مسؤولية التغيير في حركة الدعوة(*)
الإنسان وصناعة المستقبل
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد : 11]، ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى متناولاً آل فرعون والذين من قبلهم {... كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 52 ـــ 53].
القوانين الإلهية
في هذه الآيات حديث عن قاعدة إيمانية، وهي أنَّ الله عندما خلق كلّ شيء في هذا الكون فقد خلق معه القوانين التي تنظّم له حركته؛ فخلق السماء، وجعل للسماء في كلّ كواكبها وفي كلّ دوائرها وأوضاعها، القوانين التي تنظّم لها كلّ دورتها وكلّ أوضاعها، بحيث لا يختل من نظامها شيء. وخلق الأرض وما فيها من بحار وأنهار وينابيع وأشجار وجبال وسهول وما إلى ذلك، وجعل لها قوانينها في طبيعة كلّ الأوضاع المحيطة بها، بما يجعل الحياة فيها ممكنة وطبيعية. وهكذا نجد أنّ الله جعل لكلِّ كائنٍ نظاماً لا يختاره بنفسه ولكنّ الله يختاره له: أمّا الإنسان، فقد جعل الله نظامه في خطّين: هناك خطّ لا يملك الإنسان الحريّة في تغييره، وهو طبيعة الأجهزة الموجودة داخل جسمه، وطبيعة علاقة جسمه بالنظام الكوني من حوله، وطبيعة الموت والحياة؛ إنَّ هذه أمور تتمّ بإرادة الله سبحانه وتعالى، من خلال علاقة الإنسان في وجوده كجسد وككيان بالكون من حوله، فالجسم يتأثّر بالحرّ والبرد وباللّيل وبالنهار، ويتأثّر بكثير من الأوضاع التي قد يمرض منها إذا لم يكن هناك انسجام بينه وبينها.
الإنسان والاختيار
أمّا عمل الإنسان وحركته في الحياة ونظام وضعه وعلاقاته وأهدافه وحركته في الحياة، فقد أراد الله أن يكرّم الإنسان فيجعل أمره بيده، بحيث إِنَّ الله سبحانه وتعالى قال للإنسان، لقد أعطيتك عقلاً تستطيع أن تميّز فيه ما يضرّك وما ينفعك، وأن تتعرّف فيه ما يصلحك وما يفسدك، وأعطيتك جسداً يستطيع أن يتحرّك في كلّ موقع توجّهه فيه، أعطيتك العينين اللّتين تبصر بهما ما تحتاجه في كلّ مواقعك من الحياة من المرئيّات، وأعطيتك الأذنين اللّتين تسمع بهما كلّ ما تريد أن تتعرَّف إليه ممّا يتّصل بمسؤوليّتك في الحياة، في ما تسمعه من قصف الرعود، ومن حركة الرياح، ومن كلّ ما يحيط بك من أصوات الحيوانات، وأصوات الناس والكون من حولك، كأصوات الأمواج وغير ذلك، أعطيتك ذلك كلّه، وأعطيتك اليدين اللّتين تستطيع أن تطلقهما، لتتحرّك في كلّ ما يبني لك حياتك وفي كلّ ما ينظّم لك وضعك، في ما تحتاجه من حركة اليدين من ذلك كلّه، وأعطيتك رجلين لتسعى بهما إلى ما تريد أن تصل إليه، وأعطيتك اللّسان الذي تستطيع من خلاله أن تنقل أفكارك إلى كلّ من حولك. هكذا زوّدتك بكلّ الأجهزة التي تستطيع من خلالها أن تتحرّك إلى ما تريد كما تريد، وأعطيتك بعد ذلك الوحي، الذي يعين عقلك على تلمّس كلّ ما يريد أن يتعرّف عليه من حقائق الأشياء.
أيُّها الإنسان، لقد خلقتك خلقاً لم أخلق أحداً مثله، فأعطيتك كلّ شيء، وسخَّرت لكَ الكون كلّه من أجل أن تشارك كلّ ظواهر الكون في تدبير الوضع الذي تستطيع أن تعيش فيه في حياتك. سخّرت لكم السموات والأرض من خلال الظواهر الكونية في هذا النظام التي تجعل من أرضكم أرضاً تستطيعون أن تعيشوا فيها. أيُّها الإنسان لقد خلقتُ لكَ ذلك وقلت لكَ تحمّل مسؤوليّتك، لم تتحمّل السماء مسؤوليّتها بل قالت يا ربّي إنّي أعطي كلّ طاقاتي لتنظّمها أنت، لأنَّ الله قال لهما ـــ للسماء والأرض ـــ {... اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11]. لكن أيُّها الإنسان لقد جعلتُ أمرك بيدك، حمّلتك مسؤولية نفسك، أنتَ تستطيع أن تحرّك نفسك كما تريد، بعقلك وإرادتك وبحركة الأجهزة المودَعة بجسمك، وبحركة الأشياء التي هيّأتها لك، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ...} [الأحزاب : 72].
الأمانة يحملها الإنسان
ما هي الأمانة؟ الأمانة هي المسؤولية. إنّ الله يريد أن يعبّر لنا عن ثقل المسؤولية وعن خطورتها، فكأنَّ الله يريد أن يصوّر لنا أَنّه قال للسماوات، لتتحمّل مسؤولية إدارة وضعها بنفسها فأبت السماوات وخافت لأنَّ المسؤولية تستتبع غضب الله إذا انحرف الإنسان عنها، والسماوات لا تطيق غضب الله؛ وقال الله للأرض: تحمّلي مسؤولية إدارة كلّ نظامك بنفسك وأنا أُهيِّئ لكِ ذلك، فأبَت الأرض وقالت: يا ربّي ركِّز لي نظامي بما تريد، لا تحمِّلني شيئاً، لأنّي أشفق أن أتحمّل مسؤولية إدارة نظامي، وأَبَت الجبال الضخمة، التي تتعالى في الفضاء بكلّ صلابتها وشموخها وقوّتها وهي البارزة في مظهر القوّة في الأرض.
قال الله لها: تحمّلي مسؤولية نفسك أيّتها الجبال، أديري نظامك، نظام الينابيع في داخلك ونظام الثلوج التي تتجمَّع على ظهرك، وكلّ ما يعيش في داخلك من كهوف ومغاور وحيوانات، وأبَت الجبال عندما خيَّرها الله أن تتحمّل مسؤولية نفسها وأشفقت من ذلك، لأنّها تخشى أن تنحرف بها المسؤولية فتُغضِب الله، وقد قال عليّ (عليه السلام) في ما نقرأه من دعاء كميل: "لأنّه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض".
يؤكّد عليّ (عليه السلام) الفكرة التي تقول بأنَّ السموات والأرض أشفقن من أن يحملن المسؤولية، لأنَّ المسؤولية قد تنحرف بالإنسان، وقد يخطئ فيتعرّض لغضب الله؛ أو قد تخطئ السماوات والأرض فتتعرَّض لغضب الله، وهي لا تطيق ذلك.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ...} قال يا ربّ، أنا للمسؤولية، سأتحمّل مسؤولية نفسي، وسأتحمّل مسؤولية الحياة من حولي، سأنفّذ كلّ ما تريد، ماذا حدث؟ {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72] ظَلَمَ نفسه، وكان جاهلاً بحمل المسؤولية وخطورتها في ذلك كلّه. إذاً نفهم من هذا الجوّ أنّ الله سبحانه وتعالى حمَّل الإنسان مسؤولية صنع حياته، وصنع تاريخه، وقال له: إنَّ الظروف لن تضغط عليك، وإنْ شعرتَ بأنّها يمكن أن تحتويك، ولكنّك تستطيع أنتَ أن تصنع الظروف، وتستطيع أن تصدم الظروف، وأن تتعامل مع الظروف من حولك، لأنّك تملك العقل الذي إذا واجهه ظرف صعب، يفكِّر فيختار موقفاً يخفّف من صعوبة الظرف، ويؤدّي إلى نشوء ظرفٍ آخر يلغي ذلك الظرف كلّه. لستَ خاضعاً للظروف بحيث تكون مشلولاً أمامها، أنتَ الفرد لو كنت تعيش في ظروف الكفر فإنّك تستطيع بإرادتك أن تكون المؤمن في مجتمع الكفر، ولو عشتَ في مجتمع الظلم تستطيع أن تكون العادل في مجتمع الظلم، لأنّك تملك الإرادة التي تقول لا، وتقول نعم. قد يضغط الناس على جسمك فيمنعونك من الحركة، ولكن مَن يستطيع أن يضغط على فكرك وفكرك لا يملكه أحد إلاّ الله، لأنَّ السياط مهما ضربت على جسدك لا تستطيع أن تضرب فكرك، ولا تستطيع أن تغيِّر قناعاتك لأنَّ قناعاتك صنع عقلك وصنع إرادتك، ولهذا فإنَّ الظروف مهما أطبقت عليك فإنَّ عقلك يصرخ لا، وإنّ قلبك يصرخ لا، مهما عَلَت صرخات جسدك، ومهما عَلَت صرخات الناس من حولك.
الإرادة في خطّ الله
إنَّ عقلك عندما يكون في سلامته، وإيمانك عندما يكون في قوّته، يستطيع أن يرفض ذلك كلّه، لهذا فالله يحمّل الإنسان مسؤولية صنع تاريخه. أنتَ كإنسان تستطيع أن تصنع تاريخك، تاريخ حياتك، بما تؤكّده في عقلك من موقف، وبما تؤكّده بإيمانك من خطّ. أنتَ تصنع تاريخك وذلك فأنتَ مسؤولٌ عن تاريخك. قد تعيش بين أبويك وعقلك وإرادتك معك، ولن يكون أبواك مسؤولين عنك، أنتَ المسؤول عن ذلك، لو ضغطا عليك لتنحرف، فإنّهما لن يستطيعا أن يجبراك على الانحراف، لأنَّ عقلك وإرادتك يرفضان ذلك. وهكذا عندما تعيش في أيِّ مجتمع من المجتمعات فأنتَ تستطيع أن تكون الإنسان البارز في المجتمع في ثباتك على إيمانك من خلال عقلك وإرادتك، ولن يستطيع أحد أن يلغي ذلك كلّه، وإذا جاءتك المشاكل من هنا وهناك فعليك أن لا تسقط أمامها، ولا تسقط أمام قوى الانحراف، وأمام قوى الكفر، بل لا بدّ من أن تعمل على أن تنفذ إلى كلّ ما حولك وكلّ من حولك من أجل أن تخفِّف من الضغوط، حتّى تجد المَنْفَذ والمخْرَج. وقد قال الله للمتّقين، كلّ المتّقين، إنَّ الأبواب المسدودة التي تحيط بكم لن تحاصركم، بل إنَّ هناك باباً يفتحه الله لكم من غامض علمه، وإنَّ حصار الرزق الذي يحاصركم به الناس لن يفقركم، لأنَّ لله منافذ للرزق تختلف عن ما يعرفه الناس، {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 2] والتقوى لله هي أن تؤكّد مواقفك على خطّ محبّة الله وخوفه ومَن يتَّقِ الله ويحاصره الناس ليضغطوا عليه، ومن يتّقِ الله ويضيق عليه الناس أبواب الرزق ليجوعوه وليفقروه، {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...}، فهو كافيه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 2 ـــ 3] وعليك أن تعرف الخطوط التي يركّزها الله لك، حتّى تستطيع أن تعرف كيف تسير في طريق الله للوصول إلى أهدافك.
مسؤوليّتنا بين ضغوط الواقع وحركة العقل
وهكذا نتحمّل مسؤولية أنفسنا من خلال قدرتنا على تربية أنفسنا، أنت لم تُصنع شرّيراً إذا كنتَ الآن شريراً، ولم تصنع خيّراً إذا كنتَ الآن خيّراً، لقد خلقك الله ورقة بيضاء، تستطيع أن تكتب فيها الخير من خلال التزام إرادتك بالخير، وتستطيع أن تكتب فيها الشرّ من خلال التزام إرادتك بالشرّ، فالله لم يضعك في الطريق الشرّير أو الطريق الخيّر. الله قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 3] لقد هداك الله الطريق، وقال لكَ هذا طريق الخير سرّ فيه والجنّة في نهايته، وهذا طريق الشرّ لا تسر فيه لأنَّ النار في نهايته، وأنتَ حرّ في ذلك، وقال للرسول {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29] وقال للإنسان بعد ذلك أتريد أن تكون مؤمناً أو كافراً؟ اعرف هذه الحقيقة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8] فدبِّر نفسك بنفسك. إذاً أنتَ تستطيع أن تربّي نفسك، قد يربّيك أهلك على طباع معيّنة، وعلى عادات معيّنة، وعلى أفعال معيّنة، وعلى كلمات معيّنة، قد لا تكون هذه الطباع والعادات والأفعال والكلمات في مصلحتك، ربّما تسير مدّة تحت ضغط أهلك ولكن عندما تنتبه وتصطدم بالحياة؛ قف وفكِّر إنّ ما جاء به أهلك قد لا يكون الحقيقة، لأنَّ الله قد علَّم رسوله عندما كان الناس يقولون {... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] قال: {... أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] هل تسيرون وراء آبائكم وتلتزمون عاداتهم أو عادات مجتمعكم، حتّى لو كان مجتمعكم غير عاقل وغير مهتد. إنَّ الإنسان لا يلتزم الضلال ليتعصَّب له. لا بدّ لك أن تفكّر؛ فقد علَّم الله رسوله أن يقول لأمثالنا ممّن يلتزمون عادات مجتمعهم، سواء كان مجتمعاً عشائرياً أو مدنيّاً أو عائلياً، ويتعصَّبون له، إنَّ الله قال لرسوله قل لهم {... أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ...} [الزخرف: 24] ما رأيكم هل تظلُّون مصرِّين، حتّى لو جئتكم بالدعوة التي هي أكثر هدىً ممّا وجدتم عليه آباءكم؟ هل تتعصّبون لآبائكم؟ إنّكم عندما تتعصَّبون لخطأ آبائكم أو مجتمعاتكم، أو عندما تتعصّبون لضلال آبائكم أو لضلال مجتمعاتكم، فإنَّ معنى ذلك أن تتعصَّبوا للتاريخ وللمجتمع على حساب مصيركم في الدنيا، وقد يكون على حساب مصيركم في الآخرة.
التعصُّب... جهل
هل من العقل أنْ تتعصَّب بالخطأ، حتّى لو كسر لك الخطأ رقبتك؟ أن يتعصّب الإنسان للحقّ ويكسر لك الحقّ رقبتك فذلك في سبيل الله، وهو أمر عظيم. أمّا أن تتعصّب لضلال أو خطأ أو أيّ شيء سيِّئ وتورّط نفسك في الدنيا في الخسارة، وتورّط نفسك في الآخرة لدخول النار؛ أيّ عقل هو هذا العقل، من أبوك؟ إنسان عاش في بيئة معيّنة، قد تكون خيّرة فيتأثّر بها فيكون خيّراً، وقد تكون سيّئة فيتأثّر بها فيكون سيّئاً. أبوك مثلك، الفرق بينك وبين أبيك أنّه عاش في زمن وعشت في زمنٍ آخر. الزمن لا يعطي الحقيقة بل الفكر هو الذي يحدِّدها. إذاً ليكن أبوك أو رئيس منظّمتك أو رئيس حركتك، أيّ شيء من ذلك، ليكن ما كان فهو إنسان يملك فكراً، وأنتَ تملك فكراً، وفكره ليس حجّة على فكرك وليس حجّة لك، فإذا اتبعته بدون بصيرة لن تستطيع أن تدافع عن موقفك أمام الله، هل تقول إنَّ رؤساءنا وكبراءنا اختاروا لنا ذلك {... رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] انظروا ما أضعف هذا المنطق.
في هذا المجال حاولوا أن تعيدوا النظر في كلّ ما درجتم عليه من عادات ومن انتماءات ومن أقوال وأفعال، فإن وجدتموها خيراً أكّدوها في أنفسكم، وزيدوا عليها من الخير؛ وإذا وجدتم فيها شرّاً فحاولوا أن تغيّروا الشرّ، أن تغيّروا نفوسكم وتطردوا الشرّ بأن تحلّوا الخير مكانه. فقد قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) للناس، لكلّ إنسان ينخدع بكلام الناس وبضوضائهم بإغرائهم وبتسويلاتهم: "لا يغرّنك سواد الناس من نفسك"(1) قد يحسّنون لك بعض الأشياء، ويقولون هذه عاداتنا نحن العشائر، فلا نقدر على أن نغيّر عادات الآباء والأجداد، أو يقولون أنّ هذا منطق العصر ولا نقدر أن نغيّر ظروف العصر أو يقولون أهل بلدنا تعوَّدوا على عادة معيّنة وعلى أوضاع معيّنة، أهل بلدنا محسوبون على هذا الزعيم، والأولاد وأولاد الأولاد يكونون إرثاً، هذه أشياء نعيشها في حياتنا.
الوقوف بين الله
ضمن هذا الجوّ، على الإنسان أن يفكِّر في أنّ هذه العادات، عندما تكون خطأ فعلينا أن نغيّرها، وهذه الانتماءات عندما تكون خطأ علينا أن نغيّرها. بعض الناس يقول الزمان فسد، ويجيبهم قول الشاعر:
يقولون الزّمان به فسادٌ وهم فسدوا وما فسدَ الزَّمانُ
الزمان ما هو؟... هو هذه الأيام وهذه الساعات والثواني وهذه كيف تفسد؟ نحن نفسد، إذاً الموضة تأتي من أُناس يصنعون الموضة، والعرف الاجتماعي يحدثه أُناس يصنعون العرب الاجتماعي، والعادات تأتي من خلال أُناس يصنعون العادات. وهكذا فعلى أيّ أساس نحن نلتزم هذه الأمور ونحن لا نملك حجّة أمام الله في الالتزام بمن صنعوا هذه الأمور. المسألة أنّنا سنقف جميعاً أمام يديّ الله، هذه حقيقة ولكنّنا غافلون عنها تماماً، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...} [النحل: 111] تعال يا فلان اقرأ كتابك وحاسِب نفسك {... كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] وهذا يفرض علينا أن لا نعمل عملاً إلاّ ونعرف كيف نجيب الله إذا سألنا الله ما هو دفاعكم عنه؟ هذه نقطة أساسية أن نجيب الله عن كلّ سؤال. ثلاثة يظلُّهم الله بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، من بين هؤلاء الناس رجلٌ لم يُقَدِّم رِجْلاً ولم يؤخِّر أخرى، حتّى يعلم أنّ ذلك لله رضى. إذ قال لي أحد لنذهب عند فلان أو لنسر في تظاهرة أو لنذهب ونقاتل، عليَّ أن لا أسمح لرجلي أن تتقدَّم إلاّ بعد أن أُفكِّر هل يرضى الله بهذا أو لا يرضى؟ أو عندما يقول لي فلان تراجع عن موقفك، فيفترض أن لا أتراجع بحجّة أنّ هذا صاحبي، يجب أن لا أغضبه أو هذا قريبي، كما حدث أيّام مسلم بن عقيل، حيث وقف الناس كلّهم في البداية مع مسلم ولكن سرعان ما جاءت المرأة لولدها والزوجة لزوجها والأخت لأخيها فقلن: يكفيك الناس، تراجع عن موقفك، فتأخذه العاطفة فيتراجع. ونحن في كثيرٍ من الحالات تأخذنا العاطفة ونتراجع، ولكنَّ الله يريدنا أن لا نتراجع على أساس العاطفة ولا نتقدَّم على أساس العاطفة، بل نتراجع على أساس رضى الله ونتقدّم على أساس رضى الله، هل نفكّر بهذه الطريقة؟ إنّ هذه هي الطريقة الحقيقيّة التي تجعل كلّ إنسان يمتلك الحجج القويّة التي يدافع بها عن نفسه أمام الله.
الأنانيّة والعصبيّة آفتان مدمّرتان
لهذا لا بدّ أن نعمل على أن نغيِّر أنفسنا في مجتمعنا، نحن نتربّى على الأنانية، يربّينا آباؤنا عليها، ويربّينا مجتمعنا عليها، في مجتمعنا نتربّى على أن لا يطيق أحدنا أن يكون هناك شخص مماثل له على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الجماعات في المواقع السياسية أو الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وعندما يقال للإنسان إنّ الساحة تسعك وتسع الناس الآخرين، وإنَّ السوق يمكن أن يربحك ويربح التاجر الذي إلى جانبك، وإنّ المجتمع يمكن أن تتعايش فيه أنتَ والآخرون من دون أن ينقص من حظّك أو ينقص من حظّ الآخرين، لماذا تريد أن تلغي وجود الآخر، ودوره وموقعه؟ لماذا والساحة يمكن أن تتّسع لك وتتّسع للآخر؟ ولكنَّ الأنانية تصرخ في داخل أنفسنا. لا للآخرين، أنا وحدي القيادة، أنا وحدي التجارة، أنا وحدي الاجتماع. الأنانية تفرض نفسها على الناس وتخرّب حياة الناس.
في البيت الزوج يقول أنا. وفي المجتمع، الذين يسيطرون على مقدّرات المجتمع يقولون نحن لا الشعب، والكثيرون من الناس يقولون نحن لا الآخرون ممّن يتساوون في مراتبهم. الأنانية دمّرتنا، لأنّها استطاعت أن تضع الفواصل الأساسية في ما بيننا، وتجعل الإنسان لا يلتقي بغيره، بل تعمل على فصله عن غيره، فتقيم الحواجز بين الناس ولا تكتفي بذلك، بل تعمل على أن تخلق في داخل أنفسنا روحاً عدوانية تجاه الآخرين. إنَّك تفكّر أنّ عليك أن تقمع الآخر وأن تسقطه، وأن تلغي دوره، وتثير النزاعات والخلافات والحروب من خلال ذلك. والإسلام لا مانع عنده من أن يحبّ الإنسان نفسه ولا مانع عنده من أن يتمنّى ما عند الآخرين لنفسه، ولكنَّ الإسلام فرَّق بين حالتين، بين الحسد وبين الغبطة. الحسد هو أن تجد نعمة عند أخيك وتتمنّى زوالها عنه، وأن تنتقل إليك. أمّا الغبطة فأن تجد نعمة عند أخيك فتحبّ أن تبقى له، وتتمنّى أن يكون لك مثل أخيك في هذه النعمة، أن تغبط الناس بأنْ تتمنّى ما عندهم على أن يكون لك مثله مع بقائه عندهم. هذا أمر شرعي وأخلاقي، أمّا أن تتمنّى زوال نعمة إنسان لتكون لك، لماذا تفعل ذلك؟ أتخاف أنّ الله لا يملك نعمة ثانية مماثلة لهذا الإنسان ونعمة الله تسع الناس كلّهم ولا ينقص منها شيء، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف : 109]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا...} [النحل : 18].
الأنانية لا تحلّ المشاكل
الله أعطاك نِعَماً وأعطى غيرك نِعَماً، لكَ عينان تبصران ولكلّ الناس عيون تبصر، لكَ أُذنان تسمعان ولكلّ الناس آذان تسمع. إنَّ الله يخلق الناس، خلق ما خلق ويخلق ما يخلق ولا يحتاج إلى أن يزيل عيني إنسان ليعطيها لإنسانٍ آخر، بل يخلق النِّعَم كما يخلق الأشخاص، ولا ينفد خلقه. يخلق النِّعَم ولا تنفد النِّعم، فلماذا تريد أن يضيّق نِعَم الله؟ نقلت لكم مرّة عن أعرابي جاء إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقال: يا رسول الله أُريد أن أدعو. قال: ادعُ. قال: "اللّهم أغفر لي ولمحمّد ولا تغفر لأحد بعدنا"، النبيّ التفت إليه قائلاً لماذا تريد أن تحصر رحمة الله فينا نحن الاثنين فهل إذا أراد الله أن يرحم غيرنا ينقص من رحمتنا؟! كلا لن ينقص، "يا هذا لقد حجَّرت واسعاً"، معنى ذلك أنّك إذا كنت في الصحراء وتريد أن تأخذ مساحة من الأرض، والأرض واسعة وكبيرة جداً فإنّك لا تحتاج أن تحجر هذه الأرض، متى تحتاج أن تحجرها وتسورها؟ تحتاج إلى ذلك عندما تكون الأرض ضيّقة فتخاف أن يأخذ أحد من حصّتك فتسور أو تحجر، أمّا في الصحراء فلو أخذ كلّ الناس من الأرض، يبقى لك حصّة واسعة فلماذا تحجر وتسور؟ كذلك الله وسعت مغفرته السماوات والأرض فلماذا تريد أن تحجر نعمة الله؟ إذاً الأنانية غير عملية وغير واقعية والإسلام يقول "إنَّ الله يحبّ المرء المسلم الذي يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه"(1). كلّ النتائج السلبية التي تأتي من الأنانية لا يمكن أن تتغيَّر، كلّ أوضاع الصراع التي نعيشها وكلّ المشاكل الآتية من الأنانية لن تُحلّ ما دامت نفوسنا مشبّعةً بالأنانية، لأنَّ ما في أنفسنا ينعكس على أعمالنا، ولأنَّ الله {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]. لهذا لا بدّ أن نغيِّر هذا الشيء.
ومن مشاكلنا التي نعيشها مشكلة العصبيّة. نحن نتعصّب ذاتيّاً، فيتعصَّب الإنسان لنفسه، ونتعصَّب عائلياً فيتعصَّب الإنسان لعائلته، ونتعصّب بلدياً ـــ إذا صحّ التعبير ـــ فيتعصّب الإنسان لبلده، ونتعصّب وطنياً ونتعصّب قومياً ونتعصّب طائفياً ونتعصّب حزبياً، نحن مجتمع العصبيّات، والعصبيّات نوع من أنواع الأنانية، تتميَّز بأنّها قد تضيق وقد تتّسع أيضاً، ما معنى أن تتعصّب؟ العصبيّة معناها إنّك تلتزم هذا وترفض ذاك، أيضاً أنْ تتعصّب بمعنى أن تجعل الحقّ معك ولو كنتَ مخطئاً وأن تجعل جماعتك في موقع التقدير والتعظيم، حتّى لو كانوا مستحقّين للتحقير. هذه هي العصبية، أن نعتبر أنّ جماعتنا وحزبنا وعشيرتنا وطائفتنا على الحقّ دائماً، وهكذا تعتبر أنّ كلّ شيء يتّصل بك أو بما تريد أن تلتزمه هو حقٌّ، وكلّ شيء يتّصل بالآخرين هو باطل.
نحن متعصّبون، وأوّل من تعصَّب وقادته عصبيّته إلى النار هو إبليس، هذا كلام يقوله عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إنَّ أوّل مَن تعصَّب هو إبليس حين تعصَّب لعنصره فقال {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12] نحن نعتبر أنّ عائلتنا أعظم من العائلة الأخرى، "أصغر رأس بالعائلة هو أفضل من أكبر رأس بالعائلة الثانية" ألاَ نقول هذا؟ كذلك فإنّنا في الطائفة وفي الحزب وفي الحركة وفي المنظّمة وفي كلّ شيء من الأشياء التي نعيشها نحن نتعصَّب لأنَّنا مجتمع العصبيات، ومشكلة مجتمع العصبيّات أنّه مجتمع يسحق الحقّ لحساب الباطل، حتّى لو رأى الحقّ أمامه، فهو يسحقه كما فعل إبليس، إبليس كان يعرف الله معرفة كبيرة، وكان العابد وهو يعرف أنّ طاعة الله تؤدّي بالإنسان إلى النجاة، ولكنَّ عصبيّته جعلته يتمرّد على الله سبحانه وتعالى، {... أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء : 61]، كلّ منّا يقول: أنا لا أخضع لابن العائلة الفلانية. غير ممكن، أنا أخضع لابن الضيعة الفلانية؟ غير ممكن، أنا أخضع لابن المحور السياسي هذا؟ إذا كان الحقّ معه فلماذا لا تخضع؟ أنتَ لست تخضع له بل أنتَ تخضع للحقّ. والعصبيّة تقود إلى الكبرياء والكبرياء يقود إلى الكفر أو الضلال، وهما يقودان الإنسان إلى النار.
الالتزام غير العصبيّة
لهذا لا بدّ أن نفكّر بأن نغيِّر طبيعة العصبية في أنفسنا، أن نفرِّق بين شيئين: بين الالتزام وبين العصبية، فرق بين أن تلتزم بفكر أو بخطّ أو بقيادة، وبين أن تتعصَّب. الالتزام فعل إيمان ومع ذلك أنا ألتزم وأفسح المجال للآخر كي يعطيني وجهة نظره، فالتزم الحقّ من خلال قناعتك وتكلَّم مع الآخرين في ما يقتنعون به، وإذا وجدت القناعة عندهم صحيحة، فتحوّل عن قناعتك إلى هذه القناعة المرتكزة على الحقيقة. وأنتَ حينها لا تخضع لهم وإنّما تخضع للحقّ، وهذا يجعلنا نعيش نقد وتصحيح أنفسنا. أنا إذا تعصّبت لنفسي، لا أقبل لأحد أن ينتقدني وبذلك أنا لا أُشارك في إصلاح نفسي، لكن إذا لم أتعصَّب لنفسي وجاء مَن ينقدني أقول جزاك الله خيراً، وأُحاول أن أدرس نفسي على أساس هذا النقد. وهكذا عندما نعيش في مجتمع فإنَّنا نستطيع أن نصلح بعضنا بعضاً من خلال تخلّينا عن العصبية، وحينها نركِّز أخلاقيّتنا وأوضاعنا وأفكارنا وخطوطنا على أساس الالتزام لا العصبيّة، وبذلك نستطيع أن نقف مرفوعي الرؤوس أمام الله.
لا تنزعجوا من مشاكلكم ولكن ابحثوا عن جذور المشاكل. نحن كثيراً ما نتساءل لماذا نتقاتل وندمّر ونتباغض؟ ونبحث عن الحلّ، ولن نجد الحلّ إلاّ إذا استطعنا أن نخضع لخطّة إيمانية نغيّر فيها ما فَسَدَ من أفكارنا ومن أخلاقنا ومن عواطفنا، فإنَّ التغيير في الداخل سوف ينعكس على الخارج. أنا عندما لا أكون أنانياً أتعاون معك، وعندما لا أكون متعصّباً أسمع لك، لكن كيف يمكن أن نغيّر المجتمع من دون أن نغيّر العناصر الأساسية الفكرية والروحية والعقلية والعاطفية التي صنعت مأساة المجتمع؟ لا يمكن. الآن إذا رأيت شخصاً يحبّ شيئاً ويستغرق فيه، فإنّك مهما حاولت أن تمنعه عنه، فإنّك لن تستطيع، فحتّى لو أجبرته على أن لا يفعل فسيعود إليه بعد أن يزول ضغطك عليه، لكن إذا جعلته لا يحبّ هذا الشيء، أو يبغضه، فإنّه سوف لا يحتاج إلى ضغطك لكي يتركه، لأنّه سيتركه على أساس قناعته.
كيف نؤكّد حريّتنا
هذه أمور دعونا نفكّر بها ونفكّر في أنّ الله أكّد لنا هذه الحقيقة {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] إنَّ الله جعل تركيبة الوجود الإنساني خاضعة، لهذه الخطوط. فنحن في المجالات العامّة يمكن لنا أن نكون أحراراً إذا نزعنا من أنفسنا روح العبودية للآخرين، وبقينا عبيداً لله وحده. فما دمت مستعداً، من أجل أطماعك وشهواتك وملذّاتك لأن تبيع نفسك للآخرين، وأن تستعبد نفسك للآخرين، فإنّك لو انطلقت في كلّ شعارات الحريّة فستبقى عبداً؛ ولكنّك إذا حرَّرت نفسك من عبودية الآخرين وشعرت بأنَّ الله خلق إرادتك حرّة، ويريد لها أن تبقى حرّة، وأنّ الله خلق كيانك حرّاً، ويريدك أن تبقى حرّاً، إذا آمنت بالحريّة كأساس في عقلك وفي إرادتك؛ فلو أنّ الكون أطبق عليك، ليستعبدك فإنّه لا يستطيع أن ينال من حريّتك شيئاً. وهذا ما عبَّر عنه إمامنا جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال: "إنَّ الحرّ حرٌّ على جميع أحواله إنْ نابته نائبة صَبَرَ لها وإنْ تداكَّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسِرَ وقهر واستبدل باليسر عسراً"(1).
عندما تعيش عقلية الحريّة في داخل كيانك، فلن يستطيع أن يستعبدك أحد، لأنَّ الحريّة تصرخ من أعماق نفسك إذا حاصر الآخرون جسدك. وإذا عشت العبودية في نفسك، فلن يستطيع أن يحرِّرك أحد، لأنَّ العبودية تكون جزءاً من ذاتك. لهذا عندما نريد أن نتحرَّر فعلينا أن نزرع الحريّة في أعماقنا، وعندما نريد أن نرفض الاستعباد في واقعنا فعلينا أن نعمل على أساس أن ننزع الاستعباد من نفوسنا. ولهذا كان الإسلام يركّز على الداخل، كما يركِّز على الخارج. الإمام عليّ (عليه السلام) له كلمة معروفة "الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخل في باطل إثمان، إثم العمل به وإثم الرضا به"(2)، يعني أنتَ حين ترى أُناساً يستعبدون آخرين وتقول من حقّ فلان أن يستعبد فلاناً فإنّك آثمٌ حتّى لو لم تتحرّك خطوة، لأنّك تدلّل على نفسية تشجّع الظلم، فأنتَ ظالم في عقليّتك، حتى لو لم تستخدم قوّتك في الظلم. إنَّ الله لا يريدك أن تكون ظالِماً في عقليّتك، كما لا يريدك أن تكون ظالِماً في حركتك في الحياة.
القِيَم في الإسلام تبدأ من الداخل، والله يريد للنّاس أن يؤمنوا بالقِيَم في الجانب الروحي. وهذا ما نريد أن نؤكّده في حركة حياتنا، عندما نواجه الاستعباد الذي يريد أن يفرضه الشرق والغرب علينا، والاستعباد الذي تريد أن تفرضه الصهيونية علينا، والاستعباد الذي يريد أن يفرضه الظالمون في الداخل علينا.
وفي هذا الإطار فإنَّ الناس على قسمين: هناك قسم يلهث وراء الاستكبار ووراء الصهيونية ووراء المهيمنين على مقدّرات الناس، ليأخذ منهم شيئاً لدنياه وليكون عبداً لهم في هذه الدنيا، وليجعل الناس لهم عبيداً. هذا البعض الذي يفكّر بهذه الطريقة مستعد أن يبيع نفسه، ويبيع بلده، ويبيع الناس من حوله ليحصل على مالٍ، أو على جاه، أو على شهوة، أو ما أشبه ذلك. هؤلاء أُناس يظلُّون عبيداً، حتّى لو استقلّ بلدهم مئة في المئة فإنّهم يجتذبون المستعمرين إليهم ليأخذوهم من قلب ساحة الحريّة، ولهذا فإنَّ كثيرين من الناس قد يعيشون في مجتمعات الاستقلال، ولكنّهم لا يطيقون الحريّة، لأنَّ نفوسهم مجبولة على العبودية، ولذا فهم يجتذبون القويَّ إليهم ليستعبدهم.
ما معنى أن تكون جزءاً من مخابرات دولية ضدّ بلدك أو ضدّ دينك أو ضدّ أهلك؟ ما معنى أن تكون عضواً من جهاز المخابرات الإقليمية أو المحليّة أو الدولية لتكشف أسرار أهلك وأهل ملّتك، أو لتكشف أسرار بلدك أو أُمّتك؟ معنى ذلك إنّك تعطي العدو ما يستطيع من خلاله أن يضغط على كلّ هؤلاء الناس، ليستعبدهم وليستعمرهم وليفرض إرادته عليهم، معنى ذلك إنّك لستَ حرّاً بل أنتَ عبد وتريد للناس من حولك أن يكونوا عبيداً. كلّ مَن يخضع لجهاز مخابرات ضدّ أُمّته فإنّه يعيش أخسّ أنواع العبودية في شخصيّته، ولن تنفعه كلّ وجاهته في ما يعطونه من وجاهة. وهناك أُناس يعيشون في داخل السجون وفي كلّ ساحات الاضطهاد، ولكنّهم يطلقون نداء الحريّة ويصارعون كلّ القوى من أجل الحصول على الحريّة، ويضحُّون بأنفسهم على مذبح الحريّة، لأنّهم يريدون للنّاس أن يكونوا أحراراً كما يريدهم الله أن يكونوا أحراراً، ويعتبرون الحريّة جزءاً من قضية الإيمان، فمن لا يؤمن بحريّته أمام القوى الطاغية، فهو ليس بمؤمن، لأنَّ الإيمان يفرض عليك أن تكون عبداً لله وحرّاً أمام الكون كلّه.
التلازم بين خطّ المقاومة وحركة الحريّة
لا بدّ لنا أن ننزع صفة العبودية من أنفسنا، وعلى هذا الأساس نقول، إنَّ مَن يعتبر أنّ الخطّ السياسي هو أن نعطي بأيدينا "لإسرائيل" إعطاء الذليل، وأن نقرّ لها إقرار العبيد، لا يمكن أن يكون مؤمناً، ولا يمكن أن يكون مسلماً بالمعنى العميق للإسلام، ولا يمكن أن يكون حسينياً، لأنَّ الحسين (عليه السلام) يرفض ذلك من كلّ إنسان، فكيف تكون حسينياً وتقبل ذلك؟ إنَّ معنى أن تكون حسينياً هو أن تلتزم شعارات الحسين (عليه السلام) المنطلقة، من خلال الإسلام الذي عاش الحسين (عليه السلام) من أجله. لهذا، كلّ مَن يتعاطف في قلبه، أو يبرّر في كلماته، أو يتحرّك في موقعه، ليؤيّد الهيمنة الإسرائيلية على المسلمين هنا وفي فلسطين وفي أيّ مكان، ليس من الإيمان في شيء، وكلّ من يعمل على تركيز الهيمنة الاستكبارية على المسلمين فليس من الإيمان في شيء، لأنَّ المؤمن هو الذي يحافظ على حريّة المؤمنين كما يحافظ على حريّة نفسه. ولهذا فإنَّ الذين يريدون أن يعطِّلوا حركة المقاومة ضدّ "إسرائيل" بأيّ أسلوب، وبأيّ طريقة في الداخل أو في الخارج، سواء على مستوى القِمَم العربية وغير العربية أو على مستوى المحاور السياسية، ليسوا من الإسلام في شيء، لأنّهم يريدون أن يعطِّلوا حركة الحريّة من أجل أن يكون الناس أحراراً؛ أمّا الذين يقاومون أو الذين يعملون على أن تكون للمقاومة الإسلامية، ولكلّ مقاومة مخلصة، حريّتها في الحركة فهم الذين يلتزمون الحريّة ويلتزمون الإيمان في ما أراد الله لنا أن نجاهد الكفّار والمنافقين.
إنَّنا في هذا الموقف نكبر حركة المقاومة الإسلامية، في مواجهة العدوّ، سواء كان ذلك في البقاع الغربي أو في الجنوب، وحركة كلّ المقاومين الذين يقاومون من موقع الإخلاص ومن موقع الرغبة في إذلال الواقع الإسرائيلي بأيّ طريق وطريقة، ونحن في هذا الموقف نذكر هذا الاسم المؤمن المجاهد الطيّب، هذا الحاج المجاهد الذي سقط في مواجهة العدوّ الإسرائيلي الحاج "محمد بجيجي" الذي يمثّل الإنسان المؤمن الواعي المجاهد، الذي أعرفه منذ مدّة طويلة فلم أرَ منه إلاّ الإيمان والإخلاص والاستقامة، حتّى رزقه الله الشهادة تثميناً لذلك كلّه. إنَّ الكثيرين يتحدّثون من موقع التعب ونحن نشعر أنّنا متعبون، لكن ما نريد أن نقوله هو أنّكم إذا كنتم تتحفَّظون في مواقفكم ضدّ المقاومة، حتّى ترتاحوا وحتّى تأمنوا على بلادكم، فلن تسمح "إسرائيل" بذلك لكم.
ضغوط وإغراءات صهيونية
إنّ ما تقوم به "إسرائيل" الآن من الإتيان بهؤلاء اليهود "الفلاشا" الذين استقدمتهم من الحبشة، لتضعهم في مزارع شبعا هو أوّل الغيث، وما تفعله "إسرائيل" منذ مدّة طويلة في المنطقة الحدودية في ما تسمّيه الحزام الأمني هو نوع من أنواع التطبيع الإسرائيلي للمنطقة هناك، ونوع من أنواع التخطيط ليعتاد الناس هناك على "إسرائيل" وعلى قوانينها واقتصادها وسياستها، وعلى أن يدافعوا عنها، لأنَّ هؤلاء الذين ينتمون إلى جيش العميل "لحد" هم جيش "لإسرائيل"، يدافعون عنها؛ وحتّى المسؤولون الإسرائيليون عندما يتحدّثون عمّا يسمّونه الحزام الأمني فإنّهم يتحدّثون عنه على أساس أنّه يؤمِّن الحماية لمستوطنات الجليل، إنّهم لا يتحدّثون عنه كموقع يريدون أن يمنعوا الفتنة أن تدخل إليه، كما يتحدّث بعض اللبنانيين، ولكنّهم يتحدّثون عنه، على أساس أن تكون كلّ هذه الأجساد التي تقاتل والتي تقف ضدّ أهلها بمثابة الحرس لأمن الإسرائيليين على حساب أمن المسلمين وأمن المستضعفين.
إنَّ المسألة تتحرّك في هذه الدائرة ولهذا فإنَّ "إسرائيل" أصبحت تستعمل الإغراءات؛ كلّ مَن له ولد في جيش ما يسمّى "لبنان الجنوبي" فإنَّ بإمكان أبيه وأخيه وأهله أن يعملوا داخل الأرض المحتلة، ليحصلوا على الدولارات أو على عشرات الألوف من الليرات في شهرٍ واحد وما أشبه ذلك. إنّها تستعمل الإغراء لذلك وتستعمل الضغط، والهدف التطبيع تماماً كما هي المسألة الآن في الضفّة الغربية وفي غزّة وفي الجولان، عملت "إسرائيل" على أن تجعل أهل فلسطين الآخرين يعتادون على الحياة الإسرائيلية وكما جعلت أهل الجولان يعتادون عليها حتّى تضمّهم إليها، عندما تتغيّر الأوضاع السياسية وتسمح لهم بضم الضفّة الغربية وغزّة كما ضمَّت الجولان، أن تضمّها من دون تعب لأنَّ الناس قد اعتادوا عليها ورفضوا غيرها، وهي تعمل الآن على أن تعقّد أهل المنطقة الحدودية من المقاومة، وأن تعقّدهم من كلّ شيء يربطهم بأهلهم، ويربطهم ببلدهم. إنّها خطّة مدروسة طويلة الأجل تعمل على ضمّ الأرض المحتلة.
يجب أن لا يشعر العدوّ بالأمن
وتبرز تصريحات جديدة مفادها أنّ "إسرائيل" تريد أن توسّع الحزام الأمني. ما الذي يمنع "إسرائيل" من أن تستقرّ؟ ما الذي يمنعها من أن تطبّع الناس هناك؟ الذي يمنعها من التطبيع إنّما هو المقاومة، تماماً كما هي الانتفاضة الإسلامية المباركة في داخل الضفّة الغربية وغزّة، التي أعادت للمسلمين الفلسطينيين روحهم الجهادية وعزّتهم وكرامتهم وحريّتهم، حتّى انتفضوا من أجل أن يواجهوا المشروع اليهودي الاستيطاني التطبيعي، وأيضاً عندما انطلقت المقاومة وانطلق المجاهدون فإنَّ المجاهدين وحدهم هم الذين يربكون مشروع "إسرائيل" في ما يسمّى "جيش لبنان الجنوبي"، ويربكون مشروع جيش "إسرائيل" في تطبيع العلاقات وتطبيع الناس مع "إسرائيل" في المنطقة الحدودية. وعلى هذا الأساس لا بدّ أن ندرس من جديد مسألة المنطقة الحدودية حتّى نعمل على أن لا يكون "لإسرائيل" أيّ أمن داخل المنطقة الحدودية، لا يكفي أن نربك أمن "إسرائيل" خارج المنطقة الحدودية بل لا بدّ من أن نعمل على أن لا يستطيع أيّ إسرائيلي أن يأخذ حريّته في التجوّل في بنت جبيل ومرجعيون وفي ميس وبليدا وغير ذلك، إلاَّ ويشعر أنّ المقاومة تلاحقه أينما كان؛ لأنّنا لن نستطيع أن ننقذ تلك البلاد من الضمّ إلى دولة "إسرائيل" إلاّ بهذه الطريقة، لأنَّ إسرائيل لا تفهم إلاّ بهذه اللّغة وهذا ما يجب أن نؤكّده. وإنّي أقول لكم لاحقوا الأمور وادرسوا الخطط، حتّى لا تكونوا كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب، فلا ترى أحداً ويخيّل إليها أنّ الصيّاد لا يراها؛ علينا أن نبصر الصيادين جيّداً. ليست المشكلة في أن نوحي لأنفسنا أنّه ليس هناك صيّادون وأنّ "إسرائيل" تريد أن تعيش حدودها بأمن وأنّنا إذا أعطيناها الأمن فسوف تعطينا أمناً مماثلاً. هذه خدعة وليس حقيقة أنّها تريد أن تسقط من أنفسنا روح المقاومة وروح الجهاد، حتّى نسترخي ونعيش في مجتمع استهلاكي يعمل ليومه ولا يعمل لغده، ينظر مواطئ أقدامه ولا ينظر إلى الأُفق الواسع. نحن نشعر بأنَّ موقع المقاومة ولاسيّما المقاومة الإسلامية صعب جداً لأنَّ المقاومة لا تواجه "إسرائيل" فحسب ولكنّها تواجه كلّ الواقع العربي السياسي المستسلم الذي يتعقَّد منها.
التطرّف حالة نسبيّة
وفي وقتٍ سابق صرّح في أجواء قمّة عمان، أو قبل ذلك، أمين الجامعة العربية بأنَّ المقاومة في جنوب لبنان قد انحرفت عن خطّها وأصبحت متطرّفة، لأنّها آمنت بالإسلام وحملت شعار الإسلام. صحيح يشرّفنا أن نكون متطرّفين، لماذا؟ لأنَّ التطرّف حالة نسبيّة. نحن متطرّفون بالنسبة لكلّ السياسة العربية المائعة، ونحن متطرّفون بالنسبة لكلّ السياسة العربية المستسلمة، ولكنّنا معتدلون واقعيون من خلال الخطّ الإسلامي المستقيم الذي لا يحتاج لأنْ يتطرَّف، ولا يحتاج أن ينحرف في القضايا التي أرادنا الله أن نحافظ عليها، وأرادنا الله أن نسير عليها في ما أراده لنا من السير في خطّ الجهاد.
حسابات المستقبل توحّد الموقف
ومن هذا المنطلق أريد أن أؤكّد من جديد على وحدة الموقف، قد لا تستطيع الساحة في مجمل واقعها أن تملك وحدة التصوّر أو وحدة الرأي، لأنَّ خلافات الرأي أمر طبيعي في الواقع، لكن في مرحلتنا الحاضرة يمكن أن نلتقي على أكثر من قضية توحّد موقفنا، وأكثر من خطّ يوحّد مسيرتنا، فلهذا لا بدّ أن نخرج عن أنانيّاتنا لحساب مستقبلنا، ولا بدّ أن نخرج عن عصبيّتنا لحساب أهلنا ولحساب إسلامنا وإيماننا ولحساب كلّ القِيَم الروحية والإيمانية التي نلتزمها في حياتنا، لا بدّ أن نأخذ من الماضي القريب والبعيد عبرة حتّى نحول دون أن يسقط المستقبل كما سقط الماضي في مشاكل وفتن وأحداث، وأريد أن أقول لكلّ الناس إنَّ الأرض تتّسع لكم جميعاً، فلا تحاولوا أن يضيِّق بعضكم على بعض إذا كنتم مخلصين لإسلامكم، وأريد أن أقول كفانا كلّ هذا اللّون من المهاترات ومن السباب والشتائم، لأنّ كلّ ذلك لن يؤدّي إلى نتيجة.
منهج عليّ (عليه السلام) هو الأصوب
إذا كنتم تلتزمون عليّاً (عليه السلام) في خطّه وعليّ (عليه السلام) يلتزم الإسلام في خطّه، والله قال لنا في كتابه، قال لنا عن الكافرين والمشركين {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108]. السباب ليس أسلوباً إسلامياً في حالة الصراع، إذا سببت مقدّسات الآخرين فسيسبُّون مقدّساتك، {فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}، لماذا يعملون هكذا؟ كلّ واحد يعتبر نفسه الأحسن {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الإمام عليّ (عليه السلام) ماذا استوحى من هذه الآية؟ الإمام عليّ (عليه السلام) إذا جاء هذه الأيام فمن الصعب أن يكون له شعبية؛ ففي الماضي لم يكن له شعبية لأنّه أيضاً أراد أن يحملهم على المحجّة البيضاء، والآن أيضاً هناك كثير من الناس لو جاء الإمام عليّ (عليه السلام)، لسبُّوه وشتموه ورموه بالحجارة وحبسوه وأوقفوه على الحواجز، لأنَّ هناك أُناساً يسبُّون الإمام الخميني (قدّس سرّه) ويتحدّثون عنه بطريقة غير إسلامية، لماذا؟ لأنَّ الإمام الخميني (قدّس سرّه) أراد أن يسير في خطّ عليّ (عليه السلام)، لأنّه قال للناس قاتلوا الاستكبار كلّه وقاتلوا الكفر كلّه وقاتلوا الصهيونية كلّها وقاتلوا الظلم كلّه والتزموا بالإسلام كلّه ولا تكفروا؛ تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضه الآخر. والناس لا يطيقون ذلك، ولهذا قالوا للإمام الخميني (قدّس سرّه) لماذا تريد أن تربك وضعنا وواقعنا؟ لقد أربكت بلدك فلماذا تريد أن تربك لبنان؟ القضية هي أنّ كلّ من يسير في خطّ عليّ (عليه السلام) فهو يسير في الخطّ الصحيح وعليه أن يتحمّل انفضاض الناس من حوله، وأنّه لن يكون له أيّة شعبية. وقالوا لعليّ، قال له مستشاروه، بيت المال بيدك أعطِ من تشاء أعطِ معاوية، ثبِّت معاوية على مكانه، أعطِ رؤساء العشائر من بيت المال. قال لهم: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ واللهِ ما أَطُوُر به ما سَمَرَ سميرٌ وما أمَّ نجمٌ في السَّماءِ نجماً"(1). عليّ (عليه السلام) يقول لكم، كما قال لأهل العراق وقد سمعهم يسبُّون أهل الشام، "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ"(1)، "وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"(2). هذه روحية عليّ (عليه السلام) التي هي روحية الإسلام، وهذا هو أسلوبه العملي، وعلينا أن نتأدَّب بآداب الإسلام، وأن نتبع قياداته التي هي على خطّ عليّ (عليه السلام)، وعلينا أن نفكِّر دائماً من موقع الإسلام ومن موقع حريّتنا.
لا رأي للنّاس في الرئيس القادم
وإذا أردنا أن نفكّر بالسياسة الداخلية فعلينا أن نفكّر في هذه السياسة من منطق الخطوط التي نلتزمها في السياسة الخارجية. ولهذا فإنَّ الواقع الذي يتحرّك في لبنان هو الواقع الذي يختار فيه اللبناني ما يريده الآخرون، لا ما تريده حركاتهم، أحزابهم ومنظّماتهم أن يؤكّدوه، بل إنّ اللبنانيين سلَّموا أمرهم إلى الآخرين، ولهذا فكلّ الناخبين الذين يسمُّونهم كباراً هم الذين ينتخبون للبنانيين مَن يعتبرونه رئيسهم وليسوا هم. لا رأي لكم في ذلك الرئيس القادم الذي يتّفق عليه الناخبون في الخارج، الذين يرسلون الوحي إلى الداخل، فيسلم الناس الذين ينتخبون شكليّاً بكلّ ما يريده الوحي. لهذا نحن لا نعتبر المسألة ذات أهمية، لأنَّ أيّ شخص سيأتي سوف تكون لشخصيّته ولخلفياته دورها الكبير في الوقوف أمام القضايا الأساسية في الأُمّة وفي حريّتها وفي مواجهتها للأعداد وفي مواجهتها للاستكبار، لكنَّ المسألة أنّهم لا يريدون للشعب أن يعطي رأيه ولكن يريدون للذين لا يمثّلون الشعب أن يعطوا أهواءهم لا أن يعطوا آراءهم وعقولهم. المسألة كلّها في البازار الخارجي، ولهذا فإنَّ القضية هي أن نبقى نحدّق في خلفيات ماذا يدبّر لنا في ما يسمّونه "الاستحقاق" وأن نحدّق في المستقبل، في ما يجب أن نعمل من أجل أن نؤكّد مسيرة الحريّة لكلّ المسلمين ولكلّ المستضعفين في مواقع المستقبل، وأن نعمل على تخريب كلّ الخطط التي يراد منها أن تسقط حريّة الأُمّة وأن تسقط عزّة الأُمّة وأن تسقط عدالة الأُمّة في كلّ المجالات {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...} [التوبة : 105].
والحمد لله ربّ العالمين
مسؤولية التغيير في حركة الدعوة(*)
الإنسان وصناعة المستقبل
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد : 11]، ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى متناولاً آل فرعون والذين من قبلهم {... كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 52 ـــ 53].
القوانين الإلهية
في هذه الآيات حديث عن قاعدة إيمانية، وهي أنَّ الله عندما خلق كلّ شيء في هذا الكون فقد خلق معه القوانين التي تنظّم له حركته؛ فخلق السماء، وجعل للسماء في كلّ كواكبها وفي كلّ دوائرها وأوضاعها، القوانين التي تنظّم لها كلّ دورتها وكلّ أوضاعها، بحيث لا يختل من نظامها شيء. وخلق الأرض وما فيها من بحار وأنهار وينابيع وأشجار وجبال وسهول وما إلى ذلك، وجعل لها قوانينها في طبيعة كلّ الأوضاع المحيطة بها، بما يجعل الحياة فيها ممكنة وطبيعية. وهكذا نجد أنّ الله جعل لكلِّ كائنٍ نظاماً لا يختاره بنفسه ولكنّ الله يختاره له: أمّا الإنسان، فقد جعل الله نظامه في خطّين: هناك خطّ لا يملك الإنسان الحريّة في تغييره، وهو طبيعة الأجهزة الموجودة داخل جسمه، وطبيعة علاقة جسمه بالنظام الكوني من حوله، وطبيعة الموت والحياة؛ إنَّ هذه أمور تتمّ بإرادة الله سبحانه وتعالى، من خلال علاقة الإنسان في وجوده كجسد وككيان بالكون من حوله، فالجسم يتأثّر بالحرّ والبرد وباللّيل وبالنهار، ويتأثّر بكثير من الأوضاع التي قد يمرض منها إذا لم يكن هناك انسجام بينه وبينها.
الإنسان والاختيار
أمّا عمل الإنسان وحركته في الحياة ونظام وضعه وعلاقاته وأهدافه وحركته في الحياة، فقد أراد الله أن يكرّم الإنسان فيجعل أمره بيده، بحيث إِنَّ الله سبحانه وتعالى قال للإنسان، لقد أعطيتك عقلاً تستطيع أن تميّز فيه ما يضرّك وما ينفعك، وأن تتعرّف فيه ما يصلحك وما يفسدك، وأعطيتك جسداً يستطيع أن يتحرّك في كلّ موقع توجّهه فيه، أعطيتك العينين اللّتين تبصر بهما ما تحتاجه في كلّ مواقعك من الحياة من المرئيّات، وأعطيتك الأذنين اللّتين تسمع بهما كلّ ما تريد أن تتعرَّف إليه ممّا يتّصل بمسؤوليّتك في الحياة، في ما تسمعه من قصف الرعود، ومن حركة الرياح، ومن كلّ ما يحيط بك من أصوات الحيوانات، وأصوات الناس والكون من حولك، كأصوات الأمواج وغير ذلك، أعطيتك ذلك كلّه، وأعطيتك اليدين اللّتين تستطيع أن تطلقهما، لتتحرّك في كلّ ما يبني لك حياتك وفي كلّ ما ينظّم لك وضعك، في ما تحتاجه من حركة اليدين من ذلك كلّه، وأعطيتك رجلين لتسعى بهما إلى ما تريد أن تصل إليه، وأعطيتك اللّسان الذي تستطيع من خلاله أن تنقل أفكارك إلى كلّ من حولك. هكذا زوّدتك بكلّ الأجهزة التي تستطيع من خلالها أن تتحرّك إلى ما تريد كما تريد، وأعطيتك بعد ذلك الوحي، الذي يعين عقلك على تلمّس كلّ ما يريد أن يتعرّف عليه من حقائق الأشياء.
أيُّها الإنسان، لقد خلقتك خلقاً لم أخلق أحداً مثله، فأعطيتك كلّ شيء، وسخَّرت لكَ الكون كلّه من أجل أن تشارك كلّ ظواهر الكون في تدبير الوضع الذي تستطيع أن تعيش فيه في حياتك. سخّرت لكم السموات والأرض من خلال الظواهر الكونية في هذا النظام التي تجعل من أرضكم أرضاً تستطيعون أن تعيشوا فيها. أيُّها الإنسان لقد خلقتُ لكَ ذلك وقلت لكَ تحمّل مسؤوليّتك، لم تتحمّل السماء مسؤوليّتها بل قالت يا ربّي إنّي أعطي كلّ طاقاتي لتنظّمها أنت، لأنَّ الله قال لهما ـــ للسماء والأرض ـــ {... اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11]. لكن أيُّها الإنسان لقد جعلتُ أمرك بيدك، حمّلتك مسؤولية نفسك، أنتَ تستطيع أن تحرّك نفسك كما تريد، بعقلك وإرادتك وبحركة الأجهزة المودَعة بجسمك، وبحركة الأشياء التي هيّأتها لك، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ...} [الأحزاب : 72].
الأمانة يحملها الإنسان
ما هي الأمانة؟ الأمانة هي المسؤولية. إنّ الله يريد أن يعبّر لنا عن ثقل المسؤولية وعن خطورتها، فكأنَّ الله يريد أن يصوّر لنا أَنّه قال للسماوات، لتتحمّل مسؤولية إدارة وضعها بنفسها فأبت السماوات وخافت لأنَّ المسؤولية تستتبع غضب الله إذا انحرف الإنسان عنها، والسماوات لا تطيق غضب الله؛ وقال الله للأرض: تحمّلي مسؤولية إدارة كلّ نظامك بنفسك وأنا أُهيِّئ لكِ ذلك، فأبَت الأرض وقالت: يا ربّي ركِّز لي نظامي بما تريد، لا تحمِّلني شيئاً، لأنّي أشفق أن أتحمّل مسؤولية إدارة نظامي، وأَبَت الجبال الضخمة، التي تتعالى في الفضاء بكلّ صلابتها وشموخها وقوّتها وهي البارزة في مظهر القوّة في الأرض.
قال الله لها: تحمّلي مسؤولية نفسك أيّتها الجبال، أديري نظامك، نظام الينابيع في داخلك ونظام الثلوج التي تتجمَّع على ظهرك، وكلّ ما يعيش في داخلك من كهوف ومغاور وحيوانات، وأبَت الجبال عندما خيَّرها الله أن تتحمّل مسؤولية نفسها وأشفقت من ذلك، لأنّها تخشى أن تنحرف بها المسؤولية فتُغضِب الله، وقد قال عليّ (عليه السلام) في ما نقرأه من دعاء كميل: "لأنّه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض".
يؤكّد عليّ (عليه السلام) الفكرة التي تقول بأنَّ السموات والأرض أشفقن من أن يحملن المسؤولية، لأنَّ المسؤولية قد تنحرف بالإنسان، وقد يخطئ فيتعرّض لغضب الله؛ أو قد تخطئ السماوات والأرض فتتعرَّض لغضب الله، وهي لا تطيق ذلك.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ...} قال يا ربّ، أنا للمسؤولية، سأتحمّل مسؤولية نفسي، وسأتحمّل مسؤولية الحياة من حولي، سأنفّذ كلّ ما تريد، ماذا حدث؟ {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72] ظَلَمَ نفسه، وكان جاهلاً بحمل المسؤولية وخطورتها في ذلك كلّه. إذاً نفهم من هذا الجوّ أنّ الله سبحانه وتعالى حمَّل الإنسان مسؤولية صنع حياته، وصنع تاريخه، وقال له: إنَّ الظروف لن تضغط عليك، وإنْ شعرتَ بأنّها يمكن أن تحتويك، ولكنّك تستطيع أنتَ أن تصنع الظروف، وتستطيع أن تصدم الظروف، وأن تتعامل مع الظروف من حولك، لأنّك تملك العقل الذي إذا واجهه ظرف صعب، يفكِّر فيختار موقفاً يخفّف من صعوبة الظرف، ويؤدّي إلى نشوء ظرفٍ آخر يلغي ذلك الظرف كلّه. لستَ خاضعاً للظروف بحيث تكون مشلولاً أمامها، أنتَ الفرد لو كنت تعيش في ظروف الكفر فإنّك تستطيع بإرادتك أن تكون المؤمن في مجتمع الكفر، ولو عشتَ في مجتمع الظلم تستطيع أن تكون العادل في مجتمع الظلم، لأنّك تملك الإرادة التي تقول لا، وتقول نعم. قد يضغط الناس على جسمك فيمنعونك من الحركة، ولكن مَن يستطيع أن يضغط على فكرك وفكرك لا يملكه أحد إلاّ الله، لأنَّ السياط مهما ضربت على جسدك لا تستطيع أن تضرب فكرك، ولا تستطيع أن تغيِّر قناعاتك لأنَّ قناعاتك صنع عقلك وصنع إرادتك، ولهذا فإنَّ الظروف مهما أطبقت عليك فإنَّ عقلك يصرخ لا، وإنّ قلبك يصرخ لا، مهما عَلَت صرخات جسدك، ومهما عَلَت صرخات الناس من حولك.
الإرادة في خطّ الله
إنَّ عقلك عندما يكون في سلامته، وإيمانك عندما يكون في قوّته، يستطيع أن يرفض ذلك كلّه، لهذا فالله يحمّل الإنسان مسؤولية صنع تاريخه. أنتَ كإنسان تستطيع أن تصنع تاريخك، تاريخ حياتك، بما تؤكّده في عقلك من موقف، وبما تؤكّده بإيمانك من خطّ. أنتَ تصنع تاريخك وذلك فأنتَ مسؤولٌ عن تاريخك. قد تعيش بين أبويك وعقلك وإرادتك معك، ولن يكون أبواك مسؤولين عنك، أنتَ المسؤول عن ذلك، لو ضغطا عليك لتنحرف، فإنّهما لن يستطيعا أن يجبراك على الانحراف، لأنَّ عقلك وإرادتك يرفضان ذلك. وهكذا عندما تعيش في أيِّ مجتمع من المجتمعات فأنتَ تستطيع أن تكون الإنسان البارز في المجتمع في ثباتك على إيمانك من خلال عقلك وإرادتك، ولن يستطيع أحد أن يلغي ذلك كلّه، وإذا جاءتك المشاكل من هنا وهناك فعليك أن لا تسقط أمامها، ولا تسقط أمام قوى الانحراف، وأمام قوى الكفر، بل لا بدّ من أن تعمل على أن تنفذ إلى كلّ ما حولك وكلّ من حولك من أجل أن تخفِّف من الضغوط، حتّى تجد المَنْفَذ والمخْرَج. وقد قال الله للمتّقين، كلّ المتّقين، إنَّ الأبواب المسدودة التي تحيط بكم لن تحاصركم، بل إنَّ هناك باباً يفتحه الله لكم من غامض علمه، وإنَّ حصار الرزق الذي يحاصركم به الناس لن يفقركم، لأنَّ لله منافذ للرزق تختلف عن ما يعرفه الناس، {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 2] والتقوى لله هي أن تؤكّد مواقفك على خطّ محبّة الله وخوفه ومَن يتَّقِ الله ويحاصره الناس ليضغطوا عليه، ومن يتّقِ الله ويضيق عليه الناس أبواب الرزق ليجوعوه وليفقروه، {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...}، فهو كافيه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 2 ـــ 3] وعليك أن تعرف الخطوط التي يركّزها الله لك، حتّى تستطيع أن تعرف كيف تسير في طريق الله للوصول إلى أهدافك.
مسؤوليّتنا بين ضغوط الواقع وحركة العقل
وهكذا نتحمّل مسؤولية أنفسنا من خلال قدرتنا على تربية أنفسنا، أنت لم تُصنع شرّيراً إذا كنتَ الآن شريراً، ولم تصنع خيّراً إذا كنتَ الآن خيّراً، لقد خلقك الله ورقة بيضاء، تستطيع أن تكتب فيها الخير من خلال التزام إرادتك بالخير، وتستطيع أن تكتب فيها الشرّ من خلال التزام إرادتك بالشرّ، فالله لم يضعك في الطريق الشرّير أو الطريق الخيّر. الله قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 3] لقد هداك الله الطريق، وقال لكَ هذا طريق الخير سرّ فيه والجنّة في نهايته، وهذا طريق الشرّ لا تسر فيه لأنَّ النار في نهايته، وأنتَ حرّ في ذلك، وقال للرسول {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29] وقال للإنسان بعد ذلك أتريد أن تكون مؤمناً أو كافراً؟ اعرف هذه الحقيقة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8] فدبِّر نفسك بنفسك. إذاً أنتَ تستطيع أن تربّي نفسك، قد يربّيك أهلك على طباع معيّنة، وعلى عادات معيّنة، وعلى أفعال معيّنة، وعلى كلمات معيّنة، قد لا تكون هذه الطباع والعادات والأفعال والكلمات في مصلحتك، ربّما تسير مدّة تحت ضغط أهلك ولكن عندما تنتبه وتصطدم بالحياة؛ قف وفكِّر إنّ ما جاء به أهلك قد لا يكون الحقيقة، لأنَّ الله قد علَّم رسوله عندما كان الناس يقولون {... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] قال: {... أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] هل تسيرون وراء آبائكم وتلتزمون عاداتهم أو عادات مجتمعكم، حتّى لو كان مجتمعكم غير عاقل وغير مهتد. إنَّ الإنسان لا يلتزم الضلال ليتعصَّب له. لا بدّ لك أن تفكّر؛ فقد علَّم الله رسوله أن يقول لأمثالنا ممّن يلتزمون عادات مجتمعهم، سواء كان مجتمعاً عشائرياً أو مدنيّاً أو عائلياً، ويتعصَّبون له، إنَّ الله قال لرسوله قل لهم {... أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ...} [الزخرف: 24] ما رأيكم هل تظلُّون مصرِّين، حتّى لو جئتكم بالدعوة التي هي أكثر هدىً ممّا وجدتم عليه آباءكم؟ هل تتعصّبون لآبائكم؟ إنّكم عندما تتعصَّبون لخطأ آبائكم أو مجتمعاتكم، أو عندما تتعصّبون لضلال آبائكم أو لضلال مجتمعاتكم، فإنَّ معنى ذلك أن تتعصَّبوا للتاريخ وللمجتمع على حساب مصيركم في الدنيا، وقد يكون على حساب مصيركم في الآخرة.
التعصُّب... جهل
هل من العقل أنْ تتعصَّب بالخطأ، حتّى لو كسر لك الخطأ رقبتك؟ أن يتعصّب الإنسان للحقّ ويكسر لك الحقّ رقبتك فذلك في سبيل الله، وهو أمر عظيم. أمّا أن تتعصّب لضلال أو خطأ أو أيّ شيء سيِّئ وتورّط نفسك في الدنيا في الخسارة، وتورّط نفسك في الآخرة لدخول النار؛ أيّ عقل هو هذا العقل، من أبوك؟ إنسان عاش في بيئة معيّنة، قد تكون خيّرة فيتأثّر بها فيكون خيّراً، وقد تكون سيّئة فيتأثّر بها فيكون سيّئاً. أبوك مثلك، الفرق بينك وبين أبيك أنّه عاش في زمن وعشت في زمنٍ آخر. الزمن لا يعطي الحقيقة بل الفكر هو الذي يحدِّدها. إذاً ليكن أبوك أو رئيس منظّمتك أو رئيس حركتك، أيّ شيء من ذلك، ليكن ما كان فهو إنسان يملك فكراً، وأنتَ تملك فكراً، وفكره ليس حجّة على فكرك وليس حجّة لك، فإذا اتبعته بدون بصيرة لن تستطيع أن تدافع عن موقفك أمام الله، هل تقول إنَّ رؤساءنا وكبراءنا اختاروا لنا ذلك {... رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] انظروا ما أضعف هذا المنطق.
في هذا المجال حاولوا أن تعيدوا النظر في كلّ ما درجتم عليه من عادات ومن انتماءات ومن أقوال وأفعال، فإن وجدتموها خيراً أكّدوها في أنفسكم، وزيدوا عليها من الخير؛ وإذا وجدتم فيها شرّاً فحاولوا أن تغيّروا الشرّ، أن تغيّروا نفوسكم وتطردوا الشرّ بأن تحلّوا الخير مكانه. فقد قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) للناس، لكلّ إنسان ينخدع بكلام الناس وبضوضائهم بإغرائهم وبتسويلاتهم: "لا يغرّنك سواد الناس من نفسك"(1) قد يحسّنون لك بعض الأشياء، ويقولون هذه عاداتنا نحن العشائر، فلا نقدر على أن نغيّر عادات الآباء والأجداد، أو يقولون أنّ هذا منطق العصر ولا نقدر أن نغيّر ظروف العصر أو يقولون أهل بلدنا تعوَّدوا على عادة معيّنة وعلى أوضاع معيّنة، أهل بلدنا محسوبون على هذا الزعيم، والأولاد وأولاد الأولاد يكونون إرثاً، هذه أشياء نعيشها في حياتنا.
الوقوف بين الله
ضمن هذا الجوّ، على الإنسان أن يفكِّر في أنّ هذه العادات، عندما تكون خطأ فعلينا أن نغيّرها، وهذه الانتماءات عندما تكون خطأ علينا أن نغيّرها. بعض الناس يقول الزمان فسد، ويجيبهم قول الشاعر:
يقولون الزّمان به فسادٌ وهم فسدوا وما فسدَ الزَّمانُ
الزمان ما هو؟... هو هذه الأيام وهذه الساعات والثواني وهذه كيف تفسد؟ نحن نفسد، إذاً الموضة تأتي من أُناس يصنعون الموضة، والعرف الاجتماعي يحدثه أُناس يصنعون العرب الاجتماعي، والعادات تأتي من خلال أُناس يصنعون العادات. وهكذا فعلى أيّ أساس نحن نلتزم هذه الأمور ونحن لا نملك حجّة أمام الله في الالتزام بمن صنعوا هذه الأمور. المسألة أنّنا سنقف جميعاً أمام يديّ الله، هذه حقيقة ولكنّنا غافلون عنها تماماً، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...} [النحل: 111] تعال يا فلان اقرأ كتابك وحاسِب نفسك {... كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] وهذا يفرض علينا أن لا نعمل عملاً إلاّ ونعرف كيف نجيب الله إذا سألنا الله ما هو دفاعكم عنه؟ هذه نقطة أساسية أن نجيب الله عن كلّ سؤال. ثلاثة يظلُّهم الله بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، من بين هؤلاء الناس رجلٌ لم يُقَدِّم رِجْلاً ولم يؤخِّر أخرى، حتّى يعلم أنّ ذلك لله رضى. إذ قال لي أحد لنذهب عند فلان أو لنسر في تظاهرة أو لنذهب ونقاتل، عليَّ أن لا أسمح لرجلي أن تتقدَّم إلاّ بعد أن أُفكِّر هل يرضى الله بهذا أو لا يرضى؟ أو عندما يقول لي فلان تراجع عن موقفك، فيفترض أن لا أتراجع بحجّة أنّ هذا صاحبي، يجب أن لا أغضبه أو هذا قريبي، كما حدث أيّام مسلم بن عقيل، حيث وقف الناس كلّهم في البداية مع مسلم ولكن سرعان ما جاءت المرأة لولدها والزوجة لزوجها والأخت لأخيها فقلن: يكفيك الناس، تراجع عن موقفك، فتأخذه العاطفة فيتراجع. ونحن في كثيرٍ من الحالات تأخذنا العاطفة ونتراجع، ولكنَّ الله يريدنا أن لا نتراجع على أساس العاطفة ولا نتقدَّم على أساس العاطفة، بل نتراجع على أساس رضى الله ونتقدّم على أساس رضى الله، هل نفكّر بهذه الطريقة؟ إنّ هذه هي الطريقة الحقيقيّة التي تجعل كلّ إنسان يمتلك الحجج القويّة التي يدافع بها عن نفسه أمام الله.
الأنانيّة والعصبيّة آفتان مدمّرتان
لهذا لا بدّ أن نعمل على أن نغيِّر أنفسنا في مجتمعنا، نحن نتربّى على الأنانية، يربّينا آباؤنا عليها، ويربّينا مجتمعنا عليها، في مجتمعنا نتربّى على أن لا يطيق أحدنا أن يكون هناك شخص مماثل له على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الجماعات في المواقع السياسية أو الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وعندما يقال للإنسان إنّ الساحة تسعك وتسع الناس الآخرين، وإنَّ السوق يمكن أن يربحك ويربح التاجر الذي إلى جانبك، وإنّ المجتمع يمكن أن تتعايش فيه أنتَ والآخرون من دون أن ينقص من حظّك أو ينقص من حظّ الآخرين، لماذا تريد أن تلغي وجود الآخر، ودوره وموقعه؟ لماذا والساحة يمكن أن تتّسع لك وتتّسع للآخر؟ ولكنَّ الأنانية تصرخ في داخل أنفسنا. لا للآخرين، أنا وحدي القيادة، أنا وحدي التجارة، أنا وحدي الاجتماع. الأنانية تفرض نفسها على الناس وتخرّب حياة الناس.
في البيت الزوج يقول أنا. وفي المجتمع، الذين يسيطرون على مقدّرات المجتمع يقولون نحن لا الشعب، والكثيرون من الناس يقولون نحن لا الآخرون ممّن يتساوون في مراتبهم. الأنانية دمّرتنا، لأنّها استطاعت أن تضع الفواصل الأساسية في ما بيننا، وتجعل الإنسان لا يلتقي بغيره، بل تعمل على فصله عن غيره، فتقيم الحواجز بين الناس ولا تكتفي بذلك، بل تعمل على أن تخلق في داخل أنفسنا روحاً عدوانية تجاه الآخرين. إنَّك تفكّر أنّ عليك أن تقمع الآخر وأن تسقطه، وأن تلغي دوره، وتثير النزاعات والخلافات والحروب من خلال ذلك. والإسلام لا مانع عنده من أن يحبّ الإنسان نفسه ولا مانع عنده من أن يتمنّى ما عند الآخرين لنفسه، ولكنَّ الإسلام فرَّق بين حالتين، بين الحسد وبين الغبطة. الحسد هو أن تجد نعمة عند أخيك وتتمنّى زوالها عنه، وأن تنتقل إليك. أمّا الغبطة فأن تجد نعمة عند أخيك فتحبّ أن تبقى له، وتتمنّى أن يكون لك مثل أخيك في هذه النعمة، أن تغبط الناس بأنْ تتمنّى ما عندهم على أن يكون لك مثله مع بقائه عندهم. هذا أمر شرعي وأخلاقي، أمّا أن تتمنّى زوال نعمة إنسان لتكون لك، لماذا تفعل ذلك؟ أتخاف أنّ الله لا يملك نعمة ثانية مماثلة لهذا الإنسان ونعمة الله تسع الناس كلّهم ولا ينقص منها شيء، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف : 109]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا...} [النحل : 18].
الأنانية لا تحلّ المشاكل
الله أعطاك نِعَماً وأعطى غيرك نِعَماً، لكَ عينان تبصران ولكلّ الناس عيون تبصر، لكَ أُذنان تسمعان ولكلّ الناس آذان تسمع. إنَّ الله يخلق الناس، خلق ما خلق ويخلق ما يخلق ولا يحتاج إلى أن يزيل عيني إنسان ليعطيها لإنسانٍ آخر، بل يخلق النِّعَم كما يخلق الأشخاص، ولا ينفد خلقه. يخلق النِّعَم ولا تنفد النِّعم، فلماذا تريد أن يضيّق نِعَم الله؟ نقلت لكم مرّة عن أعرابي جاء إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقال: يا رسول الله أُريد أن أدعو. قال: ادعُ. قال: "اللّهم أغفر لي ولمحمّد ولا تغفر لأحد بعدنا"، النبيّ التفت إليه قائلاً لماذا تريد أن تحصر رحمة الله فينا نحن الاثنين فهل إذا أراد الله أن يرحم غيرنا ينقص من رحمتنا؟! كلا لن ينقص، "يا هذا لقد حجَّرت واسعاً"، معنى ذلك أنّك إذا كنت في الصحراء وتريد أن تأخذ مساحة من الأرض، والأرض واسعة وكبيرة جداً فإنّك لا تحتاج أن تحجر هذه الأرض، متى تحتاج أن تحجرها وتسورها؟ تحتاج إلى ذلك عندما تكون الأرض ضيّقة فتخاف أن يأخذ أحد من حصّتك فتسور أو تحجر، أمّا في الصحراء فلو أخذ كلّ الناس من الأرض، يبقى لك حصّة واسعة فلماذا تحجر وتسور؟ كذلك الله وسعت مغفرته السماوات والأرض فلماذا تريد أن تحجر نعمة الله؟ إذاً الأنانية غير عملية وغير واقعية والإسلام يقول "إنَّ الله يحبّ المرء المسلم الذي يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه"(1). كلّ النتائج السلبية التي تأتي من الأنانية لا يمكن أن تتغيَّر، كلّ أوضاع الصراع التي نعيشها وكلّ المشاكل الآتية من الأنانية لن تُحلّ ما دامت نفوسنا مشبّعةً بالأنانية، لأنَّ ما في أنفسنا ينعكس على أعمالنا، ولأنَّ الله {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]. لهذا لا بدّ أن نغيِّر هذا الشيء.
ومن مشاكلنا التي نعيشها مشكلة العصبيّة. نحن نتعصّب ذاتيّاً، فيتعصَّب الإنسان لنفسه، ونتعصَّب عائلياً فيتعصَّب الإنسان لعائلته، ونتعصّب بلدياً ـــ إذا صحّ التعبير ـــ فيتعصّب الإنسان لبلده، ونتعصّب وطنياً ونتعصّب قومياً ونتعصّب طائفياً ونتعصّب حزبياً، نحن مجتمع العصبيّات، والعصبيّات نوع من أنواع الأنانية، تتميَّز بأنّها قد تضيق وقد تتّسع أيضاً، ما معنى أن تتعصّب؟ العصبيّة معناها إنّك تلتزم هذا وترفض ذاك، أيضاً أنْ تتعصّب بمعنى أن تجعل الحقّ معك ولو كنتَ مخطئاً وأن تجعل جماعتك في موقع التقدير والتعظيم، حتّى لو كانوا مستحقّين للتحقير. هذه هي العصبية، أن نعتبر أنّ جماعتنا وحزبنا وعشيرتنا وطائفتنا على الحقّ دائماً، وهكذا تعتبر أنّ كلّ شيء يتّصل بك أو بما تريد أن تلتزمه هو حقٌّ، وكلّ شيء يتّصل بالآخرين هو باطل.
نحن متعصّبون، وأوّل من تعصَّب وقادته عصبيّته إلى النار هو إبليس، هذا كلام يقوله عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إنَّ أوّل مَن تعصَّب هو إبليس حين تعصَّب لعنصره فقال {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12] نحن نعتبر أنّ عائلتنا أعظم من العائلة الأخرى، "أصغر رأس بالعائلة هو أفضل من أكبر رأس بالعائلة الثانية" ألاَ نقول هذا؟ كذلك فإنّنا في الطائفة وفي الحزب وفي الحركة وفي المنظّمة وفي كلّ شيء من الأشياء التي نعيشها نحن نتعصَّب لأنَّنا مجتمع العصبيات، ومشكلة مجتمع العصبيّات أنّه مجتمع يسحق الحقّ لحساب الباطل، حتّى لو رأى الحقّ أمامه، فهو يسحقه كما فعل إبليس، إبليس كان يعرف الله معرفة كبيرة، وكان العابد وهو يعرف أنّ طاعة الله تؤدّي بالإنسان إلى النجاة، ولكنَّ عصبيّته جعلته يتمرّد على الله سبحانه وتعالى، {... أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء : 61]، كلّ منّا يقول: أنا لا أخضع لابن العائلة الفلانية. غير ممكن، أنا أخضع لابن الضيعة الفلانية؟ غير ممكن، أنا أخضع لابن المحور السياسي هذا؟ إذا كان الحقّ معه فلماذا لا تخضع؟ أنتَ لست تخضع له بل أنتَ تخضع للحقّ. والعصبيّة تقود إلى الكبرياء والكبرياء يقود إلى الكفر أو الضلال، وهما يقودان الإنسان إلى النار.
الالتزام غير العصبيّة
لهذا لا بدّ أن نفكّر بأن نغيِّر طبيعة العصبية في أنفسنا، أن نفرِّق بين شيئين: بين الالتزام وبين العصبية، فرق بين أن تلتزم بفكر أو بخطّ أو بقيادة، وبين أن تتعصَّب. الالتزام فعل إيمان ومع ذلك أنا ألتزم وأفسح المجال للآخر كي يعطيني وجهة نظره، فالتزم الحقّ من خلال قناعتك وتكلَّم مع الآخرين في ما يقتنعون به، وإذا وجدت القناعة عندهم صحيحة، فتحوّل عن قناعتك إلى هذه القناعة المرتكزة على الحقيقة. وأنتَ حينها لا تخضع لهم وإنّما تخضع للحقّ، وهذا يجعلنا نعيش نقد وتصحيح أنفسنا. أنا إذا تعصّبت لنفسي، لا أقبل لأحد أن ينتقدني وبذلك أنا لا أُشارك في إصلاح نفسي، لكن إذا لم أتعصَّب لنفسي وجاء مَن ينقدني أقول جزاك الله خيراً، وأُحاول أن أدرس نفسي على أساس هذا النقد. وهكذا عندما نعيش في مجتمع فإنَّنا نستطيع أن نصلح بعضنا بعضاً من خلال تخلّينا عن العصبية، وحينها نركِّز أخلاقيّتنا وأوضاعنا وأفكارنا وخطوطنا على أساس الالتزام لا العصبيّة، وبذلك نستطيع أن نقف مرفوعي الرؤوس أمام الله.
لا تنزعجوا من مشاكلكم ولكن ابحثوا عن جذور المشاكل. نحن كثيراً ما نتساءل لماذا نتقاتل وندمّر ونتباغض؟ ونبحث عن الحلّ، ولن نجد الحلّ إلاّ إذا استطعنا أن نخضع لخطّة إيمانية نغيّر فيها ما فَسَدَ من أفكارنا ومن أخلاقنا ومن عواطفنا، فإنَّ التغيير في الداخل سوف ينعكس على الخارج. أنا عندما لا أكون أنانياً أتعاون معك، وعندما لا أكون متعصّباً أسمع لك، لكن كيف يمكن أن نغيّر المجتمع من دون أن نغيّر العناصر الأساسية الفكرية والروحية والعقلية والعاطفية التي صنعت مأساة المجتمع؟ لا يمكن. الآن إذا رأيت شخصاً يحبّ شيئاً ويستغرق فيه، فإنّك مهما حاولت أن تمنعه عنه، فإنّك لن تستطيع، فحتّى لو أجبرته على أن لا يفعل فسيعود إليه بعد أن يزول ضغطك عليه، لكن إذا جعلته لا يحبّ هذا الشيء، أو يبغضه، فإنّه سوف لا يحتاج إلى ضغطك لكي يتركه، لأنّه سيتركه على أساس قناعته.
كيف نؤكّد حريّتنا
هذه أمور دعونا نفكّر بها ونفكّر في أنّ الله أكّد لنا هذه الحقيقة {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] إنَّ الله جعل تركيبة الوجود الإنساني خاضعة، لهذه الخطوط. فنحن في المجالات العامّة يمكن لنا أن نكون أحراراً إذا نزعنا من أنفسنا روح العبودية للآخرين، وبقينا عبيداً لله وحده. فما دمت مستعداً، من أجل أطماعك وشهواتك وملذّاتك لأن تبيع نفسك للآخرين، وأن تستعبد نفسك للآخرين، فإنّك لو انطلقت في كلّ شعارات الحريّة فستبقى عبداً؛ ولكنّك إذا حرَّرت نفسك من عبودية الآخرين وشعرت بأنَّ الله خلق إرادتك حرّة، ويريد لها أن تبقى حرّة، وأنّ الله خلق كيانك حرّاً، ويريدك أن تبقى حرّاً، إذا آمنت بالحريّة كأساس في عقلك وفي إرادتك؛ فلو أنّ الكون أطبق عليك، ليستعبدك فإنّه لا يستطيع أن ينال من حريّتك شيئاً. وهذا ما عبَّر عنه إمامنا جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال: "إنَّ الحرّ حرٌّ على جميع أحواله إنْ نابته نائبة صَبَرَ لها وإنْ تداكَّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسِرَ وقهر واستبدل باليسر عسراً"(1).
عندما تعيش عقلية الحريّة في داخل كيانك، فلن يستطيع أن يستعبدك أحد، لأنَّ الحريّة تصرخ من أعماق نفسك إذا حاصر الآخرون جسدك. وإذا عشت العبودية في نفسك، فلن يستطيع أن يحرِّرك أحد، لأنَّ العبودية تكون جزءاً من ذاتك. لهذا عندما نريد أن نتحرَّر فعلينا أن نزرع الحريّة في أعماقنا، وعندما نريد أن نرفض الاستعباد في واقعنا فعلينا أن نعمل على أساس أن ننزع الاستعباد من نفوسنا. ولهذا كان الإسلام يركّز على الداخل، كما يركِّز على الخارج. الإمام عليّ (عليه السلام) له كلمة معروفة "الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخل في باطل إثمان، إثم العمل به وإثم الرضا به"(2)، يعني أنتَ حين ترى أُناساً يستعبدون آخرين وتقول من حقّ فلان أن يستعبد فلاناً فإنّك آثمٌ حتّى لو لم تتحرّك خطوة، لأنّك تدلّل على نفسية تشجّع الظلم، فأنتَ ظالم في عقليّتك، حتى لو لم تستخدم قوّتك في الظلم. إنَّ الله لا يريدك أن تكون ظالِماً في عقليّتك، كما لا يريدك أن تكون ظالِماً في حركتك في الحياة.
القِيَم في الإسلام تبدأ من الداخل، والله يريد للنّاس أن يؤمنوا بالقِيَم في الجانب الروحي. وهذا ما نريد أن نؤكّده في حركة حياتنا، عندما نواجه الاستعباد الذي يريد أن يفرضه الشرق والغرب علينا، والاستعباد الذي تريد أن تفرضه الصهيونية علينا، والاستعباد الذي يريد أن يفرضه الظالمون في الداخل علينا.
وفي هذا الإطار فإنَّ الناس على قسمين: هناك قسم يلهث وراء الاستكبار ووراء الصهيونية ووراء المهيمنين على مقدّرات الناس، ليأخذ منهم شيئاً لدنياه وليكون عبداً لهم في هذه الدنيا، وليجعل الناس لهم عبيداً. هذا البعض الذي يفكّر بهذه الطريقة مستعد أن يبيع نفسه، ويبيع بلده، ويبيع الناس من حوله ليحصل على مالٍ، أو على جاه، أو على شهوة، أو ما أشبه ذلك. هؤلاء أُناس يظلُّون عبيداً، حتّى لو استقلّ بلدهم مئة في المئة فإنّهم يجتذبون المستعمرين إليهم ليأخذوهم من قلب ساحة الحريّة، ولهذا فإنَّ كثيرين من الناس قد يعيشون في مجتمعات الاستقلال، ولكنّهم لا يطيقون الحريّة، لأنَّ نفوسهم مجبولة على العبودية، ولذا فهم يجتذبون القويَّ إليهم ليستعبدهم.
ما معنى أن تكون جزءاً من مخابرات دولية ضدّ بلدك أو ضدّ دينك أو ضدّ أهلك؟ ما معنى أن تكون عضواً من جهاز المخابرات الإقليمية أو المحليّة أو الدولية لتكشف أسرار أهلك وأهل ملّتك، أو لتكشف أسرار بلدك أو أُمّتك؟ معنى ذلك إنّك تعطي العدو ما يستطيع من خلاله أن يضغط على كلّ هؤلاء الناس، ليستعبدهم وليستعمرهم وليفرض إرادته عليهم، معنى ذلك إنّك لستَ حرّاً بل أنتَ عبد وتريد للناس من حولك أن يكونوا عبيداً. كلّ مَن يخضع لجهاز مخابرات ضدّ أُمّته فإنّه يعيش أخسّ أنواع العبودية في شخصيّته، ولن تنفعه كلّ وجاهته في ما يعطونه من وجاهة. وهناك أُناس يعيشون في داخل السجون وفي كلّ ساحات الاضطهاد، ولكنّهم يطلقون نداء الحريّة ويصارعون كلّ القوى من أجل الحصول على الحريّة، ويضحُّون بأنفسهم على مذبح الحريّة، لأنّهم يريدون للنّاس أن يكونوا أحراراً كما يريدهم الله أن يكونوا أحراراً، ويعتبرون الحريّة جزءاً من قضية الإيمان، فمن لا يؤمن بحريّته أمام القوى الطاغية، فهو ليس بمؤمن، لأنَّ الإيمان يفرض عليك أن تكون عبداً لله وحرّاً أمام الكون كلّه.
التلازم بين خطّ المقاومة وحركة الحريّة
لا بدّ لنا أن ننزع صفة العبودية من أنفسنا، وعلى هذا الأساس نقول، إنَّ مَن يعتبر أنّ الخطّ السياسي هو أن نعطي بأيدينا "لإسرائيل" إعطاء الذليل، وأن نقرّ لها إقرار العبيد، لا يمكن أن يكون مؤمناً، ولا يمكن أن يكون مسلماً بالمعنى العميق للإسلام، ولا يمكن أن يكون حسينياً، لأنَّ الحسين (عليه السلام) يرفض ذلك من كلّ إنسان، فكيف تكون حسينياً وتقبل ذلك؟ إنَّ معنى أن تكون حسينياً هو أن تلتزم شعارات الحسين (عليه السلام) المنطلقة، من خلال الإسلام الذي عاش الحسين (عليه السلام) من أجله. لهذا، كلّ مَن يتعاطف في قلبه، أو يبرّر في كلماته، أو يتحرّك في موقعه، ليؤيّد الهيمنة الإسرائيلية على المسلمين هنا وفي فلسطين وفي أيّ مكان، ليس من الإيمان في شيء، وكلّ من يعمل على تركيز الهيمنة الاستكبارية على المسلمين فليس من الإيمان في شيء، لأنَّ المؤمن هو الذي يحافظ على حريّة المؤمنين كما يحافظ على حريّة نفسه. ولهذا فإنَّ الذين يريدون أن يعطِّلوا حركة المقاومة ضدّ "إسرائيل" بأيّ أسلوب، وبأيّ طريقة في الداخل أو في الخارج، سواء على مستوى القِمَم العربية وغير العربية أو على مستوى المحاور السياسية، ليسوا من الإسلام في شيء، لأنّهم يريدون أن يعطِّلوا حركة الحريّة من أجل أن يكون الناس أحراراً؛ أمّا الذين يقاومون أو الذين يعملون على أن تكون للمقاومة الإسلامية، ولكلّ مقاومة مخلصة، حريّتها في الحركة فهم الذين يلتزمون الحريّة ويلتزمون الإيمان في ما أراد الله لنا أن نجاهد الكفّار والمنافقين.
إنَّنا في هذا الموقف نكبر حركة المقاومة الإسلامية، في مواجهة العدوّ، سواء كان ذلك في البقاع الغربي أو في الجنوب، وحركة كلّ المقاومين الذين يقاومون من موقع الإخلاص ومن موقع الرغبة في إذلال الواقع الإسرائيلي بأيّ طريق وطريقة، ونحن في هذا الموقف نذكر هذا الاسم المؤمن المجاهد الطيّب، هذا الحاج المجاهد الذي سقط في مواجهة العدوّ الإسرائيلي الحاج "محمد بجيجي" الذي يمثّل الإنسان المؤمن الواعي المجاهد، الذي أعرفه منذ مدّة طويلة فلم أرَ منه إلاّ الإيمان والإخلاص والاستقامة، حتّى رزقه الله الشهادة تثميناً لذلك كلّه. إنَّ الكثيرين يتحدّثون من موقع التعب ونحن نشعر أنّنا متعبون، لكن ما نريد أن نقوله هو أنّكم إذا كنتم تتحفَّظون في مواقفكم ضدّ المقاومة، حتّى ترتاحوا وحتّى تأمنوا على بلادكم، فلن تسمح "إسرائيل" بذلك لكم.
ضغوط وإغراءات صهيونية
إنّ ما تقوم به "إسرائيل" الآن من الإتيان بهؤلاء اليهود "الفلاشا" الذين استقدمتهم من الحبشة، لتضعهم في مزارع شبعا هو أوّل الغيث، وما تفعله "إسرائيل" منذ مدّة طويلة في المنطقة الحدودية في ما تسمّيه الحزام الأمني هو نوع من أنواع التطبيع الإسرائيلي للمنطقة هناك، ونوع من أنواع التخطيط ليعتاد الناس هناك على "إسرائيل" وعلى قوانينها واقتصادها وسياستها، وعلى أن يدافعوا عنها، لأنَّ هؤلاء الذين ينتمون إلى جيش العميل "لحد" هم جيش "لإسرائيل"، يدافعون عنها؛ وحتّى المسؤولون الإسرائيليون عندما يتحدّثون عمّا يسمّونه الحزام الأمني فإنّهم يتحدّثون عنه على أساس أنّه يؤمِّن الحماية لمستوطنات الجليل، إنّهم لا يتحدّثون عنه كموقع يريدون أن يمنعوا الفتنة أن تدخل إليه، كما يتحدّث بعض اللبنانيين، ولكنّهم يتحدّثون عنه، على أساس أن تكون كلّ هذه الأجساد التي تقاتل والتي تقف ضدّ أهلها بمثابة الحرس لأمن الإسرائيليين على حساب أمن المسلمين وأمن المستضعفين.
إنَّ المسألة تتحرّك في هذه الدائرة ولهذا فإنَّ "إسرائيل" أصبحت تستعمل الإغراءات؛ كلّ مَن له ولد في جيش ما يسمّى "لبنان الجنوبي" فإنَّ بإمكان أبيه وأخيه وأهله أن يعملوا داخل الأرض المحتلة، ليحصلوا على الدولارات أو على عشرات الألوف من الليرات في شهرٍ واحد وما أشبه ذلك. إنّها تستعمل الإغراء لذلك وتستعمل الضغط، والهدف التطبيع تماماً كما هي المسألة الآن في الضفّة الغربية وفي غزّة وفي الجولان، عملت "إسرائيل" على أن تجعل أهل فلسطين الآخرين يعتادون على الحياة الإسرائيلية وكما جعلت أهل الجولان يعتادون عليها حتّى تضمّهم إليها، عندما تتغيّر الأوضاع السياسية وتسمح لهم بضم الضفّة الغربية وغزّة كما ضمَّت الجولان، أن تضمّها من دون تعب لأنَّ الناس قد اعتادوا عليها ورفضوا غيرها، وهي تعمل الآن على أن تعقّد أهل المنطقة الحدودية من المقاومة، وأن تعقّدهم من كلّ شيء يربطهم بأهلهم، ويربطهم ببلدهم. إنّها خطّة مدروسة طويلة الأجل تعمل على ضمّ الأرض المحتلة.
يجب أن لا يشعر العدوّ بالأمن
وتبرز تصريحات جديدة مفادها أنّ "إسرائيل" تريد أن توسّع الحزام الأمني. ما الذي يمنع "إسرائيل" من أن تستقرّ؟ ما الذي يمنعها من أن تطبّع الناس هناك؟ الذي يمنعها من التطبيع إنّما هو المقاومة، تماماً كما هي الانتفاضة الإسلامية المباركة في داخل الضفّة الغربية وغزّة، التي أعادت للمسلمين الفلسطينيين روحهم الجهادية وعزّتهم وكرامتهم وحريّتهم، حتّى انتفضوا من أجل أن يواجهوا المشروع اليهودي الاستيطاني التطبيعي، وأيضاً عندما انطلقت المقاومة وانطلق المجاهدون فإنَّ المجاهدين وحدهم هم الذين يربكون مشروع "إسرائيل" في ما يسمّى "جيش لبنان الجنوبي"، ويربكون مشروع جيش "إسرائيل" في تطبيع العلاقات وتطبيع الناس مع "إسرائيل" في المنطقة الحدودية. وعلى هذا الأساس لا بدّ أن ندرس من جديد مسألة المنطقة الحدودية حتّى نعمل على أن لا يكون "لإسرائيل" أيّ أمن داخل المنطقة الحدودية، لا يكفي أن نربك أمن "إسرائيل" خارج المنطقة الحدودية بل لا بدّ من أن نعمل على أن لا يستطيع أيّ إسرائيلي أن يأخذ حريّته في التجوّل في بنت جبيل ومرجعيون وفي ميس وبليدا وغير ذلك، إلاَّ ويشعر أنّ المقاومة تلاحقه أينما كان؛ لأنّنا لن نستطيع أن ننقذ تلك البلاد من الضمّ إلى دولة "إسرائيل" إلاّ بهذه الطريقة، لأنَّ إسرائيل لا تفهم إلاّ بهذه اللّغة وهذا ما يجب أن نؤكّده. وإنّي أقول لكم لاحقوا الأمور وادرسوا الخطط، حتّى لا تكونوا كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب، فلا ترى أحداً ويخيّل إليها أنّ الصيّاد لا يراها؛ علينا أن نبصر الصيادين جيّداً. ليست المشكلة في أن نوحي لأنفسنا أنّه ليس هناك صيّادون وأنّ "إسرائيل" تريد أن تعيش حدودها بأمن وأنّنا إذا أعطيناها الأمن فسوف تعطينا أمناً مماثلاً. هذه خدعة وليس حقيقة أنّها تريد أن تسقط من أنفسنا روح المقاومة وروح الجهاد، حتّى نسترخي ونعيش في مجتمع استهلاكي يعمل ليومه ولا يعمل لغده، ينظر مواطئ أقدامه ولا ينظر إلى الأُفق الواسع. نحن نشعر بأنَّ موقع المقاومة ولاسيّما المقاومة الإسلامية صعب جداً لأنَّ المقاومة لا تواجه "إسرائيل" فحسب ولكنّها تواجه كلّ الواقع العربي السياسي المستسلم الذي يتعقَّد منها.
التطرّف حالة نسبيّة
وفي وقتٍ سابق صرّح في أجواء قمّة عمان، أو قبل ذلك، أمين الجامعة العربية بأنَّ المقاومة في جنوب لبنان قد انحرفت عن خطّها وأصبحت متطرّفة، لأنّها آمنت بالإسلام وحملت شعار الإسلام. صحيح يشرّفنا أن نكون متطرّفين، لماذا؟ لأنَّ التطرّف حالة نسبيّة. نحن متطرّفون بالنسبة لكلّ السياسة العربية المائعة، ونحن متطرّفون بالنسبة لكلّ السياسة العربية المستسلمة، ولكنّنا معتدلون واقعيون من خلال الخطّ الإسلامي المستقيم الذي لا يحتاج لأنْ يتطرَّف، ولا يحتاج أن ينحرف في القضايا التي أرادنا الله أن نحافظ عليها، وأرادنا الله أن نسير عليها في ما أراده لنا من السير في خطّ الجهاد.
حسابات المستقبل توحّد الموقف
ومن هذا المنطلق أريد أن أؤكّد من جديد على وحدة الموقف، قد لا تستطيع الساحة في مجمل واقعها أن تملك وحدة التصوّر أو وحدة الرأي، لأنَّ خلافات الرأي أمر طبيعي في الواقع، لكن في مرحلتنا الحاضرة يمكن أن نلتقي على أكثر من قضية توحّد موقفنا، وأكثر من خطّ يوحّد مسيرتنا، فلهذا لا بدّ أن نخرج عن أنانيّاتنا لحساب مستقبلنا، ولا بدّ أن نخرج عن عصبيّتنا لحساب أهلنا ولحساب إسلامنا وإيماننا ولحساب كلّ القِيَم الروحية والإيمانية التي نلتزمها في حياتنا، لا بدّ أن نأخذ من الماضي القريب والبعيد عبرة حتّى نحول دون أن يسقط المستقبل كما سقط الماضي في مشاكل وفتن وأحداث، وأريد أن أقول لكلّ الناس إنَّ الأرض تتّسع لكم جميعاً، فلا تحاولوا أن يضيِّق بعضكم على بعض إذا كنتم مخلصين لإسلامكم، وأريد أن أقول كفانا كلّ هذا اللّون من المهاترات ومن السباب والشتائم، لأنّ كلّ ذلك لن يؤدّي إلى نتيجة.
منهج عليّ (عليه السلام) هو الأصوب
إذا كنتم تلتزمون عليّاً (عليه السلام) في خطّه وعليّ (عليه السلام) يلتزم الإسلام في خطّه، والله قال لنا في كتابه، قال لنا عن الكافرين والمشركين {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108]. السباب ليس أسلوباً إسلامياً في حالة الصراع، إذا سببت مقدّسات الآخرين فسيسبُّون مقدّساتك، {فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}، لماذا يعملون هكذا؟ كلّ واحد يعتبر نفسه الأحسن {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الإمام عليّ (عليه السلام) ماذا استوحى من هذه الآية؟ الإمام عليّ (عليه السلام) إذا جاء هذه الأيام فمن الصعب أن يكون له شعبية؛ ففي الماضي لم يكن له شعبية لأنّه أيضاً أراد أن يحملهم على المحجّة البيضاء، والآن أيضاً هناك كثير من الناس لو جاء الإمام عليّ (عليه السلام)، لسبُّوه وشتموه ورموه بالحجارة وحبسوه وأوقفوه على الحواجز، لأنَّ هناك أُناساً يسبُّون الإمام الخميني (قدّس سرّه) ويتحدّثون عنه بطريقة غير إسلامية، لماذا؟ لأنَّ الإمام الخميني (قدّس سرّه) أراد أن يسير في خطّ عليّ (عليه السلام)، لأنّه قال للناس قاتلوا الاستكبار كلّه وقاتلوا الكفر كلّه وقاتلوا الصهيونية كلّها وقاتلوا الظلم كلّه والتزموا بالإسلام كلّه ولا تكفروا؛ تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضه الآخر. والناس لا يطيقون ذلك، ولهذا قالوا للإمام الخميني (قدّس سرّه) لماذا تريد أن تربك وضعنا وواقعنا؟ لقد أربكت بلدك فلماذا تريد أن تربك لبنان؟ القضية هي أنّ كلّ من يسير في خطّ عليّ (عليه السلام) فهو يسير في الخطّ الصحيح وعليه أن يتحمّل انفضاض الناس من حوله، وأنّه لن يكون له أيّة شعبية. وقالوا لعليّ، قال له مستشاروه، بيت المال بيدك أعطِ من تشاء أعطِ معاوية، ثبِّت معاوية على مكانه، أعطِ رؤساء العشائر من بيت المال. قال لهم: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ واللهِ ما أَطُوُر به ما سَمَرَ سميرٌ وما أمَّ نجمٌ في السَّماءِ نجماً"(1). عليّ (عليه السلام) يقول لكم، كما قال لأهل العراق وقد سمعهم يسبُّون أهل الشام، "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ"(1)، "وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"(2). هذه روحية عليّ (عليه السلام) التي هي روحية الإسلام، وهذا هو أسلوبه العملي، وعلينا أن نتأدَّب بآداب الإسلام، وأن نتبع قياداته التي هي على خطّ عليّ (عليه السلام)، وعلينا أن نفكِّر دائماً من موقع الإسلام ومن موقع حريّتنا.
لا رأي للنّاس في الرئيس القادم
وإذا أردنا أن نفكّر بالسياسة الداخلية فعلينا أن نفكّر في هذه السياسة من منطق الخطوط التي نلتزمها في السياسة الخارجية. ولهذا فإنَّ الواقع الذي يتحرّك في لبنان هو الواقع الذي يختار فيه اللبناني ما يريده الآخرون، لا ما تريده حركاتهم، أحزابهم ومنظّماتهم أن يؤكّدوه، بل إنّ اللبنانيين سلَّموا أمرهم إلى الآخرين، ولهذا فكلّ الناخبين الذين يسمُّونهم كباراً هم الذين ينتخبون للبنانيين مَن يعتبرونه رئيسهم وليسوا هم. لا رأي لكم في ذلك الرئيس القادم الذي يتّفق عليه الناخبون في الخارج، الذين يرسلون الوحي إلى الداخل، فيسلم الناس الذين ينتخبون شكليّاً بكلّ ما يريده الوحي. لهذا نحن لا نعتبر المسألة ذات أهمية، لأنَّ أيّ شخص سيأتي سوف تكون لشخصيّته ولخلفياته دورها الكبير في الوقوف أمام القضايا الأساسية في الأُمّة وفي حريّتها وفي مواجهتها للأعداد وفي مواجهتها للاستكبار، لكنَّ المسألة أنّهم لا يريدون للشعب أن يعطي رأيه ولكن يريدون للذين لا يمثّلون الشعب أن يعطوا أهواءهم لا أن يعطوا آراءهم وعقولهم. المسألة كلّها في البازار الخارجي، ولهذا فإنَّ القضية هي أن نبقى نحدّق في خلفيات ماذا يدبّر لنا في ما يسمّونه "الاستحقاق" وأن نحدّق في المستقبل، في ما يجب أن نعمل من أجل أن نؤكّد مسيرة الحريّة لكلّ المسلمين ولكلّ المستضعفين في مواقع المستقبل، وأن نعمل على تخريب كلّ الخطط التي يراد منها أن تسقط حريّة الأُمّة وأن تسقط عزّة الأُمّة وأن تسقط عدالة الأُمّة في كلّ المجالات {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...} [التوبة : 105].
والحمد لله ربّ العالمين