يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان: 33].
ويقول في آية أخرى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}[النّجم: 39 - 41]، ويقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}[فاطر: 18]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111].
المسؤوليَّة عن الحياة
من خلال كلّ هذه الآيات، ننطلق إلى موضوع يتَّصل بحياة كلّ إنسان، ذكراً كان أو أنثى، وبمصيره، وهو مسألة المسؤوليَّة، فالإنسان عندما وجد في هذه الحياة، لم يوجد ليلهو، أو ليعبث، أو ليمارس حياته كيفما كان، ليخرّب كما يريد، ويفسد كما يريد.
فالإنسان مخلوق يعيش في موقع من مواقع هذه الحياة، وعندما يعيش في موقع، فإنَّ حركته، سواء كانت سلبيَّة أو إيجابيَّة، تترك تأثيرها على نفسه، كما تترك تأثيرها على كلّ موجودات. ولذلك، أراد الله للإنسان أن يتحسَّس أنَّه مخلوق مسؤول؛ لا بدَّ أن يتحرَّك بحساب في حياته، ويقف بحساب، ولا بدَّ أن يعيش علاقته مع النَّاس الآخرين بحسابات دقيقة، وأن يعيش حساباته حتَّى مع الحياة؛ مع الحيوان، مع الأرض، مع البيئة، بمسؤوليَّة.
فالإنسان مسؤول عن كلّ شيء يتَّصل بحياته وبحياة الآخرين وبالوجود كلّه، فلا بدَّ له من أن يخطّط لحياته في حركة المسؤوليَّة، ولا بدَّ له من أن يربّي مزاجه، وحتَّى شهواته ومطامعه، لتكون منسجمةً مع خطّ المسؤوليَّة.
فالإنسان ليس حرّاً في أن يتحرَّك بمزاجه كيفما كان، بل لا بدَّ أن يكون مزاجه بالطَّريقة الَّتي لا تهلك حياته ولا تضرّها، ولا تضرّ حياة الآخرين. بعض النَّاس يقول أنا طبعي هكذا ومزاجي هكذا، وليقبل من يقبل، وليرفض من يرفض، وهذا خطأ، فما دام الإنسان يعيش مع الآخرين؛ ما دام أباً أو ولداً أو أمّاً أو مواطناً، وجزءاً من عائلة، وجزءاً من محلَّة، فلا يحقّ له أن يقول هذا مزاجي، فمن كان مزاجه هكذا، فليصعد فوق الجبل ويعتزل النَّاس، مع العلم أنّه حتّى هذا الأمر لا يرخّص له الله فيه.
الحريّة.. وأمانة النَّفس!
فإذاً، عندما يكون الإنسان مخلوقاً اجتماعيّاً، فليس له أن يأخذ حرّيته في تصرّفاته، بل لا بدَّ أن يلاحظ تأثير تصرّفاته وحركته في النَّاس من حوله. وعندما يكون الإنسان مخلوقاً لله وعبداً له، فليس له الحريَّة أمام الله في أن يتصرّف بما يشاء.
الآن، كلّ واحد منّا يملك شيئاً معيّناً؛ يملك أرضاً أو ثياباً أو أثاثاً أو أيّ شيء آخر... فلو أتى شخص ليتصرَّف في أملاكنا بما لا نحبّ، ألا نعترض عليه؟ فلا بدَّ من أن يأخذ الإذن منّا أوّلاً إذا أراد أن يتصرّف في ملكنا. وكذلك نحن ملك الله، فالله هو الَّذي خلقنا وصنعنا ونمّانا، بعد أن كنَّا تراباً، ثمَّ مضغة، ثمّ علقة، ثم أنشأَنَا خلقاً آخر، فنحن ملك له تعالى، ولأنّنا ملكه، لا يحقّ لنا أن نتصرَّف بجسدنا كيفما كان، فلا يحقّ لأحد أن يقول أنا حرّ أريد أن أنتحر! لا أنت لست حرّاً، ولا تملك حياتك، فحتّى لو أطبقت الدّنيا عليك، وحدثت لك أزمات نفسيَّة ومشاكل عاطفيَّة وماليَّة، لست حرّاً في أن تنهي حياتك، بل عليك أن تعالج مشاكلك. وإنّما يكون للإنسان حرّيّة الانتحار إذا كان يملك روحه وجسده وحياته، أمَّا والجسد والرّوح ليسا لك، بل ملك الله، فلست حرّاً في أن تتصرَّف فيهما بالانتحار.
كذلك لست حرّاً في أن تضرَّ بنفسك. مثلاً الآن، قد يقول أحد أنا حرّ، وأريد أن أقطع إصبعي، لا لست حرّاً في أن تضرّ نفسك، كذلك قد يكون هناك من هو مدمن على الخمر، والخمر يؤذيه ويضرّ بكبده ويخرّب عقله، فتقول له ابتعد عن ذلك لأنَّه يضرّ بك ويؤذيك ويدمّر حياتك، فيقول أنا حرّ، وأنا أريد أن أموت. ولكنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن ينهي حياته أو يؤذي نفسه، فالله يقول لك أنت ملكي، وأنا أريدك أن تتصرَّف في ملكي كما أريد أنا وليس كما تريد أنت.
كذلك من الأشياء الّتي تضرّ بالإنسان التَّدخين، فإذا قلنا: يا فلان، يا فلانة، إنَّ التّدخين يسبّب سرطان رئة وغيره من الأمراض، يقول، أنا حرّ في أن أدخّن، هكذا مزاجي.
يقال إنَّ شخصاً أخبره الطَّبيب بأنَّ عليه أن يترك التَّدخين لأنّه بات خطراً على حياته، فسأله: وكم سأعيش بعد لو تركته؟ قال: ستعيش ستّة أشهر أكثر، فقال له: لا أريد أن أعيشها بلا تدخين. ولكنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن يرفض أن يعيش هذه الوقت أكثر، لأنّه لا يملك ذلك، وهو يتصرّف فيما لا يملكه.
وهكذا أيّ شيء من الأشياء، فالطَّبيب عندما يقول للإنسان عليك أن تترك التَّدخين بسبب أزمة قلبيَّة أو غير ذلك، فلا يجوز أن لا يتركه، فلو فرضنا أنّه إن ترك التّدخين سيعيش يوماً إضافيّاً، فلا يجوز له أن يضيّع هذا اليوم من عمره.
لذلك، المسألة هي قصَّة حرام وحلال. فكلّ ما حرّمه الله، إنّما حرّمه لأنَّ فيه مضرّة ومفسدة، وكلّ ما أحلّه، يعني أن لا ضرر فيه، أو أنَّ فيه مصلحة ومنفعة. ولهذا، نحن لسنا أحراراً في أن نُؤذي أنفسنا أو نلقي بها إلى التَّهلكة، لأنَّ أجسادنا وأرواحنا أمانةٌ عندنا، لا نملك التَّصرّف فيها بما يُفضي إلى الضَّرر أو الهلاك.
لذلك، من حقّ النَّفس على صاحبها أن يصونها، وأن لا يُؤذيها جسديّاً أو عقليّاً أو روحيّاً.
مسؤوليَّة الرَّقابة الاجتماعيّة
والله سبحانه وتعالى يبيّن أنّ الإنسان إذا قام بعمل مضرّ، فمن سيتضرَّر هو الإنسان نفسه وليس الله، لأنَّ الله لا يتضرّر من معصية العباد، ولا ينتفع بطاعتهم، فهو الغنيّ عن العالمين. يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[لقمان: 12]. فأنت عندما تطيع الله وتشكره، تنفع نفسك، وإذا كفرت أو عصيت، فإنَّما تسيء إلى نفسك، والله لا يحتاجك.
لذلك، يجب أن نُدرك أنَّنا مسؤولون عن أنفسنا، وأنَّ علينا أن نتعامل مع أجسادنا وعقولنا وأرواحنا بما يحفظها، لا بما يُهلكها أو يضرّها.
وعلى هذا الأساس، لا يجوز للإنسان أن يتصرّف في نفسه بما يُلحق بها ضررًا، لا على المستوى الجسديّ، ولا الأخلاقيّ، ولا الاجتماعيّ، وما إلى ذلك. فالله قد أباح لنا الأكل والشّرب، لكنَّه نهانا عن تناول ما يُضرّنا، وعن تجاوز الحدّ في ذلك. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31]. فلا ينبغي للإنسان أن يأكل أو يشرب فوق حاجته، ولا أن يُدخل إلى جسده ما يُفسده أو يُهلكه.. وهكذا في كلّ الأمور.
فلذلك، إذا أراد أحد أن يضرَّ نفسه، فإنَّ علينا أن نتدخّل ونمنعه من باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. بعض النَّاس يقول إنَّ هذا ضدّ الحريَّة الشّخصيَّة، فإذا أراد شخص أن يشرب الخمر أو أن يزني أو يلعب القمار أو أيّ شيء آخر، فهو حرّ، ولديه حرّيّة شخصيّة في أن يفعل ما يريد، ولا حقّ لكم في منعه. بلى، من حقّنا أن نمنعه، فالله أمرنا بأن نمنع الإنسان من أن يضرَّ بنفسه أو أن يدمّر حياته أو حياة الآخرين، أن نمنعه ولو بالغصب.
الإنسان له حريَّة شخصيَّة بمقدار ما لا يضرّ نفسه. وأنا أعطيكم مثلاً، إذا أراد ولد أن يأكل طعاماً يضرّه ويؤذيه، فهل تقبل أمّه بذلك؟ هل تتركه يأكل ما يضرّه؟ بالطَّبع لا، لأنَّ رعاية الأمّ له تفرض هذا الشَّيء، وإذا تمرَّد الولد وقال أنا حرّ لا علاقة لكم بي، يقال له إنَّ الله جعلك أمانة عندنا، ومقتضى الأمانة أن لا نجعلك تضرّ بنفسك، فالولد الَّذي يريد أن يضرّ بنفسه، علينا نعمل بكلّ الطرق لمنعه من هذا، وهكذا الشّابّ والفتاة، وهكذا الكبار. وهذه الرَّقابة الاجتماعيَّة الّتي هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إنّما هي من أجل أن يتدخَّل الإنسان ضدّ ضرر الإنسان بنفسه، وطبعاً ضمن أصول وليس بطريقة الفوضى.
الرّعاية لا التّسلُّط
وعلى هذا الأساس، أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يتحمَّل مسؤوليَّة نفسه، وأن يوجّهها لما ينفعها، ويمنعها مما يضرّها. فإذا أصرَّ الإنسان على التَّمرّد والعناد، ووجّه نفسه نحو الضَّرر، فلا بدَّ للنَّاس أن يمنعوه، وهذا هو معنى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
وعندما تتّصل حياة الآخرين بحياتنا، فيجب أن نراعي مصالحهم. فعند تربية أولادنا، لا يجوز أن نربّيهم على أساس مزاجنا أو عقدنا النفسيَّة، بل بما يصلح أمرهم، ويهيّئ لهم مستقبلاً أفضل. ولذا يقول الإمام عليّ (ع): "لا تؤدّبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنَّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم".
وطبعاً هناك أخلاق ثابتة وأخلاق متحركة، فالثَّابتة هي الصّدق والأمانة والعفَّة... وهي أخلاق لا يختلف فيها زمان عن زمان، أمَّا الأخلاق المتحركة، فهي، مثلاً، طريقة المجاملات في المجتمع، وطريقة إدارة العلاقات الاجتماعيَّة، وما إلى ذلك مما لا يرتكب الإنسان فيه حراماً.
فأمَّهاتنا وآباؤنا وجدّاتنا وأجدادنا كانت عندهم طريقة في العلاقات وفي المجاملات وفي الكلمات وفي التَّرحيب وفي اللّباس، فهذا كان زمانهم، وفي هذا الزَّمان هناك شيء آخر، فقد تختلف طريقة النّاس في العلاقات والتّعامل والزيارات والأكل واللّباس، فليس المطلوب أن نلبس كما كانوا يلبسون، ونتحدَّث كما كانوا يتحدّثون، ونتحرّك كما كانوا يتحرّكون في حياتهم، فكلّ زمان له لغته وعاداته وتقاليده وأسلوبه، وطبعاً هناك أشياء محرَّمة في كلّ الأزمان، وأمَّا الأشياء المتحركة فيمكن أن تتغيّر...
وهكذا الآن، مثلاً، إذا كان ولدنا – بنتاً أو صبيّاً – يريد أن يتخصَّص في مجال معيّن، وكان الأب يحبّ الأدب، ويريد لولده أن يتخصَّص في هذا المجال، بينما الولد لا يرغب في ذلك، بل يريد أن يتخصَّص في الطّبّ أو الهندسة أو أيّ شيء آخر، فإذا كنّا نرى لهم المصلحة فيما نختاره لهم، فإنَّ مسؤوليَّتنا أن نناقشهم، دون أن نفرض خياراتنا عليهم، لأنَّهم سيعيشون حياةً غير حياتنا، فلا يصحّ للأب أن يفرض نفسه على حياة ولده، وكذلك لا يمكن للأمّ أن تفرض نفسها على حياة ابنتها. نعم، علينا أن ننصحهم ونوجّههم ونحاورهم، لا أن نفرض عليهم فرضاً.
وأخطر شيء في ذلك هو الزّواج، صحيح أنَّ الله سبحانه وتعالى، أو الواقع الاجتماعيّ، قد منح الأهل نوعاً من السّلطة على أولادهم، لكن هذا لا يعني أن يفرضوا عليهم خياراتهم بما يتعلّق بزواجهم أو غير ذلك.
فقد يُعجب الأب أو الأمّ بشابّ معيّن لابنتهم، لأنَّ لديه مالًا، أو لأنّه ابن العالم الفلانيّ، أو لأنَّ أمَّه معروفة بالصَّلاح والتَّقوى. لكنَّ هذه الأمور لا تكفي، فقد يكون أهله صالحين وهو من أفسق النَّاس، وقد يكون والده من أعلم العلماء وهو من أكفر الكفَّار، وقد يكون أبوه طيّباً حسن الخلق ويكون هو سيّئ الأخلاق. ولهذا، لا يجوز أن نرغم الفتاة على القبول بشخص لمجرَّد أنَّ عائلته صالحة أو معروفة، ولا يصحّ أن نقول لها: إمَّا أن تتزوّجي هذا الشّابّ، أو لا زواج لك! كما لا يمكن أن نرغم ولدنا على أن يتزوّج بمن لا يريدها.
وأنا دائمًا أقول للآباء والأمَّهات أن يتذكَّروا أنّهم كانوا يوماً ما صبايا وشباباً، وكانت لهم رغبات وأحلام ربَّما لم يفهمها أهلهم في حينها، أو لم يوافقوا عليها، وكيف كانت مشاعرهم في تلك المرحلة، وماذا يفعلون هم الآن مع أولادهم.
لذلك، علينا كآباء وأمَّهات أن نتحمَّل مسؤوليّتنا في تسهيل الطَّريق أمام أولادنا وبناتنا، ليختاروا حياةً زوجيّةً سليمة تنطلق من القناعة والوعي، لا من الإكراه والضَّغط. وهذا لا يعني أن نكون حياديّين أو لا نُبدي رأينا، بل من واجبنا أن ننصح، وأن نعبّر عن رأينا، وأن نحاول إقناعهم، فإن اقتنعوا، فبها، وإن لم يقتنعوا، فليتحمّلوا هم مسؤوليّة اختيارهم.
وهكذا في كلّ الأشياء، فالله يريد للإنسان أن يحمل مسؤوليَّته عن نفسه، وأن يستعدّ للحساب عن كلّ شيء، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ - أي راقبوا الله سبحانه وتعالى في كلّ أموركم، لأنَّه سوف يأتي يوم تحاسبون فيه - وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ – فإذا كان الولد عاصياً، وعلى خلاف خطّ المسؤوليَّة، فلا يستطيع الأب أن يدافع عنه - وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا - فإذا كان الأب عاصياً، فالولدُ لا يستطيع أن يدافع عن والده - إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ – فهناك آخرة، فلا تستهينوا بالأمور - فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا – فإذا كنتم ترون أنفسكم أغنياء ووجهاء والدّنيا مقبلة عليكم، فهناك وقتٌ ستكونون في القبر وحدكم، وستحاسبون أمام الله - وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان: 33]، من خلال الشَّيطان الَّذي يحاول أن يزيّن لكم المعصية، ويسوّف لكم التَّوبة.
الجزاءُ على قدرِ العمل
وفي آية أخرى، يؤكّد الله أنَّ الإنسان لا يجزَى في الآخرة إلَّا بقدر عمله. يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}[النّجم: 39]، فإذا كان الأب من أعظم النَّاس، وكانت لديه خدمات وأعمال صالحة وتضحيات، فإنَّ ذلك لا يستفيد منه الولدُ شيئاً ما لم يكن له سعيه الخاصّ، فالأب هو الَّذي يستفيد من عمله، ويغفر له الله به، أمَّا هو، فإذا لم يسر في الطَّريق الصَّحيح كما سار أبوه، فلا يستفيد من ذلك شيئاً. ويكمل تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}[النّجم: 40 - 41]. فلكلّ إنسان سعيه، ولكلّ نفس حسابها.
في بعض الحالات، قد يستفيد الإنسان من سعي غيره إذا كان له دور فيه، كما ورد في الحديث: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ، انقطعَ عملُهُ إلَّا منْ ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له"، فإذا ربَّى الإنسان ولداً صالحاً، وعاش هذا الولد بعد وفاة أبيه، فإنَّ الله يغفر له ببركة ولده الصَّالح.
وينقل في ذلك قصَّة عن النّبيّ عيسى (ع)، حيث جاء في الرّواية: "مَرَّ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (ع) بِقَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ - كشف الله له عنه ورآه يتعذَّب - ثُمَّ مَرَّ بِهِ مِنْ قَابِلٍ - وكشف الله له أيضاً عنه - فَإِذَا هُوَ لَيْسَ يُعَذَّبُ - فاستغرب عيسى (ع)، فناجى ربَّه - فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَرَرْتُ بِهَذَا الْقَبْرِ عَامَ أَوَّلَ، فَكَانَ صَاحِبُهُ يُعَذَّبُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِهِ الْعَامَ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ يُعَذَّبُ؟ - فلماذا رفع العذاب عنه، وهو غير قادر على أن يقوم بشيء يرفع عنه العذاب؟! - فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: يَا رُوحَ اللهِ، إِنَّهُ أَدْرَكَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ فَأَصْلَحَ طَرِيقاً، وَآوَى يَتِيمًا، فَغَفَرْتُ لَهُ بِمَا عَمِلَ ابْنُهُ".
وهذه قيمة الولد الصَّالح، فالولد الصَّالح له حسابات، ففي الدّنيا، يعتزّ الأهل به ويفتخرون، ويقال هذا ابن فلان وابن فلانة، وفي الآخرة، يعود صلاحه بالخير على والديه.
لذا، على الإنسان أن يهتمّ كثيراً بأن يكون ولده من عباد الله الصَّالحين، لأنَّ ذلك ينفعه في الدّنيا والآخرة.
مسؤوليّةُ هدايةِ النَّاس
ومن الأعمال الَّتي تنفع الإنسان في آخرته، أن يكون سبباً في هداية غيره. فإذا ساعدت فتاةً لا تُصلّي على أن تلتزم بالصَّلاة، أو أقنعت فتاةً غير محجّبة بالحجاب، أو أعنت إنسانةً تمشي في طريق المعصية على التَّوبة والرّجوع إلى الله، فإنَّ ذلك من أعظم ما يمكن أن يقوم به الإنسان. وقد قال رسول الله (ص) حين أرسل عليّاً (ع) إلى اليمن: "يا عليّ، لأَنْ يهدي اللهُ بِكَ رَجُلاً واحدًا، خيرٌ لَكَ ممَّا طلعَتْ عليْهِ الشَّمسُ". والمقصود هنا بـ"رجل" الإنسان، سواء كان رجلاً أو امرأة. فلو قدّر الله لك أن تملك كلّ ما طلعت عليه الشَّمس، ثم قارنّا ذلك بثواب هداية شخصٍ واحد إلى طريق الله، لكان ثواب الهداية أعظم عند الله، وأبقى أثراً في الدّنيا والآخرة.
بعض النَّاس، إذا قيل لهم: استفيدوا من صداقاتكم ومعارفكم وعلاقاتكم، ووجّهوهم إلى الخير، وانصحوهم، يقولون: لا نريد وجع الرَّأس، فقد يغضبون إذا تكلّمنا معهم، أو ينفرون منَّا، أو يستاؤون. ولكن، حتَّى لو انزعجوا الآن، فإنَّ ذلك قد يُريحهم غداً، والمثل يقول: "من بكَّاك بكى عليك، ومن أضحكك ضحك عليك".
بعض النَّاس قد يستاؤون منَّا الآن إذا تكلَّمنا معهم ووجّهناهم إلى ما فيه خيرهم، ولكن عندما يرون نتائج الهداية، سيعودون ويقولون: جزاكم الله خيراً. فالّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيراً.
فكما نحن مسؤولون عن أنفسنا، نحن أيضاً مسؤولون عن غيرنا بأن نريحهم في الحياة، ومسؤولون عن هداية النَّاس، وكما نفكّر في الدنيا، وبما ينفعنا ويضرّنا فيها، علينا أن نفكّر في الآخرة أيضاً، وأن نفكّر ما هو رصيدنا هناك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ - ما الرَّصيد الَّذي هيّأناه للآخرة - وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18 - 19]، فالَّذي ينسى الله ينسى نفسه، وينسى أن يستعدَّ للقاء الله يوم القيامة.
لذلك، علينا أن نحسب دائماً حساب الله ورضاه، كما نحسب حساب النَّاس ورضاهم، وكما نحسب حساب رضا أزواجنا وزوجاتنا وآبائنا وأولادنا، لأنَّ رضا الله هو الَّذي يبقى. نعم، يمكننا أن نرضي الآخرين بالخير، ولكنَّ رضا الله هو المهمّ، لأنَّ الله إذا رضي علينا، ربحنا سعادة الدّنيا والآخرة، وإذا لم يرض عنَّا، خسرنا الدّنيا والآخرة.
هذا ما يجب أن نعظ به أنفسنا، وأن نراقب رصيدنا عند الله، والله يقول: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزّمّل: 20].
الوقايةُ من نارِ الآخرة
وفي آية أخرى، يبيّن الله أنّه كما نريد أن نحمي أنفسنا وأولادنا من نار الدّنيا، علينا أن نحمي أنفسنا وأولادنا من نار الآخرة. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التّحريم: 6].
فإذا كانت العائلة يحبّ بعضها بعضاً، وتحبّ أن يبقى بعضها مع بعض، فعليها أن تعمل ليكون كلّ أفرادها صالحين، يقول تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرّعد: 23 - 24].
فالصَّالحون من الآباء والأبناء والأزواج يدخلون الجنَّة معاً. أمَّا إذا كان الأب، مثلاً، مؤمناً، والولد كافراً، فيكون لكلّ منهما عاقبته {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: 45 - 46].
والله يتحدَّث عن الصَّداقات، وعن الصَّداقة الّتي تتحوَّل إلى عداوة، والصّداقة الّتي تبقى. يقول تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزّخرف: 67]، فالصَّداقة في الدّنيا، إذا لم تكن في خطّ الإيمان والتّقوى، تتحوَّل إلى عداوة في الآخرة، بحيث يتبرّأ كلّ طرف من الآخر، ويلقي عليه اللَّوم ويحمّله المسؤوليّة يوم الحساب. أمَّا الصّداقة القائمة على التَّقوى، وعلى حبّ الله وطاعته، وعلى الإخلاص والخير، فإنّها تبقى إلى يوم القيامة، حيث يجتمع الأصدقاء {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر: 47].
وهذه صورة جميلة ولطيفة، بينما الصّورة الأخرى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}[الأعراف: 38]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: 166 - 176].
فأيَّ صورة أجمل؛ صورة أهل الجنَّة، أم صورة أهل النَّار؟ ونحن سنصل إلى ذلك اليوم، فإمَّا إلى الجنّة، وإمَّا إلى النّار، والله يقول: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].
وما يحدّد لنا طريق الجنَّة أو طريق النَّار هو المسؤوليَّة، فإذا عرفنا مسؤوليَّاتنا عن أنفسنا، وعن النَّاس من حولنا، وعن الحياة من حولنا، وكنَّا في موقع المسؤوليَّة، فسنصل إلى الله سبحانه وتعالى، ونقف بين يديه مرفوعي الرأس، أمَّا إذا لم نقم بمسؤوليَّتنا، فسنقف بين يديه وقفة الإنسان الخاطئ {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111].
المسؤوليّةُ في القضايا العامَّة
وكما تحدَّثنا عن ضرورة تحمّل المسؤوليَّة في القضايا الشخصيَّة، فإنّ هناك قضايا خطرة أيضاً، وهي القضايا العامّة.
فعندما نعيش في مجتمع من المجتمعات، ويكون هناك وضع سياسيّ في المجتمع، ووضع أمنيّ واقتصاديّ، ويكون هناك فئات من النّاس يحاولون أن يعقّدوا حياة النَّاس الضّعفاء والمستضعفين، وأن يجعلوا من الحكم غنيمة لهم، وتجارة يتّجرون بها على حساب آلام الفقراء والمحرومين والمنكوبين، ويكون هناك من يعارض هذا الظّلم والفساد، فهنا أيضاً على الإنسان عندما يريد أن يتَّخذ موقعاً سياسيّاً أو موقعاً اجتماعيّاً، وعندما يريد أن يؤيّد أو يرفض، أن لا يفكّر هل يرتاح فلان أو يستاء إذا أيّدت فلاناً أو لم أؤيّده، أن لا يفكّر في أحد، حتّى لو كان أباه أو أمَّه أو أخاه أو زوجه، بل أن يفكّر في رضا الله، وما مصلحة الأمَّة في ذلك. فالإنسان الَّذي سأعطيه صوتي، أو الَّذي أشارك في المهرجان الّذي يقيمه، هل سيكون نافعاً للأمَّة، والجهة الَّتي أريد أن أدعمها، هل هي الجهة الّتي يمكن أن تحقّق للأمَّة مصالحها، وأن تدافع عن حريَّة الأمَّة وعن عدالة الواقع، أم أنَّها تتحرَّك مع المستكبرين والظَّالمين، ومع الخائنين والمنحرفين؟ وهذا ليس فقط في الانتخابات السياسيَّة، بل حتَّى في انتخابات الجمعيَّات والبلديَّات وغيرها، ولا سيّما أنَّ صوتك سيساهم في أن يجعل شخصاً رئيس جمعيَّة أو رئيس حزب أو وزيراً.
فعندما يريد الإنسان أن يتَّخذ موقفاً، وعندما يدافع أو يعارض، فعليه أن يفكّر هل هذا الموقف الَّذي أقفه الآن صحيح؟ ما مسؤوليَّتي تجاه أمَّتي ووطني وشعبي، فالإنسان الَّذي سأعطيه ثقتي، سيسألني الله غداً على أيّ أساس أعطيته الثّقة، وإذا نجح بصوتي، فأنا أشاركه في كلّ ظلمه، إذا ظلم، بحيث يدخل ظلمه في أعمالي.
فلا تقل العائلة تؤيّد فلاناً أو تعارض فلاناً، لأنَّ العائلة لن تحاسَب عنك، وستحاسَب غداً كفرد عن هذا الصَّوت. لذا عليك أن تدرس وتسأل وتفتّش عن القضيَّة من جميع الجهات، حتّى يصبح عندك وعي بطبيعة النَّتائج الَّتي ستحصل من خلال قرارك وموقفك.. فالقضايا الدّينيَّة تتداخل مع القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة، وكلّ له حساب، وعندما يأتي وقت الحساب، فلن تكون العائلة معنا، ولا أهل الضّيعة، ولا أهل المحلَّة، بل سيكون كلّ منَّا فرداً يحاسب على أعماله {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65].
فعلى الإنسان أن يتحسَّس وعي المسؤوليَّة في عقله وقلبه وروحه، وأن يتحرَّك على أساس أنَّ أيّ كلمة يقولها، أو أيّ عمل يقوم به، سيسأله الله عنه.. فكلّ ما نستطيع غداً أن ندافع عنه أمام الله يمكن لنا أن نقوم به، وكلّ ما لا نستطيع أن ندافع عنه أمام الله فلنتركه ونبتعد عنه، كي نوفّر على أنفسنا ذلّ الوقوف غداً أمام الخلائق بين يدي الله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النَّحل: 111]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19]، {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17].
***
أسئلة الخطبة
قرآنيَّات
س: ورد في القرآن الكريم في سورة يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]. فهل إنَّ النَّبيّ يوسف كان قد بادر للتّجاوب في هذا العمل أم لا؟
ج: ليس من الضّروريّ أن يكون همّه كهمّها، فهناك رواية تقول بأنَّ معنى "ولقد همَّت به وهمّ بها"، أي همَّ بضربها، ليدفعها عن نفسه. وهناك رأي يقول بأنَّ "همَّ بها" ليس معناه أنَّه فكَّر في المعصية - لا سمح الله – ولكن بمعنى أنَّه انجذب إليها كما ينجذب الإنسان الجائع إلى رائحة الطّعام بشكل لا شعوريّ، ولكن ليس معنى ذلك أن يتناول هذا الطَّعام.
وعلى كلا الحالين، فإنَّ يوسف لم يفكّر في المعصية، لا على أساس التَّفسير الأوَّل، ولا على أساس التّفسير الثّاني، لأنَّ معنى همّ بها، في التّفسير الأوّل، أي همَّ بدفعها عن نفسه أو ضربها، أو أنّه، وفقاً للتّفسير الثّاني، انجذب إليها دون أن يكون ذلك اختياريّاً له، ولكن عندما عاش إيمانه امتنع عن ذلك.
س: ما تعريف التَّقوى؟
ج: أن يتَّقي الإنسان الله ويراقبه ويحسب حسابه، وقد ورد في بعض الأحاديث: "أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك".
فالتَّقيّ هو الإنسان الَّذي يكون في كلّ موقع يريد الله له أن يكون فيه، وأن لا يكون في أيّ موقع لا يريد الله له أن يكون فيه.
في الصَّلاة والغسل
س: والدتي لا تستطيع السّجود وقت الصَّلاة بسبب إصابة في وركها، وأحياناً ترفع السَّجدة إلى رأسها حين السّجود بدل أن تسجد على مسند. ما حكم صلاتها في هذه الحالة؟ وهل يجب عليها إعادة الصَّلاة في حال جهلها بالحكم الشَّرعيّ؟
ج: إذا كانت قادرة على أن تسجد على مسند، فيجب عليها ذلك، وعلى هذا الأساس، فلا بدَّ لها من إعادة الصَّلاة الَّتي صلَّتها بتلك الطَّريقة.
س: سمعت عن بعض النَّاس بأنَّهم يصلّون ركعتين بعد صلاة الصّبح بعنوان صلاة الوحشة لنفس المصلّي، فهل يمكن للإنسان أن يصلّي عن نفسه صلاة الوحشة؟
ج: صلاة الوحشة تصلَّى عادةً ليلة الدَّفن، أمَّا أن يصلّيها الإنسان وهو حيّ عن نفسه، فهذا ليس وارداً.
س: أنا امرأة متزوّجة منذ عشرين عاماً، وقد عدلت عن بلد أهلي، وأتردَّد من فترة إلى أخرى لزيارتهم. فهل أستطيع العودة عن عدولي، وأتَّخذ بلدهم بلداً لي، مع العلم أنَّ أبي أعطاني قطعة أرض، ولكنّي لا أنوي أن أبني بيتاً هناك؟
ج: على تقليد السيّد الخوئي، وعلى رأي كلّ العلماء، ما دامت الأخت أعرضت عن بلد أهلها، واستقرَّت في بلد زوجها، وحتَّى لو كانت تملك قطعة أرض في بلد أهلها، ولا تريد أن تبني عليها، فإنّها تصلّي قصراً دائماً في بلد أهلها، لأنَّ الإنسان إذا أعرض عن وطنه - ومعنى أعرض عنه أنّه لم يعد يفكّر أن يسكن فيه - فإنَّه يخرج عن كونه وطناً له، فتصلّي قصراً.
س: ما الحكم في صلاتي الظّهر والعصر بالنّسبة إلى الإخفات أو الجهر، وهل يختلف الأمر بين المرأة والرَّجل؟
ج: لا يجوز الجهر في صلاتي الظّهر والعصر، للمرأة والرَّجل.
س: هل تسقط الأغسال الَّتي ثبت استحبابها، كغسل الجمعة، عن الفتاة الَّتي في العادة الشَّهريَّة؟
ج: يمكن للفتاة أن تغتسل غسل الجمعة حتّى وهي في العادة الشَّهريَّة، فتحصل على ثواب الغسل.
س: هل يجب على المخطوبة أن تغتسل غسل الجنابة أثناء المداعبة، إذا حصل الدّخول، وما زالت عذراء؟
ج: إذا لم تتحقَّق العلاقة الكاملة، فلا يجب، على رأينا، غسل الجنابة عليها، ولكن على رأي علماء آخرين، إذا كانت تعتقد أنَّه يخرج منها ماء كما من الرَّجل، وهذا ما يقول الأطبَّاء إنّه ليس حقيقيّاً، فالجنابة إنّما تنطلق مع خروج الماء عند انتهاء العلاقة، فإذا لم يكن هناك ماء لا للرَّجل ولا للمرأة، ولم يكن هناك دخول، فلا جنابة ولا غسل.
في الصّوم والحجّ
س: إقامتي في صور وعملي في بيروت، أثناء توجّهي من صور إلى بيروت، رفع أذان الظّهر في صيدا، وبقيت ممسكاً عن المفطرات، فهل إنَّ صيامي قائم أم عليَّ إعادة هذا اليوم؟
ج: إذا كان سفر الإنسان دائماً متكرّراً من صور إلى بيروت، فإنَّه يبقى صائماً في الطَّريق، ويبقى صائماً عند الوصول إلى عمله، على حسب تقليد السيّد الخوئي.
س: أخت نذرت أن تصوم أسبوعاً، ولم تحدّد إذا كان الصّيام متتالياً أو متقطّعاً، فهل تصومه متتالياً، أم يحقّ لها أن تصومه متقطّعاً؟
ج: إذ لم تنو أن تصوم دفعة واحدة، فهي حرَّة في هذا الموضوع. أمَّا إذا كان في ذهنها أن تصوم سبعة أيَّام متتالية، فلا يجوز أن تصوم بشكل متقطّع.
س: شخص يعمل مدرّساً منذ 17 عاماً، ومنذ مدَّة عشر سنوات، بدأ بعمل إضافيّ، وهو التّجارة، نظراً إلى وضع الحياة الصَّعب. وخلال شهر رمضان، يسافر لعدَّة أيَّام في الأسبوع من أجل التّجارة، وهذا السَّفر يكون أحياناً قبل الظّهر وأحياناً بعده. ما الحكم الشّرعيّ بالنّسبة إلى الصَّلاة والصّيام؟
ج: إذا كان السَّفر فقط في شهر رمضان، فعليه أن يفطر إذا سافر قبل الظّهر، ويبقى صائماً إذا سافر بعد الزّوال، ويقصّر في الصَّلاة. أمَّا إذا كان في كلّ شهر يسافر مقدار عشرة أيَّام، مثلاً، في الشّهر كلّه، وكان هذا عمله في السَّفر، فيتمّ في صلاته وصيامه.
س: ولدي مخطوف منذ 11 سنة، ولا أدري إذا كان حيّاً أو ميتاً، وفي نيَّتي أن أحجَّ عنه هذه السَّنة بإذن الله، علماً أني أدَّيت الحجَّ الواجب عليّ، وهو لم يؤدّ أيّ حجّ، فهل يجوز الحجّ عنه؟
ج: يجوز الحجّ عنه استحباباً وليس حجّ الإسلام، سواء كان حيّاً أو ميتاً.
س: أنا امرأة مطلَّقة، بعث لي ابني مالاً حتّى أحجّ به، فهل يتوجَّب عليَّ أن أخمّس هذا المال، وأيضاً عندي هدايا من الأهل والأصدقاء، فهل يجب عليّ تخميسها؟
ج: الهدايا على فتوى السيّد الخوئي، وعلى رأينا، إذا لم تستعملها طيلة السنة، فيجب تخميسها، أمَّا المال الَّذي أعطاها إيّاه ابنها، فإذا كان أعطاها من أرباح السَّنة فلا خمس عليه، أمَّا إذا بعثه من مال مجمَّد عنده، فمن الواجب أن يخمّسه ثمّ يعطيها إيّاه.
في المرجعيّة والتَّقليد
س: تجري مناقشات حول مسألة نشر رسالتكم، ويدور الجدل حول بعض الاستفتاءات الَّتي وردت من استنباط شخصكم الكريم، ولا سيَّما أنَّ رسالتكم، حسب ما يزعمون، لم يطّلع عليها مجلس الخبراء في قمّ، ومن الطّبيعيّ أن يطَّلع هذا المجلس على كلّ رسالة، فهل هذا صحيح؟
ج: من قال إنَّ مجلس الخبراء في قمّ هو الّذي يرجع إليه في كلّ الأمور، فهم علماء مثل بقيَّة العلماء الآخرين، وفيهم أصدقاء لنا. فإذاً هذا ليس صحيحاً، فهناك من يعتمد على علماء في قمّ، وهناك من يعتمد على علماء في النَّجف، أو غيرهما، فأهل الخبرة ليسوا محصورين فقط في قمّ، ونحن كنّا من أهل الخبرة، وكنّا نقول للنّاس قلّدوا فلاناً أو فلاناً.
ثمّ إنّ الطّبعة الثَّالثة من رسالتي (المسائل الفقهيَّة) طبعت في قمّ، وقد وضعت في مكتب السيّد الخامنئي، وعرضت على المكتب، وأجاز طبعها، لأنّه لا يحقّ هناك أن تطبع رسالة دون أن تعرض على السيّد الخامنئي، وهي توزَّع الآن في قمّ، ولنا مقلّدون هناك كما لنا مقلّدون في العراق ولبنان.
فمسألة أنّه لم يطّلع أحد عليها ليس صحيحاً، فالرّسالة الآن موجودة، حتَّى إنَّ بعض أصدقائنا من العلماء يقول إنّه دخل على السيّد الخامنئي ورأى الرّسالة أمامه، فهي موجودة في قمّ وتوزَّع وتباع.
س: نرجو أن توجّهوا بعض الكلمات إلى الأخوات اللّواتي ينتقدن فتاواكم انتقاداً شديداً ويعلّقن عليها.
ج: أنا أسأل كلّ هؤلاء الإخوة والأخوات الّذين ينتقدون الفتوى: هل هم علماء؟ ما اختصاصهم؟ والأخوات هل هنَّ مجتهدات؟ فعندما ينتقد الإنسان شيئاً ليس من اختصاصه، ولا معرفة له فيه، يصبح الأمر حرتقة، ودليلاً على التّخلّف. الآن لو أنَّ طبيباً وصف وصفة لمريض، فهل تنتقدونها؟
كثير من الشَّباب ينتقدون كيف يفتي السيّد بحليَّة لعب الورق، ولكنَّهم يلعبون الدَّاما والبرجيس والفليبر. ما الفرق بين هذا وذاك؟ أليس هناك من يفتي مرجعهم بأنَّ لعب الورق حرام، فيلعبون برجيس أو داما؟! أنا أفتيت بلعب الورق، وأقول دائماً ليس معنى ذلك أن يلعب الإنسان كلّ الوقت، والإمام الخميني أفتى بحليَّة الشَّطرنج، مع أنَّ أيّاً من علماء الشّيعة لم يفت قبل الإمام الخميني بحلّيّته، وأكثر السنّة لا يفتون بحليَّته، فلماذا لم ينتقد أحد؟! وها هي إيران تدخل في مسابقات عالميَّة بالشّطرنج، وإذا قرأتم الصّحف اليوم، فإيران عندها مؤتمر موسيقيّ، وتدخل مسابقات عالميَّة في الموسيقى، فلماذا يتكلَّمون هنا وينتقدون ولا ينتقدون هناك؟
أنا أقول إنّني مستعدّ أن أناقش أيَّ عالم من العلماء، وأقول إنَّ كلّ ما أفتي به، هناك من العلماء من يفتي به، ولكنّكم لا تعرفونهم.
لكنَّ المشكلة الَّتي تحدث حاليّاً عند المؤمنين والمؤمنات، أنّنا صرنا مجتمع الحرطقة، ومجتمعاً لا يخاف الله. أنا لست معصوماً، ولكن يا جماعة، أنا معكم منذ ما يقارب الثَّلاثين عاماً، فلا يصحّ أن ينشغل الشَّباب والفتيات بالغيبة والحرطقة. أنا لا يضرّني هذا الشّيء، لكن "الله الله في دينكم وتقواكم".
بالنّسبة إليّ أقول سامح الله كلَّ النّاس، ولكن هذا ليس من مصلحة الحالة الإسلاميَّة ولا من مصلحة دينكم، لأنَّ القضيَّة أنّه لم يعد أحد يفكّر في أنَّ هذا حلال أو حرام، على حسب الحزبيَّة والحرتقة، وأنا أقول إنَّ من يتحدَّث ويستغيب، فليقف غداً بين يدي الله ويدافع عن نفسه.
الآن، يحاول الأمريكيّون، وكذلك إسرائيل، أن يضربوا الخطَّ الإسلاميّ، ونحن مشغول بعضنا ببعض، ونحكي على رموزنا. وأنا أقول إنَّ هذه خطَّة مخابراتيَّة، لأنَّ المخابرات لم تستطع أن تنفذ إلى الحالة الإسلاميَّة والجوّ الإسلاميّ إلَّا بإشغال النَّاس بعضهم ببعض، وأن تجعلهم يشتمون رموزهم، بدلاً من شتم إسرائيل وأمريكا. فكلّ من يتحدَّث بهذا، اتّهموه بأنَّه من حيث يشعر أو لا يشعر، يخدم عمل المخابرات...
وأنا قلت لكم إنّي مستعدّ لأجيب عن أيّ سؤال أو استفسار، والشَّخص الَّذي عنده شبهة، يمكنه أن يأتي إلى البيت أو المسجد ليسأل ما يريد، أمَّا الشَّخص الَّذي يتحدَّث كيفما كان، فذلك يعني أنَّ عنده عقدة نفسيَّة، والله يعلم من يدخل فيه من المخابرات ليشوّه الحالة الإسلاميّة ويسيء إليها.
أنا عندما أنزعج من ذلك فليس من أجل نفسي، ولكن أتألَّم على الحالة الإسلاميَّة، أنَّ المؤمنين والمؤمنات، الطَّاهرين والطَّاهرات، يشوّهون لهم إيمانهم، ويورّطونهم في قضيَّة العصبيَّات الحزبيَّة والشَّخصيَّة وما إلى ذلك.
س: أخت تطلب المسامحة منكم.
ج: سامحها الله، وسامح كلَّ النَّاس الآخرين. ولكن نحن نقول إنَّ على الإنسان أن يتَّقي الله سبحانه وتعالى في كلامه، ليس بالنّسبة إليَّ بشكل خاصّ، بل بالنّسبة إلى كلّ النَّاس، لأنَّ مجتمعنا أصبح مجتمع الحرتقات وعدم التَّقوى.
لذلك، على الإنسان عندما يريد أن يتحدَّث أيّ كلمة عن شخص، أن يفكّر لو سأله الله سبحانه وتعالى غداً على أيّ أساس استغبته وتحدّثت عنه، فإذا كان عنده جواب فليتحدَّث، وإذا لم يكن لديه جواب فليسكت {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].
وقد ورد أنَّ الفرق بين المنافق والمؤمن، أنَّ المنافق يسيء ويعتذر، والمؤمن لا يسيء ولا يعتذر، أي لا يتعمَّد الإساءة.
قضايا اجتماعيَّة
س: ابنتي متزوّجة من ابن أخي منذ أكثر من ستّ سنوات، ولا أراها منذ وقت طويل، لأنَّ زوجها يمنعها من ذلك، وحاولت عدَّة مرات ولم يقبل، وقبل أن أذهب إلى الحجّ، أرسلت إليهم لأتسامح منهم، فلم يقبل زوجها، حتّى إنّها عندما تراني في الشَّارع، تمتنع عن التحدّث معي، مع العلم أنَّ أساس المشكلة سخيف وبسيط ولا يحتاج إلى كلّ ذلك، حتّى إنَّه يمنعها من التّحدّث مع إخوتها، ونحاول أن نصلح الأمور فيما بيننا، ولكنَّهم يرفضون. فما حكم الشَّرع في ذلك؟
ج: الإنسان الَّذي يحاول أن يمنع زوجته من أهلها وأرحامها، هو إنسانٌ لا يتحسَّس مسؤوليَّة الإيمان في نفسه. ونحن نسأله: ماذا لو كانت أخته متزوّجة ومنعها زوجها من رؤيته، هل يقبل بذلك؟ فالمؤمن هو من يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وعليه أن لا يعتبر أنَّ من حقّه أن يمنع زوجته من رؤية أهلها، فمن علامة الإيمان أن يكون إنسانيّاً، وأن يتحسَّس مشاعر الآخرين وآلامهم.
س: في مجتمعنا، تنتشر ظاهرة إقامة "الموالد"، الَّتي تُعدّ بالنّسبة إلى بعض الفتيات المتديّنات وسيلةً للتَّنفيس عن الكبت النَّاتج من بعض الأجواء. وغالباً ما تهتمّ الفتاة باختيار ملابس خاصَّة بهذه المناسبات، وقد تخرج أحيانًا عن إطار الحشمة. فهل تجوز إقامة هذه الموالد شرعاً؟ وهل الرَّقص فيها جائز؟ وهل يُفرّق في الحكم بين مناسبة دينيَّة كمولد أحد الأئمَّة، أو حفلة زفاف، أو عيد ميلاد شخصيّ؟
ج: إذا كانت الموالد تقام بشكل شرعيّ، بحيث تكون الأناشيد شرعيَّة والموسيقى شرعيَّة، فلا مشكلة في ذلك، لأنَّ الله لم يحرّم علينا الفرح، وإنّما حرّم علينا فرحاً معيّناً.
ونحن قلنا مراراً إنَّ المواليد أن تكون استحضاراً لصورة النَّبيّ (ص) والأئمّة (ع)، فلا تكون كلّها طبلاً ورقصاً..
وفي قضيَّة الرَّقص، هناك رأيان، هناك رأي للسيّد الخميني والسيّد الكلبيكاني وجماعة غيرهما، أنَّ الرَّقص محرَّم، سواء للمرأة أو الرَّجل. وهناك رأي آخر للسيّد الخوئي (ره)، وهذا أيضاً ما نرتئيه، أنَّ الرَّقص إذا لم يكن خليعاً، فليس محرَّماً، كما في الدّبكة إذا لم يكن هناك اختلاط، وكما في رقص المرأة لزوجها، والرَّقص في داخل المجتمعات النّسائيَّة، بشرط أن لا يكون خليعاً ومثيراً.. فكلّ إنسان يتبع تقليده في هذا المجال.
أمَّا قضيَّة أنَّ بعض الفتيات يلبسن لباساً غير محتشم، فبالنّسبة إلى المجتمع غير المختلط، فلا مشكلة، طالما أنّهنّ في مجتمع نسائيّ ولا يدخل عليهنَّ رجال. فما حلّله الله، ليس بالضَّرورة أن نعقّد الأمور حوله.
س: تعرَّفت إلى إحدى الفتيات الَّتي شرحت لي وضعها المادّيّ المتردّيّ، وأبدت رغبتها بارتداء الحجاب واللّباس الشَّرعيّ، وشعرت بالمسؤوليَّة تجاهها، فأهديتها ثوباً شرعيّاً، ومضت فترة أربعة أشهر ولم تتحجَّب، فهل يجوز لي أن أطالبها بالثَّوب؟
ج: إذا كانت الأخت تأمل أنَّ من أهدتها الثَّوب يمكن أن تتحجَّب في المستقبل، وأنّها قد تكون الآن تهيّئ الأجواء كي تقنع أهلها بذلك، أو حتّى تقوّي إرادتها وما إلى ذلك، فلتترك الثَّوب عندها، وأمَّا إذا عرفت بأنَّها لا تنوي كليّةً أن تتحجَّب، فلها الحقّ في استرجاع الثَّوب.
س: أنا أرملة، وعندي صبيان وبنات. الصّبيان أحوالهم الماديّة غير جيّدة، وهم متزوّجون ولا يسألون عنّي، والبنات متزوّجات وأحوالهنَّ جيّدة، أمَّا أنا، فأحوالي الماديَّة تعتبر عاطلة، فهل يجوز لي أن آخذ الفطرة من بناتي؟
ج: إذا لم تكن الأمّ قادرة، فيجب على أولادها من الذكور والإناث، الإنفاق عليها، كما يجب الانفاق على أولادهم، فكما يجب على الأب أن ينفق على الأولاد، أيضاً يجب على الأولاد أن ينفقوا على الأب والأمّ إذا كانا محتاجين. ولذلك لا يجوز لها أن تأخذ الفطرة في هذا المقام، بل يجب عليهم أن يدفعوا نفقتها ومصروفها، إذا لم تكن قادرة على إعالة نفسها بنفسها.
* خطبة يوم الجمعة (الجماعة) للنساء، بتاريخ: 01/03/1996 م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان: 33].
ويقول في آية أخرى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}[النّجم: 39 - 41]، ويقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}[فاطر: 18]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111].
المسؤوليَّة عن الحياة
من خلال كلّ هذه الآيات، ننطلق إلى موضوع يتَّصل بحياة كلّ إنسان، ذكراً كان أو أنثى، وبمصيره، وهو مسألة المسؤوليَّة، فالإنسان عندما وجد في هذه الحياة، لم يوجد ليلهو، أو ليعبث، أو ليمارس حياته كيفما كان، ليخرّب كما يريد، ويفسد كما يريد.
فالإنسان مخلوق يعيش في موقع من مواقع هذه الحياة، وعندما يعيش في موقع، فإنَّ حركته، سواء كانت سلبيَّة أو إيجابيَّة، تترك تأثيرها على نفسه، كما تترك تأثيرها على كلّ موجودات. ولذلك، أراد الله للإنسان أن يتحسَّس أنَّه مخلوق مسؤول؛ لا بدَّ أن يتحرَّك بحساب في حياته، ويقف بحساب، ولا بدَّ أن يعيش علاقته مع النَّاس الآخرين بحسابات دقيقة، وأن يعيش حساباته حتَّى مع الحياة؛ مع الحيوان، مع الأرض، مع البيئة، بمسؤوليَّة.
فالإنسان مسؤول عن كلّ شيء يتَّصل بحياته وبحياة الآخرين وبالوجود كلّه، فلا بدَّ له من أن يخطّط لحياته في حركة المسؤوليَّة، ولا بدَّ له من أن يربّي مزاجه، وحتَّى شهواته ومطامعه، لتكون منسجمةً مع خطّ المسؤوليَّة.
فالإنسان ليس حرّاً في أن يتحرَّك بمزاجه كيفما كان، بل لا بدَّ أن يكون مزاجه بالطَّريقة الَّتي لا تهلك حياته ولا تضرّها، ولا تضرّ حياة الآخرين. بعض النَّاس يقول أنا طبعي هكذا ومزاجي هكذا، وليقبل من يقبل، وليرفض من يرفض، وهذا خطأ، فما دام الإنسان يعيش مع الآخرين؛ ما دام أباً أو ولداً أو أمّاً أو مواطناً، وجزءاً من عائلة، وجزءاً من محلَّة، فلا يحقّ له أن يقول هذا مزاجي، فمن كان مزاجه هكذا، فليصعد فوق الجبل ويعتزل النَّاس، مع العلم أنّه حتّى هذا الأمر لا يرخّص له الله فيه.
الحريّة.. وأمانة النَّفس!
فإذاً، عندما يكون الإنسان مخلوقاً اجتماعيّاً، فليس له أن يأخذ حرّيته في تصرّفاته، بل لا بدَّ أن يلاحظ تأثير تصرّفاته وحركته في النَّاس من حوله. وعندما يكون الإنسان مخلوقاً لله وعبداً له، فليس له الحريَّة أمام الله في أن يتصرّف بما يشاء.
الآن، كلّ واحد منّا يملك شيئاً معيّناً؛ يملك أرضاً أو ثياباً أو أثاثاً أو أيّ شيء آخر... فلو أتى شخص ليتصرَّف في أملاكنا بما لا نحبّ، ألا نعترض عليه؟ فلا بدَّ من أن يأخذ الإذن منّا أوّلاً إذا أراد أن يتصرّف في ملكنا. وكذلك نحن ملك الله، فالله هو الَّذي خلقنا وصنعنا ونمّانا، بعد أن كنَّا تراباً، ثمَّ مضغة، ثمّ علقة، ثم أنشأَنَا خلقاً آخر، فنحن ملك له تعالى، ولأنّنا ملكه، لا يحقّ لنا أن نتصرَّف بجسدنا كيفما كان، فلا يحقّ لأحد أن يقول أنا حرّ أريد أن أنتحر! لا أنت لست حرّاً، ولا تملك حياتك، فحتّى لو أطبقت الدّنيا عليك، وحدثت لك أزمات نفسيَّة ومشاكل عاطفيَّة وماليَّة، لست حرّاً في أن تنهي حياتك، بل عليك أن تعالج مشاكلك. وإنّما يكون للإنسان حرّيّة الانتحار إذا كان يملك روحه وجسده وحياته، أمَّا والجسد والرّوح ليسا لك، بل ملك الله، فلست حرّاً في أن تتصرَّف فيهما بالانتحار.
كذلك لست حرّاً في أن تضرَّ بنفسك. مثلاً الآن، قد يقول أحد أنا حرّ، وأريد أن أقطع إصبعي، لا لست حرّاً في أن تضرّ نفسك، كذلك قد يكون هناك من هو مدمن على الخمر، والخمر يؤذيه ويضرّ بكبده ويخرّب عقله، فتقول له ابتعد عن ذلك لأنَّه يضرّ بك ويؤذيك ويدمّر حياتك، فيقول أنا حرّ، وأنا أريد أن أموت. ولكنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن ينهي حياته أو يؤذي نفسه، فالله يقول لك أنت ملكي، وأنا أريدك أن تتصرَّف في ملكي كما أريد أنا وليس كما تريد أنت.
كذلك من الأشياء الّتي تضرّ بالإنسان التَّدخين، فإذا قلنا: يا فلان، يا فلانة، إنَّ التّدخين يسبّب سرطان رئة وغيره من الأمراض، يقول، أنا حرّ في أن أدخّن، هكذا مزاجي.
يقال إنَّ شخصاً أخبره الطَّبيب بأنَّ عليه أن يترك التَّدخين لأنّه بات خطراً على حياته، فسأله: وكم سأعيش بعد لو تركته؟ قال: ستعيش ستّة أشهر أكثر، فقال له: لا أريد أن أعيشها بلا تدخين. ولكنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن يرفض أن يعيش هذه الوقت أكثر، لأنّه لا يملك ذلك، وهو يتصرّف فيما لا يملكه.
وهكذا أيّ شيء من الأشياء، فالطَّبيب عندما يقول للإنسان عليك أن تترك التَّدخين بسبب أزمة قلبيَّة أو غير ذلك، فلا يجوز أن لا يتركه، فلو فرضنا أنّه إن ترك التّدخين سيعيش يوماً إضافيّاً، فلا يجوز له أن يضيّع هذا اليوم من عمره.
لذلك، المسألة هي قصَّة حرام وحلال. فكلّ ما حرّمه الله، إنّما حرّمه لأنَّ فيه مضرّة ومفسدة، وكلّ ما أحلّه، يعني أن لا ضرر فيه، أو أنَّ فيه مصلحة ومنفعة. ولهذا، نحن لسنا أحراراً في أن نُؤذي أنفسنا أو نلقي بها إلى التَّهلكة، لأنَّ أجسادنا وأرواحنا أمانةٌ عندنا، لا نملك التَّصرّف فيها بما يُفضي إلى الضَّرر أو الهلاك.
لذلك، من حقّ النَّفس على صاحبها أن يصونها، وأن لا يُؤذيها جسديّاً أو عقليّاً أو روحيّاً.
مسؤوليَّة الرَّقابة الاجتماعيّة
والله سبحانه وتعالى يبيّن أنّ الإنسان إذا قام بعمل مضرّ، فمن سيتضرَّر هو الإنسان نفسه وليس الله، لأنَّ الله لا يتضرّر من معصية العباد، ولا ينتفع بطاعتهم، فهو الغنيّ عن العالمين. يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[لقمان: 12]. فأنت عندما تطيع الله وتشكره، تنفع نفسك، وإذا كفرت أو عصيت، فإنَّما تسيء إلى نفسك، والله لا يحتاجك.
لذلك، يجب أن نُدرك أنَّنا مسؤولون عن أنفسنا، وأنَّ علينا أن نتعامل مع أجسادنا وعقولنا وأرواحنا بما يحفظها، لا بما يُهلكها أو يضرّها.
وعلى هذا الأساس، لا يجوز للإنسان أن يتصرّف في نفسه بما يُلحق بها ضررًا، لا على المستوى الجسديّ، ولا الأخلاقيّ، ولا الاجتماعيّ، وما إلى ذلك. فالله قد أباح لنا الأكل والشّرب، لكنَّه نهانا عن تناول ما يُضرّنا، وعن تجاوز الحدّ في ذلك. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31]. فلا ينبغي للإنسان أن يأكل أو يشرب فوق حاجته، ولا أن يُدخل إلى جسده ما يُفسده أو يُهلكه.. وهكذا في كلّ الأمور.
فلذلك، إذا أراد أحد أن يضرَّ نفسه، فإنَّ علينا أن نتدخّل ونمنعه من باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. بعض النَّاس يقول إنَّ هذا ضدّ الحريَّة الشّخصيَّة، فإذا أراد شخص أن يشرب الخمر أو أن يزني أو يلعب القمار أو أيّ شيء آخر، فهو حرّ، ولديه حرّيّة شخصيّة في أن يفعل ما يريد، ولا حقّ لكم في منعه. بلى، من حقّنا أن نمنعه، فالله أمرنا بأن نمنع الإنسان من أن يضرَّ بنفسه أو أن يدمّر حياته أو حياة الآخرين، أن نمنعه ولو بالغصب.
الإنسان له حريَّة شخصيَّة بمقدار ما لا يضرّ نفسه. وأنا أعطيكم مثلاً، إذا أراد ولد أن يأكل طعاماً يضرّه ويؤذيه، فهل تقبل أمّه بذلك؟ هل تتركه يأكل ما يضرّه؟ بالطَّبع لا، لأنَّ رعاية الأمّ له تفرض هذا الشَّيء، وإذا تمرَّد الولد وقال أنا حرّ لا علاقة لكم بي، يقال له إنَّ الله جعلك أمانة عندنا، ومقتضى الأمانة أن لا نجعلك تضرّ بنفسك، فالولد الَّذي يريد أن يضرّ بنفسه، علينا نعمل بكلّ الطرق لمنعه من هذا، وهكذا الشّابّ والفتاة، وهكذا الكبار. وهذه الرَّقابة الاجتماعيَّة الّتي هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إنّما هي من أجل أن يتدخَّل الإنسان ضدّ ضرر الإنسان بنفسه، وطبعاً ضمن أصول وليس بطريقة الفوضى.
الرّعاية لا التّسلُّط
وعلى هذا الأساس، أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يتحمَّل مسؤوليَّة نفسه، وأن يوجّهها لما ينفعها، ويمنعها مما يضرّها. فإذا أصرَّ الإنسان على التَّمرّد والعناد، ووجّه نفسه نحو الضَّرر، فلا بدَّ للنَّاس أن يمنعوه، وهذا هو معنى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
وعندما تتّصل حياة الآخرين بحياتنا، فيجب أن نراعي مصالحهم. فعند تربية أولادنا، لا يجوز أن نربّيهم على أساس مزاجنا أو عقدنا النفسيَّة، بل بما يصلح أمرهم، ويهيّئ لهم مستقبلاً أفضل. ولذا يقول الإمام عليّ (ع): "لا تؤدّبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنَّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم".
وطبعاً هناك أخلاق ثابتة وأخلاق متحركة، فالثَّابتة هي الصّدق والأمانة والعفَّة... وهي أخلاق لا يختلف فيها زمان عن زمان، أمَّا الأخلاق المتحركة، فهي، مثلاً، طريقة المجاملات في المجتمع، وطريقة إدارة العلاقات الاجتماعيَّة، وما إلى ذلك مما لا يرتكب الإنسان فيه حراماً.
فأمَّهاتنا وآباؤنا وجدّاتنا وأجدادنا كانت عندهم طريقة في العلاقات وفي المجاملات وفي الكلمات وفي التَّرحيب وفي اللّباس، فهذا كان زمانهم، وفي هذا الزَّمان هناك شيء آخر، فقد تختلف طريقة النّاس في العلاقات والتّعامل والزيارات والأكل واللّباس، فليس المطلوب أن نلبس كما كانوا يلبسون، ونتحدَّث كما كانوا يتحدّثون، ونتحرّك كما كانوا يتحرّكون في حياتهم، فكلّ زمان له لغته وعاداته وتقاليده وأسلوبه، وطبعاً هناك أشياء محرَّمة في كلّ الأزمان، وأمَّا الأشياء المتحركة فيمكن أن تتغيّر...
وهكذا الآن، مثلاً، إذا كان ولدنا – بنتاً أو صبيّاً – يريد أن يتخصَّص في مجال معيّن، وكان الأب يحبّ الأدب، ويريد لولده أن يتخصَّص في هذا المجال، بينما الولد لا يرغب في ذلك، بل يريد أن يتخصَّص في الطّبّ أو الهندسة أو أيّ شيء آخر، فإذا كنّا نرى لهم المصلحة فيما نختاره لهم، فإنَّ مسؤوليَّتنا أن نناقشهم، دون أن نفرض خياراتنا عليهم، لأنَّهم سيعيشون حياةً غير حياتنا، فلا يصحّ للأب أن يفرض نفسه على حياة ولده، وكذلك لا يمكن للأمّ أن تفرض نفسها على حياة ابنتها. نعم، علينا أن ننصحهم ونوجّههم ونحاورهم، لا أن نفرض عليهم فرضاً.
وأخطر شيء في ذلك هو الزّواج، صحيح أنَّ الله سبحانه وتعالى، أو الواقع الاجتماعيّ، قد منح الأهل نوعاً من السّلطة على أولادهم، لكن هذا لا يعني أن يفرضوا عليهم خياراتهم بما يتعلّق بزواجهم أو غير ذلك.
فقد يُعجب الأب أو الأمّ بشابّ معيّن لابنتهم، لأنَّ لديه مالًا، أو لأنّه ابن العالم الفلانيّ، أو لأنَّ أمَّه معروفة بالصَّلاح والتَّقوى. لكنَّ هذه الأمور لا تكفي، فقد يكون أهله صالحين وهو من أفسق النَّاس، وقد يكون والده من أعلم العلماء وهو من أكفر الكفَّار، وقد يكون أبوه طيّباً حسن الخلق ويكون هو سيّئ الأخلاق. ولهذا، لا يجوز أن نرغم الفتاة على القبول بشخص لمجرَّد أنَّ عائلته صالحة أو معروفة، ولا يصحّ أن نقول لها: إمَّا أن تتزوّجي هذا الشّابّ، أو لا زواج لك! كما لا يمكن أن نرغم ولدنا على أن يتزوّج بمن لا يريدها.
وأنا دائمًا أقول للآباء والأمَّهات أن يتذكَّروا أنّهم كانوا يوماً ما صبايا وشباباً، وكانت لهم رغبات وأحلام ربَّما لم يفهمها أهلهم في حينها، أو لم يوافقوا عليها، وكيف كانت مشاعرهم في تلك المرحلة، وماذا يفعلون هم الآن مع أولادهم.
لذلك، علينا كآباء وأمَّهات أن نتحمَّل مسؤوليّتنا في تسهيل الطَّريق أمام أولادنا وبناتنا، ليختاروا حياةً زوجيّةً سليمة تنطلق من القناعة والوعي، لا من الإكراه والضَّغط. وهذا لا يعني أن نكون حياديّين أو لا نُبدي رأينا، بل من واجبنا أن ننصح، وأن نعبّر عن رأينا، وأن نحاول إقناعهم، فإن اقتنعوا، فبها، وإن لم يقتنعوا، فليتحمّلوا هم مسؤوليّة اختيارهم.
وهكذا في كلّ الأشياء، فالله يريد للإنسان أن يحمل مسؤوليَّته عن نفسه، وأن يستعدّ للحساب عن كلّ شيء، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ - أي راقبوا الله سبحانه وتعالى في كلّ أموركم، لأنَّه سوف يأتي يوم تحاسبون فيه - وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ – فإذا كان الولد عاصياً، وعلى خلاف خطّ المسؤوليَّة، فلا يستطيع الأب أن يدافع عنه - وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا - فإذا كان الأب عاصياً، فالولدُ لا يستطيع أن يدافع عن والده - إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ – فهناك آخرة، فلا تستهينوا بالأمور - فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا – فإذا كنتم ترون أنفسكم أغنياء ووجهاء والدّنيا مقبلة عليكم، فهناك وقتٌ ستكونون في القبر وحدكم، وستحاسبون أمام الله - وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان: 33]، من خلال الشَّيطان الَّذي يحاول أن يزيّن لكم المعصية، ويسوّف لكم التَّوبة.
الجزاءُ على قدرِ العمل
وفي آية أخرى، يؤكّد الله أنَّ الإنسان لا يجزَى في الآخرة إلَّا بقدر عمله. يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}[النّجم: 39]، فإذا كان الأب من أعظم النَّاس، وكانت لديه خدمات وأعمال صالحة وتضحيات، فإنَّ ذلك لا يستفيد منه الولدُ شيئاً ما لم يكن له سعيه الخاصّ، فالأب هو الَّذي يستفيد من عمله، ويغفر له الله به، أمَّا هو، فإذا لم يسر في الطَّريق الصَّحيح كما سار أبوه، فلا يستفيد من ذلك شيئاً. ويكمل تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}[النّجم: 40 - 41]. فلكلّ إنسان سعيه، ولكلّ نفس حسابها.
في بعض الحالات، قد يستفيد الإنسان من سعي غيره إذا كان له دور فيه، كما ورد في الحديث: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ، انقطعَ عملُهُ إلَّا منْ ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له"، فإذا ربَّى الإنسان ولداً صالحاً، وعاش هذا الولد بعد وفاة أبيه، فإنَّ الله يغفر له ببركة ولده الصَّالح.
وينقل في ذلك قصَّة عن النّبيّ عيسى (ع)، حيث جاء في الرّواية: "مَرَّ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (ع) بِقَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ - كشف الله له عنه ورآه يتعذَّب - ثُمَّ مَرَّ بِهِ مِنْ قَابِلٍ - وكشف الله له أيضاً عنه - فَإِذَا هُوَ لَيْسَ يُعَذَّبُ - فاستغرب عيسى (ع)، فناجى ربَّه - فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَرَرْتُ بِهَذَا الْقَبْرِ عَامَ أَوَّلَ، فَكَانَ صَاحِبُهُ يُعَذَّبُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِهِ الْعَامَ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ يُعَذَّبُ؟ - فلماذا رفع العذاب عنه، وهو غير قادر على أن يقوم بشيء يرفع عنه العذاب؟! - فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: يَا رُوحَ اللهِ، إِنَّهُ أَدْرَكَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ فَأَصْلَحَ طَرِيقاً، وَآوَى يَتِيمًا، فَغَفَرْتُ لَهُ بِمَا عَمِلَ ابْنُهُ".
وهذه قيمة الولد الصَّالح، فالولد الصَّالح له حسابات، ففي الدّنيا، يعتزّ الأهل به ويفتخرون، ويقال هذا ابن فلان وابن فلانة، وفي الآخرة، يعود صلاحه بالخير على والديه.
لذا، على الإنسان أن يهتمّ كثيراً بأن يكون ولده من عباد الله الصَّالحين، لأنَّ ذلك ينفعه في الدّنيا والآخرة.
مسؤوليّةُ هدايةِ النَّاس
ومن الأعمال الَّتي تنفع الإنسان في آخرته، أن يكون سبباً في هداية غيره. فإذا ساعدت فتاةً لا تُصلّي على أن تلتزم بالصَّلاة، أو أقنعت فتاةً غير محجّبة بالحجاب، أو أعنت إنسانةً تمشي في طريق المعصية على التَّوبة والرّجوع إلى الله، فإنَّ ذلك من أعظم ما يمكن أن يقوم به الإنسان. وقد قال رسول الله (ص) حين أرسل عليّاً (ع) إلى اليمن: "يا عليّ، لأَنْ يهدي اللهُ بِكَ رَجُلاً واحدًا، خيرٌ لَكَ ممَّا طلعَتْ عليْهِ الشَّمسُ". والمقصود هنا بـ"رجل" الإنسان، سواء كان رجلاً أو امرأة. فلو قدّر الله لك أن تملك كلّ ما طلعت عليه الشَّمس، ثم قارنّا ذلك بثواب هداية شخصٍ واحد إلى طريق الله، لكان ثواب الهداية أعظم عند الله، وأبقى أثراً في الدّنيا والآخرة.
بعض النَّاس، إذا قيل لهم: استفيدوا من صداقاتكم ومعارفكم وعلاقاتكم، ووجّهوهم إلى الخير، وانصحوهم، يقولون: لا نريد وجع الرَّأس، فقد يغضبون إذا تكلّمنا معهم، أو ينفرون منَّا، أو يستاؤون. ولكن، حتَّى لو انزعجوا الآن، فإنَّ ذلك قد يُريحهم غداً، والمثل يقول: "من بكَّاك بكى عليك، ومن أضحكك ضحك عليك".
بعض النَّاس قد يستاؤون منَّا الآن إذا تكلَّمنا معهم ووجّهناهم إلى ما فيه خيرهم، ولكن عندما يرون نتائج الهداية، سيعودون ويقولون: جزاكم الله خيراً. فالّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيراً.
فكما نحن مسؤولون عن أنفسنا، نحن أيضاً مسؤولون عن غيرنا بأن نريحهم في الحياة، ومسؤولون عن هداية النَّاس، وكما نفكّر في الدنيا، وبما ينفعنا ويضرّنا فيها، علينا أن نفكّر في الآخرة أيضاً، وأن نفكّر ما هو رصيدنا هناك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ - ما الرَّصيد الَّذي هيّأناه للآخرة - وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18 - 19]، فالَّذي ينسى الله ينسى نفسه، وينسى أن يستعدَّ للقاء الله يوم القيامة.
لذلك، علينا أن نحسب دائماً حساب الله ورضاه، كما نحسب حساب النَّاس ورضاهم، وكما نحسب حساب رضا أزواجنا وزوجاتنا وآبائنا وأولادنا، لأنَّ رضا الله هو الَّذي يبقى. نعم، يمكننا أن نرضي الآخرين بالخير، ولكنَّ رضا الله هو المهمّ، لأنَّ الله إذا رضي علينا، ربحنا سعادة الدّنيا والآخرة، وإذا لم يرض عنَّا، خسرنا الدّنيا والآخرة.
هذا ما يجب أن نعظ به أنفسنا، وأن نراقب رصيدنا عند الله، والله يقول: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزّمّل: 20].
الوقايةُ من نارِ الآخرة
وفي آية أخرى، يبيّن الله أنّه كما نريد أن نحمي أنفسنا وأولادنا من نار الدّنيا، علينا أن نحمي أنفسنا وأولادنا من نار الآخرة. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التّحريم: 6].
فإذا كانت العائلة يحبّ بعضها بعضاً، وتحبّ أن يبقى بعضها مع بعض، فعليها أن تعمل ليكون كلّ أفرادها صالحين، يقول تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرّعد: 23 - 24].
فالصَّالحون من الآباء والأبناء والأزواج يدخلون الجنَّة معاً. أمَّا إذا كان الأب، مثلاً، مؤمناً، والولد كافراً، فيكون لكلّ منهما عاقبته {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: 45 - 46].
والله يتحدَّث عن الصَّداقات، وعن الصَّداقة الّتي تتحوَّل إلى عداوة، والصّداقة الّتي تبقى. يقول تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزّخرف: 67]، فالصَّداقة في الدّنيا، إذا لم تكن في خطّ الإيمان والتّقوى، تتحوَّل إلى عداوة في الآخرة، بحيث يتبرّأ كلّ طرف من الآخر، ويلقي عليه اللَّوم ويحمّله المسؤوليّة يوم الحساب. أمَّا الصّداقة القائمة على التَّقوى، وعلى حبّ الله وطاعته، وعلى الإخلاص والخير، فإنّها تبقى إلى يوم القيامة، حيث يجتمع الأصدقاء {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر: 47].
وهذه صورة جميلة ولطيفة، بينما الصّورة الأخرى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}[الأعراف: 38]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: 166 - 176].
فأيَّ صورة أجمل؛ صورة أهل الجنَّة، أم صورة أهل النَّار؟ ونحن سنصل إلى ذلك اليوم، فإمَّا إلى الجنّة، وإمَّا إلى النّار، والله يقول: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].
وما يحدّد لنا طريق الجنَّة أو طريق النَّار هو المسؤوليَّة، فإذا عرفنا مسؤوليَّاتنا عن أنفسنا، وعن النَّاس من حولنا، وعن الحياة من حولنا، وكنَّا في موقع المسؤوليَّة، فسنصل إلى الله سبحانه وتعالى، ونقف بين يديه مرفوعي الرأس، أمَّا إذا لم نقم بمسؤوليَّتنا، فسنقف بين يديه وقفة الإنسان الخاطئ {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111].
المسؤوليّةُ في القضايا العامَّة
وكما تحدَّثنا عن ضرورة تحمّل المسؤوليَّة في القضايا الشخصيَّة، فإنّ هناك قضايا خطرة أيضاً، وهي القضايا العامّة.
فعندما نعيش في مجتمع من المجتمعات، ويكون هناك وضع سياسيّ في المجتمع، ووضع أمنيّ واقتصاديّ، ويكون هناك فئات من النّاس يحاولون أن يعقّدوا حياة النَّاس الضّعفاء والمستضعفين، وأن يجعلوا من الحكم غنيمة لهم، وتجارة يتّجرون بها على حساب آلام الفقراء والمحرومين والمنكوبين، ويكون هناك من يعارض هذا الظّلم والفساد، فهنا أيضاً على الإنسان عندما يريد أن يتَّخذ موقعاً سياسيّاً أو موقعاً اجتماعيّاً، وعندما يريد أن يؤيّد أو يرفض، أن لا يفكّر هل يرتاح فلان أو يستاء إذا أيّدت فلاناً أو لم أؤيّده، أن لا يفكّر في أحد، حتّى لو كان أباه أو أمَّه أو أخاه أو زوجه، بل أن يفكّر في رضا الله، وما مصلحة الأمَّة في ذلك. فالإنسان الَّذي سأعطيه صوتي، أو الَّذي أشارك في المهرجان الّذي يقيمه، هل سيكون نافعاً للأمَّة، والجهة الَّتي أريد أن أدعمها، هل هي الجهة الّتي يمكن أن تحقّق للأمَّة مصالحها، وأن تدافع عن حريَّة الأمَّة وعن عدالة الواقع، أم أنَّها تتحرَّك مع المستكبرين والظَّالمين، ومع الخائنين والمنحرفين؟ وهذا ليس فقط في الانتخابات السياسيَّة، بل حتَّى في انتخابات الجمعيَّات والبلديَّات وغيرها، ولا سيّما أنَّ صوتك سيساهم في أن يجعل شخصاً رئيس جمعيَّة أو رئيس حزب أو وزيراً.
فعندما يريد الإنسان أن يتَّخذ موقفاً، وعندما يدافع أو يعارض، فعليه أن يفكّر هل هذا الموقف الَّذي أقفه الآن صحيح؟ ما مسؤوليَّتي تجاه أمَّتي ووطني وشعبي، فالإنسان الَّذي سأعطيه ثقتي، سيسألني الله غداً على أيّ أساس أعطيته الثّقة، وإذا نجح بصوتي، فأنا أشاركه في كلّ ظلمه، إذا ظلم، بحيث يدخل ظلمه في أعمالي.
فلا تقل العائلة تؤيّد فلاناً أو تعارض فلاناً، لأنَّ العائلة لن تحاسَب عنك، وستحاسَب غداً كفرد عن هذا الصَّوت. لذا عليك أن تدرس وتسأل وتفتّش عن القضيَّة من جميع الجهات، حتّى يصبح عندك وعي بطبيعة النَّتائج الَّتي ستحصل من خلال قرارك وموقفك.. فالقضايا الدّينيَّة تتداخل مع القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة، وكلّ له حساب، وعندما يأتي وقت الحساب، فلن تكون العائلة معنا، ولا أهل الضّيعة، ولا أهل المحلَّة، بل سيكون كلّ منَّا فرداً يحاسب على أعماله {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65].
فعلى الإنسان أن يتحسَّس وعي المسؤوليَّة في عقله وقلبه وروحه، وأن يتحرَّك على أساس أنَّ أيّ كلمة يقولها، أو أيّ عمل يقوم به، سيسأله الله عنه.. فكلّ ما نستطيع غداً أن ندافع عنه أمام الله يمكن لنا أن نقوم به، وكلّ ما لا نستطيع أن ندافع عنه أمام الله فلنتركه ونبتعد عنه، كي نوفّر على أنفسنا ذلّ الوقوف غداً أمام الخلائق بين يدي الله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النَّحل: 111]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19]، {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17].
***
أسئلة الخطبة
قرآنيَّات
س: ورد في القرآن الكريم في سورة يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]. فهل إنَّ النَّبيّ يوسف كان قد بادر للتّجاوب في هذا العمل أم لا؟
ج: ليس من الضّروريّ أن يكون همّه كهمّها، فهناك رواية تقول بأنَّ معنى "ولقد همَّت به وهمّ بها"، أي همَّ بضربها، ليدفعها عن نفسه. وهناك رأي يقول بأنَّ "همَّ بها" ليس معناه أنَّه فكَّر في المعصية - لا سمح الله – ولكن بمعنى أنَّه انجذب إليها كما ينجذب الإنسان الجائع إلى رائحة الطّعام بشكل لا شعوريّ، ولكن ليس معنى ذلك أن يتناول هذا الطَّعام.
وعلى كلا الحالين، فإنَّ يوسف لم يفكّر في المعصية، لا على أساس التَّفسير الأوَّل، ولا على أساس التّفسير الثّاني، لأنَّ معنى همّ بها، في التّفسير الأوّل، أي همَّ بدفعها عن نفسه أو ضربها، أو أنّه، وفقاً للتّفسير الثّاني، انجذب إليها دون أن يكون ذلك اختياريّاً له، ولكن عندما عاش إيمانه امتنع عن ذلك.
س: ما تعريف التَّقوى؟
ج: أن يتَّقي الإنسان الله ويراقبه ويحسب حسابه، وقد ورد في بعض الأحاديث: "أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك".
فالتَّقيّ هو الإنسان الَّذي يكون في كلّ موقع يريد الله له أن يكون فيه، وأن لا يكون في أيّ موقع لا يريد الله له أن يكون فيه.
في الصَّلاة والغسل
س: والدتي لا تستطيع السّجود وقت الصَّلاة بسبب إصابة في وركها، وأحياناً ترفع السَّجدة إلى رأسها حين السّجود بدل أن تسجد على مسند. ما حكم صلاتها في هذه الحالة؟ وهل يجب عليها إعادة الصَّلاة في حال جهلها بالحكم الشَّرعيّ؟
ج: إذا كانت قادرة على أن تسجد على مسند، فيجب عليها ذلك، وعلى هذا الأساس، فلا بدَّ لها من إعادة الصَّلاة الَّتي صلَّتها بتلك الطَّريقة.
س: سمعت عن بعض النَّاس بأنَّهم يصلّون ركعتين بعد صلاة الصّبح بعنوان صلاة الوحشة لنفس المصلّي، فهل يمكن للإنسان أن يصلّي عن نفسه صلاة الوحشة؟
ج: صلاة الوحشة تصلَّى عادةً ليلة الدَّفن، أمَّا أن يصلّيها الإنسان وهو حيّ عن نفسه، فهذا ليس وارداً.
س: أنا امرأة متزوّجة منذ عشرين عاماً، وقد عدلت عن بلد أهلي، وأتردَّد من فترة إلى أخرى لزيارتهم. فهل أستطيع العودة عن عدولي، وأتَّخذ بلدهم بلداً لي، مع العلم أنَّ أبي أعطاني قطعة أرض، ولكنّي لا أنوي أن أبني بيتاً هناك؟
ج: على تقليد السيّد الخوئي، وعلى رأي كلّ العلماء، ما دامت الأخت أعرضت عن بلد أهلها، واستقرَّت في بلد زوجها، وحتَّى لو كانت تملك قطعة أرض في بلد أهلها، ولا تريد أن تبني عليها، فإنّها تصلّي قصراً دائماً في بلد أهلها، لأنَّ الإنسان إذا أعرض عن وطنه - ومعنى أعرض عنه أنّه لم يعد يفكّر أن يسكن فيه - فإنَّه يخرج عن كونه وطناً له، فتصلّي قصراً.
س: ما الحكم في صلاتي الظّهر والعصر بالنّسبة إلى الإخفات أو الجهر، وهل يختلف الأمر بين المرأة والرَّجل؟
ج: لا يجوز الجهر في صلاتي الظّهر والعصر، للمرأة والرَّجل.
س: هل تسقط الأغسال الَّتي ثبت استحبابها، كغسل الجمعة، عن الفتاة الَّتي في العادة الشَّهريَّة؟
ج: يمكن للفتاة أن تغتسل غسل الجمعة حتّى وهي في العادة الشَّهريَّة، فتحصل على ثواب الغسل.
س: هل يجب على المخطوبة أن تغتسل غسل الجنابة أثناء المداعبة، إذا حصل الدّخول، وما زالت عذراء؟
ج: إذا لم تتحقَّق العلاقة الكاملة، فلا يجب، على رأينا، غسل الجنابة عليها، ولكن على رأي علماء آخرين، إذا كانت تعتقد أنَّه يخرج منها ماء كما من الرَّجل، وهذا ما يقول الأطبَّاء إنّه ليس حقيقيّاً، فالجنابة إنّما تنطلق مع خروج الماء عند انتهاء العلاقة، فإذا لم يكن هناك ماء لا للرَّجل ولا للمرأة، ولم يكن هناك دخول، فلا جنابة ولا غسل.
في الصّوم والحجّ
س: إقامتي في صور وعملي في بيروت، أثناء توجّهي من صور إلى بيروت، رفع أذان الظّهر في صيدا، وبقيت ممسكاً عن المفطرات، فهل إنَّ صيامي قائم أم عليَّ إعادة هذا اليوم؟
ج: إذا كان سفر الإنسان دائماً متكرّراً من صور إلى بيروت، فإنَّه يبقى صائماً في الطَّريق، ويبقى صائماً عند الوصول إلى عمله، على حسب تقليد السيّد الخوئي.
س: أخت نذرت أن تصوم أسبوعاً، ولم تحدّد إذا كان الصّيام متتالياً أو متقطّعاً، فهل تصومه متتالياً، أم يحقّ لها أن تصومه متقطّعاً؟
ج: إذ لم تنو أن تصوم دفعة واحدة، فهي حرَّة في هذا الموضوع. أمَّا إذا كان في ذهنها أن تصوم سبعة أيَّام متتالية، فلا يجوز أن تصوم بشكل متقطّع.
س: شخص يعمل مدرّساً منذ 17 عاماً، ومنذ مدَّة عشر سنوات، بدأ بعمل إضافيّ، وهو التّجارة، نظراً إلى وضع الحياة الصَّعب. وخلال شهر رمضان، يسافر لعدَّة أيَّام في الأسبوع من أجل التّجارة، وهذا السَّفر يكون أحياناً قبل الظّهر وأحياناً بعده. ما الحكم الشّرعيّ بالنّسبة إلى الصَّلاة والصّيام؟
ج: إذا كان السَّفر فقط في شهر رمضان، فعليه أن يفطر إذا سافر قبل الظّهر، ويبقى صائماً إذا سافر بعد الزّوال، ويقصّر في الصَّلاة. أمَّا إذا كان في كلّ شهر يسافر مقدار عشرة أيَّام، مثلاً، في الشّهر كلّه، وكان هذا عمله في السَّفر، فيتمّ في صلاته وصيامه.
س: ولدي مخطوف منذ 11 سنة، ولا أدري إذا كان حيّاً أو ميتاً، وفي نيَّتي أن أحجَّ عنه هذه السَّنة بإذن الله، علماً أني أدَّيت الحجَّ الواجب عليّ، وهو لم يؤدّ أيّ حجّ، فهل يجوز الحجّ عنه؟
ج: يجوز الحجّ عنه استحباباً وليس حجّ الإسلام، سواء كان حيّاً أو ميتاً.
س: أنا امرأة مطلَّقة، بعث لي ابني مالاً حتّى أحجّ به، فهل يتوجَّب عليَّ أن أخمّس هذا المال، وأيضاً عندي هدايا من الأهل والأصدقاء، فهل يجب عليّ تخميسها؟
ج: الهدايا على فتوى السيّد الخوئي، وعلى رأينا، إذا لم تستعملها طيلة السنة، فيجب تخميسها، أمَّا المال الَّذي أعطاها إيّاه ابنها، فإذا كان أعطاها من أرباح السَّنة فلا خمس عليه، أمَّا إذا بعثه من مال مجمَّد عنده، فمن الواجب أن يخمّسه ثمّ يعطيها إيّاه.
في المرجعيّة والتَّقليد
س: تجري مناقشات حول مسألة نشر رسالتكم، ويدور الجدل حول بعض الاستفتاءات الَّتي وردت من استنباط شخصكم الكريم، ولا سيَّما أنَّ رسالتكم، حسب ما يزعمون، لم يطّلع عليها مجلس الخبراء في قمّ، ومن الطّبيعيّ أن يطَّلع هذا المجلس على كلّ رسالة، فهل هذا صحيح؟
ج: من قال إنَّ مجلس الخبراء في قمّ هو الّذي يرجع إليه في كلّ الأمور، فهم علماء مثل بقيَّة العلماء الآخرين، وفيهم أصدقاء لنا. فإذاً هذا ليس صحيحاً، فهناك من يعتمد على علماء في قمّ، وهناك من يعتمد على علماء في النَّجف، أو غيرهما، فأهل الخبرة ليسوا محصورين فقط في قمّ، ونحن كنّا من أهل الخبرة، وكنّا نقول للنّاس قلّدوا فلاناً أو فلاناً.
ثمّ إنّ الطّبعة الثَّالثة من رسالتي (المسائل الفقهيَّة) طبعت في قمّ، وقد وضعت في مكتب السيّد الخامنئي، وعرضت على المكتب، وأجاز طبعها، لأنّه لا يحقّ هناك أن تطبع رسالة دون أن تعرض على السيّد الخامنئي، وهي توزَّع الآن في قمّ، ولنا مقلّدون هناك كما لنا مقلّدون في العراق ولبنان.
فمسألة أنّه لم يطّلع أحد عليها ليس صحيحاً، فالرّسالة الآن موجودة، حتَّى إنَّ بعض أصدقائنا من العلماء يقول إنّه دخل على السيّد الخامنئي ورأى الرّسالة أمامه، فهي موجودة في قمّ وتوزَّع وتباع.
س: نرجو أن توجّهوا بعض الكلمات إلى الأخوات اللّواتي ينتقدن فتاواكم انتقاداً شديداً ويعلّقن عليها.
ج: أنا أسأل كلّ هؤلاء الإخوة والأخوات الّذين ينتقدون الفتوى: هل هم علماء؟ ما اختصاصهم؟ والأخوات هل هنَّ مجتهدات؟ فعندما ينتقد الإنسان شيئاً ليس من اختصاصه، ولا معرفة له فيه، يصبح الأمر حرتقة، ودليلاً على التّخلّف. الآن لو أنَّ طبيباً وصف وصفة لمريض، فهل تنتقدونها؟
كثير من الشَّباب ينتقدون كيف يفتي السيّد بحليَّة لعب الورق، ولكنَّهم يلعبون الدَّاما والبرجيس والفليبر. ما الفرق بين هذا وذاك؟ أليس هناك من يفتي مرجعهم بأنَّ لعب الورق حرام، فيلعبون برجيس أو داما؟! أنا أفتيت بلعب الورق، وأقول دائماً ليس معنى ذلك أن يلعب الإنسان كلّ الوقت، والإمام الخميني أفتى بحليَّة الشَّطرنج، مع أنَّ أيّاً من علماء الشّيعة لم يفت قبل الإمام الخميني بحلّيّته، وأكثر السنّة لا يفتون بحليَّته، فلماذا لم ينتقد أحد؟! وها هي إيران تدخل في مسابقات عالميَّة بالشّطرنج، وإذا قرأتم الصّحف اليوم، فإيران عندها مؤتمر موسيقيّ، وتدخل مسابقات عالميَّة في الموسيقى، فلماذا يتكلَّمون هنا وينتقدون ولا ينتقدون هناك؟
أنا أقول إنّني مستعدّ أن أناقش أيَّ عالم من العلماء، وأقول إنَّ كلّ ما أفتي به، هناك من العلماء من يفتي به، ولكنّكم لا تعرفونهم.
لكنَّ المشكلة الَّتي تحدث حاليّاً عند المؤمنين والمؤمنات، أنّنا صرنا مجتمع الحرطقة، ومجتمعاً لا يخاف الله. أنا لست معصوماً، ولكن يا جماعة، أنا معكم منذ ما يقارب الثَّلاثين عاماً، فلا يصحّ أن ينشغل الشَّباب والفتيات بالغيبة والحرطقة. أنا لا يضرّني هذا الشّيء، لكن "الله الله في دينكم وتقواكم".
بالنّسبة إليّ أقول سامح الله كلَّ النّاس، ولكن هذا ليس من مصلحة الحالة الإسلاميَّة ولا من مصلحة دينكم، لأنَّ القضيَّة أنّه لم يعد أحد يفكّر في أنَّ هذا حلال أو حرام، على حسب الحزبيَّة والحرتقة، وأنا أقول إنَّ من يتحدَّث ويستغيب، فليقف غداً بين يدي الله ويدافع عن نفسه.
الآن، يحاول الأمريكيّون، وكذلك إسرائيل، أن يضربوا الخطَّ الإسلاميّ، ونحن مشغول بعضنا ببعض، ونحكي على رموزنا. وأنا أقول إنَّ هذه خطَّة مخابراتيَّة، لأنَّ المخابرات لم تستطع أن تنفذ إلى الحالة الإسلاميَّة والجوّ الإسلاميّ إلَّا بإشغال النَّاس بعضهم ببعض، وأن تجعلهم يشتمون رموزهم، بدلاً من شتم إسرائيل وأمريكا. فكلّ من يتحدَّث بهذا، اتّهموه بأنَّه من حيث يشعر أو لا يشعر، يخدم عمل المخابرات...
وأنا قلت لكم إنّي مستعدّ لأجيب عن أيّ سؤال أو استفسار، والشَّخص الَّذي عنده شبهة، يمكنه أن يأتي إلى البيت أو المسجد ليسأل ما يريد، أمَّا الشَّخص الَّذي يتحدَّث كيفما كان، فذلك يعني أنَّ عنده عقدة نفسيَّة، والله يعلم من يدخل فيه من المخابرات ليشوّه الحالة الإسلاميّة ويسيء إليها.
أنا عندما أنزعج من ذلك فليس من أجل نفسي، ولكن أتألَّم على الحالة الإسلاميَّة، أنَّ المؤمنين والمؤمنات، الطَّاهرين والطَّاهرات، يشوّهون لهم إيمانهم، ويورّطونهم في قضيَّة العصبيَّات الحزبيَّة والشَّخصيَّة وما إلى ذلك.
س: أخت تطلب المسامحة منكم.
ج: سامحها الله، وسامح كلَّ النَّاس الآخرين. ولكن نحن نقول إنَّ على الإنسان أن يتَّقي الله سبحانه وتعالى في كلامه، ليس بالنّسبة إليَّ بشكل خاصّ، بل بالنّسبة إلى كلّ النَّاس، لأنَّ مجتمعنا أصبح مجتمع الحرتقات وعدم التَّقوى.
لذلك، على الإنسان عندما يريد أن يتحدَّث أيّ كلمة عن شخص، أن يفكّر لو سأله الله سبحانه وتعالى غداً على أيّ أساس استغبته وتحدّثت عنه، فإذا كان عنده جواب فليتحدَّث، وإذا لم يكن لديه جواب فليسكت {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].
وقد ورد أنَّ الفرق بين المنافق والمؤمن، أنَّ المنافق يسيء ويعتذر، والمؤمن لا يسيء ولا يعتذر، أي لا يتعمَّد الإساءة.
قضايا اجتماعيَّة
س: ابنتي متزوّجة من ابن أخي منذ أكثر من ستّ سنوات، ولا أراها منذ وقت طويل، لأنَّ زوجها يمنعها من ذلك، وحاولت عدَّة مرات ولم يقبل، وقبل أن أذهب إلى الحجّ، أرسلت إليهم لأتسامح منهم، فلم يقبل زوجها، حتّى إنّها عندما تراني في الشَّارع، تمتنع عن التحدّث معي، مع العلم أنَّ أساس المشكلة سخيف وبسيط ولا يحتاج إلى كلّ ذلك، حتّى إنَّه يمنعها من التّحدّث مع إخوتها، ونحاول أن نصلح الأمور فيما بيننا، ولكنَّهم يرفضون. فما حكم الشَّرع في ذلك؟
ج: الإنسان الَّذي يحاول أن يمنع زوجته من أهلها وأرحامها، هو إنسانٌ لا يتحسَّس مسؤوليَّة الإيمان في نفسه. ونحن نسأله: ماذا لو كانت أخته متزوّجة ومنعها زوجها من رؤيته، هل يقبل بذلك؟ فالمؤمن هو من يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وعليه أن لا يعتبر أنَّ من حقّه أن يمنع زوجته من رؤية أهلها، فمن علامة الإيمان أن يكون إنسانيّاً، وأن يتحسَّس مشاعر الآخرين وآلامهم.
س: في مجتمعنا، تنتشر ظاهرة إقامة "الموالد"، الَّتي تُعدّ بالنّسبة إلى بعض الفتيات المتديّنات وسيلةً للتَّنفيس عن الكبت النَّاتج من بعض الأجواء. وغالباً ما تهتمّ الفتاة باختيار ملابس خاصَّة بهذه المناسبات، وقد تخرج أحيانًا عن إطار الحشمة. فهل تجوز إقامة هذه الموالد شرعاً؟ وهل الرَّقص فيها جائز؟ وهل يُفرّق في الحكم بين مناسبة دينيَّة كمولد أحد الأئمَّة، أو حفلة زفاف، أو عيد ميلاد شخصيّ؟
ج: إذا كانت الموالد تقام بشكل شرعيّ، بحيث تكون الأناشيد شرعيَّة والموسيقى شرعيَّة، فلا مشكلة في ذلك، لأنَّ الله لم يحرّم علينا الفرح، وإنّما حرّم علينا فرحاً معيّناً.
ونحن قلنا مراراً إنَّ المواليد أن تكون استحضاراً لصورة النَّبيّ (ص) والأئمّة (ع)، فلا تكون كلّها طبلاً ورقصاً..
وفي قضيَّة الرَّقص، هناك رأيان، هناك رأي للسيّد الخميني والسيّد الكلبيكاني وجماعة غيرهما، أنَّ الرَّقص محرَّم، سواء للمرأة أو الرَّجل. وهناك رأي آخر للسيّد الخوئي (ره)، وهذا أيضاً ما نرتئيه، أنَّ الرَّقص إذا لم يكن خليعاً، فليس محرَّماً، كما في الدّبكة إذا لم يكن هناك اختلاط، وكما في رقص المرأة لزوجها، والرَّقص في داخل المجتمعات النّسائيَّة، بشرط أن لا يكون خليعاً ومثيراً.. فكلّ إنسان يتبع تقليده في هذا المجال.
أمَّا قضيَّة أنَّ بعض الفتيات يلبسن لباساً غير محتشم، فبالنّسبة إلى المجتمع غير المختلط، فلا مشكلة، طالما أنّهنّ في مجتمع نسائيّ ولا يدخل عليهنَّ رجال. فما حلّله الله، ليس بالضَّرورة أن نعقّد الأمور حوله.
س: تعرَّفت إلى إحدى الفتيات الَّتي شرحت لي وضعها المادّيّ المتردّيّ، وأبدت رغبتها بارتداء الحجاب واللّباس الشَّرعيّ، وشعرت بالمسؤوليَّة تجاهها، فأهديتها ثوباً شرعيّاً، ومضت فترة أربعة أشهر ولم تتحجَّب، فهل يجوز لي أن أطالبها بالثَّوب؟
ج: إذا كانت الأخت تأمل أنَّ من أهدتها الثَّوب يمكن أن تتحجَّب في المستقبل، وأنّها قد تكون الآن تهيّئ الأجواء كي تقنع أهلها بذلك، أو حتّى تقوّي إرادتها وما إلى ذلك، فلتترك الثَّوب عندها، وأمَّا إذا عرفت بأنَّها لا تنوي كليّةً أن تتحجَّب، فلها الحقّ في استرجاع الثَّوب.
س: أنا أرملة، وعندي صبيان وبنات. الصّبيان أحوالهم الماديّة غير جيّدة، وهم متزوّجون ولا يسألون عنّي، والبنات متزوّجات وأحوالهنَّ جيّدة، أمَّا أنا، فأحوالي الماديَّة تعتبر عاطلة، فهل يجوز لي أن آخذ الفطرة من بناتي؟
ج: إذا لم تكن الأمّ قادرة، فيجب على أولادها من الذكور والإناث، الإنفاق عليها، كما يجب الانفاق على أولادهم، فكما يجب على الأب أن ينفق على الأولاد، أيضاً يجب على الأولاد أن ينفقوا على الأب والأمّ إذا كانا محتاجين. ولذلك لا يجوز لها أن تأخذ الفطرة في هذا المقام، بل يجب عليهم أن يدفعوا نفقتها ومصروفها، إذا لم تكن قادرة على إعالة نفسها بنفسها.
* خطبة يوم الجمعة (الجماعة) للنساء، بتاريخ: 01/03/1996 م.