كنَّا نتحدَّث بالأمس حول هجرة النَّبيّ (ص) من مكَّة إلى المدينة، وقد قلنا إنَّ مسألة الهجرة إنّما هي مسألة الإنسانيَّة، وقد كانت منذ ولد الإنسان، عندما كانت ظروفه تفرض عليه أن ينتقل من مكان إلى مكان، لأنَّ لكلّ مكان مشاكله وخصائصه.
لذلك، فنحن نريد أن نتفهَّم جيّداً المفهوم الإسلاميَّ لمسألة الهجرة، ومتى تكون الهجرةُ شرعيَّة يرضاها الله، ومتى تكون غير شرعيَّة لا يرضاها.
مفهوم الارتباط بالأرض
عندما ندرس مسألة ارتباط الإنسان بالأرض، وكلّ إنسان منَّا يولد في أرض معيَّنة هي مسقط رأسه، فالسؤال يكون: ما هو ارتباطنا بالأرض؟ هل الأرض تمثّل بالنسبة إلى الإنسان جزءاً من ذاته، بحيث إذا انفصل عنها انفصل عن ذاته؟ هل يريد الله لنا أن نخلص للأرض الَّتي نعيش فيها، تماماً كما لو كانت وثناً يرتبط به الإنسان، كما في الثَّقافة المعاصرة الَّتي تحوّل الأرض في وجدان الإنسان إلى ما يشبه الصَّنم، فعندما يتحدَّثون عن الأوطان، يتحدّثون عنها كما لو كان الوطن إلهاً يُعبَد؟!
إنَّ النظريَّة الإسلاميّة تحسب حساباً للجوانب العاطفيَّة والشّعوريَّة الَّتي تجعل الإنسان يحنّ إلى مسقط رأسه وإلى ملاعب صباه، ولا تمانع في ذلك، لكنَّها تربط مسألة علاقة الإنسان بالأرض بمقدار ما تحمي الأرضُ إنسانيَّتك، فإذا كان وطنك يضطهد إنسانيَّتك، ولم يكن لك سبيل إلى أن تحقّق إنسانيَّتك في عزَّتك وكرامتك وحرَّيتك، وكانت لك فرصة أن تخرج منه، فاخرج منه، وإذا كانت في وطنك قوى ظالمة مستكبرة تعمل على أن تضغط على فكرك لتستبدل به فكراً آخر، أو تضغط على التزامك لتفقد التزامك، فإنَّ الإسلام يفرض عليك أن تخرج من وطنك، لتثبّت إنسانيَّتك، وتستعيد قوَّتك، لترجع إليه، لو أردت الرجوع، وأنت في موقع القوَّة، لتمارس قوَّتك في حماية الإنسان الآخر كما في حماية نفسك.
في بعض كلمات عليّ (ع) في "نهج البلاغة"، يقول: "لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ". ليس هناك أيّ بلد يمكن أن يكون له الأولويَّة بك، بحيث تخضع له وترتبط به، إنما القضيَّة أنَّك عبد الله، والأرض أرض الله، والله يريد لك أن تعيش في أرضه لتمارس مسؤوليَّتك، لتحمل الأرضُ ثقلَك، ولتحمل حاجاتِك، ولتحقّقَ عزَّتَكَ وحرّيّتَكَ وكرامتَكَ وإنسانيَّتك، فإذا فقدت ذلك في بلدك فلم يحملك، فانتقل إلى بلد آخر.
وقد قرأنا في القرآن الكريم، عندما يحدّثنا الله عن حركة الإنسان في الأرض، يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا - انطلق إلى مناكب الأرض؛ إلى الجبال والسّهول - وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ}[الملك: 15]، فأينما وجدت رزقك، فانطلق لتحصل عليه في كلّ مكان يمنحك هذا الرّزق.
هذه هي النظريَّة الإسلاميَّة التي يمثّلها عليّ (ع).
القيمة للإنسان
وعندما نرتبط بالوطن فندافع عنه، ونرتبط به فنعمّره، ونرتبط به لننظّمه، فإنَّنا نفعل ذلك عندما يكون الوطن حاجة إنسانيَّة، بحيث تكون عزّتنا من عزَّته، وحرّيتنا من حرَّيته، عندما ترتبط قضيَّة الحريَّة بالوطن؛ بأن ترتبط حريّة الإنسان بحريّة وطنه، وقوّة الإنسان بقوَّة وطنه، عند ذلك، يعمل الإنسان من خلال حريَّة وطنه، ومن خلال عزَّة وطنه، ليحمي إنسانيَّته وحرّيته بذلك، لا من جهة خصوصيّة الأرض، فقيمة الأرض بالإنسان، وليست قيمة الإنسان بالأرض. هذه هي النظريَّة الإسلاميَّة التي يعبّر عنها الإمام عليّ (ع).
ثمَّ عندما تعيش في داخل وطنك تحت سيطرة الفئات المستكبرة الَّتي تريد أن تلغي إنسانيَّتك، وتلغي دينك، وتضعف التزامك، بحيث لا تملك أمام هذه الضّغوط أن تتوازن وأن تستقيم، فالله يقول لك اخرج من وطنك.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ – ظلموا أنفسهم عندما كفروا وفسقوا، وعندما انحرفوا وضلّوا - قَالُوا - والملائكة يسألونهم - فِيمَ كُنتُمْ - في أيّ وضع كنتم؟ لماذا ضللتم؟ لماذا كفرتم؟ لماذا انحرفتم؟ لماذا خضعتم للظَّالمين؟ لماذا كنتم أعوانهم وجنودهم؟ - قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ - كان المستكبرون هم الَّذين يملكون القوَّة، ولم نكن نملك قوّةً، فخضع ضعفنا لقوَّتهم، فسقطنا تحت تأثيرهم، فكفرنا لأنَّهم كانوا يأمروننا بالكفر، وضللنا لأنَّهم كانوا يضغطون علينا بالضَّلال.
وظنّوا أنّها حجَّة مقبولة يقبلها الله منهم كعذر - قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا - ليست المسألة مسألة زاوية ضيّقة لا تملكون الخروج منها، فإذا ضاقت بك أرضك، فأرض الله واسعة، وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه وتعالى عنه في آية أخرى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت: 56]، فإذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض، أو لم تستطع أن تحافظ على إيمانك في أرض، وكنت قادراً على أن تخرج منها إلى أرض تملك فيها حريَّة إيمانك وحريَّة التزامك، فيجب عليك الهجرة منها - فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النّساء: 97].
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء: 98 - 99]. فهؤلاء المستضعفون الَّذين لا يملكون القدرة على الخروج من أرضهم، وليس لهم حيلة في ذلك، وليس لهم طريق إلى ذلك {فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}. وإنما تحدَّث الله بكلمة (عسى) الَّتي تعني الرَّجاء، ولا تعني حسم المغفرة والعفو، لأنَّ من الممكن جداً أن يفتّشوا في داخل أرضهم عن بعض الظّروف الَّتي يستطيعون من خلالها أن ينتصروا على ضغط المستكبرين.
لذلك، الضّعف في الإسلام ليس عذراً للانحراف والكفر والضَّلال، إذا كنت تملك أن تخرج من موقع ضعفك إلى موقعٍ تأخذ فيه القوَّة.
الهجرة الشَّرعيَّة
ثمَّ يعطي الله سبحانه وتعالى القاعدة في مسألة الهجرة، ليقول للإنسان، كما استوحاه عليّ (ع)، وعليّ تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله (ص): {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}، يعني أن تهاجر في سبيل الله، والهجرة في سبيله هي أن تهاجر من أجل هدف يرضاه سبحانه؛ أن تهاجر لطلب العلم، لتخدم أمَّتك في علوم الدّنيا، ولتهدي أمَّتك في علوم الدّين، أن تهاجر من أجل طلب الرّزق، وقد ورد في الحديث عن أئمَّة أهل البيت (ع): "إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى لَيُحِبُّ الاِغتِرابَ في طَلَبِ الرِّزقِ"، عندما لا تسطيع أن تطلب الرّزق في بلدك، أو تهاجر لتتحرَّك من أجل أن تتحرَّر من ضغط ظالم أو مستكبر يريد أن ينحرف بك ويضغط على حريَّتك.
وهذا ما يعيشه كثير من المؤمنين في أكثر من بلد مسلم، سواء كان بلداً عربياً أو غير عربيّ، فنحن نلاحظ أنَّ الملايين من بلدان العالم الثَّالث، ولا سيَّما البلدان الإسلاميَّة، يهاجرون إلى مناطق الغرب أو إلى مناطق إفريقيا، وما إلى ذلك، من أجل أن يتخلَّصوا من ظلم الظَّالمين واستكبار المستكبرين، إمَّا فراراً بدينهم، أو فراراً بحرّيّتهم وإنسانيَّتهم وما إلى ذلك.
كذلك هذا أمر يحبّه الله، فإذا لم تستطع أن تصمد في بلدك، وكان بقاؤك فيه يفرض عليك السقوط تحت تأثير المستكبرين، فإنَّ عليك أن تخرج منه لتجد لك موقعاً آخر تمارس فيه إنسانيَّتك وحرَّيتك، وتحصّل فيه رزقك وعلمك وما إلى ذلك، وربما تخدم بلدك في ذلك الموقع، لترجع إليه من خلال حركتك، ومن خلال كلّ ممارساتك العمليَّة في هذا المجال.
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً - يعني أمكنة كثيرة يمكن أن يعيش فيها.
ثمَّ يعطينا الله الجائزة. قد تقول ربما أخرج من بيتي مهاجراً لطلب الرّزق للقيام بمسؤوليَّة عيالي، فأموت في الطَّريق أو في بلاد الاغتراب، ربما أخرج لطلب العلم فأموت هناك، وهكذا. إنَّ الله يقول لك، إنَّك إذا متَّ وأنت مهاجر إلى ربّك، أي أنّك مهاجر لغاية ترضي ربَّك - وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - وذلك في كلّ غاية يحبّها الله ورسوله - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ - وهذا التَّعبير يعطي للإنسان إحساساً بالأجر الَّذي لا حدَّ له، لأنَّ الله عندما يكل الأمر إلى نفسه ورحمته، فمعنى ذلك أنَّ الأجر منه يتجاوز كلَّ الحدود - وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[النساء: 100].
إذاً، الهجرة الشَّرعيَّة هي الهجرة الَّتي تكون من أجل غاية يحبّها الله ورسوله، ويرضاها الله ورسوله، والله يحبّ للإنسان أن يتبع رزقه، وأن يتابع علمه، وأن يتابع قوّته وحريَّته. لذلك من يمت هناك، يقع أجره على الله، والله هو الغفور الرَّحيم.
ضوابطُ الهجرة
ولكن هناك نقطة لا بدَّ أن يلتفت إليها كلّ أبنائنا وإخواننا من الَّذين يغتربون إلى بلاد ليست بلاداً إسلاميَّة، أو إلى بلاد يعيش النّاس فيها حريَّة المعصية وحريَّة الفسق، بحيث تقدَّم المعصية للإنسان على طبق من ذهب. في هذه الحالات، متى يجوز لك أن تستقرّ في هذا البلد أو ذاك البلد؟ يجوز لك إذا كنت تملك أن تحمي دينك، لأنَّك إذا خرجت فراراً بدينك، فليس من الطبيعيّ أن تُضعف دينك ودين أهلك، لأنَّ بعض النَّاس عندما يعيشون في أوروبا أو أمريكا أو في أيّ بلد من البلدان، ربما يستطيعون أن يحافظوا على دينهم، ولكنَّهم قد لا يملكون أن يحافظوا على دين أولادهم، وقد ينطلق أولادهم إلى الكفر.
وهناك نقطة أيضاً أودّ أن أنبّه إليها في هذا المجال، فبعض النَّاس يتزوّج من الأجنبيَّات هناك، والمعروف أنّ الولد في الغرب للأمّ وليس للأب، وربما يحصل هناك فراق أو لا يحصل، فعندما تنجب ولداً من هذه المرأة الأجنبيَّة، فإنّه يُفرَضُ على الولد أن يكون كافراً، لأنَّه سوف يعيش مع أمّه وليس معك، ولا سيَّما إذا افترقتما، وربما تفترق عنك بحكمٍ تأخذه من المحكمة وما إلى ذلك.
هناك تعبير، أيُّها الأحبَّة، في الفقه الإسلاميّ، وهو (التعرّب بعد الهجرة). وكلمة "الهجرة" تعبّر عن الموقع الَّذي يعيش فيه الإنسان في ظلّ ثقافة إسلاميَّة تقوّي دينه، ومجتمع إسلاميّ يقوّي التزامه وعمله وما إلى ذلك، بمعنى أنَّ الهجرة هي الموقع الَّذي يسلم فيه للإنسان دينه، لأنَّه يستطيع أن يتعلّم دينه وأن يمارسه، فيتقوَّى بمن حوله وما حوله.
أمَّا التعرّب، فهو مأخوذ من الأعرابيّ {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}[الحجرات: 14]، وكلمة (الأعرابيّ) تعني الإنسان الَّذي لم يتفقَّه في الدّين، فهو الجاهل بالدّين، والَّذي لا يلتزم به. فأنت إذا سافرت إلى بلد يضعف فيه دينك، فأنت تتعرّب، يعني تنتقل إلى الجهل والانحراف الدّيني، بعد أن كنت تعيش في ظلّ الاستقامة الدينيّة وما إلى ذلك. لذلك يحرم الهجرة والبقاء في بلد يضعف فيه دين الإنسان ودين أهله وأولاده، لأنَّ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم: 6]، ووقاية نفسك وأهلك من النَّار، هي أن تبتعد عن كلّ موقع يمكن أن يقودك إلى النَّار عندما يضعف دينك والتزامك.
المدرسة قبل المسجد
لذلك، كنَّا نقول لكلّ إخواننا وأبنائنا وبناتنا من المغتربين والمغتربات، إنَّ عليكم في كلّ موقع تحلّون فيه، أن تنشئوا مدرسة، وقد أطلقنا شعار "المدرسة قبل المسجد"، لأنَّ المدرسة تحفظ لأولادنا لغتهم ودينهم، ونستطيع أن نصلّي في ساحتها...
لذلك، إذا دارَ الأمر في المكان الّذي نكون فيه، في أميركا أو أوروبَّا أو أيّ مكان من بلاد الكفر الَّتي نضطرّ إلى الهجرة إليها، إذا دار الأمر بين أن نجمع تبرّعات لبناء مسجد، أو أن نجمع تبرّعات لبناء مدرسة إسلاميَّة، فالمدرسة الإسلاميّة قبل المسجد، ويمكن للإنسان أن يدفع الحقوق الشَّرعيّة في هذا السَّبيل، طبعاً إذا كانت المدرسة تحت إشراف جهة إسلاميَّة مخلصة وواعية في هذا المجال، لأنَّ ذلك هو السَّبيل الَّذي يمكن لهم من خلاله أن يحفظوا دينهم. وهكذا أن يكون لهم مجتمعات يجتمعون فيها، ليتدارسوا أمور دينهم، وليتبادلوا الموعظة فيما بينهم، وليعيشوا أجواء الدّعاء.
ولذلك أقول لكلّ إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي هناك، إنَّ عليكم أن لا تتركوا دعاء كميل ليلة الجمعة، وأن لا تتركوا الدّعاء في كلّ مواقع الدّعاء ومواسمه، ولا سيَّما في شهر رمضان، لأنَّه هو الَّذي يمنحكم روحانيَّة تنفتحون بها على الله، وقيمة الدّين إنّما هي بالروحانيَّة، لأنَّ الروحانيَّة هي سرّ الدّين في هذا المجال.
أسلمة أمريكا!
نحن قد نرغب في أن نحوّل بعض المناطق إلى مناطق إسلاميَّة، ولربّما تتحوَّل أمريكا، مثلاً، إلى منطقة إسلاميّة إذا كثر المسلمون فيها.
أنا أذكر أنّني في حديث لي مع بعض الصّحافيين الأميركيّين، وجّه إليّ سؤالاً أنّه كيف تريدون مقاتلة أمريكا، وأنتم لا تستغنون عنها، فإذا احتجتم إلى إبرة، تستوردونها من عندنا، والسّلاح من عندنا، فما هذا العنفوان واستعراض العضلات عندكم؟ أين أنتم وأين أمريكا؟ هكذا تحدَّث معي. قلت له إنَّ لدينا تجربة ناجحة تؤكّد لنا هذا الموضوع. قال ما هذه التّجربة؟ قلت له إنَّ هولاكو عندما احتلَّ البلاد الإسلاميَّة، أسقط عاصمة الخلافة وهي بغداد، وأصبحت المنطقة الإسلاميَّة تحت سلطته، ولم يكن هناك من قوَّة تقف ضدَّه. عندها، فكّر علماء المسلمين كيف يعالجون المسألة، فرأوا أنَّ علاجها بالحرب غير ممكن لأنهم لا يملكون القوَّة، فعالجوها بطريقة أخرى، حيث اندفعوا إلى ابن هولاكو، كما تقول بعض التَّواريخ، وعلَّموه وأقنعوه بالإسلام، فصار مسلماً، وعند ذلك، أصبح جيش التتر كلّه جيشاً إسلاميّاً، وأصبح قوّةً للإسلام بدلاً من أن يكون قوّةً ضدّه.
وفي أمريكا أيضاً مسلمون، ونحن نحاول أن نقنع الشَّعب الأمريكيّ بالإسلام، فإذا اقتنع، صارت أمريكا دولة إسلاميَّة من دون حرب ومشاكل، وتكون قوَّتها للإسلام. مع الإشارة إلى أنّه عندما انطلق الإسلام، كان النَّبيّ وحده، واليوم هناك مليار مسلم وأكثر في العالم. ولذلك عندما نعمل للإسلام، يمكن أن نحوّل كلّ النَّاس إلى مسلمين، ولذلك فإنَّ شعارنا هو الدّعوة إلى أسلمة العالم.
الدّعوة إلى الإسلام
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، عندما نهاجر إلى أيّ بلد، إلى أمريكا أو أوروبَّا أو أستراليا أو البرازيل، أو أيّ مكان في العالم، أن نكون الدّعاة إلى الإسلام هناك، وكما نفكّر أن نعمل من أجل رزقنا وحياتنا ودنيانا، علينا أن نفكّر في الآخرة أيضاً...
ونحن عندما نلاحظ، أيُّها الأحبَّة، هجرة النَّبيّ (ص) وهجرة المسلمين معه وهجرة المسلمين من بعده، عندما نلاحظ ذلك، فإنَّنا نرى أنَّها كانت هجرة لا من أجل الذات، بل من أجل الإسلام، من أجل أن لا يُفتَنَ المسلمون عن دينهم، ومن أجل أن ينطلقوا إلى موقع قوّة يؤكّدون فيه قوَّة الإسلام.
هجرة الحسين (ع)
وهكذا عندما ندرس هجرة الإمام الحسين (ع) من المدينة إلى مكَّة، في جولة إعلاميَّة أراد من خلالها أن يعرّف النَّاس في المدينة خطوط حركته، عندما يسألون لماذا خرج الحسين، ويعرّف النَّاس في مكَّة، وهم ذاهبون إلى الحجّ، عناصر حركته وثورته، وطبيعة الحكم الَّذي فرض عليهم، ولذلك لم يخرج الحسين حاجّاً، ولكنَّه أراد العمرة من أجل أن يستفيد من المجتمع المكّيّ في الحجّ.
وهكذا هاجر من مكَّة إلى العراق، بعد أن جاءته رسائل أهل العراق بالبيعة له إماماً وقائداً وحاكماً، فخرج من أجل أن يؤكّد حكم الإسلام، ومن أجل أن يستجيب لمن حمَّلوه المسؤوليَّة، عندما عرضوا نصرتهم عليه، بصرف النَّظر عن الواقع.
ولذلك التقت هجرة الإمام الحسين (ع) بهجرة رسول الله، بأنَّها كانت هجرة من أجل الإسلام كلّه، ومن أجل الإنسان كلّه، لتأكيد الإصلاح في أمَّة جدّه، ولتغيير الواقع بشكل شامل، ولتأكيد عزَّة المؤمن في مقابل ما يريده غير المؤمنين من إذلاله.
الهجرة لبناء القوّة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نلتقي بالنَّبيّ (ص) في هجرته في بداية السنة الهجريّة الَّتي تمثّل حركة التَّأريخ في خطّ الإسلام، ونلتقي بهجرة الحسين (ع) في عاشوراء الَّتي انطلقت من أجل تجديد الواقع الإسلاميّ، عندما نتذكَّر هذه الهجرة وتلك الهجرة، فعلينا أن نفكّر جيّداً كيف نهاجر من الكفر إلى الإيمان، ومن الضّعف إلى القوَّة، ومن العبوديَّة إلى الحريَّة، كيف نهاجر من كلّ عبوديَّتنا لشهواتنا ولذَّاتنا، إلى حريَّة إرادتنا في مواجهة الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لنكون كأصحاب رسول الله الَّذين أخلصوا له، وكأصحاب الحسين الَّذين أخلصوا له، لهؤلاء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ - شيطان الجنّ والإنس - يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ - لأنَّهم عباد أمثالكم – وَخَافُونِ - لأنّي ربُّكم الَّذي أملك الأمر كلَّه - إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 173 - 175]، لأنَّ الإيمان هو أن يخاف الإنسان ربَّه، وإذا خاف الإنسان ربّه، فلا يخاف أحداً معه.
لذلك، لنكن من خلال تجربة القوَّة في عمليَّة الهجرة، الأقوياءَ في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه الاستكبار الأمريكيّ، ولنكن الأقوياء في مواجهة الاستكبار الصّهيونيّ، وفي مواجهة كلّ استكبار، لنكن الأقوياء الواعين الَّذين يتحركون بطريقة عاقلة متوازنة، والَّذين يواجهون المواقف الصَّعبة بإرادة صلبة، لنكون في الموقع الَّذي نصنع فيه للإسلام تأريخاً جديداً، كلُّه دعوة وحريّة وعزّة وكرامة، ولنكون مع الصَّادقين في كلّ موقع إسلاميّ، ولندخل كلّ معارك الإسلام بحسب طاقاتنا، في كلّ موقع يكون للإسلام فيه قضيَّة، وللمسلمين فيه معركة.
بذلك نخلص لقضيَّة الحسين (ع)، عندما نصنع كربلاءَ تنتصرُ بالإرادة والقوَّة.
كنَّا نتحدَّث بالأمس حول هجرة النَّبيّ (ص) من مكَّة إلى المدينة، وقد قلنا إنَّ مسألة الهجرة إنّما هي مسألة الإنسانيَّة، وقد كانت منذ ولد الإنسان، عندما كانت ظروفه تفرض عليه أن ينتقل من مكان إلى مكان، لأنَّ لكلّ مكان مشاكله وخصائصه.
لذلك، فنحن نريد أن نتفهَّم جيّداً المفهوم الإسلاميَّ لمسألة الهجرة، ومتى تكون الهجرةُ شرعيَّة يرضاها الله، ومتى تكون غير شرعيَّة لا يرضاها.
مفهوم الارتباط بالأرض
عندما ندرس مسألة ارتباط الإنسان بالأرض، وكلّ إنسان منَّا يولد في أرض معيَّنة هي مسقط رأسه، فالسؤال يكون: ما هو ارتباطنا بالأرض؟ هل الأرض تمثّل بالنسبة إلى الإنسان جزءاً من ذاته، بحيث إذا انفصل عنها انفصل عن ذاته؟ هل يريد الله لنا أن نخلص للأرض الَّتي نعيش فيها، تماماً كما لو كانت وثناً يرتبط به الإنسان، كما في الثَّقافة المعاصرة الَّتي تحوّل الأرض في وجدان الإنسان إلى ما يشبه الصَّنم، فعندما يتحدَّثون عن الأوطان، يتحدّثون عنها كما لو كان الوطن إلهاً يُعبَد؟!
إنَّ النظريَّة الإسلاميّة تحسب حساباً للجوانب العاطفيَّة والشّعوريَّة الَّتي تجعل الإنسان يحنّ إلى مسقط رأسه وإلى ملاعب صباه، ولا تمانع في ذلك، لكنَّها تربط مسألة علاقة الإنسان بالأرض بمقدار ما تحمي الأرضُ إنسانيَّتك، فإذا كان وطنك يضطهد إنسانيَّتك، ولم يكن لك سبيل إلى أن تحقّق إنسانيَّتك في عزَّتك وكرامتك وحرَّيتك، وكانت لك فرصة أن تخرج منه، فاخرج منه، وإذا كانت في وطنك قوى ظالمة مستكبرة تعمل على أن تضغط على فكرك لتستبدل به فكراً آخر، أو تضغط على التزامك لتفقد التزامك، فإنَّ الإسلام يفرض عليك أن تخرج من وطنك، لتثبّت إنسانيَّتك، وتستعيد قوَّتك، لترجع إليه، لو أردت الرجوع، وأنت في موقع القوَّة، لتمارس قوَّتك في حماية الإنسان الآخر كما في حماية نفسك.
في بعض كلمات عليّ (ع) في "نهج البلاغة"، يقول: "لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ". ليس هناك أيّ بلد يمكن أن يكون له الأولويَّة بك، بحيث تخضع له وترتبط به، إنما القضيَّة أنَّك عبد الله، والأرض أرض الله، والله يريد لك أن تعيش في أرضه لتمارس مسؤوليَّتك، لتحمل الأرضُ ثقلَك، ولتحمل حاجاتِك، ولتحقّقَ عزَّتَكَ وحرّيّتَكَ وكرامتَكَ وإنسانيَّتك، فإذا فقدت ذلك في بلدك فلم يحملك، فانتقل إلى بلد آخر.
وقد قرأنا في القرآن الكريم، عندما يحدّثنا الله عن حركة الإنسان في الأرض، يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا - انطلق إلى مناكب الأرض؛ إلى الجبال والسّهول - وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ}[الملك: 15]، فأينما وجدت رزقك، فانطلق لتحصل عليه في كلّ مكان يمنحك هذا الرّزق.
هذه هي النظريَّة الإسلاميَّة التي يمثّلها عليّ (ع).
القيمة للإنسان
وعندما نرتبط بالوطن فندافع عنه، ونرتبط به فنعمّره، ونرتبط به لننظّمه، فإنَّنا نفعل ذلك عندما يكون الوطن حاجة إنسانيَّة، بحيث تكون عزّتنا من عزَّته، وحرّيتنا من حرَّيته، عندما ترتبط قضيَّة الحريَّة بالوطن؛ بأن ترتبط حريّة الإنسان بحريّة وطنه، وقوّة الإنسان بقوَّة وطنه، عند ذلك، يعمل الإنسان من خلال حريَّة وطنه، ومن خلال عزَّة وطنه، ليحمي إنسانيَّته وحرّيته بذلك، لا من جهة خصوصيّة الأرض، فقيمة الأرض بالإنسان، وليست قيمة الإنسان بالأرض. هذه هي النظريَّة الإسلاميَّة التي يعبّر عنها الإمام عليّ (ع).
ثمَّ عندما تعيش في داخل وطنك تحت سيطرة الفئات المستكبرة الَّتي تريد أن تلغي إنسانيَّتك، وتلغي دينك، وتضعف التزامك، بحيث لا تملك أمام هذه الضّغوط أن تتوازن وأن تستقيم، فالله يقول لك اخرج من وطنك.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ – ظلموا أنفسهم عندما كفروا وفسقوا، وعندما انحرفوا وضلّوا - قَالُوا - والملائكة يسألونهم - فِيمَ كُنتُمْ - في أيّ وضع كنتم؟ لماذا ضللتم؟ لماذا كفرتم؟ لماذا انحرفتم؟ لماذا خضعتم للظَّالمين؟ لماذا كنتم أعوانهم وجنودهم؟ - قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ - كان المستكبرون هم الَّذين يملكون القوَّة، ولم نكن نملك قوّةً، فخضع ضعفنا لقوَّتهم، فسقطنا تحت تأثيرهم، فكفرنا لأنَّهم كانوا يأمروننا بالكفر، وضللنا لأنَّهم كانوا يضغطون علينا بالضَّلال.
وظنّوا أنّها حجَّة مقبولة يقبلها الله منهم كعذر - قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا - ليست المسألة مسألة زاوية ضيّقة لا تملكون الخروج منها، فإذا ضاقت بك أرضك، فأرض الله واسعة، وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه وتعالى عنه في آية أخرى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت: 56]، فإذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض، أو لم تستطع أن تحافظ على إيمانك في أرض، وكنت قادراً على أن تخرج منها إلى أرض تملك فيها حريَّة إيمانك وحريَّة التزامك، فيجب عليك الهجرة منها - فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النّساء: 97].
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء: 98 - 99]. فهؤلاء المستضعفون الَّذين لا يملكون القدرة على الخروج من أرضهم، وليس لهم حيلة في ذلك، وليس لهم طريق إلى ذلك {فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}. وإنما تحدَّث الله بكلمة (عسى) الَّتي تعني الرَّجاء، ولا تعني حسم المغفرة والعفو، لأنَّ من الممكن جداً أن يفتّشوا في داخل أرضهم عن بعض الظّروف الَّتي يستطيعون من خلالها أن ينتصروا على ضغط المستكبرين.
لذلك، الضّعف في الإسلام ليس عذراً للانحراف والكفر والضَّلال، إذا كنت تملك أن تخرج من موقع ضعفك إلى موقعٍ تأخذ فيه القوَّة.
الهجرة الشَّرعيَّة
ثمَّ يعطي الله سبحانه وتعالى القاعدة في مسألة الهجرة، ليقول للإنسان، كما استوحاه عليّ (ع)، وعليّ تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله (ص): {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}، يعني أن تهاجر في سبيل الله، والهجرة في سبيله هي أن تهاجر من أجل هدف يرضاه سبحانه؛ أن تهاجر لطلب العلم، لتخدم أمَّتك في علوم الدّنيا، ولتهدي أمَّتك في علوم الدّين، أن تهاجر من أجل طلب الرّزق، وقد ورد في الحديث عن أئمَّة أهل البيت (ع): "إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى لَيُحِبُّ الاِغتِرابَ في طَلَبِ الرِّزقِ"، عندما لا تسطيع أن تطلب الرّزق في بلدك، أو تهاجر لتتحرَّك من أجل أن تتحرَّر من ضغط ظالم أو مستكبر يريد أن ينحرف بك ويضغط على حريَّتك.
وهذا ما يعيشه كثير من المؤمنين في أكثر من بلد مسلم، سواء كان بلداً عربياً أو غير عربيّ، فنحن نلاحظ أنَّ الملايين من بلدان العالم الثَّالث، ولا سيَّما البلدان الإسلاميَّة، يهاجرون إلى مناطق الغرب أو إلى مناطق إفريقيا، وما إلى ذلك، من أجل أن يتخلَّصوا من ظلم الظَّالمين واستكبار المستكبرين، إمَّا فراراً بدينهم، أو فراراً بحرّيّتهم وإنسانيَّتهم وما إلى ذلك.
كذلك هذا أمر يحبّه الله، فإذا لم تستطع أن تصمد في بلدك، وكان بقاؤك فيه يفرض عليك السقوط تحت تأثير المستكبرين، فإنَّ عليك أن تخرج منه لتجد لك موقعاً آخر تمارس فيه إنسانيَّتك وحرَّيتك، وتحصّل فيه رزقك وعلمك وما إلى ذلك، وربما تخدم بلدك في ذلك الموقع، لترجع إليه من خلال حركتك، ومن خلال كلّ ممارساتك العمليَّة في هذا المجال.
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً - يعني أمكنة كثيرة يمكن أن يعيش فيها.
ثمَّ يعطينا الله الجائزة. قد تقول ربما أخرج من بيتي مهاجراً لطلب الرّزق للقيام بمسؤوليَّة عيالي، فأموت في الطَّريق أو في بلاد الاغتراب، ربما أخرج لطلب العلم فأموت هناك، وهكذا. إنَّ الله يقول لك، إنَّك إذا متَّ وأنت مهاجر إلى ربّك، أي أنّك مهاجر لغاية ترضي ربَّك - وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - وذلك في كلّ غاية يحبّها الله ورسوله - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ - وهذا التَّعبير يعطي للإنسان إحساساً بالأجر الَّذي لا حدَّ له، لأنَّ الله عندما يكل الأمر إلى نفسه ورحمته، فمعنى ذلك أنَّ الأجر منه يتجاوز كلَّ الحدود - وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[النساء: 100].
إذاً، الهجرة الشَّرعيَّة هي الهجرة الَّتي تكون من أجل غاية يحبّها الله ورسوله، ويرضاها الله ورسوله، والله يحبّ للإنسان أن يتبع رزقه، وأن يتابع علمه، وأن يتابع قوّته وحريَّته. لذلك من يمت هناك، يقع أجره على الله، والله هو الغفور الرَّحيم.
ضوابطُ الهجرة
ولكن هناك نقطة لا بدَّ أن يلتفت إليها كلّ أبنائنا وإخواننا من الَّذين يغتربون إلى بلاد ليست بلاداً إسلاميَّة، أو إلى بلاد يعيش النّاس فيها حريَّة المعصية وحريَّة الفسق، بحيث تقدَّم المعصية للإنسان على طبق من ذهب. في هذه الحالات، متى يجوز لك أن تستقرّ في هذا البلد أو ذاك البلد؟ يجوز لك إذا كنت تملك أن تحمي دينك، لأنَّك إذا خرجت فراراً بدينك، فليس من الطبيعيّ أن تُضعف دينك ودين أهلك، لأنَّ بعض النَّاس عندما يعيشون في أوروبا أو أمريكا أو في أيّ بلد من البلدان، ربما يستطيعون أن يحافظوا على دينهم، ولكنَّهم قد لا يملكون أن يحافظوا على دين أولادهم، وقد ينطلق أولادهم إلى الكفر.
وهناك نقطة أيضاً أودّ أن أنبّه إليها في هذا المجال، فبعض النَّاس يتزوّج من الأجنبيَّات هناك، والمعروف أنّ الولد في الغرب للأمّ وليس للأب، وربما يحصل هناك فراق أو لا يحصل، فعندما تنجب ولداً من هذه المرأة الأجنبيَّة، فإنّه يُفرَضُ على الولد أن يكون كافراً، لأنَّه سوف يعيش مع أمّه وليس معك، ولا سيَّما إذا افترقتما، وربما تفترق عنك بحكمٍ تأخذه من المحكمة وما إلى ذلك.
هناك تعبير، أيُّها الأحبَّة، في الفقه الإسلاميّ، وهو (التعرّب بعد الهجرة). وكلمة "الهجرة" تعبّر عن الموقع الَّذي يعيش فيه الإنسان في ظلّ ثقافة إسلاميَّة تقوّي دينه، ومجتمع إسلاميّ يقوّي التزامه وعمله وما إلى ذلك، بمعنى أنَّ الهجرة هي الموقع الَّذي يسلم فيه للإنسان دينه، لأنَّه يستطيع أن يتعلّم دينه وأن يمارسه، فيتقوَّى بمن حوله وما حوله.
أمَّا التعرّب، فهو مأخوذ من الأعرابيّ {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}[الحجرات: 14]، وكلمة (الأعرابيّ) تعني الإنسان الَّذي لم يتفقَّه في الدّين، فهو الجاهل بالدّين، والَّذي لا يلتزم به. فأنت إذا سافرت إلى بلد يضعف فيه دينك، فأنت تتعرّب، يعني تنتقل إلى الجهل والانحراف الدّيني، بعد أن كنت تعيش في ظلّ الاستقامة الدينيّة وما إلى ذلك. لذلك يحرم الهجرة والبقاء في بلد يضعف فيه دين الإنسان ودين أهله وأولاده، لأنَّ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم: 6]، ووقاية نفسك وأهلك من النَّار، هي أن تبتعد عن كلّ موقع يمكن أن يقودك إلى النَّار عندما يضعف دينك والتزامك.
المدرسة قبل المسجد
لذلك، كنَّا نقول لكلّ إخواننا وأبنائنا وبناتنا من المغتربين والمغتربات، إنَّ عليكم في كلّ موقع تحلّون فيه، أن تنشئوا مدرسة، وقد أطلقنا شعار "المدرسة قبل المسجد"، لأنَّ المدرسة تحفظ لأولادنا لغتهم ودينهم، ونستطيع أن نصلّي في ساحتها...
لذلك، إذا دارَ الأمر في المكان الّذي نكون فيه، في أميركا أو أوروبَّا أو أيّ مكان من بلاد الكفر الَّتي نضطرّ إلى الهجرة إليها، إذا دار الأمر بين أن نجمع تبرّعات لبناء مسجد، أو أن نجمع تبرّعات لبناء مدرسة إسلاميَّة، فالمدرسة الإسلاميّة قبل المسجد، ويمكن للإنسان أن يدفع الحقوق الشَّرعيّة في هذا السَّبيل، طبعاً إذا كانت المدرسة تحت إشراف جهة إسلاميَّة مخلصة وواعية في هذا المجال، لأنَّ ذلك هو السَّبيل الَّذي يمكن لهم من خلاله أن يحفظوا دينهم. وهكذا أن يكون لهم مجتمعات يجتمعون فيها، ليتدارسوا أمور دينهم، وليتبادلوا الموعظة فيما بينهم، وليعيشوا أجواء الدّعاء.
ولذلك أقول لكلّ إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي هناك، إنَّ عليكم أن لا تتركوا دعاء كميل ليلة الجمعة، وأن لا تتركوا الدّعاء في كلّ مواقع الدّعاء ومواسمه، ولا سيَّما في شهر رمضان، لأنَّه هو الَّذي يمنحكم روحانيَّة تنفتحون بها على الله، وقيمة الدّين إنّما هي بالروحانيَّة، لأنَّ الروحانيَّة هي سرّ الدّين في هذا المجال.
أسلمة أمريكا!
نحن قد نرغب في أن نحوّل بعض المناطق إلى مناطق إسلاميَّة، ولربّما تتحوَّل أمريكا، مثلاً، إلى منطقة إسلاميّة إذا كثر المسلمون فيها.
أنا أذكر أنّني في حديث لي مع بعض الصّحافيين الأميركيّين، وجّه إليّ سؤالاً أنّه كيف تريدون مقاتلة أمريكا، وأنتم لا تستغنون عنها، فإذا احتجتم إلى إبرة، تستوردونها من عندنا، والسّلاح من عندنا، فما هذا العنفوان واستعراض العضلات عندكم؟ أين أنتم وأين أمريكا؟ هكذا تحدَّث معي. قلت له إنَّ لدينا تجربة ناجحة تؤكّد لنا هذا الموضوع. قال ما هذه التّجربة؟ قلت له إنَّ هولاكو عندما احتلَّ البلاد الإسلاميَّة، أسقط عاصمة الخلافة وهي بغداد، وأصبحت المنطقة الإسلاميَّة تحت سلطته، ولم يكن هناك من قوَّة تقف ضدَّه. عندها، فكّر علماء المسلمين كيف يعالجون المسألة، فرأوا أنَّ علاجها بالحرب غير ممكن لأنهم لا يملكون القوَّة، فعالجوها بطريقة أخرى، حيث اندفعوا إلى ابن هولاكو، كما تقول بعض التَّواريخ، وعلَّموه وأقنعوه بالإسلام، فصار مسلماً، وعند ذلك، أصبح جيش التتر كلّه جيشاً إسلاميّاً، وأصبح قوّةً للإسلام بدلاً من أن يكون قوّةً ضدّه.
وفي أمريكا أيضاً مسلمون، ونحن نحاول أن نقنع الشَّعب الأمريكيّ بالإسلام، فإذا اقتنع، صارت أمريكا دولة إسلاميَّة من دون حرب ومشاكل، وتكون قوَّتها للإسلام. مع الإشارة إلى أنّه عندما انطلق الإسلام، كان النَّبيّ وحده، واليوم هناك مليار مسلم وأكثر في العالم. ولذلك عندما نعمل للإسلام، يمكن أن نحوّل كلّ النَّاس إلى مسلمين، ولذلك فإنَّ شعارنا هو الدّعوة إلى أسلمة العالم.
الدّعوة إلى الإسلام
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، عندما نهاجر إلى أيّ بلد، إلى أمريكا أو أوروبَّا أو أستراليا أو البرازيل، أو أيّ مكان في العالم، أن نكون الدّعاة إلى الإسلام هناك، وكما نفكّر أن نعمل من أجل رزقنا وحياتنا ودنيانا، علينا أن نفكّر في الآخرة أيضاً...
ونحن عندما نلاحظ، أيُّها الأحبَّة، هجرة النَّبيّ (ص) وهجرة المسلمين معه وهجرة المسلمين من بعده، عندما نلاحظ ذلك، فإنَّنا نرى أنَّها كانت هجرة لا من أجل الذات، بل من أجل الإسلام، من أجل أن لا يُفتَنَ المسلمون عن دينهم، ومن أجل أن ينطلقوا إلى موقع قوّة يؤكّدون فيه قوَّة الإسلام.
هجرة الحسين (ع)
وهكذا عندما ندرس هجرة الإمام الحسين (ع) من المدينة إلى مكَّة، في جولة إعلاميَّة أراد من خلالها أن يعرّف النَّاس في المدينة خطوط حركته، عندما يسألون لماذا خرج الحسين، ويعرّف النَّاس في مكَّة، وهم ذاهبون إلى الحجّ، عناصر حركته وثورته، وطبيعة الحكم الَّذي فرض عليهم، ولذلك لم يخرج الحسين حاجّاً، ولكنَّه أراد العمرة من أجل أن يستفيد من المجتمع المكّيّ في الحجّ.
وهكذا هاجر من مكَّة إلى العراق، بعد أن جاءته رسائل أهل العراق بالبيعة له إماماً وقائداً وحاكماً، فخرج من أجل أن يؤكّد حكم الإسلام، ومن أجل أن يستجيب لمن حمَّلوه المسؤوليَّة، عندما عرضوا نصرتهم عليه، بصرف النَّظر عن الواقع.
ولذلك التقت هجرة الإمام الحسين (ع) بهجرة رسول الله، بأنَّها كانت هجرة من أجل الإسلام كلّه، ومن أجل الإنسان كلّه، لتأكيد الإصلاح في أمَّة جدّه، ولتغيير الواقع بشكل شامل، ولتأكيد عزَّة المؤمن في مقابل ما يريده غير المؤمنين من إذلاله.
الهجرة لبناء القوّة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نلتقي بالنَّبيّ (ص) في هجرته في بداية السنة الهجريّة الَّتي تمثّل حركة التَّأريخ في خطّ الإسلام، ونلتقي بهجرة الحسين (ع) في عاشوراء الَّتي انطلقت من أجل تجديد الواقع الإسلاميّ، عندما نتذكَّر هذه الهجرة وتلك الهجرة، فعلينا أن نفكّر جيّداً كيف نهاجر من الكفر إلى الإيمان، ومن الضّعف إلى القوَّة، ومن العبوديَّة إلى الحريَّة، كيف نهاجر من كلّ عبوديَّتنا لشهواتنا ولذَّاتنا، إلى حريَّة إرادتنا في مواجهة الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لنكون كأصحاب رسول الله الَّذين أخلصوا له، وكأصحاب الحسين الَّذين أخلصوا له، لهؤلاء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ - شيطان الجنّ والإنس - يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ - لأنَّهم عباد أمثالكم – وَخَافُونِ - لأنّي ربُّكم الَّذي أملك الأمر كلَّه - إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 173 - 175]، لأنَّ الإيمان هو أن يخاف الإنسان ربَّه، وإذا خاف الإنسان ربّه، فلا يخاف أحداً معه.
لذلك، لنكن من خلال تجربة القوَّة في عمليَّة الهجرة، الأقوياءَ في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه الاستكبار الأمريكيّ، ولنكن الأقوياء في مواجهة الاستكبار الصّهيونيّ، وفي مواجهة كلّ استكبار، لنكن الأقوياء الواعين الَّذين يتحركون بطريقة عاقلة متوازنة، والَّذين يواجهون المواقف الصَّعبة بإرادة صلبة، لنكون في الموقع الَّذي نصنع فيه للإسلام تأريخاً جديداً، كلُّه دعوة وحريّة وعزّة وكرامة، ولنكون مع الصَّادقين في كلّ موقع إسلاميّ، ولندخل كلّ معارك الإسلام بحسب طاقاتنا، في كلّ موقع يكون للإسلام فيه قضيَّة، وللمسلمين فيه معركة.
بذلك نخلص لقضيَّة الحسين (ع)، عندما نصنع كربلاءَ تنتصرُ بالإرادة والقوَّة.