كتابات
21/06/2020

المنهج الإسلاميّ في الانتماء والاتّباع

المنهج الإسلاميّ في الانتماء والاتّباع

موضوعنا في هذه اللّيلة حول المنهج الإسلامي في الانتماء وفي الاعتقاد وفي الاتباع. فعندما نقرأ القرآن الكريم وهو يحدّثنا عن المشكلة التي واجهت النبوّات في كلّ تاريخها، فإنّنا نلتقي بآيات الله التي تذكر أنّ المشكلة التي كانت تواجه الأنبياء، هي مشكلة هذا الجمود الفكري الذي ينطلق من تخلّف يأخذ معنى القداسة. ولعلّ أخطر أنواع التخلّف لدى الإنسان، هو عندما يختزن التخلّف قداسة لديه، بحيث يمنعه من أن يفكّر في الاتجاه الآخر.

 ولقد كانت المسألة المطروحة عند النّاس آنذاك، وربما لا تزال مطروحة بطريقة وبأخرى، هي أنّ إرث الآباء مقدَّس، لأنهّم كانوا يخلطون بين الجانب العاطفي والجانب الفكري، فنحن نعرف أنَّ الإنسان يتعاطف مع آبائه، وربمّا يحمله التعاطف مع آبائه أن لا يتنكّر لعقائد آبائه وعاداتهم وتقاليدهم، لأنّ التنكّر لها قد يحمل في بعض إيحاءاته معنى الاستهانة بالآباء، لأنّك عندما ترفض فكر إنسان، فمعنى ذلك أنّك فقدت شيئاً من احترامك له، ولهذا كان اتّباع الآباء من المسائل المقدَّسة عندهم، بحيث إنّ الأنبياء عندما يأتون بأيّ فكر يختلف عن فكر الآباء، فإنّ الناس لا يناقشونه، بل كلّ ما عندهم، هو أنّ هذا على خلاف فكر آبائنا، وتنتهي المسألة عند هذا الحدّ، ويحاول النبيّ (ص)، كما يوحي إلينا القرآن بذلك، أن يعلّمنا مناقشة المسألة، بأن ندخل في عملية تقويم فكر الآباء من حيث علاقته بالحقيقة، فهم يعلنون أنهّم ليسوا مستعدّين لذلك.

منطق الكافرين!

وتعالوا لنقرأ بعض آيات القرآن، لنعرض من خلالها كيف كان المنهج هناك وكيف هو المنهج في الإسلام، يقول تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} على مذهب وعلى خطّ وعلى طريقة، لأنّ الأمّة قد تطلق على ذلك {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}[الزخرف؛ 22]، والآثار كناية عن أفكارهم، وهذه المسألة ليست مختصّة بجماعة معيَّنة.

وكذلك قوله تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزّخرف؛ 23]. وهنا نفهم أنَّ المشكلة مشكلة المترفين، وهم الطبقة الماليّة المهيمنة على واقع النّاس، والتي لا تريد للواقع من حولها أن يتغيّر فكرياً في جانب من الجوانب، لأنّ مبدأ التّغيير إذا اخترق المجتمع، فإنّه سوف ينسف كثيراً من القواعد التي يرتكز عليها هؤلاء في فرض هيمنتهم وسيطرتهم، ولذلك نجد أنّ الطبقات المهيمنة والحاكمة في أيّ مجتمع، تعمل على تجميد المجتمع، وترفض أن يدخل المجتمع في عمليّة تغيير أو مناقشة أو ما إلى ذلك، لأنهّم يشعرون بأنّه إذا اهتزّت بعض القواعد في المجتمع على مستوى القيم، أو على مستوى الفكر، فربما تقوم هناك ثورة تنسف كلّ القواعد التي يرتكزون عليها في تضليل النّاس. ولذلك، يتحدّث القرآن عن أنّ المترفين كانوا هم الفئة المهيمنة المضادّة لحركة الأنبياء، باعتبار أنَّ حركة الأنبياء هي حركة تغييريّة وهم يرفضون التّغيير.

قال النبيّ، كما ينقل القرآن عنه: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْقَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف؛ 24].

ربمّا يكون لآبائكم وجهة نظر، ولكنّني أملك وجهة نظر هي أكثر علاقة بالهدى، وأكثر علاقة بالحقّ وبالمصلحة {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ؛ 34]. إنّ النبيّ (ص) هنا يدعوهم إلى الهدى، ويقول تعالوا ناقشوا هذا الطّرح الذي أطرحه عليكم، لكنّ المسألة هي أنّنا لسنا مستعدّين لأن نناقشه، فالقضيّة عندنا محسومة من جميع الجهات {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}، فيما يبيّن من سنّة {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، ليست لنا حاجة لفكر جديد ولوحي جديد ولمنهج جديد مغاير لما عليه آباؤنا {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[المائدة؛ 104]. كيف يتبع الإنسان الجاهل، وكيف يتبع الإنسان الضّالّ؟! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة؛ 170]، أي لا يملكون عقلاً يركّز لهم الفكر على أساس عقل، ولا يملكون هدى يسير بهم نحو النّجاة ونحو المستقبل الكبير.. {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} ممّا يسيء إلى أخلاق النّاس وإلى حياتهم {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}، ويضيفون على ذلك بأنّ ما كان عليه آباؤهم مردود إلى الله، وأنّه ـ تعالى علوّاً كبيراً ـ هو الذي أمر بالفاحشة {وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف؛ 28]. وهذه الآية تدلّ على طبيعة حدّة التخلّف وشدّة المواجهة {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}[الشّعراء؛ 136/137]. عظ ما شئت أو لا تعظ، فالقضيّة واحدة بالنسبة إلينا {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}[سبأ؛ 43]، فهناك الإثارة الانفعاليّة التي تجعل المجتمع يهجم ويثور على الأنبياء وعلى المصلحين، بأن ينطلق الشعار بالقول إنّ هذا يخرّب عليكم عقائد آبائكم {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ* فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}[الصافات؛ 69/70].

كان هذا هو المنهج الذي أخذ به الكافرون والمشركون، وتلك حجّتهم في مواجهة ما يطرحه الأنبياء والمصلحون. ويعني ذلك، أنّ الإسلام يريد أن يؤكّد في وعي الناس من خلال رسالته، أنّه لا مجال لأن يكون انتماؤك واعتقادك واتّباعك خاضعاً لكون الآخرين يتميّزون بميزة عاطفيّة أو تاريخيّة أو ماليّة مهيمنة، وما إلى ذلك بأيّ ميزة تجعلك خاشعاً أمام هذه الميزة، فهذا لا يبرِّر لك أن تعتقد أنّهم مقدّسون.

التخلّف المقدّس؟!

وإذا أردنا أن ننفتح على المسألة في الواقع الذي نعيشه، فإنّنا يمكن أن نطرح أيضاً مقولة يتحدّث بها الكثير من الناس، عندما يقولون، وهم يأخذون بعادات وتقاليد معيّنة، إنّا وجدنا آباءنا عليها، وعندما تريد أن تناقش هذه التّقاليد وهذه العادات أو هذه الأفكار، فإنّ ثورة سوف تندلع من خلال الغوغاء بأنَّ هذه هي عاداتنا، وقد كان آباؤنا كذلك، وكانت الأجيال الماضية كذلك، وقد تحوّلت كثير من عادات التخلّف ومن تقاليد الجهل إلى حالات مقدّسة، يجعلها الناس في دائرة القداسات، بحيث إنّك إذا مسستها بمناقشة أو بعلامة استفهام، فإنّ الكثير من الناس، بمن فيهم الذين قد يملكون مواقع دينية معينة، أو مواقع اجتماعية معيّنة، قد يقفون ضدّك، وليسوا مستعدّين للدخول في المناقشة. حتى إنّ التخلّف عند البعض وصل بهم إلى أن ينظّروا لعادات التخلّف ولتقاليد الجهل، بحيث يحاولون أن يأتوا بآية من كتاب الله في جوّ ضبابيّ من الفهم أو حديثٍ من هنا وهناك.

وإذا ناقشت الآية في دلالتها، وناقشت الحديث في سنده، فإنهّم يقولون لك في هذا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة}، فلقد كان العلماء الذين من قبلك يقولون هكذا، وكان القديم ـ لمجرّد أنّه قديم ـ مقدَّس ولا مجال لمناقشته، في حين أنّ القدماء ناقشوا الذين سبقوهم، ولم يتذرّعوا بهذه الذّريعة الواهية التي تجمّد العقل وتحجّر الفكر، ولو قال العلماء: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، لما وصلنا هذا النتاج الخيّر المبارك الذي أبدع وطوّر وجدّد.

فأن تناقش من أين انطلقت هذه العادة، ومن أين انطلق هذا التّفكير، فإنّه ممنوع عليك ذلك، وبذلك فرض "التخلّف المقدَّس" ـ أي الذي أُعطي صفة القداسة ـ نفسه على الكثير من الذهنيّات العامّة، حتى التي تأخذ بعداً في المسؤوليّة في أكثر من موقع من واقعنا.

نجد أيضاً مقولة أخرى لدى الكثير من النّاس، عندما يأخذون ببعض تقاليد الغرب وببعض عاداته، ممّا تحرّكت به الأوضاع المعاصرة التي يشرف عليها مخطّطون في أكثر من موقع ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي، من أجل إسقاط الكثير من القيم التي يأخذ بها هذا الشّعب أو ذاك، ويعملون على أن تنتشر بواسطة الإعلام الذي يملكون كلّ أجهزته، وبواسطة المواقع التعليميّة والثقافية التي يملكون الكثير منها، وبواسطة كثير من الأوضاع التي يتحرّك فيها الاقتصاد الاستهلاكي هنا وهناك، لتصبح عادةً وتقليداً وتمدّناً وتقدّماً وما إلى ذلك. وعندما ترفض ذلك، فإنهّم يقولون لك هذه هي روح العصر ـ فالعصر يقول لنا، والعصر يفرض نفسه علينا ـ وهذا هو التطوّر، وهذا هو منطق العصر. ونحن نعرف _ أيّها الأحبّة ـ أنّ العصر إنمّا يتطوّر أو يتراجع من خلال الفكر الذي يسيطر على مقدّرات الناس في هذا العصر أو ذاك، ذلك أنّ العصر يمثّل خطّ الزّمن في امتداده، أمّا عندما تنتصر فكرة مادية هنا أو فكرة أخلاقيّة هناك، فإنّ الانتصار ينطلق من خلال الواقع الموضوعي والآليات الموجودة.

ومن الطبيعي أن نجد الآن، أنّ الكثير من العادات والتقاليد والأفكار انتشرت من خلال الراديو والتلفزيون والصحيفة والمجلّة والنوادي الثقافية وما إلى ذلك، بحيث أصبح الناس يدمنونها، ومن خلال ذلك، يدمنون على كلّ ما تقدّمه من أفكار ومن خطوط ومن أوضاع، فإذا أردت أن تناقش ذلك، قالوا لك هل تريد أن تعيدنا إلى الوراء؟! وكأنّ هذه الأمور تمثّل الانطلاقة إلى الأمام.

الفكر لا يبنى على التّقليد

إنّ قضية أن تناقش فكراً على أساس أنّه تقدّمي أو رجعي، ليست في أنّ هذا الفكر كان في زمن ماضٍ ليكون رجعياً، أو يكون في الزمن الحاضر ليكون تقدمياً، بل إنّ تقدميّة فكر ما ورجعيّته ينطلقان من خلال علاقتهما بحياة الإنسان وبمصالحه وبكلّ الآفاق الواسعة التي ينفتح فيها على الحياة... إنّ مسألة أن يكون فكر ما متقدّماً أو متأخّراً، هي أن يحمل هذا الفكر للإنسان القيمة الّتي يرفع بها مستوى فكره ومستوى إحساسه وشعوره ومستوى حركته في الواقع.

فالمسألة ليست {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، فالإسلام يقول لك إنَّ الله وهب لك عقلاً كما وهب الآخرين عقلاً، والله سوف يسأل عقلك، لأنّه يقول لك اسمع كلّ ما يقوله النّاس، ولكن ليجلس عقلك مع كلّ ما تنتجه عقول النّاس، وليناقش هذا العقل وذاك، حتى ينطلق في أفكاره من خلال اقتناع بالنّتائج الإيجابيّة التي يصل إليها، بعد أن يسقط شيئاً من هذا الفكر وشيئاً من ذاك الفكر، أو يختار شيئاً من هذا الفكر أو شيئاً من ذاك الفكر. فعقل الآخرين ليس حجّة لك أمام الله، بل عقلك هو الحجّة التي يمكن أن تقدّمها بين يدي الله ويمكن أن يطالبك الله بها، ولذلك أعطى الله المنهج في قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا}[الإسراء؛ 36].

فالله تعالى لا يريد لك أن تبني فكرك على التّقليد، فلا يكن فكرك فكر الاستهلاك، بل فكر الإنتاج وفكر الإبداع، ذلك أنّ الله سيسألك عمّا عقلت وعمّا فكّرت، وقد حدّثنا الله عن أهل النّار أنهّم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك؛ 10]، وحدّثنا عن أعين لا يبصرون بها، فلقد جمّدوا عقولهم، وجمّدوا عيونهم، وجمّدوا أسماعهم، وانطلقوا مع ما يتحرَّك به واقعهم من تقاليد وعادات.

التقليد في الفقه والعقيدة!

وقد يقول قائل إنّكم تتحدّثون عن رفض التّقليد، فكيف يمكن لكم ذلك وأنتم تؤكّدون رجوع النّاس إلى المجتهدين، ولديكم في الفقه باب للتّقليد؟

إنّ هذا ليس هو التّقليد بالمعنى الذي يعطّل الفكر، بل هو التقليد بالمعنى الذي يغنيه بما لا يملك الآليّة له، وهي مسألة أن يرجع من لا يملك العلم إلى من يملك العلم، فأنت مسلم، والإسلام في أحكامه وشريعته أصبح من التّعقيد بحيث يحتاج إلى اختصاص، وليس لديك هذا الاختصاص. لذلك، فإنّ الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء؛ 7]، ويقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التّوبة؛ 122].

فيا أيّها الجاهل، إذا لم تستطع أن يكون لك اجتهادك في الفقه، فارجع في عملك إلى من يملك الاجتهاد مع الاستقامة، تماماً كما يرجع المريض إلى الطبيب، وكما يرجع الإنسان إلى المهندس، وكما يرجع كلّ إنسان لا يملك الخبرة إلى أهل الخبرة. والرأي الصحيح هو أنّ الفقهاء يرجع إليهم في الأحكام فقط، ولا يرجع إليهم في الموضوعات، وهذا هو رأي كثير من العلماء، ومنهم السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ فرأي المجتهد في الموضوعات ليس حجّة عليك، ولا حجّة لك إلا إذا اقتنعت به من خلال المعطيات التي تملكها.

وعلى ضوء هذا، فإنّ هذا الجوّ الذي قد يسود فيما بين المسلمين، حيث نجد فريقاً من المسلمين يحكمون بكفر هذا المسلم أو بكفر ذاك المسلم، أو بشرك هذا أو ذاك، فإنّنا نقول لهذا الفقيه الذي هو من مذهب معيّن عندما يحكم على مذهب آخر، إنّ هذا ليس من اختصاصك، فاختصاصك هو أن تبحث في الأحكام، أمّا أن يكون مشركاً أو كافراً، فهذا أمر يتعلّق بالعقيدة، والله جعل للناس في كتابه الخطوط التي يستطيعون أن يحكموا فيها على هذا بأنّه مؤمن وعلى ذاك بأنّه مشرك، والتي يمكن أن يعرفها المجتهد ويمكن أن يعرفها غيره، وإنّ قضيّة العقائد ليست من اختصاص المجتهدين في التقليد، فحتى المجتهد عندما يكون له رأي في مسألة العقيدة، فإنّ رأيه هو رأي شخصي قد تقتنع به من أيّ جهة وحجّة علمية كما تقتنع بأيّ رأي آخر، فهذه مسألة رأي شخصي، أي يمكن لك أن تقتنع به ويمكن أن لا تقتنع.

وهكذا، عندما تصدر كثيراً من الأحكام بأنّ فلاناً موثوق، وأنّ فلاناً مرتدّ، أو هو ليس بمرتدّ، فهذه قضيّة موضوعيّة ـ وليست حكماً شرعيّاً ـ يمكن أن يصيبها المجتهد ويمكن أن يصيبها غير المجتهد، فلا بدَّ أن تكون العقيدة ناشئة من وعي ومن اجتهاد ومن بحث، فإذا فرضنا أسس الإيمان، فإنّنا نستطيع أن نحكم على شخص بأنّه مرتدّ أو ليس مرتدّاً في هذا المجال.

ولذلك، فإنّ علينا أن نفهم كثرة ما يصدر الآن بالشّكل غير المسؤول، من الحكم بكفر بعض المسلمين أو بشركهم أو بارتدادهم أو بانحرافهم، فهذا أمر لو أصدره مجتهد من أيّ مذهب كان، فعلينا أن نقول له تعال لنناقشك في هذا الأمر، لأنَّ رأيك ليس مقدَّساً في الخطّ الشّرعي للقداسة، ولكنّه محترم كأيّ صاحب رأي يمكن أن يصيب في رأيه ويمكن أن يخطئ، وليس للناس أن يقلّدوه في ذلك.

إذاً، فالتقليد هو الرّجوع إلى أهل الخبرة، وهو يعاون العقل على ما يملك من الآليّة لذلك، كما هو الوحي ـ مع الفارق من جهات أخرى ـ عندما يحدّثنا عن الله في عالم غيبه وعن الغيب في الآخرة، فإنّ عالم الغيب هو العالم الّذي لا يملك العقل معه الوسائل الّتي توصله إليها، فيأتي الوحي من أجل أن يكمل للعقل وسائل المعرفة، لتكون منطلقة من التأمّلات الإنسانيّة ومن التجربة الإنسانيّة ومن الوحي الإلهيّ، وهكذا الأمر في قضيّة الأحكام الشرعيّة وفي الموضوعات الخارجيّة.

هذه هي خلاصة الفكرة، ومن الطبيعيّ جداً أنّ الناس عندما يرجعون إلى أهل الخبرة، فلا بدّ لهم أن يدرسوا مدى خبرتهم ومدى مستواهم في الخبرة.

رفض منطق الإمّعة

وعلينا في نهاية المطاف، أن نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن النبيّ (ص) وعن الأئمّة (ع) في رفض السّير مع تيّار الناس. فعن حذيفة: قال رسول الله (ص): »لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن النّاس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن النّاس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا«[1]. ليكن لك فكرك المنطلق من مبادئك، ولا يكن موقفك حركة في مجرى التيّار.

في الحديث عن الإمام موسى الكاظم (ع)، قال لرجل من أصحابه: »لا تكن إمّعه، تقول أنا مع الناس وأنا كواحدٍ من الناس«[2]، بحيث يقال لك: ما هو رأيك؟ فتقول أنا مع الناس ومع العشيرة، وأنا واحد من الناس، أقول ما يقولون، يعني لا رأي لي، في حين أنّ الإنسان الذي يكون له رأيه من خلال دراسته للفكر، فإنّه حتى لو وقف العالم كلّه ضدّه، فإنّه لن يستطيع أن يقنعه بغير رأيه المتشكّل من قناعته.

وهكذا ورد في الحديث عن (أبي حمزة الثمالي)، قال: قال أبو عبد الله (ع): »إيّاك والرّئاسة، وإيّاك أن تطأ أعقاب الرّجال. فقلت: جعلت فداك، أمّا الرئاسة فقد عرفتها، وأمّا أن أطأ أعقاب الرّجال، فما ثلثا ما في يدي إلا ممّا وطئت أعقاب الرّجالـ أنا أمشي وراءهم، وهذا هو رزقي ـ فقال: ليس حيث تذهب، إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كلّ ما قال»[3]، أي أنّه لا يملك الكفاءة، وأنت تصدّقه في كلّ ما قال وما يقول.

ويقول (عدي بن حاتم): "أتيت النبيّ (ص) وهو يقرأ في سورة براءة{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}[التوبة؛ 31]،فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم«[4]، أي أنهّم ليسوا في مستوى التَّحليل والتَّحريم.

ويؤكِّد هذا المعنى حديث طريف يرويه صاحب (الاحتجاج)، وهو منسوب إلى الإمام الحسن العسكري (ع)، وإن كان فيه بعض الضّعف، ولكنّ أفكاره تنسجم مع الخطوط العامَّة للفكر القرآني في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَ?ذَا مِنْ عِنْدِ الله}[البقرة؛ 79].

 قال رجل للصّادق (ع): »فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود، لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل إلى غيره، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلّدون علماءهم، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟ فقال (ع): بين عوامنا وعلمائنا، وبين عوام اليهود وعلمائهم، فرق من جهة، وتسوية من جهة؛ أمّا من حيث استووا، فإنّ الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فلا.  قلت: بيّن لي يا بن رسول الله. قال (ع): إنَّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّريح وبأكل الحرام والرّشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشّفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهمـ  تعصّبهم لأنفسهم أو لعائلاتهم أو لمواقعهم ـ وأنهّم إذا تعصّبوا، أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرّمات، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمَّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكاياته، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله (ص)، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام أمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظّاهر، والعصبيّة الشّديدة، والتّكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصّبون عليه، وإن كان لإصلاح أمره مستحقاً، والترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتّقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»[5].

هذه بعض كلمات الرّسول (ص) وكلمات أهل البيت (ع).

خلاصة الفكرة

وخلاصة الفكرة ـ أيّها الأحبّة ـ هي أنَّ الله سوف يسألنا غداً عن كلّ ما اعتقدناه، وعن كلّ ما اتّبعناه، وعن كلّ ما انتمينا إليه، وعن كلّ ما قلناه وفعلناه.. ولكلّ شيء من هذه المفردات خطّ خطّه الله، ومنهج منهجه الله، فعلينا أن نقف مع الخطّ الذي خطّه الله في هذه الأمور، ومع المنهج الذي رسمه الله، لأنّ المسألة هي مسؤوليّتنا عن أنفسنا وعن الناس وعن الحياة، ومسؤوليّتنا الكبرى غداً {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النحل؛ 111]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}[الانفطار؛ 19]، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[غافر؛ 17]، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء؛ 14].

لذلك، علينا أن نحرّك عقولنا، بأن نجعلها في حالة طوارئ كلّما كثرت الشّبهات وكثرت الغوغاء، وكلّما تحرّك التخلّف، بأن تفكّر دائماً، وتقرأ دائماً، وتستشير دائماً، وتحاور دائماً، حتى تصل إلى الحقّ الذي لا يقترب منه الباطل.

هذا هو نهج القرآن ونهج السنّة ونهج الإسلام.

والحمد لله ربِّ العالمين. 

*فكر وثقافة/ العدد93، بتاريخ: 24 ربيع الأوَّل 1419هـ/ الموافق: 18/7/1998م. 


[1] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص 2620.

[2] بحار الأنوار، المجلسي، ج 75، ص 325.

[3] الكافي، الكليني، ج2، ص 298.

[4] الكافي، ج1، ص 53.

[5] بحار الأنوار، المجلسي، ج2، ص88.

موضوعنا في هذه اللّيلة حول المنهج الإسلامي في الانتماء وفي الاعتقاد وفي الاتباع. فعندما نقرأ القرآن الكريم وهو يحدّثنا عن المشكلة التي واجهت النبوّات في كلّ تاريخها، فإنّنا نلتقي بآيات الله التي تذكر أنّ المشكلة التي كانت تواجه الأنبياء، هي مشكلة هذا الجمود الفكري الذي ينطلق من تخلّف يأخذ معنى القداسة. ولعلّ أخطر أنواع التخلّف لدى الإنسان، هو عندما يختزن التخلّف قداسة لديه، بحيث يمنعه من أن يفكّر في الاتجاه الآخر.

 ولقد كانت المسألة المطروحة عند النّاس آنذاك، وربما لا تزال مطروحة بطريقة وبأخرى، هي أنّ إرث الآباء مقدَّس، لأنهّم كانوا يخلطون بين الجانب العاطفي والجانب الفكري، فنحن نعرف أنَّ الإنسان يتعاطف مع آبائه، وربمّا يحمله التعاطف مع آبائه أن لا يتنكّر لعقائد آبائه وعاداتهم وتقاليدهم، لأنّ التنكّر لها قد يحمل في بعض إيحاءاته معنى الاستهانة بالآباء، لأنّك عندما ترفض فكر إنسان، فمعنى ذلك أنّك فقدت شيئاً من احترامك له، ولهذا كان اتّباع الآباء من المسائل المقدَّسة عندهم، بحيث إنّ الأنبياء عندما يأتون بأيّ فكر يختلف عن فكر الآباء، فإنّ الناس لا يناقشونه، بل كلّ ما عندهم، هو أنّ هذا على خلاف فكر آبائنا، وتنتهي المسألة عند هذا الحدّ، ويحاول النبيّ (ص)، كما يوحي إلينا القرآن بذلك، أن يعلّمنا مناقشة المسألة، بأن ندخل في عملية تقويم فكر الآباء من حيث علاقته بالحقيقة، فهم يعلنون أنهّم ليسوا مستعدّين لذلك.

منطق الكافرين!

وتعالوا لنقرأ بعض آيات القرآن، لنعرض من خلالها كيف كان المنهج هناك وكيف هو المنهج في الإسلام، يقول تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} على مذهب وعلى خطّ وعلى طريقة، لأنّ الأمّة قد تطلق على ذلك {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}[الزخرف؛ 22]، والآثار كناية عن أفكارهم، وهذه المسألة ليست مختصّة بجماعة معيَّنة.

وكذلك قوله تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزّخرف؛ 23]. وهنا نفهم أنَّ المشكلة مشكلة المترفين، وهم الطبقة الماليّة المهيمنة على واقع النّاس، والتي لا تريد للواقع من حولها أن يتغيّر فكرياً في جانب من الجوانب، لأنّ مبدأ التّغيير إذا اخترق المجتمع، فإنّه سوف ينسف كثيراً من القواعد التي يرتكز عليها هؤلاء في فرض هيمنتهم وسيطرتهم، ولذلك نجد أنّ الطبقات المهيمنة والحاكمة في أيّ مجتمع، تعمل على تجميد المجتمع، وترفض أن يدخل المجتمع في عمليّة تغيير أو مناقشة أو ما إلى ذلك، لأنهّم يشعرون بأنّه إذا اهتزّت بعض القواعد في المجتمع على مستوى القيم، أو على مستوى الفكر، فربما تقوم هناك ثورة تنسف كلّ القواعد التي يرتكزون عليها في تضليل النّاس. ولذلك، يتحدّث القرآن عن أنّ المترفين كانوا هم الفئة المهيمنة المضادّة لحركة الأنبياء، باعتبار أنَّ حركة الأنبياء هي حركة تغييريّة وهم يرفضون التّغيير.

قال النبيّ، كما ينقل القرآن عنه: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْقَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف؛ 24].

ربمّا يكون لآبائكم وجهة نظر، ولكنّني أملك وجهة نظر هي أكثر علاقة بالهدى، وأكثر علاقة بالحقّ وبالمصلحة {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ؛ 34]. إنّ النبيّ (ص) هنا يدعوهم إلى الهدى، ويقول تعالوا ناقشوا هذا الطّرح الذي أطرحه عليكم، لكنّ المسألة هي أنّنا لسنا مستعدّين لأن نناقشه، فالقضيّة عندنا محسومة من جميع الجهات {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}، فيما يبيّن من سنّة {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، ليست لنا حاجة لفكر جديد ولوحي جديد ولمنهج جديد مغاير لما عليه آباؤنا {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[المائدة؛ 104]. كيف يتبع الإنسان الجاهل، وكيف يتبع الإنسان الضّالّ؟! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة؛ 170]، أي لا يملكون عقلاً يركّز لهم الفكر على أساس عقل، ولا يملكون هدى يسير بهم نحو النّجاة ونحو المستقبل الكبير.. {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} ممّا يسيء إلى أخلاق النّاس وإلى حياتهم {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}، ويضيفون على ذلك بأنّ ما كان عليه آباؤهم مردود إلى الله، وأنّه ـ تعالى علوّاً كبيراً ـ هو الذي أمر بالفاحشة {وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف؛ 28]. وهذه الآية تدلّ على طبيعة حدّة التخلّف وشدّة المواجهة {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}[الشّعراء؛ 136/137]. عظ ما شئت أو لا تعظ، فالقضيّة واحدة بالنسبة إلينا {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}[سبأ؛ 43]، فهناك الإثارة الانفعاليّة التي تجعل المجتمع يهجم ويثور على الأنبياء وعلى المصلحين، بأن ينطلق الشعار بالقول إنّ هذا يخرّب عليكم عقائد آبائكم {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ* فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}[الصافات؛ 69/70].

كان هذا هو المنهج الذي أخذ به الكافرون والمشركون، وتلك حجّتهم في مواجهة ما يطرحه الأنبياء والمصلحون. ويعني ذلك، أنّ الإسلام يريد أن يؤكّد في وعي الناس من خلال رسالته، أنّه لا مجال لأن يكون انتماؤك واعتقادك واتّباعك خاضعاً لكون الآخرين يتميّزون بميزة عاطفيّة أو تاريخيّة أو ماليّة مهيمنة، وما إلى ذلك بأيّ ميزة تجعلك خاشعاً أمام هذه الميزة، فهذا لا يبرِّر لك أن تعتقد أنّهم مقدّسون.

التخلّف المقدّس؟!

وإذا أردنا أن ننفتح على المسألة في الواقع الذي نعيشه، فإنّنا يمكن أن نطرح أيضاً مقولة يتحدّث بها الكثير من الناس، عندما يقولون، وهم يأخذون بعادات وتقاليد معيّنة، إنّا وجدنا آباءنا عليها، وعندما تريد أن تناقش هذه التّقاليد وهذه العادات أو هذه الأفكار، فإنّ ثورة سوف تندلع من خلال الغوغاء بأنَّ هذه هي عاداتنا، وقد كان آباؤنا كذلك، وكانت الأجيال الماضية كذلك، وقد تحوّلت كثير من عادات التخلّف ومن تقاليد الجهل إلى حالات مقدّسة، يجعلها الناس في دائرة القداسات، بحيث إنّك إذا مسستها بمناقشة أو بعلامة استفهام، فإنّ الكثير من الناس، بمن فيهم الذين قد يملكون مواقع دينية معينة، أو مواقع اجتماعية معيّنة، قد يقفون ضدّك، وليسوا مستعدّين للدخول في المناقشة. حتى إنّ التخلّف عند البعض وصل بهم إلى أن ينظّروا لعادات التخلّف ولتقاليد الجهل، بحيث يحاولون أن يأتوا بآية من كتاب الله في جوّ ضبابيّ من الفهم أو حديثٍ من هنا وهناك.

وإذا ناقشت الآية في دلالتها، وناقشت الحديث في سنده، فإنهّم يقولون لك في هذا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة}، فلقد كان العلماء الذين من قبلك يقولون هكذا، وكان القديم ـ لمجرّد أنّه قديم ـ مقدَّس ولا مجال لمناقشته، في حين أنّ القدماء ناقشوا الذين سبقوهم، ولم يتذرّعوا بهذه الذّريعة الواهية التي تجمّد العقل وتحجّر الفكر، ولو قال العلماء: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، لما وصلنا هذا النتاج الخيّر المبارك الذي أبدع وطوّر وجدّد.

فأن تناقش من أين انطلقت هذه العادة، ومن أين انطلق هذا التّفكير، فإنّه ممنوع عليك ذلك، وبذلك فرض "التخلّف المقدَّس" ـ أي الذي أُعطي صفة القداسة ـ نفسه على الكثير من الذهنيّات العامّة، حتى التي تأخذ بعداً في المسؤوليّة في أكثر من موقع من واقعنا.

نجد أيضاً مقولة أخرى لدى الكثير من النّاس، عندما يأخذون ببعض تقاليد الغرب وببعض عاداته، ممّا تحرّكت به الأوضاع المعاصرة التي يشرف عليها مخطّطون في أكثر من موقع ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي، من أجل إسقاط الكثير من القيم التي يأخذ بها هذا الشّعب أو ذاك، ويعملون على أن تنتشر بواسطة الإعلام الذي يملكون كلّ أجهزته، وبواسطة المواقع التعليميّة والثقافية التي يملكون الكثير منها، وبواسطة كثير من الأوضاع التي يتحرّك فيها الاقتصاد الاستهلاكي هنا وهناك، لتصبح عادةً وتقليداً وتمدّناً وتقدّماً وما إلى ذلك. وعندما ترفض ذلك، فإنهّم يقولون لك هذه هي روح العصر ـ فالعصر يقول لنا، والعصر يفرض نفسه علينا ـ وهذا هو التطوّر، وهذا هو منطق العصر. ونحن نعرف _ أيّها الأحبّة ـ أنّ العصر إنمّا يتطوّر أو يتراجع من خلال الفكر الذي يسيطر على مقدّرات الناس في هذا العصر أو ذاك، ذلك أنّ العصر يمثّل خطّ الزّمن في امتداده، أمّا عندما تنتصر فكرة مادية هنا أو فكرة أخلاقيّة هناك، فإنّ الانتصار ينطلق من خلال الواقع الموضوعي والآليات الموجودة.

ومن الطبيعي أن نجد الآن، أنّ الكثير من العادات والتقاليد والأفكار انتشرت من خلال الراديو والتلفزيون والصحيفة والمجلّة والنوادي الثقافية وما إلى ذلك، بحيث أصبح الناس يدمنونها، ومن خلال ذلك، يدمنون على كلّ ما تقدّمه من أفكار ومن خطوط ومن أوضاع، فإذا أردت أن تناقش ذلك، قالوا لك هل تريد أن تعيدنا إلى الوراء؟! وكأنّ هذه الأمور تمثّل الانطلاقة إلى الأمام.

الفكر لا يبنى على التّقليد

إنّ قضية أن تناقش فكراً على أساس أنّه تقدّمي أو رجعي، ليست في أنّ هذا الفكر كان في زمن ماضٍ ليكون رجعياً، أو يكون في الزمن الحاضر ليكون تقدمياً، بل إنّ تقدميّة فكر ما ورجعيّته ينطلقان من خلال علاقتهما بحياة الإنسان وبمصالحه وبكلّ الآفاق الواسعة التي ينفتح فيها على الحياة... إنّ مسألة أن يكون فكر ما متقدّماً أو متأخّراً، هي أن يحمل هذا الفكر للإنسان القيمة الّتي يرفع بها مستوى فكره ومستوى إحساسه وشعوره ومستوى حركته في الواقع.

فالمسألة ليست {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، فالإسلام يقول لك إنَّ الله وهب لك عقلاً كما وهب الآخرين عقلاً، والله سوف يسأل عقلك، لأنّه يقول لك اسمع كلّ ما يقوله النّاس، ولكن ليجلس عقلك مع كلّ ما تنتجه عقول النّاس، وليناقش هذا العقل وذاك، حتى ينطلق في أفكاره من خلال اقتناع بالنّتائج الإيجابيّة التي يصل إليها، بعد أن يسقط شيئاً من هذا الفكر وشيئاً من ذاك الفكر، أو يختار شيئاً من هذا الفكر أو شيئاً من ذاك الفكر. فعقل الآخرين ليس حجّة لك أمام الله، بل عقلك هو الحجّة التي يمكن أن تقدّمها بين يدي الله ويمكن أن يطالبك الله بها، ولذلك أعطى الله المنهج في قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا}[الإسراء؛ 36].

فالله تعالى لا يريد لك أن تبني فكرك على التّقليد، فلا يكن فكرك فكر الاستهلاك، بل فكر الإنتاج وفكر الإبداع، ذلك أنّ الله سيسألك عمّا عقلت وعمّا فكّرت، وقد حدّثنا الله عن أهل النّار أنهّم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك؛ 10]، وحدّثنا عن أعين لا يبصرون بها، فلقد جمّدوا عقولهم، وجمّدوا عيونهم، وجمّدوا أسماعهم، وانطلقوا مع ما يتحرَّك به واقعهم من تقاليد وعادات.

التقليد في الفقه والعقيدة!

وقد يقول قائل إنّكم تتحدّثون عن رفض التّقليد، فكيف يمكن لكم ذلك وأنتم تؤكّدون رجوع النّاس إلى المجتهدين، ولديكم في الفقه باب للتّقليد؟

إنّ هذا ليس هو التّقليد بالمعنى الذي يعطّل الفكر، بل هو التقليد بالمعنى الذي يغنيه بما لا يملك الآليّة له، وهي مسألة أن يرجع من لا يملك العلم إلى من يملك العلم، فأنت مسلم، والإسلام في أحكامه وشريعته أصبح من التّعقيد بحيث يحتاج إلى اختصاص، وليس لديك هذا الاختصاص. لذلك، فإنّ الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء؛ 7]، ويقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التّوبة؛ 122].

فيا أيّها الجاهل، إذا لم تستطع أن يكون لك اجتهادك في الفقه، فارجع في عملك إلى من يملك الاجتهاد مع الاستقامة، تماماً كما يرجع المريض إلى الطبيب، وكما يرجع الإنسان إلى المهندس، وكما يرجع كلّ إنسان لا يملك الخبرة إلى أهل الخبرة. والرأي الصحيح هو أنّ الفقهاء يرجع إليهم في الأحكام فقط، ولا يرجع إليهم في الموضوعات، وهذا هو رأي كثير من العلماء، ومنهم السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ فرأي المجتهد في الموضوعات ليس حجّة عليك، ولا حجّة لك إلا إذا اقتنعت به من خلال المعطيات التي تملكها.

وعلى ضوء هذا، فإنّ هذا الجوّ الذي قد يسود فيما بين المسلمين، حيث نجد فريقاً من المسلمين يحكمون بكفر هذا المسلم أو بكفر ذاك المسلم، أو بشرك هذا أو ذاك، فإنّنا نقول لهذا الفقيه الذي هو من مذهب معيّن عندما يحكم على مذهب آخر، إنّ هذا ليس من اختصاصك، فاختصاصك هو أن تبحث في الأحكام، أمّا أن يكون مشركاً أو كافراً، فهذا أمر يتعلّق بالعقيدة، والله جعل للناس في كتابه الخطوط التي يستطيعون أن يحكموا فيها على هذا بأنّه مؤمن وعلى ذاك بأنّه مشرك، والتي يمكن أن يعرفها المجتهد ويمكن أن يعرفها غيره، وإنّ قضيّة العقائد ليست من اختصاص المجتهدين في التقليد، فحتى المجتهد عندما يكون له رأي في مسألة العقيدة، فإنّ رأيه هو رأي شخصي قد تقتنع به من أيّ جهة وحجّة علمية كما تقتنع بأيّ رأي آخر، فهذه مسألة رأي شخصي، أي يمكن لك أن تقتنع به ويمكن أن لا تقتنع.

وهكذا، عندما تصدر كثيراً من الأحكام بأنّ فلاناً موثوق، وأنّ فلاناً مرتدّ، أو هو ليس بمرتدّ، فهذه قضيّة موضوعيّة ـ وليست حكماً شرعيّاً ـ يمكن أن يصيبها المجتهد ويمكن أن يصيبها غير المجتهد، فلا بدَّ أن تكون العقيدة ناشئة من وعي ومن اجتهاد ومن بحث، فإذا فرضنا أسس الإيمان، فإنّنا نستطيع أن نحكم على شخص بأنّه مرتدّ أو ليس مرتدّاً في هذا المجال.

ولذلك، فإنّ علينا أن نفهم كثرة ما يصدر الآن بالشّكل غير المسؤول، من الحكم بكفر بعض المسلمين أو بشركهم أو بارتدادهم أو بانحرافهم، فهذا أمر لو أصدره مجتهد من أيّ مذهب كان، فعلينا أن نقول له تعال لنناقشك في هذا الأمر، لأنَّ رأيك ليس مقدَّساً في الخطّ الشّرعي للقداسة، ولكنّه محترم كأيّ صاحب رأي يمكن أن يصيب في رأيه ويمكن أن يخطئ، وليس للناس أن يقلّدوه في ذلك.

