنا وشبابنا من المجاهدين هنا في لبنان، الّذين استطاعوا بين يوم وآخر أن يكبّدوا العدوّ خسائر في ضبَّاطه وجنوده وآليَّاته..
ونحن أيضاً نتوجَّه إلى الشَّعب اللّبنانيّ بجميع طوائفه، عندما انطلق رسل دعم المقاومة الإسلاميّة في كلّ المناطق، فكان الشَّعب، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يستقبلهم بكلّ فرح؛ لم تفرّقهم طوائفهم ولا أحزابهم.. إنَّنا رأينا في هذا الفرح الرّوحيّ، وفي هذا العطاء السَّخيّ لدعم المقاومة الإسلاميَّة، أنَّ الشَّعب اللّبنانيَّ قد توحَّد بالمقاومة، لا فرقَ بين مسيحيّيه ومسلميه، ولا بين أحزابه ومنظَّماته، ولا بين مناطقه، إنَّهم يقفون من أجل يقولوا للعالم: إنَّنا مع المقاومة، ندعمها بالمال والموقف، وإذا استطعنا أن ندعمها بالنَّفس أيضاً.
وكنت أحبّ لو استبدل الدَّاعون إلى الإضراب بالأمس، لو استبدلوا بذلك الدَّعوة إلى العمل، أن ينطلق اللّبنانيُّون بأجمعهم ليحتفلوا في مصانعهم ومزارعهم، ليقدّموا يوم عمل للمقاومة. نحن لا نشجّع على الإضراب الَّذي لا يعطي النَّاس نتائج، ولكن علينا أن نتعلَّم عندما تكون لنا مقاومة تحتاج إلى الدَّعم، وعندما يكون لنا جنوبٌ وبقاع غربيّ يحتاج إلى الدَّعم، أن لا ندعمه بالاحتفالات، ولا بالبالونات الّتي نطلقها في الهواء، ولا بالكلمات الفضفاضة بالاحتفالات الرّسميّة وغير الرّسميّة، فيوم عمل واحد لو انطلق فيه اللّبنانيّون جميعاً، وقدَّموه إلى المقاومة والمحرومين في الجنوب والبقاع الغربي، لكان أفضل من كلّ هذه الخطب والاحتفالات، لأنَّنا لا نريد بالونات تتحرَّك في الهواء، ولكنَّنا نريد قنابل متفجّرة تتحرَّك في العدوّ، ونريد شعباً يقف بكلّ قوَّة من أجل أن يؤكّد أنَّه مع المجاهدين الّذين يحافظون على حرّيّته وكرامته.
والحمد لله ربّ العالمين.

* خطبة الجماعة لسماحته في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ:15/03/1996م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية