يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23). وقال سبحانه: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ}(القصص: 50).
هناك عنوان يتكرّر التحذير منه في الكتاب والسنّة، وهو عنوان "هوى النفس"، ويراد به أن يتّبع الإنسان شهواته وأطماعه وغرائزه، بحيث لا ينطلق من قاعدة الإيمان بالله والانفتاح على مواقع رضوانه تعالى، بل يستغرق في داخل ذاته ليتحرّك على أساس مشتهياته فيما يأكل أو فيما يشرب، حتى لو كان حراماً، وفيما يمارس من لذّات وشهوات، حتى لو كان على خلاف ما يريده الله تعالى، أو فيما يأكل من مال أو يحصل عليه حتى لو كان ذلك بالباطل، بخلاف ما يريد الله له من الحصول على المال الحلال.
هذا الاستغراق في شهوات النّفس، يجعل الإنسان لا يرتكز على أيّ قاعدة من التقوى، فكلّ الحساب عنده هو ما تشتهيه نفسه، أمّا ما يرضاه الله وما يحبّه وما يأمر به سبحانه أو ينهى عنه، فليس له أيّ حساب، إنه يفكِّر في الدّنيا في كلّ شهواتها وأطماعها ومكاسبها، أما الآخرة، فليس لها حسابٌ عنده. وقد شاع بين الكثير من الناس، الذين إذا نبّهتهم إلى حرام يفعلونه أو يقولونه، أو إلى لذّةٍ أو شهوة محرّمة يعيشونها، مما قد يواجهونه في حساب الله، قالوا: "ليوم الله بيهوّن الله"، فهم لا يفكرون في الله ولا في الدّار الآخرة، لأن استغراقهم في هوى أنفسهم وشهواتها، يبعدهم عن التّفكير في الآخرة ورضى الله، وعن التّفكير في حساب الله عندما يقوم الناس لربِّ العالمين.
إنّ المشكلة في قضية هوى النّفس، أنّه لا قاعدة لها، فقد يشتهي الإنسان اليوم شيئاً، وقد يشتهي غداً شيئاً آخر، بحيث لا يتحرّك على أساس الخطّ المستقيم، بل ينطلق في كلّ يوم من خطّ منحرف مما تسوّل له نفسه، أو خطّ منحرف ممّا توحي به غريزته.
وقد حدّثنا الله تعالى عن أمثال هؤلاء الّذين قد يقولون في شهادتهم الإسلاميّة: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ولكنهم في سلوكهم العملي لا يشهدون بأنّ الله هو الإله، لأن معنى الشهادة لله بالألوهية، هو أن تحسب حسابه وتراقبه وتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وأن تخاف عقابه وترغب في ثوابه؛ إنّ معنى الشهادة لله بالألوهيّة، أنّ الله وحده هو الإله الذي لا بدّ للإنسان من أن يتوجّه بربوبيّته إليه، بعقله وقلبه، فلا يكون في عقله وقلبه إلا الله، وأن لا يتحرّك في كلّ جسده وعلاقاته ومعاملاته ومشتهياته، إلا بما يرضي الله، كما ورد في بعض الأحاديث، أنّ الإنسان الذي يكون في ظلّ الله يوم لا ظلّ إلا ظله هو "رجل لا يقدِّم رجلاً ولا يؤخِّر أخرى حتى يعلم أنّ لله في ذلك رضى". فالسؤال الأساس عند المؤمنين بربوبيّة الله: هل هذا حلال أو حرام؟ هل يرضى الله بذلك أو لا يرضى؟ أما الذين ينطلقون مما تشتهيه أنفسهم وما تأمره به غرائزهم، فإنّ إلههم هو الهوى، لأنهم هم يسقطون أمام ما توحي به غرائزهم.
فالله تعالى أراد أن يشير إلى هؤلاء: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ ـ بحيث تركه لضلاله، بعد أن أعطاه خطّ الهدى فتركه ـ عَلَى عِلْمٍ ـ مع كونه عالماً وعارفاً أنه يتحرّك في خطّ الضلال ـ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ ـ فلا يتحرّك مع أيّ موعظة تقوده إلى مواقع رضوان الله ـ وَقَلْبِهِ ـ والمراد بالقلب العقل، فلا يفكّر عقله في الله ولا فيما يفرضه عليه إيمانه بربوبيّة الله ووحدانيّته ـ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، بحيث تخرجون من هذه الغفلة الّتي تسيطر عليكم من خلال الاستغراق في شهواتكم.
وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين يتّبعون أهواء الآخرين، بحيث قد يخضع الإنسان لهوى زوجته أو العكس، أو يخضع لهوى القيادات المنحرفة التي يلتزمها فيمن يلتزمون هذه الزعامة أو تلك القيادة، فيقتلون الناس بغير حقّ، ويتحركون في خط الضلال من دون أي أساس، فهناك من يتبع هوى نفسه، وهناك من يتبع هوى غيره، بحيث يبيع آخرته بدنيا غيره.
وهناك حديث عن رسول الله (ص) عمن يتبع هواه ويترك ما يريد الله، ومن يتبع هوى الله ويترك هواه، فقد ورد عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: "قال رسول الله (ص): يقول الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤْثِر عبد هواه على هواي ـ والله ليس له هوى، ولكن المقصود هو ما ارتضاه الله لعباده ـ إلا شتّتُّ عليه أمره ـ أي حيّرته عن أمر دينه ودنياه، بحيث عاقبته في الدنيا ـ ولبستُ عليه دنياه ـ أي جعلته يتحرّك فيها بعيداً من خطّ الوضوح ـ وشغلت قلبه بها ـ بحيث يعيش الإنسان هموم الدنيا أو اهتماماتها، فلا يفرغ عقله وقلبه لغيرها ـ ولم أؤته منها إلا ما قدّرت له. وعزتي وجلالي، وعظمتي ونوري وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي ـ مما أمرته به ونهيته عنه ـ على هواه، إلا استحفظته ملائكتي ـ أيّ كلّفتهم بحفظه من كلّ مكروه ـ وكفّلت السموات والأرضين رزقه ـ فتحت له أبواب السموات والأرضين في رزقه ـ وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر، وأتته الدّنيا وهي راغمة"، أي منقادة وطائعة.
وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "إنما أخاف عليكم ـ مما يسقطكم في النار ويبعدكم عن مواقع رضى الله ـ اثنتين: اتباع الهوى، وطول الأمل ـ أن تعيشوا لتتبعوا هوى أنفسكم أو هوى الآخرين على حساب دينكم ومخافة ربكم ـ أمّا اتباع الهوى، فإنه يصدّ عن الحقّ ـ لأن الذي يستغرق في هوى نفسه، يتحرك بما يبتعد به عن الحق ـ وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة"، لأنه يفكّر في أنه لن يموت، فينسى الآخرة، أما الذي يوطّن نفسه بأنّه قد يموت في أيّ لحظة، فإنه يبقى في حذر، لأنه يخاف وهو غير مستعدّ للقاء الله تعالى.
وعن الإمام الصادق (ع): "احذروا أهواءكم ـ عندما تنفتح شهواتك على بعض الأمور، ادرسها: هل هي شهوات محلَّلة أو محرّمة؟ فالله خلقنا وخلق لنا حاجات وشهوات، ونظّم لنا هذه الحاجات، وحدَّد لها حدوداً ـ كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال ـ وللنّساء طبعاً ـ من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم".
وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين يخالفون أهواءهم، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ـ أي مَن خاف عقاب الله ونار الآخرة، وانفتح على رضى الله ـ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:37-41).
ولذلك، على الإنسان المؤمن أن يبقى على حذر من هوى نفسه ومشتهياتها، فلا يكون كلّ طموح حياته أن يحقّق هوى نفسه، بل أن يحقّق رضى ربه وأن يستعدّ لآخرته: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(القصص: 78)، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(الأعراف: 32). خذوا من طيّبات ما رزقكم الله ممّا أحلّه لكم، واتركوا ما تشتهيه أنفسكم مما حرّمه، حتى تفدوا إليه تعالى وهو راضٍ عنكم، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(المطففين: 6)، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء: 88-89).
*من أرشيف خطب الجمعة الدينية، العام 2007.