مسؤوليَّة الانتماء إلى الدّين والاستقامة في خطّ الإيمان

مسؤوليَّة الانتماء إلى الدّين والاستقامة في خطّ الإيمان

يقول تعالى سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}[النساء: 123 - 126].
الانتماء وحده لا يكفي
يريد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات، أن يربط النَّاس بالخطّ الَّذي يمكن أن يقرّبهم إليه أو يبعّدهم عنه، فهناك في ذهن الكثيرين من النَّاس، سواء كانوا من المسلمين أو من أهل الكتاب، أنَّ مجرَّد الانتماء إلى الدّين؛ أن تكون يهوديّاً في زمن موسى (ع)، أو نصرانيّاً في زمن عيسى (ع)، أو مسلماً في حركة الإسلام في مدى الزَّمن، يكفي لتكون قريباً إلى الله؛ أن يدخلك الله الجنَّة، وأن يضمَّك إلى رضوانه ورحمته، حتَّى لو ارتكبت كلَّ الجرائم، وقمت بكلّ السَّيّئات، وتركت كلَّ الواجبات.
إنَّ هناك مِنَ النَّاس مَنْ يفكّر بهذه الطَّريقة، أنَّ الانتماء وحده هو الَّذي يمكن أن يحصل الإنسان من خلاله على النَّجاة. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للإنسان، إنَّ مسألة أن تنتمي إلى رسالة الله وإلى دينه، هي مسألة تفرض عليك أن تلتزم بالرّسالة كلّها، وبالدّين كلّه، ليكون التزامك عقليّاً في حركة العقيدة في العقل، وعاطفيّاً في نبضة القلب بالعاطفة، وحركيّاً في كلّ ما تتحرَّك به أعضاؤك، وتنطلق به خطواتك في الحياة.
الدّين ليس كلمةً وليس مجرَّد فكرة؛ إنَّه يمثّل منهج الحياة الَّذي تنفتح فيه على الله، ليكون انفتاحك عليه وسيلةً للانفتاح على الإنسان كلّه، وعلى الحياة كلّها. ومن هنا، فإنَّ الإيمان وحده لا يكفي في إخلاصك، حتَّى لو كنت من أعمق النَّاس في فكر الإيمان، ولكن لا بدَّ من العمل الصَّالح الَّذي يتمثَّل بالاستقامة العمليَّة في خطّ الإيمان.
ولذلك اختصر الله سبحانه وتعالى خطَّ النَّجاة في كلمتين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصّلت: 30]، أن تتحرَّك من خلال خطّ التَّوحيد، وأن تستقيم على هذا الخطّ، ليكون الله عندك كلَّ شيء؛ كلّ شيء في معنى العقل، ومعنى العاطفة، ومعنى الحركة، أن يكون الله كلّ همّك، في أن تطيعه وتراقبه ولا تعصيه، وأن تجعل حياتك صورة لوحيه وشريعته، لأنَّ ذلك هو الَّذي يجنّبك الخوف يوم القيامة، والحزن عند العرض عليه سبحانه.
ولذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: أيُّها المسلمون، أيُّها المؤمنون في أديان أهل الكتاب، لا تعيشوا حياتكم بالأماني والأحلام، ولكن عليكم أن تعيشوا الحياة من خلال حقائق الحياة، ومن خلال واقع الخطّ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ - الَّتي توحي إليكم بأنَّ مجرّد انتمائكم إلى الكتاب، أو إلى خطّ الإيمان من دون عمل، سوف يدخلكم الجنَّة - مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النّساء: 123].
فقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يلتزم الخير كلّه، وأن يجتنب الشّرّ كلّه، أن يلتزم ذلك في خطّ الفعل وفي خطّ التَّرك، وقال له إنَّك بمقدار ما تلتزم تكون قريباً إليّ، وبمقدار ما تفقد التزامك في الخطّ العمليّ، تكون بعيداً عنّي، وإذا وقفت غداً يوم القيامة، ومعك كلّ سيّئاتك الَّتي أسلفتها، وكلّ جرائمك الَّتي قمت بها، فإنَّك لن تجد أيَّ وليّ يرعاك في الآخرة كما تجد من يرعاك في الدّنيا، ولن تجد أيَّ نصير ممن كنت تنتصر به في الدّنيا لينصرك، لأنَّ هؤلاء الأولياء كانوا الأولياء من خلال النَّاس، أمَّا عندما يكون الله هو الَّذي يريد أن يجازيك، وهو الَّذي يريد أن يدخلك ناره، فأيّ وليّ من دون الله يمكن أن يلي أمرك، وأيّ نصير من دون الله يمكن أن ينصرك؟!
لذلك، ارتبط بالحقيقة، ولا ترتبط بالأمنيات، ولا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد، ولا تقل كما يقول المثل الشَّعبيّ: "ليوم الله يهوّن الله"، لأنَّ الله يهوّن الأمور من خلال حكمته، ومن خلال منهجه. صحيح أنَّه يغفر لمن يشاء، ولكن مَنْ قال لك إنَّك ستكون ممن يشاء الله أن يغفر له؟! "وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ". فللَّه حساب في رحمته من خلال حكمته، وله حساب في نقمته من خلال حكمته، فكيف تشعر بالأمن، وقد قدَّمت كلَّ ما يوحي بعدم الأمن فيما تستقبل من أمرك؟!
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فهناك الإيمان، وهناك العمل الصَّالح، فإذا فقدت الإيمان، فلا حساب للعمل الصَّالح عند الله، وإذا فقدت العمل الصَّالح، فإنَّ الإيمان لا يدخلك وحده الجنَّة، إلَّا من خلال إرادة الله - فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النّساء: 124]، لا يظلمون أيَّ شيء ممَّا يستحقّونه، حتَّى لو كان من أصغر الأشياء.
وحدة الشَّخصيَّة الإيمانيَّة
ثمَّ بعد الحديث عن التَّفاصيل، يركّز الله سبحانه وتعالى الحديث عن الخطّ الَّذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا – أحسن الدّين الَّذي يدين به الإنسان، والَّذي يمثّل عمق معناه في الارتباط بالله - مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ – وإسلام الوجه لله كناية عن أن تكون كلّ حياته له سبحانه، "فلا يقدّمُ رِجْلاً، ولا يؤخّرُ رِجْلاً، حتَّى يعلمَ أنَّ ذلك لله رضا أو سخط"، بحيث يكون حبُّه وبغضه منطلقين من الله، فلا يحبُّ إلّا مَنْ أحبَّه الله، ولا يبغض إلَّا مَن أبغضه، أن تكون عاطفته منطلقةً من خطّ إيمانه، فلا يكون هناك فاصل بين العاطفة والإيمان، كما في الَّذين يختزنون في داخل أنفسهم الإيمان بالله، ولكنَّهم يفتحون قلوبهم لأعدائه، وللمنحرفين عن خطّه، وللّذين يحاربونه، لأنَّهم يعتبرون أنَّ مسألة الحبّ شيء، ومسألة العقيدة شيء آخر.
أيُّها الأحبَّة، الإنسان واحد، لا يمكن أن يكون شخصيَّتين، بحيث تتحرَّك واحدةٌ في خطّ اليمين، وأخرى في خطّ اليسار، أو أن تنطلق شخصيَّته مع الإيمان في طريق، ومع الكفر في طريق، على طريقة ذلك الشَّاعر الَّذي يقول:
 في يدي مصحفٌ، وخمرٌ بأخرى      بينَ هذا وذاكَ طوراً فطورا 
 أكثرُ النَّاسِ لو تأمَّلْتَ في النَّا      سِ فهم يحملونَ ديناً وكُفرا
لا يمكن لك أن تكون كافر العاطفة ومؤمن العقل، أو أن تكون مؤمن الانتماء وكافر العمل، بل لا بدَّ لك أن تجمع نفسك في شخصيَّة واحدة، فإذا كنت مؤمناً، فلا بدَّ أن يكون عقلك مؤمناً، وقلبك مؤمناً، وحركتك مؤمنة، وأن تكون علاقتك في خطّ الإيمان. وهكذا، إذا كنت كافراً، فالمسألة نفسها.. كن شخصيَّة واحدة، لا تكن متعدّد الشَّخصيّات، لأنَّ الإنسان الَّذي يكون متعدّد الشَّخصيَّات هو إنسانٌ ضائعٌ، لا يستطيع أن يتحرَّك في خطّ الهدى في حياته.
وعلى هذا، فإذا أسلمت وجهك لله، فكيف يمكن أن تسلم وجهك لغيره؟! فأنت لك وجه واحد، فإمَّا أن تنفتح به على الله، وإمَّا أن تنفتح به على غيره، فإذا انفتحت به على الله، ووجهك هو ذاتك، وكلّ كيانك، فلا يمكن أن تنفتح به على غيره.. وعندما تقول في دعاء كميل: "فإليْكَ يا ربِّ نَصَبْتُ وَجْهِي"، فمعنى ذلك أنَّك انطلقت بكلّ كيانك وذاتك إلى الله سبحانه وتعالى.
- وَهُوَ مُحْسِنٌ - أسلم وجهه لله، وعاش الإحسان في حياته؛ إحسانه إلى ربّه من خلال طاعته له، وإحسانه إلى النَّاس من خلال القيام بمسؤوليَّته تجاههم، وإحسانه إلى الحياة من خلال القيام بمسؤوليَّته عن الحياة من حوله، وإحسانه إلى نفسه من خلال القيام بذلك كلّه.
- وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا - ملَّة إبراهيم السَّائرة في خطّ الاستقامة، وهي الحنيفيَّة، أي المائلة عن الانحراف، لأنَّ ملَّة إبراهيم هي الإسلام؛ إسلام الوجه والقلب واليد واللّسان لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 131 - 133]. هذه هي ملَّة إبراهيم {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162 - 163].
- وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النّساء: 125]، اتَّخذه الله سبحانه صديقاً، لأنَّه صدق معه، ولأنَّه أعطى كلَّ حياته له، ولأنَّه استعدَّ لينفّذ أمره في أن يذبح ولده، ولذلك كان الصَّادق مع الله سبحانه وتعالى، والله أعطاه صداقته، والله يعطي صداقته لكلّ من يصدق معه، ولكلّ من يسير في خطّه بكلّ إخلاص.
ثمَّ يقول الله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ - عليك أن تعرف أنَّ كلّ شيء من حولك، فوقك، تحتك، هو لله سبحانه وتعالى - وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}[النّساء: 126]، فإذا كنت تعرف أنَّ الله يحيط بك من كلّ جوانبك، فكيف تهرب منه، وأنت مهما هربت منه، فستهرب منه إليه.
الخطُّ الَّذي يرضاه الله
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الخطّ الَّذي يريدنا الله أن نسير عليه، وأن نتحرَّك فيه في كلّ أمورنا الخاصَّة والعامَّة؛ أن يكون الله هو النّور الَّذي نهتدي به في ظلمات الأزمات، تماماً كما هو النّور الَّذي نهتدي به في ظلمات البرّ والبحر، أن نتحرَّك في حياتنا، في كلّ موقف نقفه سلباً أو إيجاباً، وفي كلّ حركة نتحركها، حركة متقدّمة أو متراجعة، أن يكون الله هو كلَّ شيء في حساباتنا، بحيث نعمل على أن تكون حساباتنا في الحبّ والبغض، وفي الرَّفض والتَّأييد، هي حسابات الله، أن يكون أهلنا أهل الله، أن يكون أحبَّاؤنا هم أحبَّاء الله، كما ورد في بعض أحاديث أئمَّة أهل البيت (ع): "إذا أرَدْتَ أن تَعلَمَ أنَّ فيكَ خَيراً فَانظُر إلى قَلبِكَ؛ فَإِن كانَ يُحِبُّ أهلَ طاعَةِ اللّهِ ويُبغِضُ أهلَ مَعصِيَتِهِ، فَفيكَ خَيرٌ وَاللّهُ يُحِبُّكَ، وإن كانَ يُبغِضُ أهلَ طاعَةِ اللّهِ ويُحِبُّ أهلَ مَعصِيَتِهِ، فَلَيسَ فيكَ خَيرٌ وَاللّهُ يُبغِضُكَ، وَالمَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ".
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نحدّد أصدقاءنا وأعداءنا من خلال الخطّ الَّذي يرضاه الله هنا، والَّذي لا يرضاه هناك، أن لا تكون أهواؤنا هي الَّتي تحرّك مواقفنا، بل أن تكون مبادئنا هي الَّتي تحدّد لنا مواقعنا ومواقفنا، أن ننطلق في الحياة الاجتماعيَّة لنتحرَّك كمؤمنين بالله، سائرين على نهجه في أن نحفظ للمجتمع أمنه، وأن نحفظ له وحدته وتكامله وتوازنه، لا أن نتحرَّك في المجتمع على أساس عصبيَّاتنا وأهوائنا وحزبيَّاتنا وما إلى ذلك.
وهكذا عندما نريد أن نثير الموقف السياسيَّ في حياتنا، سواء كان هذا الموقف محلّيّاً أو إقليميّاً أو دوليّاً، إنَّ علينا عندما نريد أن نثير هذا الموقف لنتبنَّاه ولنتحرَّك فيه، على أيّ مستوى من مستويات الحركة، فإنَّ علينا أن ننظر ما هي مصلحة الإسلام في ذلك كلّه، وما هي مصلحة المسلمين في ذلك كلّه، وما هي مصلحة المستضعفين في الأرض الَّذين يريد الله لنا أن ننصرهم ونحميهم من كلّ ظلم، ما هي مسألة الحقّ والعدل، وما هي مسألة الظّلم والباطل في ذلك كلّه، حتَّى نُعذَر إلى الله في ذلك، بأنَّنا وقفنا مع الإسلام كلّه، ومع المسلمين كلّهم، ومع المستضعفين كلّهم، باعتبار أنَّ القضيَّة واحدة هنا وهناك.
لذلك، لا بدَّ أن تكون لنا عقلانيَّة الموقف الحركيّ الَّذي نتحرَّك به؛ أن لا ننطلق من خلال عاطفة هوجاء، ولا من خلال حالة غوغائيَّة، وأن لا يكون تحرّكنا في الحياة ردود الفعل، أن تكون الإنسانَ صاحب الفعل، لا أن تكون حياتك مجرَّدَ خضوع للصَّدمة الَّتي تأتيك من الآخر، كن أنت الَّذي تصنع الصَّدمة، والَّذي تصنع الفعل، كن أنت الَّذي تقف لتواجه ولتخطّط، ولتنطلق من خطَّتك، لا لتنطلق من خطط الآخرين فيما يخطّطون لك، ليكون ردّ فعلك سلباً أو إيجاباً من خلال الأجواء الَّتي تسيطر عليك.
خطّط لنفسك في بلدك، ماذا تريد فيه، كيف يكون بلدك حرّاً، وكيف تمارس حركة الحريَّة فيه، كيف يكون بلدك عادلاً، وكيف تمارس حركة العدالة فيه، لا تنتظر الآخرين ليخطّطوا لك لتقول هل هذا خطأ أم صواب، خطّط أنت، وهذا ما يريده الله سبحانه وتعالى للأمَّة كلّها في كلّ مواقعها، أن تكون علاقاتها بالآخرين من خلال ما تخطّط وما تفكّر.
هذا ما ينبغي لنا أن نواجه به كلَّ الواقع المحلّيّ والإقليميّ والدّوليّ، في كلّ القضايا الَّتي تتحدَّى وجودنا وتتحدَّى واقعنا.
خطّة الاستكبار العالميّ
لا نزال، أيُّها الأحبَّة، نعيش تحت تأثير الواقع الحادّ الوحشيّ الَّذي انطلق فيه المستكبرون من أجل أن يهزموا المستضعفين، ومن أجل أن يصادروا حريَّاتهم واستقلالهم، وليحوّلوهم إلى أن يكونوا مجرَّد هامش صغير للاستكبار الصّهيونيّ والأميركيّ، أو لأيّ استكبار آخر في العالم.. أن نكون هامشاً؛ أن يكون أمننا خاضعاً لأمن الآخرين، وأن يكون اقتصادنا خاضعاً لاقتصاد لآخرين، وأن تكون سياستنا خاضعةً لسياسة الآخرين، ليس مسموحاً لك أن تكون قويّاً، ولا أن تعمل من أجل أن تزعج كلَّ الخطط الَّتي يخطّطونها ليفرضوا كلَّ هيمنتهم وسيطرتهم على المنطقة.
هذه هي المسألة الَّتي تحرّك بها الاستكبار العالميّ منذ أن وطئت أقدامه العالمَ الإسلاميَّ مستعمراً؛ لم يكونوا يريدون للإسلام أن ينهض من جديد، ولا للعالم الإسلاميّ أن يكون قوّة فاعلة، ولا للمسلمين أن يستثمروا ثرواتهم ويبلغوا حالة الإنتاج. أرادونا دائماً مستهلكين، ولأجل ذلك زرعوا إسرائيل في قلب المنطقة، فجاءت كلّ الحروب العربيَّة – الإسرائيليَّة حروبًا استكباريّة دوليّة، تحرّك خيوط خططهم، وتستنزف دماءنا وأشلاءنا في ساحات الصّراع.
كانت القضيَّة هي هذه، وكانت المسألة دائماً أنَّ إسرائيل لا بدَّ أن تكون الدَّولة الأكثر تفوّقاً من حيث النَّوعيَّة، إذا لم تستطع أن تكون الأكثر من النَّاحية العدديَّة.
السياسة الأمريكيّة الثَّابتة!
هذه هي سياسة أمريكا الثَّابتة، وهي أنَّ أمن المنطقة يخضع لأمن إسرائيل، فإذا كانت إسرائيل آمنة، فيمكن لكم، أيُّها العرب، أن تكونوا آمنين، وأمَّا إذا لم تكن إسرائيل آمنة، فلا يمكن لكم أن تكونوا آمنين، سنسلّط عليكم كلَّ الآلة العسكريَّة الأمريكيَّة الَّتي تقدّمها أمريكا إلى إسرائيل، لتقتلكم، ولتدمّركم، حتَّى تعطوا بيدكم إعطاء الذَّليل، وحتَّى تقرّوا إقرار العبيد. هذه هي المعادلة الأمريكيَّة.
وعندما يتحدَّثون عن أمن إسرائيل، فإنَّ ذلك، في لغتهم، يعني أن تحصل إسرائيل على الحريَّة في أن تعتبر أيَّ موقع في المنطقة موقعاً يمسّ أمنها. فمن حقّ إسرائيل في السياسة الأمريكيَّة، أن تعمل على أساس أن تعتبر إيران، وهي البعيدة في حدودها، خطراً عليها، ولذلك فإنَّها تفكّر، بالتَّعاون مع أمريكا، أن لا تسمح لإيران بأن تملك الخبرة النَّوويَّة، حتَّى لو صرَّحت إيران أكثر من مرّة أنَّ خبرتها النَّوويَّة من أجل المشاريع السّلميَّة لا من أجل المشاريع العسكريَّة، ولذلك وضعت كلَّ مصانعها النَّوويَّة تحت إشراف اللّجنة الدَّوليَّة، ولكنَّ أمريكا تريد أن تثير المسألة دائماً في هذا الاتجاه.
لذلك، لا بدَّ أن نبقى في وعي سياسيّ منفتح على كلّ قضايانا في المسألة الأمريكيَّة.
مجزرة قانا: نتائج التَّحقيق
إنَّنا نحاول أن نثير عدَّة نقاط أمام هذه المسألة. فنحن نجد أنَّ هناك جدلاً لا يزال يعيش الآن، حول ما أصدره الأمين العام للأمم المتَّحدة من نتائج التَّحقيق لمجزرة قانا الَّتي أثبتت من خلال الوقائع، أنَّ هذه المجزرة لم تكن خطأً فنّيّاً ولا خطأً عسكريّاً، بل كانت عملاً متعمّداً في قصف مواقع الأمم المتَّحدة وفي قصف المدنيّين، بحيث كانت الخطَّة أن تحرق أكبر عدد منهم من خلال طبيعة القنابل المتفجّرة الَّتي كانت تملك القدرة على الإحراق، بما لا يستعمل لمجرّد مواجهة هدف عسكريّ.
وأصدرت الأمم المتَّحدة هذا التَّقرير، وحاولت أمريكا بكلّ ما عندها من قوَّة أن تثني الأمين العامَّ للأمم المتَّحدة عن إصدار هذا التَّقرير، وهدَّدت إسرائيلُ، ولا تزال تهدّد، بأنَّها سوف تربكُ قوَّات الأمم المتَّحدة في لبنان، من باب معاقبة الأمم المتّحدة لأنَّها فضحت إسرائيل أمام العالم. وهكذا رأينا أنَّ الأمين العام للأمم المتَّحدة هُدّد أيضاً بأنَّه لن يجدَّد له لولاية ثانية..
وبالرّغم من كلّ الوقائع الَّتي ذكرها هذا التَّقرير المنطلق من دقَّة في التَّحقيق العسكريّ، فقد تدخَّلت أمريكا، وتدخَّل الرَّئيس الأمريكيّ بالذَّات، ليقول إنَّ ما حدث كان نتيجة خطأ، وإنَّ إسرائيل في مقام الدّفاع عن النَّفس، وإنَّ الحقّ في ذلك على حزب الله لا على إسرائيل، وإنَّ هذه الأخطاء تحدث عادةً في الحروب، ولذلك علينا أن نعذر إسرائيل في ذلك، لأنَّها تأسف على قتل المدنيّين، والقضيَّة قضيَّة خطأ!
الضّغط على لبنان
لقد تحدَّث الرَّئيس الأمريكيّ بهذه الطَّريقة، وكذلك مندوبة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وقد قرأنا أنَّ الرَّئيس الأمريكيَّ اتَّصل برئيس وزراء لبنان، ونحن نتصوَّر أنَّ الاتّصال كان من أجل الضّغط على لبنان حتّى لا يقدّم شكوى إلى مجلس الأمن لإدانة إسرائيل، لأنَّه سوف يجبر أمريكا على استخدام الفيتو ضدّ هذا القرار، وربما كان استخدام الفيتو يضرّ بسمعة أمريكا في العالم العربيّ.
ولذلك، فإنَّنا نتصوَّر أنَّ سحب لبنان طلبه إلى مجلس الأمن، لم ينطلق من خوف لبنان أن لا يصدر هناك قرار في حجم التَّقرير، ولكن من جهة تمنّي الرَّئيس الأمريكيّ الَّذي وعد اللّبنانيّين بالمنّ والسَّلوى، وأنَّ أمريكا سوف تؤكّد وقف إطلاق النَّار، وستشارك في إعمار لبنان، في إعمار ما دمرّته الآلة العسكريّة الأمريكيّة.. ولكنّهم إذا شاركوا في إعمار لبنان، فما هي الوسائل للمشاركة في إعمار الإنسان؟ من يستطيع أن يعمّر الأطفال الَّذين قُتِلوا، والنّساء اللَّاتي أُحرِقْن، والشَّباب والشيوخ الَّذين قضوا؟ كيف يمكن لأمريكا أن تعمّر هؤلاء وأن تعيدهم إلى الحياة؟!
إنَّنا لا نعتقد أنَّ الجريمة كانت فقط أنَّهم دمَّروا بيوتاً، وأنَّهم دمَّروا بساتين أو دمّروا شوارع، ولكنَّ القضيَّة أنَّهم دمَّروا الإنسان؛ قتلوا الأطفال الرُّضَّع، وقتلوا النّساء والشّيوخ والمدنيّين العزَّل الأبرياء، ثمَّ جاؤوا يرقصون على أشلائهم.
إنَّنا عندما ندرس هذا الإصرار الأمريكيّ على منع إدانة إسرائيل، بالرّغم من أنّ كلَّ حيثيَّات الإدانة مبسوطة أمام العالم، فإنَّنا نتساءل: ما الضَّمان للبنان في المستقبل؟ فلو أنَّ إسرائيل قامت بقصف المدنيّين في لبنان، ولو أنّها خالفت تفاهم نيسان بكلّ طريقة، هل إنَّ أمريكا تقف لتدين إسرائيل؟! المبدأ عند أمريكا أن لا تدان إسرائيل مهما فعلت، ومهما أجرمت، هذا هو مبدأ أمريكيّ أساسيّ في كلّ السياسة الأمريكيَّة، منذ أنشئت إسرائيل حتَّى الآن.
إذاً، يمكن أن تخرق إسرائيل التَّفاهم غداً، ويمكن أن تطلق الصَّواريخ على المدنيّين، وتأتي أمريكا لتقول إنَّه خطأ فنّيّ، أو إنَّ إسرائيل كانت في مقام الدّفاع عن نفسها وما إلى ذلك، فما هو الضَّمان في ذلك؟ فإذا كانت أمريكا ليست مستعدّة أن تدين إسرائيل بالنّسبة إلى مجزرة قانا، فكيف يمكن أن تدينها في المستقبل؟ أيُّ ضمان لأيّ تفاهم ولأيّ اتّفاق، ما دامت إسرائيل هي البريئة دائماً، وما دامت الشّعوب العربيَّة والمجاهدون هم المدانين دائماً، بقطع النَّظر عن طبيعة الوقائع؟!
ملحق سريّ للتَّفاهم؟!
وفي النّقطة الثَّانية، قرأنا أيضاً في الصّحف بالأمس، أنَّ وزير خارجيَّة أمريكا أرسل رسالةً إلى رئيس حكومة العدوّ، يتحدَّث فيها عن ملحق سرّيّ لتفاهم نيسان. ونحن نعرف من خلال كلّ المعطيات، ومن خلال عمق المعلومات، في كلّ كواليس المفاوضات، أنَّه ليس هناك أيّ ملاحق سرّيّة، وأنَّ ما أعلن من مبادئ التَّفاهم هو كلّ شيء.
ولكن كيف كانت المسألة في الحديث الأمريكيّ في هذا المجال؟ إنَّ وزير خارجيَّة أمريكا أرسل رسالة أمريكيَّة إلى رئيس حكومة العدوّ، يسجّل فيها من خلال الضَّمان الأمريكيّ، ومن خلال وجهة النَّظر الأمريكيَّة، أنَّ لإسرائيل الحقّ في أن تقوم بمهمَّة الدّفاع عن نفسها في الردّ المباشر على أيّ هجوم على قوَّاتها، من دون أن تتمكَّن لجنة المراقبة، بعد تشكيلها، من تحديد الحقّ وتحديد القضيَّة، لأنَّ أمريكا تقول لإسرائيل إنَّ لك الحقّ في المبادرة، حتَّى قبل أن يكون هناك تحقيق، وقبل أن يكون هناك أيّ إثبات أنَّ المعتدي هو الفريق الآخر وليست إسرائيل.
إنَّ معنى ذلك أنَّ أمريكا تشجّع إسرائيل على خرق هذا التَّفاهم، وعلى عدم احترام لجنة المراقبة، وإرسال هذه الرّسالة بعنوان أنَّها ملحق سريّ، يراد به رفع درجة التَّأييد لرئيس حكومة العدوّ، من جهة الجانب الانتخابيّ الَّذي تدخل فيه أمريكا ناخباً أساسيّاً يعمل على أساس تأييد هذا الرَّجل، حتَّى لو كانت القضيَّة على حساب دماء اللّبنانيّين.
الكاتيوشا أم إجرام العدوّ؟!
وفي نقطة ثالثة، سمعنا تصريحاً لرئيس حكومة العدوّ، نقدّمه إلى كلّ الَّذين يتحدَّثون عن أنَّ أساس هذه المشكلة هي صواريخ الكاتيوشا، ويسجّلون تحفّظاً عن هذه الصَّواريخ. اسمعوا تصريح رئيس حكومة العدوّ الَّذي أطلق حرب "عناقيد الغضب"؛ إنَّه يقول إنَّ تدنّي شعبيَّته الانتخابيَّة، كان من الأسباب الَّتي أطلقت عمليَّة "عناقيد الغضب"، وهذا الأمر نشر في الصحف الإسرائيليَّة والعربيَّة، فهو رأى أنَّ شعبيَّته أصبحت متدنّية، لأنَّه ليس جنرالاً ولم يخض حرباً، فمن أجل أن يرفع شعبيَّته ليزيد عدد ناخبيه في الدَّاخل، وليثبت لهم أنَّه مستعدّ أن يقتل اللّبنانيّين والعرب دفاعاً عن الإسرائيليّين، قام بعمليَّة "عناقيد الغضب"، أي أنَّ المسألة، كما قلت في حديث سابق، تعني أنَّ دماء أطفالنا ونسائنا وأشلاء أطفالنا، هي الأوراق الَّتي يراد وضعها في صندوق الاقتراع الإسرائيليّ لمصلحة هذا الإنسان المجرم.
وفي ضوء هذا، يجب أن تسكت كلّ الأصوات الّتي تقول إنَّ المشكلة هي مشكلة الكاتيوشا، وليست المشكلة هي الخطَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة الموضوعة الَّتي جاءت تنفيذاً لقمَّة شرم الشَّيخ.
الانحياز الأمريكيّ لإسرائيل
وفي النُّقطة الرَّابعة الَّتي نثيرها في هذا المجال، أنَّ أمريكا منذ أن انطلقت حرب الخليج الثَّانية في الكويت، كانت تتحدَّث عن ضرورة الخضوع لقرارات الأمم المتَّحدة، ولذلك عملت على أن تصدر قراراً بالعقوبات ضدّ ليبيا، وقراراً جديداً بالعقوبات ضدّ السّودان، وأصدرت أيضاً بيانات متعدّدة ضدّ إيران بحجَّة أنَّها دولة إرهابيَّة تشجّع الإرهاب، وضدّ سوريا بأنَّها دولة تدعم الإرهاب ولا بدَّ من عقوبات اقتصاديَّة ضدّها. والكلّ يقولون تعالوا لنتناقش، إنَّنا نرفض هذه التُّهمة وتلك التُّهمة، وأنَّكم ظالمون..
ولكنَّ أمريكا ليست مستعدَّةً لأن تسمع، لأنَّ القضيَّة عندها هي أن تتَّهم، وأن تثبّت الاتّهام كيفما كان. لذلك عملت على الإدانة لكلّ هذه الدّول، والضَّغط على مجلس الأمن الدّولي الَّذي حوَّلته إلى مجلسٍ للأمن القوميّ الأمريكيّ، من أجل فرض العقوبات على أكثر من دولة من الدّول الَّتي تعارض السياسة الأمريكيَّة الاستكباريّة الظَّالمة.
أمَّا إسرائيل، فقد تنكَّرت لكلِّ قرارات الأمم المتَّحدة؛ تنكَّرت للقرار 425 المتعلّق بلبنان، وغيره الكثير من القرارات، وهي الآن تقف لتهاجم الأمم المتَّحدة، ولتهدّدها بأنَّها سوف تربك أعمال قوَّاتها في جنوب لبنان، ولتنسّق مع أمريكا في عدم التَّجديد للقوَّات الدَّوليَّة في جنوب لبنان من منطلق معاقبتها، ولتتحدَّث مندوبة أمريكا سابقاً بطريقة سلبيَّة ضدَّ الأمم المتَّحدة، لأنَّها وقفت ضدَّ إسرائيل ولم تتعاطف معها.
ولكنَّ أمريكا تحاول دائماً أن تقول إنَّه لم يثبت إجرام إسرائيل، وإنَّ من حقّ إسرائيل أن تدافع عن نفسها، لا تدينوا إسرائيل حتّى لا تسيئوا إلى مسألة التسوية، أمَّا أن تدان أيّة دولة عربيَّة أو إسلاميَّة، فهذا لا يضرّ بالتَّسوية، فقط عندما تدان إسرائيل، أو عندما يراد إثبات أيّ قرار يحاسب إسرائيل، فإنَّ صوت أمريكا يرتفع أنّكم تسيئون بذلك إلى قضيَّة السَّلام.
تأثيرُ الشّعوب
إنَّنا عندما ندرس هذا الموقف الأمريكيَّ المنحاز انحيازاً كلّياً إلى إسرائيل ضدّ كلّ شعوب المنطقة، فإنَّنا نتصوَّر أنَّ آلاف الهتافات والاحتجاجات (الموت لأمريكا)، وآلاف التَّعليقات السياسيَّة الشَّاجبة، لن تستطيع أن تغيّر من موقف أمريكا شيئاً، لأنَّها تشعر بأنَّها قوَّة سياسيَّة وعسكريَّة واقتصاديَّة في العالم تتقدَّم على أيّة قوَّة أخرى، ولذلك لا تهمّها الكلمات ما دامت تستطيع أن تضغط على الحكومات والأنظمة..
والمسألة الَّتي يمكن أن تكون فاعلة، هي أن تتحرَّك الشّعوب، لتفرض، أوَّلاً، على حكوماتها الموقف الَّذي يوحي إلى أمريكا بأنَّ مصالحها بدأت تهتزّ، وأنَّ خططها السياسيَّة بدأت تواجه المشاكل، وهذا ما حدث عندما انتفضت شعوب المنطقة، سواء الشّعوب العربيَّة أو الإسلاميَّة، بعد الهجوم على لبنان، ولا سيَّما بعد مجزرة قانا، حيث ارتفعت الأصوات الثَّائرة والنَّاقمة، وانطلقت المناحات في كلّ بيت عربيّ وإسلاميّ، حتَّى ارتفعت الأصوات في بلدان كان الصَّوت فيها محبوساً ومكبوتاً، حتَّى إنَّنا سمعنا خطيب المسجد الحرام، ولأوَّل مرَّة، ينتقد أمريكا، وانتقاد أمريكا هناك هو يختلف عن انتقادها في أيّ بلد آخر، لأنَّ الموقع هناك هو من المواقع الاستراتيجيَّة لنفوذ أمريكا في المنطقة.
فلماذا انطلقت هذه المبادرة؟ لأنَّ هناك ضغطاً شعبيّاً أريد احتواؤه، ولأنَّ هناك واقعاً شعبيّاً ضاغطاً لم يستطع المسؤولون أن يصمّوا آذانهم عنه، لأنَّه سوف يفتح المجال لإرباكات كثيرة قد تتجاوز هذا الموقف وهذه المرحلة.
مقاطعة البضائع الأمريكيَّة!
ومن هنا، فإنّنا نعتقد أنَّ صرخة الشّعوب يمكن أن تعطي نتائجها، ولذلك دعونا، ولا نزال ندعو الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة الَّتي تعاني بأجمعها ضغط الاستكبار الأميركيّ على اقتصادها وسياستها وأمنها، أن تنطلق في حركة شعبيَّة من أجل مقاطعة البضائع الأمريكيَّة، بمقدار ما يمكنها من ذلك. قلتها مراراً: أنا لسْتُ في مقام إصدار فتوى في هذا الموضوع، لأنَّ المسألة تحتاج إلى دراسات اقتصاديَّة دقيقة، لكنّي أريد للشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تعبّر عن موقفها بالطَّريقة الَّتي تجبر الآخرين على احترامنا.
فليدرس كلّ واحد ظروفه وحاجاته، ولينظر ما الَّذي يستطيع أن يتخلّى عنه من البضائع الأمريكيّة، بما لا يخلّ بظروفه وتوازنات واقعه الاقتصاديّ، فلو كنْتَ، مثلاً، تستعمل عشر بضائع أمريكيَّة، وكان بإمكانك أن تستغني عن أربع منها، فاترك هذه الأربع، إذا كانت ظروفك لا تسمح بأكثر من ذلك.
لذلك أنا لا أقول قاطعوا كلَّ البضائع، ولكن أقول احترموا أنفسكم، أيُّها المسلمون والعرب، لتعرف أمريكا، وليعرف كلّ العالم، أنَّنا أمَّة تحترم نفسها، وتعمل على أن تعاقب كلَّ من يسيء إليها، وكلَّ من يجرم في حقّها.. إنَّ الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة، إذا قامت بعقاب أمريكا سلميّاً، من خلال معاقبتها اقتصاديّاً، بالامتناع عن شراء البضائع الأمريكيَّة، ولا سيَّما أنَّ هناك بدائل من البضائع اليابانيَّة والأوروبيَّة والآسيويّة والمحلّيّة، فإنّها ستشعر عندها بالخطر على مصالحها الاقتصاديَّة، وعندما تشعر بالخطر على مصالحها، فلا بدَّ أن تتحرَّك من خلال ضغط الشَّركات الأمريكيَّة، ومن خلال أكثر من موقع، لتتوازن في سياستها تجاه الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة.
إنَّ أمريكا تعطي إسرائيل كلَّ شيء، وتدفع لها في كلّ سنة ما يقارب 3 مليارات دولار، إضافةً إلى الأشياء الطَّارئة، كما يحدث بين وقت آخر، ونحن ندفع بطريقة غير مباشرة ثمن الصَّواريخ الأمريكيّة الّتي تقدَّم إلى إسرائيل، وندفع ثمن الأسلحة بشكل غير مباشر، ندفعها من البترول، ومن السّجائر الّتي ندخّنها، ومن كلّ الأشياء الَّتي نستعملها، لأنَّ كل شيء يقوّي الاقتصاد الأمريكيّ، فإنّه سيكون قوّة لإسرائيل.
إنَّني أريد أن أطلق هذه الفكرة في وعي كلّ الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة، حتَّى لا نكون مجرَّد شعوب تهتف بالموت لأمريكا، وفي المقابل، تعطيها كلَّ حيويَّة الحياة من خلال اقتصادها هنا وهناك.
النّفاق الأمريكيّ
لقد سمعنا الرئيس الأمريكيّ أيضاً بالأمس يجيب عن سؤال حول سياسة أمريكا المنحازة إلى إسرائيل، وأنَّ هذا ربما يخرج أمريكا عن مصداقيَّتها في السياسة العادلة المتوازنة، فماذا كان جوابه؟ كان جوابه أنَّنا ندعم مصر والأردن وعرفات، وقد أوقفنا إطلاق النَّار في لبنان من خلال مساعي وزير الخارجيَّة، ونعمل للتَّسوية، ولذلك فإنَّنا متوازنون، نعطي العرب ونعطي إسرائيل، ونقوم بحلّ مشاكل العرب ومشاكل إسرائيل..
وهذا الرّئيس الأمريكيّ يريد أن يضحك على العالم.. فأمَّا مصر، فقد جاء الدَّعم الأمريكيّ لها لأنّها تحوَّلت في سياستها من الاتّحاد السّوفياتي إلى السياسة الأمريكيَّة، ولأنّها خرقت الصّراع العربي الإسرائيلي بمصالحتها لإسرائيل، ولذلك انطلقت المساعدات الأمريكيّة لها كجائزة لتقوم برعاية المصالح الأمريكيَّة في المنطقة، ومن أجل أن تكون القوَّة الَّتي تدعم إسرائيل في المنطقة.
أمَّا الأردن، فقد حرم مدَّة طويلة من المساعدات الأمريكيَّة، وكادت أمريكا في بعض الحالات أن توحي بأنَّها تريد أن تعاقب الأردن من جهة علاقاته مع النظام العراقيّ، وفجأةً، أُعطِي الأردن مساعدات، ليس بالحجم الَّذي كان يرجوه، لأنَّ شرط المساعدات كان أن يصالح إسرائيل.
وأمَّا عرفات، فإنَّ أمريكا تعطيه بالقطَّارة، فهي فرضت له 500 مليون دولار، ولكنَّ ما أعطته إيَّاه حتّى الآن، بالكاد يصل إلى مائة مليون دولار أو يزيد قليلاً، بالرّغم من المشاكل الّتي يعيشها. وهذه العطايا لأنَّه صالح إسرائيل، ولأنّه ألغى الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي في هذا المجال، وبذلك ألغى معنى الصّراع العربي الإسرائيلي المنطلق من فلسطين.
أمَّا قضيَّة وقف إطلاق النَّار في لبنان، فقد جاء إنقاذاً لإسرائيل وليس لإنقاذ اللّبنانيّين، لأنَّه شعر بأنَّ إسرائيل سقطت في الوحل، وفقدت العطف من كلّ العالم بعد مجزرة قانا وغيرها من المجازر.
وحتَّى موضوع التَّسوية، فإنَّه يريد تسويةً لحساب إسرائيل، ولا يريد تسويةً لحساب العرب في هذا المجال، إنَّه يريد السَّلام الإسرائيليَّ، ولا يريد السَّلام العربيَّ.
لهذا، نحن نقول له وفّر على نفسك كلَّ هذا الحديث، لأنَّ اللُّعبة لن تنطلي علينا، لأنَّنا اكتشفنا ما معنى أمريكا في كلّ واقعها تجاهنا، واكتشفنا الهستيريا الأمريكيَّة في دعم حكومة العدوّ، وفي دعم رئيسها، ولو على حساب كلّ العالم العربيّ، وكلّ قضايانا الكبيرة والصَّغيرة.
إدانةٌ بشهادة صهيونيَّة!
وفي هذا الملفّ، أيُّها الأحبَّة، أحبُّ أن أقرأ عليكم بعضاً من مقال نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيليَّة في هذا اليوم، باعتبار "شهد شاهدٌ من أهله"، قالت: "لقد قتلناهم - ويقصد اللّبنانيّين – بفاعليَّة، وإذا كانت ذريعتنا الكبيرة هي أنَّ المسؤوليَّة لا تقع علينا، وإنما تقع على حزب الله، فهي ذريعة واهية، ذلك لأنَّنا عندما اتَّخذنا القرار بفتح النَّار بغزارة على المناطق السَّكنيَّة في جنوب لبنان، في وقت لم يكن هناك خطر حقيقيّ يهدّد إسرائيل، فإنَّنا قرَّرنا بذلك في الواقع، أن نسفك دماء عدد غير محدود من المدنيّين الأبرياء، وعندما اتَّخذنا قرارنا بإخراج نصف مليون شخص من منازلهم، وقصف من بقي منهم، في وقت لم يسقط أيّ قتيل إسرائيليّ، فإنَّنا قرَّرنا بذلك في الحقيقة أن نقتل العشرات منهم. إنَّنا مقتنعون إلى درجة لا تقبل الشّكّ، بأنَّ حياة الآخرين - من اللّبنانيّين والعرب - ليست بالأهميَّة الَّتي نوليها لحياتنا، طالما أنَّ البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ الأمريكيّ، وصحيفة نيويورك تايمز، طوع بناننا، وطالما أنَّ لدينا المنظَّمات اليهوديَّة في أمريكا الَّتي تبرّر لنا كلَّ نفعله في القتل والتَّدمير".
وهذه ليست صحيفة عربيَّة، بل صحيفة إسرائيليَّة. فما معنى ذلك؟ معناه أنَّهم اتَّخذوا قرارهم بسفك دمائنا، وبقصف المدنيّين الأبرياء منَّا، وأنَّ المسألة كانت منطلقة من خطَّة متعمَّدة، في الوقت الَّذي يعترف هذا الصّحافي بأنَّ أمن إسرائيل لم يكن مهدَّداً، وأنَّه لم يسقط أيّ إسرائيليّ.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نؤكّد هذه الأمور، فإنَّنا نريد لشعبنا أن يعي جيّداً معنى هذه الحرب، وأنَّها انطلقت من عقل بارد وقرار حاسم بأن يقتلوا أكبر عدد ممكن من المدنيّين الأبرياء، حتَّى يصرخ المدنيّون في وجه المقاومة والدَّولة، فيكون المدنيّون هم الَّذين يقومون بإسقاط المقاومة لا إسرائيل، حتَّى لا يرتفع أيّ صوت للحريَّة..
ومع ذلك، نجد أنَّ الدّول العربيَّة، ولا سيَّما مصر والأردن، تعمل على أن تعقد قمَّة رباعيَّة مع عرفات وبيريز، من أجل مواجهة الموقع لتخفيف الاحتقان، ولتخفيف هذه الثَّورة الشَّعبيَّة العربيَّة ضدّ قرارات شعوبهم.. ويتحدَّثون أنَّ أمريكا عادلة نزيهة، وأنَّ المشكلة الآن بالنّسبة إلى بيريز هي مشكلة تعقيدات انتخابيَّة.
أبعاد التّحرّك التّركيّ
وأخيراً، هناك نقطة مهمَّة لا بدَّ أن نثيرها، وهي هذه الحركة التركيّة الجديدة، فنحن نعلم أنَّ تركيا دخلت أرض العراق بحجَّة متابعة حزب العمَّال الكرديّ الَّذي يطالب باستقلاله، وليست هذه القضيَّة ما نريد تسليط الضّوء عليه، لأنَّ هذه القضيَّة أصبحت طبيعيّة من خلال الهجوم التركي والضّوء الأخضر الأمريكيّ، لكنَّنا نقف عند تصريح المسؤول التركيّ بأنَّهم ربَّما يدخلون الأراضي السّوريَّة، وربَّما يدخلون الأراضي الإيرانيَّة، من أجل الدّفاع عن أمنهم، لملاحقة حزب العمَّال الكرديّ الَّذي يتَّخذ قاعدةً له في سوريا وقاعدةً في إيران.
إنَّ معنى ذلك هو تبرير احتلال إسرائيل للبنان بحجَّة الدّفاع عن الأمن، وبحجَّة متابعة الَّذين يسيئون إلى أمنها. ثمَّ أليست هذه خطّة أمريكيَّة تعمل على إيجاد موقف تنسيقيّ أمريكيّ تركيّ إسرائيليّ، من أجل الضَّغط على سوريا حتَّى تقدم التنازلات لإسرائيل، ومن أجل الضَّغط على إيران حتّى تقدّم التنازلات لأمريكا؟!
ويبقى المستكبرون قوَّة غاشمة في وجه المستضعفين، وعلى المستضعفين أن يعرفوا ذلك، وأن يحدّقوا في القضايا الكبرى، وأن لا يسقطوا أمام القضايا الصّغرى، أن نرتفع إلى مستوى مسؤوليّتنا في وحدة الموقف ضدّ العدوان وضدَّ كلّ المستكبرين في العالم.
البدء بصلاة الجمعة
وهناك نقطة أحبُّ أن أذكّر بها الإخوان، وهي أنّنا قرَّرنا في الجمعة القادمة، بعون الله، أن نصلّي صلاة الجمعة وليس صلاة الظّهر، وذلك في المسجد الجديد في حارة حريك، لأنَّ ما كان يمنعنا من القيام بصلاة الجمعة، هو أنَّه على رأي السيّد الخوئي، وغيره الكثير من العلماء، إذا أقيمت صلاة الجمعة، وجب الحضور، على الأحوط وجوباً، وهذا المسجد لا يتّسع لصلاة الجمعة. لذلك، بعد أن اكتملت المرحلة الأولى من المشروع الكبير في حارة حريك، في مسجد الإمامين الحسنين (ع)، سوف نقيم صلاة الجمعة في الأسبوع القادم، بعون الله، ولا بدَّ من الحضور قبل الصَّلاة، باعتبار أنَّ وقت الجمعة أضيق من وقت الظّهر.
والحمد لله ربّ العالمين.
 
*خطبة الجماعة للرّجال، بتاريخ: 10/05/1996م.
يقول تعالى سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}[النساء: 123 - 126].
الانتماء وحده لا يكفي
يريد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات، أن يربط النَّاس بالخطّ الَّذي يمكن أن يقرّبهم إليه أو يبعّدهم عنه، فهناك في ذهن الكثيرين من النَّاس، سواء كانوا من المسلمين أو من أهل الكتاب، أنَّ مجرَّد الانتماء إلى الدّين؛ أن تكون يهوديّاً في زمن موسى (ع)، أو نصرانيّاً في زمن عيسى (ع)، أو مسلماً في حركة الإسلام في مدى الزَّمن، يكفي لتكون قريباً إلى الله؛ أن يدخلك الله الجنَّة، وأن يضمَّك إلى رضوانه ورحمته، حتَّى لو ارتكبت كلَّ الجرائم، وقمت بكلّ السَّيّئات، وتركت كلَّ الواجبات.
إنَّ هناك مِنَ النَّاس مَنْ يفكّر بهذه الطَّريقة، أنَّ الانتماء وحده هو الَّذي يمكن أن يحصل الإنسان من خلاله على النَّجاة. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للإنسان، إنَّ مسألة أن تنتمي إلى رسالة الله وإلى دينه، هي مسألة تفرض عليك أن تلتزم بالرّسالة كلّها، وبالدّين كلّه، ليكون التزامك عقليّاً في حركة العقيدة في العقل، وعاطفيّاً في نبضة القلب بالعاطفة، وحركيّاً في كلّ ما تتحرَّك به أعضاؤك، وتنطلق به خطواتك في الحياة.
الدّين ليس كلمةً وليس مجرَّد فكرة؛ إنَّه يمثّل منهج الحياة الَّذي تنفتح فيه على الله، ليكون انفتاحك عليه وسيلةً للانفتاح على الإنسان كلّه، وعلى الحياة كلّها. ومن هنا، فإنَّ الإيمان وحده لا يكفي في إخلاصك، حتَّى لو كنت من أعمق النَّاس في فكر الإيمان، ولكن لا بدَّ من العمل الصَّالح الَّذي يتمثَّل بالاستقامة العمليَّة في خطّ الإيمان.
ولذلك اختصر الله سبحانه وتعالى خطَّ النَّجاة في كلمتين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصّلت: 30]، أن تتحرَّك من خلال خطّ التَّوحيد، وأن تستقيم على هذا الخطّ، ليكون الله عندك كلَّ شيء؛ كلّ شيء في معنى العقل، ومعنى العاطفة، ومعنى الحركة، أن يكون الله كلّ همّك، في أن تطيعه وتراقبه ولا تعصيه، وأن تجعل حياتك صورة لوحيه وشريعته، لأنَّ ذلك هو الَّذي يجنّبك الخوف يوم القيامة، والحزن عند العرض عليه سبحانه.
ولذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: أيُّها المسلمون، أيُّها المؤمنون في أديان أهل الكتاب، لا تعيشوا حياتكم بالأماني والأحلام، ولكن عليكم أن تعيشوا الحياة من خلال حقائق الحياة، ومن خلال واقع الخطّ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ - الَّتي توحي إليكم بأنَّ مجرّد انتمائكم إلى الكتاب، أو إلى خطّ الإيمان من دون عمل، سوف يدخلكم الجنَّة - مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النّساء: 123].
فقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يلتزم الخير كلّه، وأن يجتنب الشّرّ كلّه، أن يلتزم ذلك في خطّ الفعل وفي خطّ التَّرك، وقال له إنَّك بمقدار ما تلتزم تكون قريباً إليّ، وبمقدار ما تفقد التزامك في الخطّ العمليّ، تكون بعيداً عنّي، وإذا وقفت غداً يوم القيامة، ومعك كلّ سيّئاتك الَّتي أسلفتها، وكلّ جرائمك الَّتي قمت بها، فإنَّك لن تجد أيَّ وليّ يرعاك في الآخرة كما تجد من يرعاك في الدّنيا، ولن تجد أيَّ نصير ممن كنت تنتصر به في الدّنيا لينصرك، لأنَّ هؤلاء الأولياء كانوا الأولياء من خلال النَّاس، أمَّا عندما يكون الله هو الَّذي يريد أن يجازيك، وهو الَّذي يريد أن يدخلك ناره، فأيّ وليّ من دون الله يمكن أن يلي أمرك، وأيّ نصير من دون الله يمكن أن ينصرك؟!
لذلك، ارتبط بالحقيقة، ولا ترتبط بالأمنيات، ولا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد، ولا تقل كما يقول المثل الشَّعبيّ: "ليوم الله يهوّن الله"، لأنَّ الله يهوّن الأمور من خلال حكمته، ومن خلال منهجه. صحيح أنَّه يغفر لمن يشاء، ولكن مَنْ قال لك إنَّك ستكون ممن يشاء الله أن يغفر له؟! "وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ". فللَّه حساب في رحمته من خلال حكمته، وله حساب في نقمته من خلال حكمته، فكيف تشعر بالأمن، وقد قدَّمت كلَّ ما يوحي بعدم الأمن فيما تستقبل من أمرك؟!
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فهناك الإيمان، وهناك العمل الصَّالح، فإذا فقدت الإيمان، فلا حساب للعمل الصَّالح عند الله، وإذا فقدت العمل الصَّالح، فإنَّ الإيمان لا يدخلك وحده الجنَّة، إلَّا من خلال إرادة الله - فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النّساء: 124]، لا يظلمون أيَّ شيء ممَّا يستحقّونه، حتَّى لو كان من أصغر الأشياء.
وحدة الشَّخصيَّة الإيمانيَّة
ثمَّ بعد الحديث عن التَّفاصيل، يركّز الله سبحانه وتعالى الحديث عن الخطّ الَّذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا – أحسن الدّين الَّذي يدين به الإنسان، والَّذي يمثّل عمق معناه في الارتباط بالله - مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ – وإسلام الوجه لله كناية عن أن تكون كلّ حياته له سبحانه، "فلا يقدّمُ رِجْلاً، ولا يؤخّرُ رِجْلاً، حتَّى يعلمَ أنَّ ذلك لله رضا أو سخط"، بحيث يكون حبُّه وبغضه منطلقين من الله، فلا يحبُّ إلّا مَنْ أحبَّه الله، ولا يبغض إلَّا مَن أبغضه، أن تكون عاطفته منطلقةً من خطّ إيمانه، فلا يكون هناك فاصل بين العاطفة والإيمان، كما في الَّذين يختزنون في داخل أنفسهم الإيمان بالله، ولكنَّهم يفتحون قلوبهم لأعدائه، وللمنحرفين عن خطّه، وللّذين يحاربونه، لأنَّهم يعتبرون أنَّ مسألة الحبّ شيء، ومسألة العقيدة شيء آخر.
أيُّها الأحبَّة، الإنسان واحد، لا يمكن أن يكون شخصيَّتين، بحيث تتحرَّك واحدةٌ في خطّ اليمين، وأخرى في خطّ اليسار، أو أن تنطلق شخصيَّته مع الإيمان في طريق، ومع الكفر في طريق، على طريقة ذلك الشَّاعر الَّذي يقول:
 في يدي مصحفٌ، وخمرٌ بأخرى      بينَ هذا وذاكَ طوراً فطورا 
 أكثرُ النَّاسِ لو تأمَّلْتَ في النَّا      سِ فهم يحملونَ ديناً وكُفرا
لا يمكن لك أن تكون كافر العاطفة ومؤمن العقل، أو أن تكون مؤمن الانتماء وكافر العمل، بل لا بدَّ لك أن تجمع نفسك في شخصيَّة واحدة، فإذا كنت مؤمناً، فلا بدَّ أن يكون عقلك مؤمناً، وقلبك مؤمناً، وحركتك مؤمنة، وأن تكون علاقتك في خطّ الإيمان. وهكذا، إذا كنت كافراً، فالمسألة نفسها.. كن شخصيَّة واحدة، لا تكن متعدّد الشَّخصيّات، لأنَّ الإنسان الَّذي يكون متعدّد الشَّخصيَّات هو إنسانٌ ضائعٌ، لا يستطيع أن يتحرَّك في خطّ الهدى في حياته.
وعلى هذا، فإذا أسلمت وجهك لله، فكيف يمكن أن تسلم وجهك لغيره؟! فأنت لك وجه واحد، فإمَّا أن تنفتح به على الله، وإمَّا أن تنفتح به على غيره، فإذا انفتحت به على الله، ووجهك هو ذاتك، وكلّ كيانك، فلا يمكن أن تنفتح به على غيره.. وعندما تقول في دعاء كميل: "فإليْكَ يا ربِّ نَصَبْتُ وَجْهِي"، فمعنى ذلك أنَّك انطلقت بكلّ كيانك وذاتك إلى الله سبحانه وتعالى.
- وَهُوَ مُحْسِنٌ - أسلم وجهه لله، وعاش الإحسان في حياته؛ إحسانه إلى ربّه من خلال طاعته له، وإحسانه إلى النَّاس من خلال القيام بمسؤوليَّته تجاههم، وإحسانه إلى الحياة من خلال القيام بمسؤوليَّته عن الحياة من حوله، وإحسانه إلى نفسه من خلال القيام بذلك كلّه.
- وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا - ملَّة إبراهيم السَّائرة في خطّ الاستقامة، وهي الحنيفيَّة، أي المائلة عن الانحراف، لأنَّ ملَّة إبراهيم هي الإسلام؛ إسلام الوجه والقلب واليد واللّسان لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 131 - 133]. هذه هي ملَّة إبراهيم {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162 - 163].
- وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النّساء: 125]، اتَّخذه الله سبحانه صديقاً، لأنَّه صدق معه، ولأنَّه أعطى كلَّ حياته له، ولأنَّه استعدَّ لينفّذ أمره في أن يذبح ولده، ولذلك كان الصَّادق مع الله سبحانه وتعالى، والله أعطاه صداقته، والله يعطي صداقته لكلّ من يصدق معه، ولكلّ من يسير في خطّه بكلّ إخلاص.
ثمَّ يقول الله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ - عليك أن تعرف أنَّ كلّ شيء من حولك، فوقك، تحتك، هو لله سبحانه وتعالى - وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}[النّساء: 126]، فإذا كنت تعرف أنَّ الله يحيط بك من كلّ جوانبك، فكيف تهرب منه، وأنت مهما هربت منه، فستهرب منه إليه.
الخطُّ الَّذي يرضاه الله
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الخطّ الَّذي يريدنا الله أن نسير عليه، وأن نتحرَّك فيه في كلّ أمورنا الخاصَّة والعامَّة؛ أن يكون الله هو النّور الَّذي نهتدي به في ظلمات الأزمات، تماماً كما هو النّور الَّذي نهتدي به في ظلمات البرّ والبحر، أن نتحرَّك في حياتنا، في كلّ موقف نقفه سلباً أو إيجاباً، وفي كلّ حركة نتحركها، حركة متقدّمة أو متراجعة، أن يكون الله هو كلَّ شيء في حساباتنا، بحيث نعمل على أن تكون حساباتنا في الحبّ والبغض، وفي الرَّفض والتَّأييد، هي حسابات الله، أن يكون أهلنا أهل الله، أن يكون أحبَّاؤنا هم أحبَّاء الله، كما ورد في بعض أحاديث أئمَّة أهل البيت (ع): "إذا أرَدْتَ أن تَعلَمَ أنَّ فيكَ خَيراً فَانظُر إلى قَلبِكَ؛ فَإِن كانَ يُحِبُّ أهلَ طاعَةِ اللّهِ ويُبغِضُ أهلَ مَعصِيَتِهِ، فَفيكَ خَيرٌ وَاللّهُ يُحِبُّكَ، وإن كانَ يُبغِضُ أهلَ طاعَةِ اللّهِ ويُحِبُّ أهلَ مَعصِيَتِهِ، فَلَيسَ فيكَ خَيرٌ وَاللّهُ يُبغِضُكَ، وَالمَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ".
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نحدّد أصدقاءنا وأعداءنا من خلال الخطّ الَّذي يرضاه الله هنا، والَّذي لا يرضاه هناك، أن لا تكون أهواؤنا هي الَّتي تحرّك مواقفنا، بل أن تكون مبادئنا هي الَّتي تحدّد لنا مواقعنا ومواقفنا، أن ننطلق في الحياة الاجتماعيَّة لنتحرَّك كمؤمنين بالله، سائرين على نهجه في أن نحفظ للمجتمع أمنه، وأن نحفظ له وحدته وتكامله وتوازنه، لا أن نتحرَّك في المجتمع على أساس عصبيَّاتنا وأهوائنا وحزبيَّاتنا وما إلى ذلك.
وهكذا عندما نريد أن نثير الموقف السياسيَّ في حياتنا، سواء كان هذا الموقف محلّيّاً أو إقليميّاً أو دوليّاً، إنَّ علينا عندما نريد أن نثير هذا الموقف لنتبنَّاه ولنتحرَّك فيه، على أيّ مستوى من مستويات الحركة، فإنَّ علينا أن ننظر ما هي مصلحة الإسلام في ذلك كلّه، وما هي مصلحة المسلمين في ذلك كلّه، وما هي مصلحة المستضعفين في الأرض الَّذين يريد الله لنا أن ننصرهم ونحميهم من كلّ ظلم، ما هي مسألة الحقّ والعدل، وما هي مسألة الظّلم والباطل في ذلك كلّه، حتَّى نُعذَر إلى الله في ذلك، بأنَّنا وقفنا مع الإسلام كلّه، ومع المسلمين كلّهم، ومع المستضعفين كلّهم، باعتبار أنَّ القضيَّة واحدة هنا وهناك.
لذلك، لا بدَّ أن تكون لنا عقلانيَّة الموقف الحركيّ الَّذي نتحرَّك به؛ أن لا ننطلق من خلال عاطفة هوجاء، ولا من خلال حالة غوغائيَّة، وأن لا يكون تحرّكنا في الحياة ردود الفعل، أن تكون الإنسانَ صاحب الفعل، لا أن تكون حياتك مجرَّدَ خضوع للصَّدمة الَّتي تأتيك من الآخر، كن أنت الَّذي تصنع الصَّدمة، والَّذي تصنع الفعل، كن أنت الَّذي تقف لتواجه ولتخطّط، ولتنطلق من خطَّتك، لا لتنطلق من خطط الآخرين فيما يخطّطون لك، ليكون ردّ فعلك سلباً أو إيجاباً من خلال الأجواء الَّتي تسيطر عليك.
خطّط لنفسك في بلدك، ماذا تريد فيه، كيف يكون بلدك حرّاً، وكيف تمارس حركة الحريَّة فيه، كيف يكون بلدك عادلاً، وكيف تمارس حركة العدالة فيه، لا تنتظر الآخرين ليخطّطوا لك لتقول هل هذا خطأ أم صواب، خطّط أنت، وهذا ما يريده الله سبحانه وتعالى للأمَّة كلّها في كلّ مواقعها، أن تكون علاقاتها بالآخرين من خلال ما تخطّط وما تفكّر.
هذا ما ينبغي لنا أن نواجه به كلَّ الواقع المحلّيّ والإقليميّ والدّوليّ، في كلّ القضايا الَّتي تتحدَّى وجودنا وتتحدَّى واقعنا.
خطّة الاستكبار العالميّ
لا نزال، أيُّها الأحبَّة، نعيش تحت تأثير الواقع الحادّ الوحشيّ الَّذي انطلق فيه المستكبرون من أجل أن يهزموا المستضعفين، ومن أجل أن يصادروا حريَّاتهم واستقلالهم، وليحوّلوهم إلى أن يكونوا مجرَّد هامش صغير للاستكبار الصّهيونيّ والأميركيّ، أو لأيّ استكبار آخر في العالم.. أن نكون هامشاً؛ أن يكون أمننا خاضعاً لأمن الآخرين، وأن يكون اقتصادنا خاضعاً لاقتصاد لآخرين، وأن تكون سياستنا خاضعةً لسياسة الآخرين، ليس مسموحاً لك أن تكون قويّاً، ولا أن تعمل من أجل أن تزعج كلَّ الخطط الَّتي يخطّطونها ليفرضوا كلَّ هيمنتهم وسيطرتهم على المنطقة.
هذه هي المسألة الَّتي تحرّك بها الاستكبار العالميّ منذ أن وطئت أقدامه العالمَ الإسلاميَّ مستعمراً؛ لم يكونوا يريدون للإسلام أن ينهض من جديد، ولا للعالم الإسلاميّ أن يكون قوّة فاعلة، ولا للمسلمين أن يستثمروا ثرواتهم ويبلغوا حالة الإنتاج. أرادونا دائماً مستهلكين، ولأجل ذلك زرعوا إسرائيل في قلب المنطقة، فجاءت كلّ الحروب العربيَّة – الإسرائيليَّة حروبًا استكباريّة دوليّة، تحرّك خيوط خططهم، وتستنزف دماءنا وأشلاءنا في ساحات الصّراع.
كانت القضيَّة هي هذه، وكانت المسألة دائماً أنَّ إسرائيل لا بدَّ أن تكون الدَّولة الأكثر تفوّقاً من حيث النَّوعيَّة، إذا لم تستطع أن تكون الأكثر من النَّاحية العدديَّة.
السياسة الأمريكيّة الثَّابتة!
هذه هي سياسة أمريكا الثَّابتة، وهي أنَّ أمن المنطقة يخضع لأمن إسرائيل، فإذا كانت إسرائيل آمنة، فيمكن لكم، أيُّها العرب، أن تكونوا آمنين، وأمَّا إذا لم تكن إسرائيل آمنة، فلا يمكن لكم أن تكونوا آمنين، سنسلّط عليكم كلَّ الآلة العسكريَّة الأمريكيَّة الَّتي تقدّمها أمريكا إلى إسرائيل، لتقتلكم، ولتدمّركم، حتَّى تعطوا بيدكم إعطاء الذَّليل، وحتَّى تقرّوا إقرار العبيد. هذه هي المعادلة الأمريكيَّة.
وعندما يتحدَّثون عن أمن إسرائيل، فإنَّ ذلك، في لغتهم، يعني أن تحصل إسرائيل على الحريَّة في أن تعتبر أيَّ موقع في المنطقة موقعاً يمسّ أمنها. فمن حقّ إسرائيل في السياسة الأمريكيَّة، أن تعمل على أساس أن تعتبر إيران، وهي البعيدة في حدودها، خطراً عليها، ولذلك فإنَّها تفكّر، بالتَّعاون مع أمريكا، أن لا تسمح لإيران بأن تملك الخبرة النَّوويَّة، حتَّى لو صرَّحت إيران أكثر من مرّة أنَّ خبرتها النَّوويَّة من أجل المشاريع السّلميَّة لا من أجل المشاريع العسكريَّة، ولذلك وضعت كلَّ مصانعها النَّوويَّة تحت إشراف اللّجنة الدَّوليَّة، ولكنَّ أمريكا تريد أن تثير المسألة دائماً في هذا الاتجاه.
لذلك، لا بدَّ أن نبقى في وعي سياسيّ منفتح على كلّ قضايانا في المسألة الأمريكيَّة.
مجزرة قانا: نتائج التَّحقيق
إنَّنا نحاول أن نثير عدَّة نقاط أمام هذه المسألة. فنحن نجد أنَّ هناك جدلاً لا يزال يعيش الآن، حول ما أصدره الأمين العام للأمم المتَّحدة من نتائج التَّحقيق لمجزرة قانا الَّتي أثبتت من خلال الوقائع، أنَّ هذه المجزرة لم تكن خطأً فنّيّاً ولا خطأً عسكريّاً، بل كانت عملاً متعمّداً في قصف مواقع الأمم المتَّحدة وفي قصف المدنيّين، بحيث كانت الخطَّة أن تحرق أكبر عدد منهم من خلال طبيعة القنابل المتفجّرة الَّتي كانت تملك القدرة على الإحراق، بما لا يستعمل لمجرّد مواجهة هدف عسكريّ.
وأصدرت الأمم المتَّحدة هذا التَّقرير، وحاولت أمريكا بكلّ ما عندها من قوَّة أن تثني الأمين العامَّ للأمم المتَّحدة عن إصدار هذا التَّقرير، وهدَّدت إسرائيلُ، ولا تزال تهدّد، بأنَّها سوف تربكُ قوَّات الأمم المتَّحدة في لبنان، من باب معاقبة الأمم المتّحدة لأنَّها فضحت إسرائيل أمام العالم. وهكذا رأينا أنَّ الأمين العام للأمم المتَّحدة هُدّد أيضاً بأنَّه لن يجدَّد له لولاية ثانية..
وبالرّغم من كلّ الوقائع الَّتي ذكرها هذا التَّقرير المنطلق من دقَّة في التَّحقيق العسكريّ، فقد تدخَّلت أمريكا، وتدخَّل الرَّئيس الأمريكيّ بالذَّات، ليقول إنَّ ما حدث كان نتيجة خطأ، وإنَّ إسرائيل في مقام الدّفاع عن النَّفس، وإنَّ الحقّ في ذلك على حزب الله لا على إسرائيل، وإنَّ هذه الأخطاء تحدث عادةً في الحروب، ولذلك علينا أن نعذر إسرائيل في ذلك، لأنَّها تأسف على قتل المدنيّين، والقضيَّة قضيَّة خطأ!
الضّغط على لبنان
لقد تحدَّث الرَّئيس الأمريكيّ بهذه الطَّريقة، وكذلك مندوبة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وقد قرأنا أنَّ الرَّئيس الأمريكيَّ اتَّصل برئيس وزراء لبنان، ونحن نتصوَّر أنَّ الاتّصال كان من أجل الضّغط على لبنان حتّى لا يقدّم شكوى إلى مجلس الأمن لإدانة إسرائيل، لأنَّه سوف يجبر أمريكا على استخدام الفيتو ضدّ هذا القرار، وربما كان استخدام الفيتو يضرّ بسمعة أمريكا في العالم العربيّ.
ولذلك، فإنَّنا نتصوَّر أنَّ سحب لبنان طلبه إلى مجلس الأمن، لم ينطلق من خوف لبنان أن لا يصدر هناك قرار في حجم التَّقرير، ولكن من جهة تمنّي الرَّئيس الأمريكيّ الَّذي وعد اللّبنانيّين بالمنّ والسَّلوى، وأنَّ أمريكا سوف تؤكّد وقف إطلاق النَّار، وستشارك في إعمار لبنان، في إعمار ما دمرّته الآلة العسكريّة الأمريكيّة.. ولكنّهم إذا شاركوا في إعمار لبنان، فما هي الوسائل للمشاركة في إعمار الإنسان؟ من يستطيع أن يعمّر الأطفال الَّذين قُتِلوا، والنّساء اللَّاتي أُحرِقْن، والشَّباب والشيوخ الَّذين قضوا؟ كيف يمكن لأمريكا أن تعمّر هؤلاء وأن تعيدهم إلى الحياة؟!
إنَّنا لا نعتقد أنَّ الجريمة كانت فقط أنَّهم دمَّروا بيوتاً، وأنَّهم دمَّروا بساتين أو دمّروا شوارع، ولكنَّ القضيَّة أنَّهم دمَّروا الإنسان؛ قتلوا الأطفال الرُّضَّع، وقتلوا النّساء والشّيوخ والمدنيّين العزَّل الأبرياء، ثمَّ جاؤوا يرقصون على أشلائهم.
إنَّنا عندما ندرس هذا الإصرار الأمريكيّ على منع إدانة إسرائيل، بالرّغم من أنّ كلَّ حيثيَّات الإدانة مبسوطة أمام العالم، فإنَّنا نتساءل: ما الضَّمان للبنان في المستقبل؟ فلو أنَّ إسرائيل قامت بقصف المدنيّين في لبنان، ولو أنّها خالفت تفاهم نيسان بكلّ طريقة، هل إنَّ أمريكا تقف لتدين إسرائيل؟! المبدأ عند أمريكا أن لا تدان إسرائيل مهما فعلت، ومهما أجرمت، هذا هو مبدأ أمريكيّ أساسيّ في كلّ السياسة الأمريكيَّة، منذ أنشئت إسرائيل حتَّى الآن.
إذاً، يمكن أن تخرق إسرائيل التَّفاهم غداً، ويمكن أن تطلق الصَّواريخ على المدنيّين، وتأتي أمريكا لتقول إنَّه خطأ فنّيّ، أو إنَّ إسرائيل كانت في مقام الدّفاع عن نفسها وما إلى ذلك، فما هو الضَّمان في ذلك؟ فإذا كانت أمريكا ليست مستعدّة أن تدين إسرائيل بالنّسبة إلى مجزرة قانا، فكيف يمكن أن تدينها في المستقبل؟ أيُّ ضمان لأيّ تفاهم ولأيّ اتّفاق، ما دامت إسرائيل هي البريئة دائماً، وما دامت الشّعوب العربيَّة والمجاهدون هم المدانين دائماً، بقطع النَّظر عن طبيعة الوقائع؟!
ملحق سريّ للتَّفاهم؟!
وفي النّقطة الثَّانية، قرأنا أيضاً في الصّحف بالأمس، أنَّ وزير خارجيَّة أمريكا أرسل رسالةً إلى رئيس حكومة العدوّ، يتحدَّث فيها عن ملحق سرّيّ لتفاهم نيسان. ونحن نعرف من خلال كلّ المعطيات، ومن خلال عمق المعلومات، في كلّ كواليس المفاوضات، أنَّه ليس هناك أيّ ملاحق سرّيّة، وأنَّ ما أعلن من مبادئ التَّفاهم هو كلّ شيء.
ولكن كيف كانت المسألة في الحديث الأمريكيّ في هذا المجال؟ إنَّ وزير خارجيَّة أمريكا أرسل رسالة أمريكيَّة إلى رئيس حكومة العدوّ، يسجّل فيها من خلال الضَّمان الأمريكيّ، ومن خلال وجهة النَّظر الأمريكيَّة، أنَّ لإسرائيل الحقّ في أن تقوم بمهمَّة الدّفاع عن نفسها في الردّ المباشر على أيّ هجوم على قوَّاتها، من دون أن تتمكَّن لجنة المراقبة، بعد تشكيلها، من تحديد الحقّ وتحديد القضيَّة، لأنَّ أمريكا تقول لإسرائيل إنَّ لك الحقّ في المبادرة، حتَّى قبل أن يكون هناك تحقيق، وقبل أن يكون هناك أيّ إثبات أنَّ المعتدي هو الفريق الآخر وليست إسرائيل.
إنَّ معنى ذلك أنَّ أمريكا تشجّع إسرائيل على خرق هذا التَّفاهم، وعلى عدم احترام لجنة المراقبة، وإرسال هذه الرّسالة بعنوان أنَّها ملحق سريّ، يراد به رفع درجة التَّأييد لرئيس حكومة العدوّ، من جهة الجانب الانتخابيّ الَّذي تدخل فيه أمريكا ناخباً أساسيّاً يعمل على أساس تأييد هذا الرَّجل، حتَّى لو كانت القضيَّة على حساب دماء اللّبنانيّين.
الكاتيوشا أم إجرام العدوّ؟!
وفي نقطة ثالثة، سمعنا تصريحاً لرئيس حكومة العدوّ، نقدّمه إلى كلّ الَّذين يتحدَّثون عن أنَّ أساس هذه المشكلة هي صواريخ الكاتيوشا، ويسجّلون تحفّظاً عن هذه الصَّواريخ. اسمعوا تصريح رئيس حكومة العدوّ الَّذي أطلق حرب "عناقيد الغضب"؛ إنَّه يقول إنَّ تدنّي شعبيَّته الانتخابيَّة، كان من الأسباب الَّتي أطلقت عمليَّة "عناقيد الغضب"، وهذا الأمر نشر في الصحف الإسرائيليَّة والعربيَّة، فهو رأى أنَّ شعبيَّته أصبحت متدنّية، لأنَّه ليس جنرالاً ولم يخض حرباً، فمن أجل أن يرفع شعبيَّته ليزيد عدد ناخبيه في الدَّاخل، وليثبت لهم أنَّه مستعدّ أن يقتل اللّبنانيّين والعرب دفاعاً عن الإسرائيليّين، قام بعمليَّة "عناقيد الغضب"، أي أنَّ المسألة، كما قلت في حديث سابق، تعني أنَّ دماء أطفالنا ونسائنا وأشلاء أطفالنا، هي الأوراق الَّتي يراد وضعها في صندوق الاقتراع الإسرائيليّ لمصلحة هذا الإنسان المجرم.
وفي ضوء هذا، يجب أن تسكت كلّ الأصوات الّتي تقول إنَّ المشكلة هي مشكلة الكاتيوشا، وليست المشكلة هي الخطَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة الموضوعة الَّتي جاءت تنفيذاً لقمَّة شرم الشَّيخ.
الانحياز الأمريكيّ لإسرائيل
وفي النُّقطة الرَّابعة الَّتي نثيرها في هذا المجال، أنَّ أمريكا منذ أن انطلقت حرب الخليج الثَّانية في الكويت، كانت تتحدَّث عن ضرورة الخضوع لقرارات الأمم المتَّحدة، ولذلك عملت على أن تصدر قراراً بالعقوبات ضدّ ليبيا، وقراراً جديداً بالعقوبات ضدّ السّودان، وأصدرت أيضاً بيانات متعدّدة ضدّ إيران بحجَّة أنَّها دولة إرهابيَّة تشجّع الإرهاب، وضدّ سوريا بأنَّها دولة تدعم الإرهاب ولا بدَّ من عقوبات اقتصاديَّة ضدّها. والكلّ يقولون تعالوا لنتناقش، إنَّنا نرفض هذه التُّهمة وتلك التُّهمة، وأنَّكم ظالمون..
ولكنَّ أمريكا ليست مستعدَّةً لأن تسمع، لأنَّ القضيَّة عندها هي أن تتَّهم، وأن تثبّت الاتّهام كيفما كان. لذلك عملت على الإدانة لكلّ هذه الدّول، والضَّغط على مجلس الأمن الدّولي الَّذي حوَّلته إلى مجلسٍ للأمن القوميّ الأمريكيّ، من أجل فرض العقوبات على أكثر من دولة من الدّول الَّتي تعارض السياسة الأمريكيَّة الاستكباريّة الظَّالمة.
أمَّا إسرائيل، فقد تنكَّرت لكلِّ قرارات الأمم المتَّحدة؛ تنكَّرت للقرار 425 المتعلّق بلبنان، وغيره الكثير من القرارات، وهي الآن تقف لتهاجم الأمم المتَّحدة، ولتهدّدها بأنَّها سوف تربك أعمال قوَّاتها في جنوب لبنان، ولتنسّق مع أمريكا في عدم التَّجديد للقوَّات الدَّوليَّة في جنوب لبنان من منطلق معاقبتها، ولتتحدَّث مندوبة أمريكا سابقاً بطريقة سلبيَّة ضدَّ الأمم المتَّحدة، لأنَّها وقفت ضدَّ إسرائيل ولم تتعاطف معها.
ولكنَّ أمريكا تحاول دائماً أن تقول إنَّه لم يثبت إجرام إسرائيل، وإنَّ من حقّ إسرائيل أن تدافع عن نفسها، لا تدينوا إسرائيل حتّى لا تسيئوا إلى مسألة التسوية، أمَّا أن تدان أيّة دولة عربيَّة أو إسلاميَّة، فهذا لا يضرّ بالتَّسوية، فقط عندما تدان إسرائيل، أو عندما يراد إثبات أيّ قرار يحاسب إسرائيل، فإنَّ صوت أمريكا يرتفع أنّكم تسيئون بذلك إلى قضيَّة السَّلام.
تأثيرُ الشّعوب
إنَّنا عندما ندرس هذا الموقف الأمريكيَّ المنحاز انحيازاً كلّياً إلى إسرائيل ضدّ كلّ شعوب المنطقة، فإنَّنا نتصوَّر أنَّ آلاف الهتافات والاحتجاجات (الموت لأمريكا)، وآلاف التَّعليقات السياسيَّة الشَّاجبة، لن تستطيع أن تغيّر من موقف أمريكا شيئاً، لأنَّها تشعر بأنَّها قوَّة سياسيَّة وعسكريَّة واقتصاديَّة في العالم تتقدَّم على أيّة قوَّة أخرى، ولذلك لا تهمّها الكلمات ما دامت تستطيع أن تضغط على الحكومات والأنظمة..
والمسألة الَّتي يمكن أن تكون فاعلة، هي أن تتحرَّك الشّعوب، لتفرض، أوَّلاً، على حكوماتها الموقف الَّذي يوحي إلى أمريكا بأنَّ مصالحها بدأت تهتزّ، وأنَّ خططها السياسيَّة بدأت تواجه المشاكل، وهذا ما حدث عندما انتفضت شعوب المنطقة، سواء الشّعوب العربيَّة أو الإسلاميَّة، بعد الهجوم على لبنان، ولا سيَّما بعد مجزرة قانا، حيث ارتفعت الأصوات الثَّائرة والنَّاقمة، وانطلقت المناحات في كلّ بيت عربيّ وإسلاميّ، حتَّى ارتفعت الأصوات في بلدان كان الصَّوت فيها محبوساً ومكبوتاً، حتَّى إنَّنا سمعنا خطيب المسجد الحرام، ولأوَّل مرَّة، ينتقد أمريكا، وانتقاد أمريكا هناك هو يختلف عن انتقادها في أيّ بلد آخر، لأنَّ الموقع هناك هو من المواقع الاستراتيجيَّة لنفوذ أمريكا في المنطقة.
فلماذا انطلقت هذه المبادرة؟ لأنَّ هناك ضغطاً شعبيّاً أريد احتواؤه، ولأنَّ هناك واقعاً شعبيّاً ضاغطاً لم يستطع المسؤولون أن يصمّوا آذانهم عنه، لأنَّه سوف يفتح المجال لإرباكات كثيرة قد تتجاوز هذا الموقف وهذه المرحلة.
مقاطعة البضائع الأمريكيَّة!
ومن هنا، فإنّنا نعتقد أنَّ صرخة الشّعوب يمكن أن تعطي نتائجها، ولذلك دعونا، ولا نزال ندعو الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة الَّتي تعاني بأجمعها ضغط الاستكبار الأميركيّ على اقتصادها وسياستها وأمنها، أن تنطلق في حركة شعبيَّة من أجل مقاطعة البضائع الأمريكيَّة، بمقدار ما يمكنها من ذلك. قلتها مراراً: أنا لسْتُ في مقام إصدار فتوى في هذا الموضوع، لأنَّ المسألة تحتاج إلى دراسات اقتصاديَّة دقيقة، لكنّي أريد للشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تعبّر عن موقفها بالطَّريقة الَّتي تجبر الآخرين على احترامنا.
فليدرس كلّ واحد ظروفه وحاجاته، ولينظر ما الَّذي يستطيع أن يتخلّى عنه من البضائع الأمريكيّة، بما لا يخلّ بظروفه وتوازنات واقعه الاقتصاديّ، فلو كنْتَ، مثلاً، تستعمل عشر بضائع أمريكيَّة، وكان بإمكانك أن تستغني عن أربع منها، فاترك هذه الأربع، إذا كانت ظروفك لا تسمح بأكثر من ذلك.
لذلك أنا لا أقول قاطعوا كلَّ البضائع، ولكن أقول احترموا أنفسكم، أيُّها المسلمون والعرب، لتعرف أمريكا، وليعرف كلّ العالم، أنَّنا أمَّة تحترم نفسها، وتعمل على أن تعاقب كلَّ من يسيء إليها، وكلَّ من يجرم في حقّها.. إنَّ الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة، إذا قامت بعقاب أمريكا سلميّاً، من خلال معاقبتها اقتصاديّاً، بالامتناع عن شراء البضائع الأمريكيَّة، ولا سيَّما أنَّ هناك بدائل من البضائع اليابانيَّة والأوروبيَّة والآسيويّة والمحلّيّة، فإنّها ستشعر عندها بالخطر على مصالحها الاقتصاديَّة، وعندما تشعر بالخطر على مصالحها، فلا بدَّ أن تتحرَّك من خلال ضغط الشَّركات الأمريكيَّة، ومن خلال أكثر من موقع، لتتوازن في سياستها تجاه الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة.
إنَّ أمريكا تعطي إسرائيل كلَّ شيء، وتدفع لها في كلّ سنة ما يقارب 3 مليارات دولار، إضافةً إلى الأشياء الطَّارئة، كما يحدث بين وقت آخر، ونحن ندفع بطريقة غير مباشرة ثمن الصَّواريخ الأمريكيّة الّتي تقدَّم إلى إسرائيل، وندفع ثمن الأسلحة بشكل غير مباشر، ندفعها من البترول، ومن السّجائر الّتي ندخّنها، ومن كلّ الأشياء الَّتي نستعملها، لأنَّ كل شيء يقوّي الاقتصاد الأمريكيّ، فإنّه سيكون قوّة لإسرائيل.
إنَّني أريد أن أطلق هذه الفكرة في وعي كلّ الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة، حتَّى لا نكون مجرَّد شعوب تهتف بالموت لأمريكا، وفي المقابل، تعطيها كلَّ حيويَّة الحياة من خلال اقتصادها هنا وهناك.
النّفاق الأمريكيّ
لقد سمعنا الرئيس الأمريكيّ أيضاً بالأمس يجيب عن سؤال حول سياسة أمريكا المنحازة إلى إسرائيل، وأنَّ هذا ربما يخرج أمريكا عن مصداقيَّتها في السياسة العادلة المتوازنة، فماذا كان جوابه؟ كان جوابه أنَّنا ندعم مصر والأردن وعرفات، وقد أوقفنا إطلاق النَّار في لبنان من خلال مساعي وزير الخارجيَّة، ونعمل للتَّسوية، ولذلك فإنَّنا متوازنون، نعطي العرب ونعطي إسرائيل، ونقوم بحلّ مشاكل العرب ومشاكل إسرائيل..
وهذا الرّئيس الأمريكيّ يريد أن يضحك على العالم.. فأمَّا مصر، فقد جاء الدَّعم الأمريكيّ لها لأنّها تحوَّلت في سياستها من الاتّحاد السّوفياتي إلى السياسة الأمريكيَّة، ولأنّها خرقت الصّراع العربي الإسرائيلي بمصالحتها لإسرائيل، ولذلك انطلقت المساعدات الأمريكيّة لها كجائزة لتقوم برعاية المصالح الأمريكيَّة في المنطقة، ومن أجل أن تكون القوَّة الَّتي تدعم إسرائيل في المنطقة.
أمَّا الأردن، فقد حرم مدَّة طويلة من المساعدات الأمريكيَّة، وكادت أمريكا في بعض الحالات أن توحي بأنَّها تريد أن تعاقب الأردن من جهة علاقاته مع النظام العراقيّ، وفجأةً، أُعطِي الأردن مساعدات، ليس بالحجم الَّذي كان يرجوه، لأنَّ شرط المساعدات كان أن يصالح إسرائيل.
وأمَّا عرفات، فإنَّ أمريكا تعطيه بالقطَّارة، فهي فرضت له 500 مليون دولار، ولكنَّ ما أعطته إيَّاه حتّى الآن، بالكاد يصل إلى مائة مليون دولار أو يزيد قليلاً، بالرّغم من المشاكل الّتي يعيشها. وهذه العطايا لأنَّه صالح إسرائيل، ولأنّه ألغى الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي في هذا المجال، وبذلك ألغى معنى الصّراع العربي الإسرائيلي المنطلق من فلسطين.
أمَّا قضيَّة وقف إطلاق النَّار في لبنان، فقد جاء إنقاذاً لإسرائيل وليس لإنقاذ اللّبنانيّين، لأنَّه شعر بأنَّ إسرائيل سقطت في الوحل، وفقدت العطف من كلّ العالم بعد مجزرة قانا وغيرها من المجازر.
وحتَّى موضوع التَّسوية، فإنَّه يريد تسويةً لحساب إسرائيل، ولا يريد تسويةً لحساب العرب في هذا المجال، إنَّه يريد السَّلام الإسرائيليَّ، ولا يريد السَّلام العربيَّ.
لهذا، نحن نقول له وفّر على نفسك كلَّ هذا الحديث، لأنَّ اللُّعبة لن تنطلي علينا، لأنَّنا اكتشفنا ما معنى أمريكا في كلّ واقعها تجاهنا، واكتشفنا الهستيريا الأمريكيَّة في دعم حكومة العدوّ، وفي دعم رئيسها، ولو على حساب كلّ العالم العربيّ، وكلّ قضايانا الكبيرة والصَّغيرة.
إدانةٌ بشهادة صهيونيَّة!
وفي هذا الملفّ، أيُّها الأحبَّة، أحبُّ أن أقرأ عليكم بعضاً من مقال نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيليَّة في هذا اليوم، باعتبار "شهد شاهدٌ من أهله"، قالت: "لقد قتلناهم - ويقصد اللّبنانيّين – بفاعليَّة، وإذا كانت ذريعتنا الكبيرة هي أنَّ المسؤوليَّة لا تقع علينا، وإنما تقع على حزب الله، فهي ذريعة واهية، ذلك لأنَّنا عندما اتَّخذنا القرار بفتح النَّار بغزارة على المناطق السَّكنيَّة في جنوب لبنان، في وقت لم يكن هناك خطر حقيقيّ يهدّد إسرائيل، فإنَّنا قرَّرنا بذلك في الواقع، أن نسفك دماء عدد غير محدود من المدنيّين الأبرياء، وعندما اتَّخذنا قرارنا بإخراج نصف مليون شخص من منازلهم، وقصف من بقي منهم، في وقت لم يسقط أيّ قتيل إسرائيليّ، فإنَّنا قرَّرنا بذلك في الحقيقة أن نقتل العشرات منهم. إنَّنا مقتنعون إلى درجة لا تقبل الشّكّ، بأنَّ حياة الآخرين - من اللّبنانيّين والعرب - ليست بالأهميَّة الَّتي نوليها لحياتنا، طالما أنَّ البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ الأمريكيّ، وصحيفة نيويورك تايمز، طوع بناننا، وطالما أنَّ لدينا المنظَّمات اليهوديَّة في أمريكا الَّتي تبرّر لنا كلَّ نفعله في القتل والتَّدمير".
وهذه ليست صحيفة عربيَّة، بل صحيفة إسرائيليَّة. فما معنى ذلك؟ معناه أنَّهم اتَّخذوا قرارهم بسفك دمائنا، وبقصف المدنيّين الأبرياء منَّا، وأنَّ المسألة كانت منطلقة من خطَّة متعمَّدة، في الوقت الَّذي يعترف هذا الصّحافي بأنَّ أمن إسرائيل لم يكن مهدَّداً، وأنَّه لم يسقط أيّ إسرائيليّ.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نؤكّد هذه الأمور، فإنَّنا نريد لشعبنا أن يعي جيّداً معنى هذه الحرب، وأنَّها انطلقت من عقل بارد وقرار حاسم بأن يقتلوا أكبر عدد ممكن من المدنيّين الأبرياء، حتَّى يصرخ المدنيّون في وجه المقاومة والدَّولة، فيكون المدنيّون هم الَّذين يقومون بإسقاط المقاومة لا إسرائيل، حتَّى لا يرتفع أيّ صوت للحريَّة..
ومع ذلك، نجد أنَّ الدّول العربيَّة، ولا سيَّما مصر والأردن، تعمل على أن تعقد قمَّة رباعيَّة مع عرفات وبيريز، من أجل مواجهة الموقع لتخفيف الاحتقان، ولتخفيف هذه الثَّورة الشَّعبيَّة العربيَّة ضدّ قرارات شعوبهم.. ويتحدَّثون أنَّ أمريكا عادلة نزيهة، وأنَّ المشكلة الآن بالنّسبة إلى بيريز هي مشكلة تعقيدات انتخابيَّة.
أبعاد التّحرّك التّركيّ
وأخيراً، هناك نقطة مهمَّة لا بدَّ أن نثيرها، وهي هذه الحركة التركيّة الجديدة، فنحن نعلم أنَّ تركيا دخلت أرض العراق بحجَّة متابعة حزب العمَّال الكرديّ الَّذي يطالب باستقلاله، وليست هذه القضيَّة ما نريد تسليط الضّوء عليه، لأنَّ هذه القضيَّة أصبحت طبيعيّة من خلال الهجوم التركي والضّوء الأخضر الأمريكيّ، لكنَّنا نقف عند تصريح المسؤول التركيّ بأنَّهم ربَّما يدخلون الأراضي السّوريَّة، وربَّما يدخلون الأراضي الإيرانيَّة، من أجل الدّفاع عن أمنهم، لملاحقة حزب العمَّال الكرديّ الَّذي يتَّخذ قاعدةً له في سوريا وقاعدةً في إيران.
إنَّ معنى ذلك هو تبرير احتلال إسرائيل للبنان بحجَّة الدّفاع عن الأمن، وبحجَّة متابعة الَّذين يسيئون إلى أمنها. ثمَّ أليست هذه خطّة أمريكيَّة تعمل على إيجاد موقف تنسيقيّ أمريكيّ تركيّ إسرائيليّ، من أجل الضَّغط على سوريا حتَّى تقدم التنازلات لإسرائيل، ومن أجل الضَّغط على إيران حتّى تقدّم التنازلات لأمريكا؟!
ويبقى المستكبرون قوَّة غاشمة في وجه المستضعفين، وعلى المستضعفين أن يعرفوا ذلك، وأن يحدّقوا في القضايا الكبرى، وأن لا يسقطوا أمام القضايا الصّغرى، أن نرتفع إلى مستوى مسؤوليّتنا في وحدة الموقف ضدّ العدوان وضدَّ كلّ المستكبرين في العالم.
البدء بصلاة الجمعة
وهناك نقطة أحبُّ أن أذكّر بها الإخوان، وهي أنّنا قرَّرنا في الجمعة القادمة، بعون الله، أن نصلّي صلاة الجمعة وليس صلاة الظّهر، وذلك في المسجد الجديد في حارة حريك، لأنَّ ما كان يمنعنا من القيام بصلاة الجمعة، هو أنَّه على رأي السيّد الخوئي، وغيره الكثير من العلماء، إذا أقيمت صلاة الجمعة، وجب الحضور، على الأحوط وجوباً، وهذا المسجد لا يتّسع لصلاة الجمعة. لذلك، بعد أن اكتملت المرحلة الأولى من المشروع الكبير في حارة حريك، في مسجد الإمامين الحسنين (ع)، سوف نقيم صلاة الجمعة في الأسبوع القادم، بعون الله، ولا بدَّ من الحضور قبل الصَّلاة، باعتبار أنَّ وقت الجمعة أضيق من وقت الظّهر.
والحمد لله ربّ العالمين.
 
*خطبة الجماعة للرّجال، بتاريخ: 10/05/1996م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية