انطلق الإمام الحسين (ع) من أجل الإصلاح في أمَّة جدِّه، ليعالج الأمراض النفسيَّة والعقليَّة الَّتي تترك تأثيرها على السلوك الفرديّ والاجتماعيّ، والانحرافات السياسيَّة الَّتي تترك تأثيرها على مصير الأمَّة.
كان الإمام الحسين (ع) يريد للنَّاس أن تفكِّر لا أن تنفعل، وكان يريد لها أن ترتبط بالحقِّ في كلِّ شيء، وأن لا ترتبط بالباطل. كان دوره هو دور جدِّه رسول الله (ص)، لأنَّه يمثِّل الامتداد الرّساليّ له. وفي بعض كتبه الَّتي كان كتبها للنَّاس، كان يقول: "وأسير بسيرة أبي وجدّي"، فهو خطّ السّير نفسه.
ومن الطبيعي، أيُّها الأحبَّة، أنَّنا نحن الَّذين نلتزم خطَّ الإسلام، ونلتزم منهج أهل البيت (ع) في فهم الإسلام، لا بدَّ من أن نعالج قضايانا في مرحلتنا هذه، تماماً كما انطلق الحسين (ع) لمعالجة قضايا المرحلة الَّتي عاشها، لأنَّ لكلِّ مرحلة قضاياها وانحرافاتها واستقامتها. لذلك، نحتاج أن نفهم الخطوط العامَّة الَّتي انطلق منها الإمام الحسين (ع).
تحكيمُ العقلِ في المواقف
من الأمور الَّتي كان الإمام الحسين (ع) يرصدها في الواقع الَّذي عاشه، وهي موجودة في الواقع الَّذي نعيشه، هي مسألة الذهنيَّة الَّتي تحكم تفكير الإنسان وحركته في التزامه بالأشخاص أو بالمواقع، فقد كانت ذهنيّةً غير مدروسة وغير خاضعة للتَّخطيط.
هناك في الحياة، في العلاقات الإنسانيَّة، حبّ وبغض، ومسألة الحبّ والبغض تنطلق من حالات شعوريَّة، قد تنطلق من انسجام الإنسان مع مَنْ يحبّ، وعدم انسجامه مع مَنْ يبغض، قد يكونُ الحبّ غرائزيّاً بفعل الغريزة، وقد يكون ذاتيّاً، بفعل عناصر الذَّات الموجودة عند مَن تحبّ، والّتي تنسجم مع عناصر الذَّات الموجودة عندك. لكنَّ مسألة الحبّ والبغض ليست من المسائل الَّتي تحدِّد المواقف، لأنَّها مرتبطة بالجانب الشّعوري، وليست مرتبطة بالجانب العقلي.. أنت تحبّ لأنَّ مشاعرك تلتهب إيجابيّاً مع مَنْ تحبّ، أو تكره لأنَّ مشاعرك تلتهب سلبيّاً ضدّ مَنْ تكره. فمسألة الحبّ والبغض مسألة ذاتيَّة.
أمَّا في المواقف، عندما تؤيِّد شخصاً أو ترفض شخصاً، هنا لا بدَّ أن تكون مسألة التَّأييد أو الرَّفض من المسائل الَّتي تخضع لخطٍّ فكريٍّ تؤمنُ به أنت، وخصوصاً إذا كانت المسألة تتَّصل بمصير الأمَّة، يعني أن يكون موقفك عندما تؤيِّد شخصاً أو جهةً، أو ترفض شخصاً أو جهةً، ينعكس على مصير الأمَّة، باعتبار أنَّ المسألة مسألة حكم ومسألة مسؤوليَّة. هنا، لا تعود القضيَّة قضيّة شخصيّة، بل تصبح قضيَّة الأمَّة والمستقبل والمصير. لذلك، على الإنسان أن يوازن بين حالته الشعوريَّة وحالته العقليَّة، ومن الطبيعي أنَّ الحالة العقليَّة لا بدَّ أن ترتكز على المبادئ الَّتي أراد لك العقل أن تلتزم بها وتؤمن بها.
التّأسيسُ لخطِّ التَّفكير
هنا، عندما ندرس الواقع الإسلاميّ، نلاحظ أنَّ الواقع الإسلاميَّ كان في زمن النبيّ شيئاً وبعده صار شيئاً آخر، في زمن النَّبيّ (ص)، كان النَّبيّ يدعو النَّاس إلى الله، ويقرأ عليهم الوحي، ويجيب عن أسئلتهم، لأنَّه كان يريدهم أن يقتنعوا بالإسلام. لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يركِّز نقطة الوعي في المجتمع الإسلامي الَّذين يؤمنون بالإسلام ويسلمون.
عندما عاش الإسلام الصِّراع مع المشركين، كان النَّبيّ (ص) يتقبَّل الَّذين يدخلون في الإسلام رغبةً أو رهبةً من دون اقتناع، حتَّى يحيِّدهم عن الكفر، فقد كان يعمل على تحييد أكبر قدرٍ ممكنٍ من الكافرين عن مجتمع الكفر، وكان يدخلهم في مجتمع الإسلام ويربّيهم، {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ - لأنَّ الإيمان يحتاج إلى اقتناع - وَلَٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا - أي سلّمنا مصيرنا للخطّ الإسلاميّ - وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14].
ولكنَّ الأساس عند النَّبيّ (ص) أنَّه كان يريد أن يغيِّر الذّهنيَّة، وأن يغيِّر الفكر، وكان يريد للنَّاس أن ترتبط بالتَّوحيد. لذلك، دعا القرآنُ الإنسانَ إلى أن يفكِّر ويشغل عقله، وكان يتحدَّث بشكل سلبيّ عن أولئك المشركين والكافرين، يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا - يعني عندهم عقول ولكن لا يشغلونها - وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا - لأنَّ بصرهم بصر ساذج وليس واعياً - وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف: 179]، لأنَّهم لم ينطلقوا في السَّمع من وعي السَّمع للكلمة. وفي بعض تعبيرات القرآن الكريم عن المشركين، يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 118]، يعبِّر عنهم بأنَّ مشكلتهم أنّهم لا يعلمون {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا}[النَّجم: 28].
لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يجعل النَّاس تفكِّر، حتَّى وهي تلتزم الإسلام، وكان يطلب من النَّاس أن يكون عملهم صدى لتفكيرهم، ولذلك أكَّد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، أي أنَّ حركتك في الواقع ينبغي أن تكون منطلقةً من حركة عقلك في الدَّاخل.
ما بعدَ مرحلةِ النَّبيّ (ص)
وبعد النَّبيّ (ص)، عندما انطلقت مسألة البيعة، وهنا لا نريد أن نناقش المسألة لمن الحقّ، لمن النَّصّ؛ هل هو لعليّ أو لغيره، ونحن مقتنعون بأنَّ الغدير مع كلِّ ملحقاته، يعطي عليّاً الحقّ، لكن لنفترض أنَّ الَّذي طرح هو انتخابات، فالمعروف أنَّه ينبغي في الانتخابات أن يكون كلّ المرشَّحين موجودين، وخصوصاً المرشَّحين الَّذين لهم علاقة بها، سواء على المستوى الذّهنيَّة العربيَّة، أو على مستوى الجانب السياسي والجانب الفكري والثَّقافي، وما إلى ذلك، ولكنَّ القوم اجتمعوا وقالوا: "منَّا أمير ومنكم أمير"، مع أنَّ هذه قصَّة أمَّة، فكيف تأتي فئة من النَّاس أو عشيرة وتقول تعالوا لنتقاسم.. مَنْ ملَّككم الأمَّة؟! ثمَّ اندفع من اندفع، قال أحدهم: ابسط يدك لأبايعك، وبايعت النَّاس. فعلى أيِّ أساس كانت البيعة؟ ما البرنامج؟ ما المنهج؟ ما هي الأسس؟ وإنَّما كان جوّاً عاطفيّاً، واندفعَ النَّاس في الجوِّ العاطفيّ، وكانت البيعة على هذا الأساس، وامتدَّت مسألة البيعة بهذا الأسلوب.
لم تكن المسألة أن تُطرَح البرامجُ أمام الأمَّة، وأن تُدرَس كفاءة الشَّخص أمام الأمَّة.. وفي كلِّ حركة البيعة في التَّاريخ، لم تكن هذه البيعة تنطلق من حالة عقلانيَّة موضوعيَّة تدرس نقاط الضّعف ونقاط القوَّة في الشَّخص، وتدرس السَّلبيَّات والإيجابيَّات في هذا الشَّخص أو ذاك، وتحركت العلاقات على هذا الأساس.
ولهذا، انطلقت المسألة أيضاً بعد ذلك من خلال الأمويّين.. في أيَّام ما يسمَّى بالخلفاء الرَّاشدين، لم يكن هناك مسألة سيف ومال، ولكن في عهد الأمويّين، صارت المسألة مسألة سيف ومال.. وكانت مشكلة الإمام الحسين (ع) هي قصَّة سيف ومال.. ولذلك، انطلق النَّاس لا من خلال التزامهم الموقف على أساس دراسته في مستوى ما يحملونه من الإيمان بالإسلام؛ لأنَّك عندما تلتزم بالإسلام، فعليك أن تفكِّر: هل هذا الشَّخص أو هذا الخطّ ينسجم مع الإسلام أو لا ينسجم، هل ينسجم مع مصلحتي أو لا، ولذلك كانت الكلمة المعروفة: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"، يعني أنَّ الجماعة يؤمنون بأنَّك الشَّخص الَّذي يملك الحقّ والشَّرعيَّة، ولكنَّك لم تقدِّم إلى النَّاس ما يرضي مطامعَهم، كما قال الإمام عليّ (ع): "ليسَ أمري وأمرُكم واحداً؛ إنِّي أريدُكم للهِ، وأنتُمْ تريدونَني لأنْفسِكم"، أنا أعتبر أنَّ مسؤوليَّتي هي مسؤوليَّة إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وأنتم تعتبرون أنَّ مسؤوليَّتي أن ألبِّي مطامعكم وشهواتكم.
ذهنيَّةٌ غيرُ مسؤولة
هذه الذِّهنيَّة، أيُّها الأحبَّة، هي الَّتي استطاعت أن تخذل بقسوة الخطَّ المستقيم وأهلَ الحقّ، لأنَّه لا أحد دخل في هذا الموضوع من بابِ الموازنة بينَ هذا الجانب وذاكَ الجانب.. وهذه المسألة سيطرت على كلِّ التَّاريخ الإسلاميّ، فعندما نلاحظ مسألة امتداد التَّأريخ الإسلامي، في زمن الأمويّين والعباسيّين وزمن العثمانيِّين، وفي الإمارات الصَّغيرة الَّتي كانت هنا وهناك، في قضيَّة تنصيب ملكٍ على بلدٍ في العهود الأخيرة، أو أميرٍ على موقع، لم تكن المسألة ناشئةً من ذهنيَّةٍ مسؤولةٍ تدرس الموقف من خلال علاقته بمصير الأمَّة ومستقبلها.. بل كانت تنطلق من خلال العاطفة والأجواء الانفعاليَّة الَّتي تحيط بالإنسان، ومن خلال الإعلام الَّذي يحاول أن يوظِّفه أصحابُ الشَّأن، من أجل تصوير إنسانٍ ما في مستوى عالٍ يصعد به إلى السَّماء، أو في مستوى ينزل به إلى الأرض.
هذه المؤثّرات الَّتي امتدَّت في العالم الإسلامي، هي الَّتي أصبحت تحكم مواقف النَّاس، وحتَّى مشاعرها؛ مؤثِّرات الإعلام، الأجواء العاطفيَّة الانفعاليَّة، العلاقات الشَّخصيَّة بالأشخاص، الأطماع المرتبطة بهذا الشَّخص أو ذاك الشَّخص، أو بهذه الجهة أو تلك الجهة... ولذلك لاحظنا - وكلُّ واحد منكم يعرف جانباً من الواقع - في عالمنا العربيّ أو الشَّرقيّ، كيف ينتقل الإنسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا موجودٌ على مستوى الأحزاب، فهناك أحزاب بعد أن كانت يمينيَّة إلى أقصى اليمين، صارت يساريّة إلى أقصى اليسار، وعندما تبدّلت الظّروف صارت في الوسط.. فما السَّبب في ذلك؟ لأنَّ القضيَّة لم تنطلق من قاعدة تحرِّك الإنسان أو هذه الجهة.
ونلاحظ، مثلاً، أنَّ الشَّرق بشكل عامّ، يعيش عبادة الشَّخصيَّة، في رموزه السياسيَّة أو الدينيَّة أو الاجتماعيَّة، بحيث يحوِّل الشَّخص إلى صنم يعبده، بحيث يحاول أن يستغرق فيه من دون أن يدرسه ويدرس كفاءاته، ربَّما يملك أحد كفاءة اجتماعيَّة، ولكن قد لا يملك كفاءة ثقافيَّة، ويمكن أن يملك أحد كفاءة سياسيَّة ولكن لا يملك كفاءة علميَّة، وهكذا... "كلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له".
الآن لاحظوا، إذا فرضنا أردنا أن نرتبط بشخص، فإنَّنا نعطيه كلَّ الصِّفات الحسنة، حتَّى الصِّفات الَّتي ليست فيه، كما قال الإمام عليّ (ع): "إِذَاْ أَقْبَلَتِ الدُّنيا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أدْبرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ".
من أسبابِ السّقوط
هذا المعنى، أيُّها الأحبَّة، يمثِّل الذِّهنيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدّينيَّة، وهذا هو المسؤول عن كثير من عناصر السقوط الاجتماعيّ والسياسيّ، لأنَّ النَّاس لا يعرفون كيف يؤكِّدون مواقفهم. الآن في مجتمعنا اللّبناني، أنا أسأل: منذ عشرات السِّنين، عندما يرتبط النَّاس بشخصيَّة سياسيَّة، على أيِّ أساس يكون الارتباط؟! الشَّخص السياسي هو الشَّخص الَّذي يدير أمور الأمَّة من خلال برنامجه السياسي، ومن خلال مواقفه السياسيّة، أنا أسأل، ويمكن أن يكون عندكم خبرة ميدانيَّة أكثر منِّي، كم في المئة من النَّاس مَنْ يرتبط بشخصيَّة سياسيَّة أو جهة سياسيَّة على أساس دراسة؟ أن يفكِّر: أنا أحمل فكراً وهذا الشَّخص ينسجم مع فكري، أنا ألتزم خطّاً وهذه الجهة تلتزم بالخطِّ الّذي عندي... فهل هناك عشرة في المائة من هؤلاء؟!
ولذلك، فنحن نلتزم الشَّخص بقطع النَّظر عن برنامجه، ولذا لا نحاسبه على برنامجه، بل نلتزم به باعتبار نحن جماعة فلان، ونحن رجال فلان، ونحن رجال الحزب الفلاني، وجماعة الحركة الفلانيَّة والمنظَّمة الفلانيَّة... أمَّا على أيِّ أساس، فليس هناك من أساس، فقط باعتبار أنَّ هؤلاء جماعتنا.
هذا، ولم أتكلَّم بعد عن المسؤوليَّة الشَّرعيَّة لنا كشعب وكأمَّة تريد أن تصنع تاريخها، تريد أن تؤسِّس مستقبلها، تريد أن تحافظ على مكتسباتها، وتريد أن تحقِّق مكتسبات جديدة... هذه الذِّهنيَّة كانت زمن الإمام الحسين (ع)، وكان يستهدف (ع) تغييرها، وهي موجودة في زماننا أيضاً في الشَّرق.
أنا أسألكم، وأتكلَّم عن المسلمين سنَّة وشيعة، وعلمانيِّين، ومسيحيِّين: لماذا لا يخاف الحكَّام والسياسيّون عندنا من شعوبهم؟ لأنَّ كلَّ ما يفعلونه نصفِّق له، فالشَّخص منهم لا يخاف أن يسقط في الانتخابات القادمة، لأنَّ الجماعة الّتي تنتخبه مضمونة عنده، كما كان بعض الزّعماء يقول لابنه: تركت لك عشرة آلاف رأس، كما لو أنّه ترك له عشرة آلاف رأس غنم، فالغنم تمشي خلف صاحبها وهؤلاء يمشون خلفه. وتغيّرت الذِّهنيَّة الغنميَّة وصارت عصريَّة.
في الغرب، النَّاس هناك ليسوا مسلمين، لكن عندهم إسلام بدون إسلام.. إنَّ أيَّ رئيس عندهم يخاف من النَّاس، لأنَّه إذا لم يحقِّق البرنامج الَّذي طرحه لهم، ولم يحلّ لهم بعض المشاكل الاقتصاديَّة، وبعض المشاكل السياسيَّة والاجتماعيَّة، فسوف يسقطونه في الدَّورة الثَّانية... ولا نقول عنهم ملائكة، ولكن هذه ظاهرة عندهم.
حتَّى عند أعدائنا في الكيان الصّهيوني، هناك أحزاب كبيرة مثل اللّيكود وحزب العمل، وهم يخافون من النَّاس ويحسبون لهم حساباً، لأنَّ النَّاس قادرة على أن تسقطهم، فهم يحترمون أنفسهم.. إنَّهم مغتصبون وأشرار ومجرمون، كلُّ ذلك صحيح، ولكن فيما يخصّ أوضاعهم ومصيرهم، هم يحسبون حساب النَّاس عندهم.. فتلاحظ، مثلاً، أنَّه بينما أخذ حزب العمل أعلى الأصوات في الانتخابات، ولكن عندما فشل فيما يفكِّر فيه النَّاس خطأً أو صواباً، سقط وجاء حزب اللّيكود، ونرى عندهم استفتاءات الرّأي واستطلاعات الرّأي، لأنَّ الشَّعب يحترم نفسه ومصيره.
هل رأيتم حاكماً أو سياسيّاً في العالم العربي أو في كثيرٍ من مواقعِ العالمِ الإسلاميّ، سقطَ تحتَ التَّأثير الشَّعبيّ؟! لا يوجد، لأنَّنا لا نحترم مصيرنا، لأنَّنا لا ننطلق من قاعدة.. نحن ننطلق من عاطفة، ننطلق من انفعال... طبعاً لا أتكلَّم عن كلّ النَّاس، فهناك من النَّاس من يملك عقلاً وفكراً وموقفاً، ولكن، مع الأسف، ليسوا كثيرين.
هذا الواقع، أيُّها الأحبَّة، يجب أن نفكِّر كيف نغيِّره، قد لا نستطيع تغييره في سنة أو سنتين، ولكن علينا أن نخطِّط، وأن نجعل هذه الاجتماعات تبني لنا قاعدة في عقولنا، وقاعدة في قلوبنا، وقاعدة في مواقفنا، ولا سيَّما أمام التحديات الكبرى الَّتي تواجهنا كأمَّة. لهذا نحتاج إلى أن نعيش المسؤوليَّة، ولا سيَّما عندما تكون المسؤوليَّة أمام الله؛ أن نفكِّر في الأمَّة، كما نفكِّر في الفرد، لأنَّه جزء من الأمَّة.
ذهنيَّةُ التَّثبيط
هناك ملاحظة ألاحظها، حتَّى نعطي صورة تاريخيَّة من تجربة الإمام الحسين (ع)، وهذه الصّورة أيضاً منعكسة على واقعنا. الإمام الحسين (ع) عندما أراد أن يخرج، جاءه كبار الصَّحابة؛ عبدالله بن عبَّاس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزَّبير، وآخرون، وهم يخوِّفونه من مسيرته: اجلس في بيتك، لا تخاطر بنفسك... لم يتحدَّث أحد مع الإمام الحسين (ع) في مسألة لماذا يخرج، كانت كلّ الذهنيَّة الموجودة في أذهان هؤلاء هي الجانب الشَّخصيّ، أمَّا مسألة الأمَّة ويزيد، ومسألة الحكم الجائر، فلم يكن أحد يفكِّر في الموضوع، لم يدخلوا مع الإمام الحسين (ع) في حوارٍ حول القاعدة الَّتي انطلق منها، ولكنَّهم دخلوا في حوار حول مسألة نجاة الذَّات، أمَّا الأمَّة، تنجو أو لا تنجو، فلم يكن ذلك أساس تفكيرهم.
ما علينا إن قضى الشَّعب جميعاً أفلسنا في أمان؟! هذه هي الفكرة.
والآن، عندما ينطلق المجاهدون والعاملون في أيِّ موقع من المواقع، أيضاً تأتي النَّاس وتحدِّث الإنسان بهذه الذّهنيّة، وأنا عشت هذه التَّجربة، عندما كنت أطلق بعض الأفكار الإسلاميَّة الَّتي أعتقد أنَّها هي الحقّ، أو بعض الأفكار الفقهيَّة الَّتي أعتقد أنَّها الحقّ، كنت أواجه الكثير من النَّاس من أصدقائي، من مختلف المستويات.. ماذا كانوا يقولون لي؟ كانوا يقولون لي نحن معك، ولكن لماذا تتكلَّم بهذا الكلام؟! النَّاس سوف يتكلَّمون عليك، سوف يهاجمونك، انتبه إلى نفسك... أمَّا انتبه إلى الحقِّ والأمَّة، فلم أسمعها.
فعندما تكون عندنا أزمة تخلّف في الذِّهنيَّة العامَّة للمسلمين، عندما نجد هناك أزمة خرافة في أكثر من موقع، وأنَّ هناك الكثير ممّن يعملون على أن يدخلوا الخرافة في أذهاننا وفكرنا، فكيف لا نتكلَّم؟! نحن الآن عندنا أزمة غلوّ، فقد وصل الكثير من النَّاس في تفكيرهم بأهل البيت (ع) أن جعلوهم أقلّ من الله بقليل جدّاً.. نحن نسمع الآن في مجالس عاشوراء، أنَّك إذا عندك حاجة اطلبها من أهل البيت، وليس اطلبها من الله، وأهل البيت (ع) يطلبون حاجاتهم من الله، والله هو الَّذي يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].
لذلك، نحن كنَّا نقول لهم، المسألة ليست محمَّد حسين فضل الله، محمَّد حسين فضل الله مرحلة، كما الَّذين سبقوه، وكما الَّذين سيأتون بعده، نحن لا نعمل لمحمَّد حسين فضل الله، نحن نعمل للإسلام، ونحن مستعدّون أن نضحِّي في سبيل الإسلام.. فلتشتم النَّاسُ، ولتتَّهم، وإذا أرادت أن لا تأتي وتصلّي جماعة... هذه ليست مشكلة، المشكلة هي ما عبّر عنه أمير المؤمنين (ع)، ونحن تراب أقدامه، وهو يشير إلى نعله، عندما قال: "والله لهيَ أحبُّ إليَّ من إمرتِكُم، إلَّا أنْ أقيمَ حقّاً، أو أدفعَ باطلاً".
إنَّ أمَّتنا هذه أرادها الله أن تكون خير أمَّة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران: 110]، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104]، عندنا أمَّة أراد الله لها العزَّة {وَللهِ العزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنين}[المنافقون: 8]، عندنا أمَّة أراد الله لها الحريَّة والتّقدّم، فلا يجوز أن نترك هذه الأمَّة، بسبب أنَّ كلَّ واحد منَّا له طمعه وله حساباته الخاصَّة. هذه هذ المسألة. إذا أردتم كربلاء الحسين، فهذه كربلاء الحسين: "خرجْتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمَّة جدّي"، أريد أن أصلح الذِّهنيَّة الَّتي يعيشها النَّاس.
مواجهةُ العصبيَّة
وهكذا، كان الإمام الحسين (ع) يواجه بقايا العصبيَّة الجاهليَّة: {إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ}[الفتح: 26]. صحيح كانوا مسلمين يصلّون ويصومون، ولكن بقيت فيهم حميَّة الجاهليَّة، وأنتم تعرفون أنَّ العصبيَّة لا تفكِّر. هناك نصّ من خطاب الإمام الحسين (ع) للجيش الَّذي جاء ليقاتله، كان (ع) يحاورهم، وكان يعظهم ويرشدهم، ماذا كان جوابهم؟ ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، لا نفهم عليك. لاحِظُوا المتعصّبين، سواء كان التعصّب لشخص، أو كان تعصّباً عشائريّاً أو حزبيّاً أو تعصّب مذهبيّاً أو طائفيّاً، إذا تكلّمت مع أحدهم أيضاً يقول لك لا نفهم عليك.
العصبيَّة تمثّل العقل المغلق، والالتزام يمثِّل العقل المنفتح، ولذا دائماً أقول لكم، لا تكونوا متعصِّبين، ولكن كونوا ملتزمين.. لا تتنازلوا عن واحد في المئة مما تعتقدون، إن كان ما تعتقدونه مدروساً.. أن نصلح ذهنيَّاتنا، أن نجعل ذهنيَّاتنا ذهنيّات كبيرة، أن نفكِّر في القضايا الكبيرة، نتدارسها، نتابعها، نعرف أين يكمن الخطر، لأنَّ الاكتفاء برفع الصَّوت وبالشِّعارات جيِّد، لا بأس في أن يتظاهر الشَّعب ليثبت للعالم أنَّه مع الفلسطينيّين ومع المظلومين، هذا جيِّد، ولكن ليس هذا هو القضيَّة، القضيَّة أن نعرف كيف نحفظ أمَّتنا من ذلك. ومجالس الحسين (ع) بهذا أيُّها الأحبَّة.
لا بأس في أن نبكي، فالبكاء عاطفة، وكما قال الشَّاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنَّ عيني لأجلكم باكية
فعندما أسمع المأساة سأبكي تلقائيّاً، أليس بينكم أشخاص يبكون عندما يشاهدون فيلماً مأساويّاً؟ نحن لا نقول فيلم مأساوي، فهي قضيَّة تعيش في قلوبنا، والحسين له حبُّه في قلب كلّ مؤمن، لكنَّ قضيَّة الحسين ينبغي أن تكون موقعاً للتَّوجيه، ولإنقاذ المجتمع من الخرافة ومن التخلّف والغلوّ، ومن السَّلبيَّة واللَّامبالاة {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِۦ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}[الصّفّ: 4].
ويبقى للحسين (ع) الكثير من الكلام، لأنَّ الحسين عاش للأمَّة في مرحلته، وعاش للأمَّة في مدى الزَّمن، لأنَّه إمام الحياة كلِّها، من حيث إنَّه إمام الرِّسالة كلِّها.
*محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 21/03/2002م.
انطلق الإمام الحسين (ع) من أجل الإصلاح في أمَّة جدِّه، ليعالج الأمراض النفسيَّة والعقليَّة الَّتي تترك تأثيرها على السلوك الفرديّ والاجتماعيّ، والانحرافات السياسيَّة الَّتي تترك تأثيرها على مصير الأمَّة.
كان الإمام الحسين (ع) يريد للنَّاس أن تفكِّر لا أن تنفعل، وكان يريد لها أن ترتبط بالحقِّ في كلِّ شيء، وأن لا ترتبط بالباطل. كان دوره هو دور جدِّه رسول الله (ص)، لأنَّه يمثِّل الامتداد الرّساليّ له. وفي بعض كتبه الَّتي كان كتبها للنَّاس، كان يقول: "وأسير بسيرة أبي وجدّي"، فهو خطّ السّير نفسه.
ومن الطبيعي، أيُّها الأحبَّة، أنَّنا نحن الَّذين نلتزم خطَّ الإسلام، ونلتزم منهج أهل البيت (ع) في فهم الإسلام، لا بدَّ من أن نعالج قضايانا في مرحلتنا هذه، تماماً كما انطلق الحسين (ع) لمعالجة قضايا المرحلة الَّتي عاشها، لأنَّ لكلِّ مرحلة قضاياها وانحرافاتها واستقامتها. لذلك، نحتاج أن نفهم الخطوط العامَّة الَّتي انطلق منها الإمام الحسين (ع).
تحكيمُ العقلِ في المواقف
من الأمور الَّتي كان الإمام الحسين (ع) يرصدها في الواقع الَّذي عاشه، وهي موجودة في الواقع الَّذي نعيشه، هي مسألة الذهنيَّة الَّتي تحكم تفكير الإنسان وحركته في التزامه بالأشخاص أو بالمواقع، فقد كانت ذهنيّةً غير مدروسة وغير خاضعة للتَّخطيط.
هناك في الحياة، في العلاقات الإنسانيَّة، حبّ وبغض، ومسألة الحبّ والبغض تنطلق من حالات شعوريَّة، قد تنطلق من انسجام الإنسان مع مَنْ يحبّ، وعدم انسجامه مع مَنْ يبغض، قد يكونُ الحبّ غرائزيّاً بفعل الغريزة، وقد يكون ذاتيّاً، بفعل عناصر الذَّات الموجودة عند مَن تحبّ، والّتي تنسجم مع عناصر الذَّات الموجودة عندك. لكنَّ مسألة الحبّ والبغض ليست من المسائل الَّتي تحدِّد المواقف، لأنَّها مرتبطة بالجانب الشّعوري، وليست مرتبطة بالجانب العقلي.. أنت تحبّ لأنَّ مشاعرك تلتهب إيجابيّاً مع مَنْ تحبّ، أو تكره لأنَّ مشاعرك تلتهب سلبيّاً ضدّ مَنْ تكره. فمسألة الحبّ والبغض مسألة ذاتيَّة.
أمَّا في المواقف، عندما تؤيِّد شخصاً أو ترفض شخصاً، هنا لا بدَّ أن تكون مسألة التَّأييد أو الرَّفض من المسائل الَّتي تخضع لخطٍّ فكريٍّ تؤمنُ به أنت، وخصوصاً إذا كانت المسألة تتَّصل بمصير الأمَّة، يعني أن يكون موقفك عندما تؤيِّد شخصاً أو جهةً، أو ترفض شخصاً أو جهةً، ينعكس على مصير الأمَّة، باعتبار أنَّ المسألة مسألة حكم ومسألة مسؤوليَّة. هنا، لا تعود القضيَّة قضيّة شخصيّة، بل تصبح قضيَّة الأمَّة والمستقبل والمصير. لذلك، على الإنسان أن يوازن بين حالته الشعوريَّة وحالته العقليَّة، ومن الطبيعي أنَّ الحالة العقليَّة لا بدَّ أن ترتكز على المبادئ الَّتي أراد لك العقل أن تلتزم بها وتؤمن بها.
التّأسيسُ لخطِّ التَّفكير
هنا، عندما ندرس الواقع الإسلاميّ، نلاحظ أنَّ الواقع الإسلاميَّ كان في زمن النبيّ شيئاً وبعده صار شيئاً آخر، في زمن النَّبيّ (ص)، كان النَّبيّ يدعو النَّاس إلى الله، ويقرأ عليهم الوحي، ويجيب عن أسئلتهم، لأنَّه كان يريدهم أن يقتنعوا بالإسلام. لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يركِّز نقطة الوعي في المجتمع الإسلامي الَّذين يؤمنون بالإسلام ويسلمون.
عندما عاش الإسلام الصِّراع مع المشركين، كان النَّبيّ (ص) يتقبَّل الَّذين يدخلون في الإسلام رغبةً أو رهبةً من دون اقتناع، حتَّى يحيِّدهم عن الكفر، فقد كان يعمل على تحييد أكبر قدرٍ ممكنٍ من الكافرين عن مجتمع الكفر، وكان يدخلهم في مجتمع الإسلام ويربّيهم، {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ - لأنَّ الإيمان يحتاج إلى اقتناع - وَلَٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا - أي سلّمنا مصيرنا للخطّ الإسلاميّ - وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14].
ولكنَّ الأساس عند النَّبيّ (ص) أنَّه كان يريد أن يغيِّر الذّهنيَّة، وأن يغيِّر الفكر، وكان يريد للنَّاس أن ترتبط بالتَّوحيد. لذلك، دعا القرآنُ الإنسانَ إلى أن يفكِّر ويشغل عقله، وكان يتحدَّث بشكل سلبيّ عن أولئك المشركين والكافرين، يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا - يعني عندهم عقول ولكن لا يشغلونها - وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا - لأنَّ بصرهم بصر ساذج وليس واعياً - وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف: 179]، لأنَّهم لم ينطلقوا في السَّمع من وعي السَّمع للكلمة. وفي بعض تعبيرات القرآن الكريم عن المشركين، يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 118]، يعبِّر عنهم بأنَّ مشكلتهم أنّهم لا يعلمون {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا}[النَّجم: 28].
لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يجعل النَّاس تفكِّر، حتَّى وهي تلتزم الإسلام، وكان يطلب من النَّاس أن يكون عملهم صدى لتفكيرهم، ولذلك أكَّد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، أي أنَّ حركتك في الواقع ينبغي أن تكون منطلقةً من حركة عقلك في الدَّاخل.
ما بعدَ مرحلةِ النَّبيّ (ص)
وبعد النَّبيّ (ص)، عندما انطلقت مسألة البيعة، وهنا لا نريد أن نناقش المسألة لمن الحقّ، لمن النَّصّ؛ هل هو لعليّ أو لغيره، ونحن مقتنعون بأنَّ الغدير مع كلِّ ملحقاته، يعطي عليّاً الحقّ، لكن لنفترض أنَّ الَّذي طرح هو انتخابات، فالمعروف أنَّه ينبغي في الانتخابات أن يكون كلّ المرشَّحين موجودين، وخصوصاً المرشَّحين الَّذين لهم علاقة بها، سواء على المستوى الذّهنيَّة العربيَّة، أو على مستوى الجانب السياسي والجانب الفكري والثَّقافي، وما إلى ذلك، ولكنَّ القوم اجتمعوا وقالوا: "منَّا أمير ومنكم أمير"، مع أنَّ هذه قصَّة أمَّة، فكيف تأتي فئة من النَّاس أو عشيرة وتقول تعالوا لنتقاسم.. مَنْ ملَّككم الأمَّة؟! ثمَّ اندفع من اندفع، قال أحدهم: ابسط يدك لأبايعك، وبايعت النَّاس. فعلى أيِّ أساس كانت البيعة؟ ما البرنامج؟ ما المنهج؟ ما هي الأسس؟ وإنَّما كان جوّاً عاطفيّاً، واندفعَ النَّاس في الجوِّ العاطفيّ، وكانت البيعة على هذا الأساس، وامتدَّت مسألة البيعة بهذا الأسلوب.
لم تكن المسألة أن تُطرَح البرامجُ أمام الأمَّة، وأن تُدرَس كفاءة الشَّخص أمام الأمَّة.. وفي كلِّ حركة البيعة في التَّاريخ، لم تكن هذه البيعة تنطلق من حالة عقلانيَّة موضوعيَّة تدرس نقاط الضّعف ونقاط القوَّة في الشَّخص، وتدرس السَّلبيَّات والإيجابيَّات في هذا الشَّخص أو ذاك، وتحركت العلاقات على هذا الأساس.
ولهذا، انطلقت المسألة أيضاً بعد ذلك من خلال الأمويّين.. في أيَّام ما يسمَّى بالخلفاء الرَّاشدين، لم يكن هناك مسألة سيف ومال، ولكن في عهد الأمويّين، صارت المسألة مسألة سيف ومال.. وكانت مشكلة الإمام الحسين (ع) هي قصَّة سيف ومال.. ولذلك، انطلق النَّاس لا من خلال التزامهم الموقف على أساس دراسته في مستوى ما يحملونه من الإيمان بالإسلام؛ لأنَّك عندما تلتزم بالإسلام، فعليك أن تفكِّر: هل هذا الشَّخص أو هذا الخطّ ينسجم مع الإسلام أو لا ينسجم، هل ينسجم مع مصلحتي أو لا، ولذلك كانت الكلمة المعروفة: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"، يعني أنَّ الجماعة يؤمنون بأنَّك الشَّخص الَّذي يملك الحقّ والشَّرعيَّة، ولكنَّك لم تقدِّم إلى النَّاس ما يرضي مطامعَهم، كما قال الإمام عليّ (ع): "ليسَ أمري وأمرُكم واحداً؛ إنِّي أريدُكم للهِ، وأنتُمْ تريدونَني لأنْفسِكم"، أنا أعتبر أنَّ مسؤوليَّتي هي مسؤوليَّة إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وأنتم تعتبرون أنَّ مسؤوليَّتي أن ألبِّي مطامعكم وشهواتكم.
ذهنيَّةٌ غيرُ مسؤولة
هذه الذِّهنيَّة، أيُّها الأحبَّة، هي الَّتي استطاعت أن تخذل بقسوة الخطَّ المستقيم وأهلَ الحقّ، لأنَّه لا أحد دخل في هذا الموضوع من بابِ الموازنة بينَ هذا الجانب وذاكَ الجانب.. وهذه المسألة سيطرت على كلِّ التَّاريخ الإسلاميّ، فعندما نلاحظ مسألة امتداد التَّأريخ الإسلامي، في زمن الأمويّين والعباسيّين وزمن العثمانيِّين، وفي الإمارات الصَّغيرة الَّتي كانت هنا وهناك، في قضيَّة تنصيب ملكٍ على بلدٍ في العهود الأخيرة، أو أميرٍ على موقع، لم تكن المسألة ناشئةً من ذهنيَّةٍ مسؤولةٍ تدرس الموقف من خلال علاقته بمصير الأمَّة ومستقبلها.. بل كانت تنطلق من خلال العاطفة والأجواء الانفعاليَّة الَّتي تحيط بالإنسان، ومن خلال الإعلام الَّذي يحاول أن يوظِّفه أصحابُ الشَّأن، من أجل تصوير إنسانٍ ما في مستوى عالٍ يصعد به إلى السَّماء، أو في مستوى ينزل به إلى الأرض.
هذه المؤثّرات الَّتي امتدَّت في العالم الإسلامي، هي الَّتي أصبحت تحكم مواقف النَّاس، وحتَّى مشاعرها؛ مؤثِّرات الإعلام، الأجواء العاطفيَّة الانفعاليَّة، العلاقات الشَّخصيَّة بالأشخاص، الأطماع المرتبطة بهذا الشَّخص أو ذاك الشَّخص، أو بهذه الجهة أو تلك الجهة... ولذلك لاحظنا - وكلُّ واحد منكم يعرف جانباً من الواقع - في عالمنا العربيّ أو الشَّرقيّ، كيف ينتقل الإنسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا موجودٌ على مستوى الأحزاب، فهناك أحزاب بعد أن كانت يمينيَّة إلى أقصى اليمين، صارت يساريّة إلى أقصى اليسار، وعندما تبدّلت الظّروف صارت في الوسط.. فما السَّبب في ذلك؟ لأنَّ القضيَّة لم تنطلق من قاعدة تحرِّك الإنسان أو هذه الجهة.
ونلاحظ، مثلاً، أنَّ الشَّرق بشكل عامّ، يعيش عبادة الشَّخصيَّة، في رموزه السياسيَّة أو الدينيَّة أو الاجتماعيَّة، بحيث يحوِّل الشَّخص إلى صنم يعبده، بحيث يحاول أن يستغرق فيه من دون أن يدرسه ويدرس كفاءاته، ربَّما يملك أحد كفاءة اجتماعيَّة، ولكن قد لا يملك كفاءة ثقافيَّة، ويمكن أن يملك أحد كفاءة سياسيَّة ولكن لا يملك كفاءة علميَّة، وهكذا... "كلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له".
الآن لاحظوا، إذا فرضنا أردنا أن نرتبط بشخص، فإنَّنا نعطيه كلَّ الصِّفات الحسنة، حتَّى الصِّفات الَّتي ليست فيه، كما قال الإمام عليّ (ع): "إِذَاْ أَقْبَلَتِ الدُّنيا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أدْبرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ".
من أسبابِ السّقوط
هذا المعنى، أيُّها الأحبَّة، يمثِّل الذِّهنيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدّينيَّة، وهذا هو المسؤول عن كثير من عناصر السقوط الاجتماعيّ والسياسيّ، لأنَّ النَّاس لا يعرفون كيف يؤكِّدون مواقفهم. الآن في مجتمعنا اللّبناني، أنا أسأل: منذ عشرات السِّنين، عندما يرتبط النَّاس بشخصيَّة سياسيَّة، على أيِّ أساس يكون الارتباط؟! الشَّخص السياسي هو الشَّخص الَّذي يدير أمور الأمَّة من خلال برنامجه السياسي، ومن خلال مواقفه السياسيّة، أنا أسأل، ويمكن أن يكون عندكم خبرة ميدانيَّة أكثر منِّي، كم في المئة من النَّاس مَنْ يرتبط بشخصيَّة سياسيَّة أو جهة سياسيَّة على أساس دراسة؟ أن يفكِّر: أنا أحمل فكراً وهذا الشَّخص ينسجم مع فكري، أنا ألتزم خطّاً وهذه الجهة تلتزم بالخطِّ الّذي عندي... فهل هناك عشرة في المائة من هؤلاء؟!
ولذلك، فنحن نلتزم الشَّخص بقطع النَّظر عن برنامجه، ولذا لا نحاسبه على برنامجه، بل نلتزم به باعتبار نحن جماعة فلان، ونحن رجال فلان، ونحن رجال الحزب الفلاني، وجماعة الحركة الفلانيَّة والمنظَّمة الفلانيَّة... أمَّا على أيِّ أساس، فليس هناك من أساس، فقط باعتبار أنَّ هؤلاء جماعتنا.
هذا، ولم أتكلَّم بعد عن المسؤوليَّة الشَّرعيَّة لنا كشعب وكأمَّة تريد أن تصنع تاريخها، تريد أن تؤسِّس مستقبلها، تريد أن تحافظ على مكتسباتها، وتريد أن تحقِّق مكتسبات جديدة... هذه الذِّهنيَّة كانت زمن الإمام الحسين (ع)، وكان يستهدف (ع) تغييرها، وهي موجودة في زماننا أيضاً في الشَّرق.
أنا أسألكم، وأتكلَّم عن المسلمين سنَّة وشيعة، وعلمانيِّين، ومسيحيِّين: لماذا لا يخاف الحكَّام والسياسيّون عندنا من شعوبهم؟ لأنَّ كلَّ ما يفعلونه نصفِّق له، فالشَّخص منهم لا يخاف أن يسقط في الانتخابات القادمة، لأنَّ الجماعة الّتي تنتخبه مضمونة عنده، كما كان بعض الزّعماء يقول لابنه: تركت لك عشرة آلاف رأس، كما لو أنّه ترك له عشرة آلاف رأس غنم، فالغنم تمشي خلف صاحبها وهؤلاء يمشون خلفه. وتغيّرت الذِّهنيَّة الغنميَّة وصارت عصريَّة.
في الغرب، النَّاس هناك ليسوا مسلمين، لكن عندهم إسلام بدون إسلام.. إنَّ أيَّ رئيس عندهم يخاف من النَّاس، لأنَّه إذا لم يحقِّق البرنامج الَّذي طرحه لهم، ولم يحلّ لهم بعض المشاكل الاقتصاديَّة، وبعض المشاكل السياسيَّة والاجتماعيَّة، فسوف يسقطونه في الدَّورة الثَّانية... ولا نقول عنهم ملائكة، ولكن هذه ظاهرة عندهم.
حتَّى عند أعدائنا في الكيان الصّهيوني، هناك أحزاب كبيرة مثل اللّيكود وحزب العمل، وهم يخافون من النَّاس ويحسبون لهم حساباً، لأنَّ النَّاس قادرة على أن تسقطهم، فهم يحترمون أنفسهم.. إنَّهم مغتصبون وأشرار ومجرمون، كلُّ ذلك صحيح، ولكن فيما يخصّ أوضاعهم ومصيرهم، هم يحسبون حساب النَّاس عندهم.. فتلاحظ، مثلاً، أنَّه بينما أخذ حزب العمل أعلى الأصوات في الانتخابات، ولكن عندما فشل فيما يفكِّر فيه النَّاس خطأً أو صواباً، سقط وجاء حزب اللّيكود، ونرى عندهم استفتاءات الرّأي واستطلاعات الرّأي، لأنَّ الشَّعب يحترم نفسه ومصيره.
هل رأيتم حاكماً أو سياسيّاً في العالم العربي أو في كثيرٍ من مواقعِ العالمِ الإسلاميّ، سقطَ تحتَ التَّأثير الشَّعبيّ؟! لا يوجد، لأنَّنا لا نحترم مصيرنا، لأنَّنا لا ننطلق من قاعدة.. نحن ننطلق من عاطفة، ننطلق من انفعال... طبعاً لا أتكلَّم عن كلّ النَّاس، فهناك من النَّاس من يملك عقلاً وفكراً وموقفاً، ولكن، مع الأسف، ليسوا كثيرين.
هذا الواقع، أيُّها الأحبَّة، يجب أن نفكِّر كيف نغيِّره، قد لا نستطيع تغييره في سنة أو سنتين، ولكن علينا أن نخطِّط، وأن نجعل هذه الاجتماعات تبني لنا قاعدة في عقولنا، وقاعدة في قلوبنا، وقاعدة في مواقفنا، ولا سيَّما أمام التحديات الكبرى الَّتي تواجهنا كأمَّة. لهذا نحتاج إلى أن نعيش المسؤوليَّة، ولا سيَّما عندما تكون المسؤوليَّة أمام الله؛ أن نفكِّر في الأمَّة، كما نفكِّر في الفرد، لأنَّه جزء من الأمَّة.
ذهنيَّةُ التَّثبيط
هناك ملاحظة ألاحظها، حتَّى نعطي صورة تاريخيَّة من تجربة الإمام الحسين (ع)، وهذه الصّورة أيضاً منعكسة على واقعنا. الإمام الحسين (ع) عندما أراد أن يخرج، جاءه كبار الصَّحابة؛ عبدالله بن عبَّاس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزَّبير، وآخرون، وهم يخوِّفونه من مسيرته: اجلس في بيتك، لا تخاطر بنفسك... لم يتحدَّث أحد مع الإمام الحسين (ع) في مسألة لماذا يخرج، كانت كلّ الذهنيَّة الموجودة في أذهان هؤلاء هي الجانب الشَّخصيّ، أمَّا مسألة الأمَّة ويزيد، ومسألة الحكم الجائر، فلم يكن أحد يفكِّر في الموضوع، لم يدخلوا مع الإمام الحسين (ع) في حوارٍ حول القاعدة الَّتي انطلق منها، ولكنَّهم دخلوا في حوار حول مسألة نجاة الذَّات، أمَّا الأمَّة، تنجو أو لا تنجو، فلم يكن ذلك أساس تفكيرهم.
ما علينا إن قضى الشَّعب جميعاً أفلسنا في أمان؟! هذه هي الفكرة.
والآن، عندما ينطلق المجاهدون والعاملون في أيِّ موقع من المواقع، أيضاً تأتي النَّاس وتحدِّث الإنسان بهذه الذّهنيّة، وأنا عشت هذه التَّجربة، عندما كنت أطلق بعض الأفكار الإسلاميَّة الَّتي أعتقد أنَّها هي الحقّ، أو بعض الأفكار الفقهيَّة الَّتي أعتقد أنَّها الحقّ، كنت أواجه الكثير من النَّاس من أصدقائي، من مختلف المستويات.. ماذا كانوا يقولون لي؟ كانوا يقولون لي نحن معك، ولكن لماذا تتكلَّم بهذا الكلام؟! النَّاس سوف يتكلَّمون عليك، سوف يهاجمونك، انتبه إلى نفسك... أمَّا انتبه إلى الحقِّ والأمَّة، فلم أسمعها.
فعندما تكون عندنا أزمة تخلّف في الذِّهنيَّة العامَّة للمسلمين، عندما نجد هناك أزمة خرافة في أكثر من موقع، وأنَّ هناك الكثير ممّن يعملون على أن يدخلوا الخرافة في أذهاننا وفكرنا، فكيف لا نتكلَّم؟! نحن الآن عندنا أزمة غلوّ، فقد وصل الكثير من النَّاس في تفكيرهم بأهل البيت (ع) أن جعلوهم أقلّ من الله بقليل جدّاً.. نحن نسمع الآن في مجالس عاشوراء، أنَّك إذا عندك حاجة اطلبها من أهل البيت، وليس اطلبها من الله، وأهل البيت (ع) يطلبون حاجاتهم من الله، والله هو الَّذي يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].
لذلك، نحن كنَّا نقول لهم، المسألة ليست محمَّد حسين فضل الله، محمَّد حسين فضل الله مرحلة، كما الَّذين سبقوه، وكما الَّذين سيأتون بعده، نحن لا نعمل لمحمَّد حسين فضل الله، نحن نعمل للإسلام، ونحن مستعدّون أن نضحِّي في سبيل الإسلام.. فلتشتم النَّاسُ، ولتتَّهم، وإذا أرادت أن لا تأتي وتصلّي جماعة... هذه ليست مشكلة، المشكلة هي ما عبّر عنه أمير المؤمنين (ع)، ونحن تراب أقدامه، وهو يشير إلى نعله، عندما قال: "والله لهيَ أحبُّ إليَّ من إمرتِكُم، إلَّا أنْ أقيمَ حقّاً، أو أدفعَ باطلاً".
إنَّ أمَّتنا هذه أرادها الله أن تكون خير أمَّة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران: 110]، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104]، عندنا أمَّة أراد الله لها العزَّة {وَللهِ العزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنين}[المنافقون: 8]، عندنا أمَّة أراد الله لها الحريَّة والتّقدّم، فلا يجوز أن نترك هذه الأمَّة، بسبب أنَّ كلَّ واحد منَّا له طمعه وله حساباته الخاصَّة. هذه هذ المسألة. إذا أردتم كربلاء الحسين، فهذه كربلاء الحسين: "خرجْتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمَّة جدّي"، أريد أن أصلح الذِّهنيَّة الَّتي يعيشها النَّاس.
مواجهةُ العصبيَّة
وهكذا، كان الإمام الحسين (ع) يواجه بقايا العصبيَّة الجاهليَّة: {إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ}[الفتح: 26]. صحيح كانوا مسلمين يصلّون ويصومون، ولكن بقيت فيهم حميَّة الجاهليَّة، وأنتم تعرفون أنَّ العصبيَّة لا تفكِّر. هناك نصّ من خطاب الإمام الحسين (ع) للجيش الَّذي جاء ليقاتله، كان (ع) يحاورهم، وكان يعظهم ويرشدهم، ماذا كان جوابهم؟ ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، لا نفهم عليك. لاحِظُوا المتعصّبين، سواء كان التعصّب لشخص، أو كان تعصّباً عشائريّاً أو حزبيّاً أو تعصّب مذهبيّاً أو طائفيّاً، إذا تكلّمت مع أحدهم أيضاً يقول لك لا نفهم عليك.
العصبيَّة تمثّل العقل المغلق، والالتزام يمثِّل العقل المنفتح، ولذا دائماً أقول لكم، لا تكونوا متعصِّبين، ولكن كونوا ملتزمين.. لا تتنازلوا عن واحد في المئة مما تعتقدون، إن كان ما تعتقدونه مدروساً.. أن نصلح ذهنيَّاتنا، أن نجعل ذهنيَّاتنا ذهنيّات كبيرة، أن نفكِّر في القضايا الكبيرة، نتدارسها، نتابعها، نعرف أين يكمن الخطر، لأنَّ الاكتفاء برفع الصَّوت وبالشِّعارات جيِّد، لا بأس في أن يتظاهر الشَّعب ليثبت للعالم أنَّه مع الفلسطينيّين ومع المظلومين، هذا جيِّد، ولكن ليس هذا هو القضيَّة، القضيَّة أن نعرف كيف نحفظ أمَّتنا من ذلك. ومجالس الحسين (ع) بهذا أيُّها الأحبَّة.
لا بأس في أن نبكي، فالبكاء عاطفة، وكما قال الشَّاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنَّ عيني لأجلكم باكية
فعندما أسمع المأساة سأبكي تلقائيّاً، أليس بينكم أشخاص يبكون عندما يشاهدون فيلماً مأساويّاً؟ نحن لا نقول فيلم مأساوي، فهي قضيَّة تعيش في قلوبنا، والحسين له حبُّه في قلب كلّ مؤمن، لكنَّ قضيَّة الحسين ينبغي أن تكون موقعاً للتَّوجيه، ولإنقاذ المجتمع من الخرافة ومن التخلّف والغلوّ، ومن السَّلبيَّة واللَّامبالاة {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِۦ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}[الصّفّ: 4].
ويبقى للحسين (ع) الكثير من الكلام، لأنَّ الحسين عاش للأمَّة في مرحلته، وعاش للأمَّة في مدى الزَّمن، لأنَّه إمام الحياة كلِّها، من حيث إنَّه إمام الرِّسالة كلِّها.
*محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 21/03/2002م.