إذاً، فالتقليد هو الرّجوع إلى أهل الخبرة، وهو يعاون العقل على ما يملك من الآليّة لذلك، كما هو الوحي ـ مع الفارق من جهات أخرى ـ عندما يحدّثنا عن الله في عالم غيبه وعن الغيب في الآخرة، فإنّ عالم الغيب هو العالم الّذي لا يملك العقل معه الوسائل الّتي توصله إليها، فيأتي الوحي من أجل أن يكمل للعقل وسائل المعرفة، لتكون منطلقة من التأمّلات الإنسانيّة ومن التجربة الإنسانيّة ومن الوحي الإلهيّ، وهكذا الأمر في قضيّة الأحكام الشرعيّة وفي الموضوعات الخارجيّة.

هذه هي خلاصة الفكرة، ومن الطبيعيّ جداً أنّ الناس عندما يرجعون إلى أهل الخبرة، فلا بدّ لهم أن يدرسوا مدى خبرتهم ومدى مستواهم في الخبرة.

رفض منطق الإمّعة

وعلينا في نهاية المطاف، أن نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن النبيّ (ص) وعن الأئمّة (ع) في رفض السّير مع تيّار الناس. فعن حذيفة: قال رسول الله (ص): »لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن النّاس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن النّاس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا«[1]. ليكن لك فكرك المنطلق من مبادئك، ولا يكن موقفك حركة في مجرى التيّار.

في الحديث عن الإمام موسى الكاظم (ع)، قال لرجل من أصحابه: »لا تكن إمّعه، تقول أنا مع الناس وأنا كواحدٍ من الناس«[2]، بحيث يقال لك: ما هو رأيك؟ فتقول أنا مع الناس ومع العشيرة، وأنا واحد من الناس، أقول ما يقولون، يعني لا رأي لي، في حين أنّ الإنسان الذي يكون له رأيه من خلال دراسته للفكر، فإنّه حتى لو وقف العالم كلّه ضدّه، فإنّه لن يستطيع أن يقنعه بغير رأيه المتشكّل من قناعته.

وهكذا ورد في الحديث عن (أبي حمزة الثمالي)، قال: قال أبو عبد الله (ع): »إيّاك والرّئاسة، وإيّاك أن تطأ أعقاب الرّجال. فقلت: جعلت فداك، أمّا الرئاسة فقد عرفتها، وأمّا أن أطأ أعقاب الرّجال، فما ثلثا ما في يدي إلا ممّا وطئت أعقاب الرّجالـ أنا أمشي وراءهم، وهذا هو رزقي ـ فقال: ليس حيث تذهب، إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كلّ ما قال»[3]، أي أنّه لا يملك الكفاءة، وأنت تصدّقه في كلّ ما قال وما يقول.

ويقول (عدي بن حاتم): "أتيت النبيّ (ص) وهو يقرأ في سورة براءة{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}[التوبة؛ 31]،فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم«[4]، أي أنهّم ليسوا في مستوى التَّحليل والتَّحريم.

ويؤكِّد هذا المعنى حديث طريف يرويه صاحب (الاحتجاج)، وهو منسوب إلى الإمام الحسن العسكري (ع)، وإن كان فيه بعض الضّعف، ولكنّ أفكاره تنسجم مع الخطوط العامَّة للفكر القرآني في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَ?ذَا مِنْ عِنْدِ الله}[البقرة؛ 79].

 قال رجل للصّادق (ع): »فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود، لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل إلى غيره، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلّدون علماءهم، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟ فقال (ع): بين عوامنا وعلمائنا، وبين عوام اليهود وعلمائهم، فرق من جهة، وتسوية من جهة؛ أمّا من حيث استووا، فإنّ الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فلا.  قلت: بيّن لي يا بن رسول الله. قال (ع): إنَّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّريح وبأكل الحرام والرّشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشّفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهمـ  تعصّبهم لأنفسهم أو لعائلاتهم أو لمواقعهم ـ وأنهّم إذا تعصّبوا، أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرّمات، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمَّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكاياته، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله (ص)، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام أمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظّاهر، والعصبيّة الشّديدة، والتّكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصّبون عليه، وإن كان لإصلاح أمره مستحقاً، والترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتّقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»[5].

هذه بعض كلمات الرّسول (ص) وكلمات أهل البيت (ع).

خلاصة الفكرة

وخلاصة الفكرة ـ أيّها الأحبّة ـ هي أنَّ الله سوف يسألنا غداً عن كلّ ما اعتقدناه، وعن كلّ ما اتّبعناه، وعن كلّ ما انتمينا إليه، وعن كلّ ما قلناه وفعلناه.. ولكلّ شيء من هذه المفردات خطّ خطّه الله، ومنهج منهجه الله، فعلينا أن نقف مع الخطّ الذي خطّه الله في هذه الأمور، ومع المنهج الذي رسمه الله، لأنّ المسألة هي مسؤوليّتنا عن أنفسنا وعن الناس وعن الحياة، ومسؤوليّتنا الكبرى غداً {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النحل؛ 111]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}[الانفطار؛ 19]، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[غافر؛ 17]، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء؛ 14].

لذلك، علينا أن نحرّك عقولنا، بأن نجعلها في حالة طوارئ كلّما كثرت الشّبهات وكثرت الغوغاء، وكلّما تحرّك التخلّف، بأن تفكّر دائماً، وتقرأ دائماً، وتستشير دائماً، وتحاور دائماً، حتى تصل إلى الحقّ الذي لا يقترب منه الباطل.

هذا هو نهج القرآن ونهج السنّة ونهج الإسلام.

والحمد لله ربِّ العالمين. 

*فكر وثقافة/ العدد93، بتاريخ: 24 ربيع الأوَّل 1419هـ/ الموافق: 18/7/1998م. 


[1] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص 2620.

[2] بحار الأنوار، المجلسي، ج 75، ص 325.

[3] الكافي، الكليني، ج2، ص 298.

[4] الكافي، ج1، ص 53.

[5] بحار الأنوار، المجلسي، ج2، ص88.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية