مختارات
05/08/2015

تطرّف علمانيّ في فرنسا

تطرّف علمانيّ في فرنسا

تقدِّم فرنسا نفسها على أنَّها نموذجٌ مثاليّ للعلمانيَّة، ولفصل الدّين عن الدّولة، وتعتبر أنَّ نظامها يحقّق السَّلام الاجتماعيّ والمساواة بين المواطنين، حيث إنّها تزعم استلهام الشّعارات الّتي رفعتها الثورة الفرنسيّة، لتجعل من نفسها حاميةً للحريّة والعدالة والمساواة، ورافعةً للواء حقوق الإنسان على المستوى العالميّ.

لكن رغم هذه الصّورة المثاليَّة الّتي تجهد في تقديمها عن نفسها، فإنَّ الواقع يفرز مشاهد أخرى، فإذا كانت التّجربة الفرنسيّة هي بمثابة المثال والنَّموذج العلمانيّ، فبماذا نفسّر ما يحفل به المجتمع الفرنسيّ من توتّر، يظهر بين فينةٍ وأخرى، من خلال التَّمييز على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ والإعلاميّ، الّذي يتمّ التَّعاطي به مع المنحدرين من أصولٍ أخرى، أو المرتبطين بثقافاتٍ مغايرة، بشكلٍ يبرز عمق الأزمة في المجتمع الفرنسيّ على مستوى تقبّل الآخر، والاعتراف بثقافته المغايرة، والقدرة على استيعابه ودمجه في المجتمع الفرنسيّ، دون تمييزٍ في المعاملة، ودون اضطهادٍ بسبب أصوله أو ديانته.

فبعد فترةٍ من قضيّة الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو، وما أثارته من اضطرابٍ في المجتمع الفرنسيّ، برزت قبل أيّام قضيَّة جديدة تفاعلت بشكلٍ كبيرٍ في الصّحافة والإعلام، وشغلت الرّأي العام، حيث حصلت مشاجرة بين ثلاث فتيات يرتدين ثياب البحر، ويقمن بحمّام شمس في حديقة عامّة في مدينة رينس، وبين مجموعةٍ أخرى من الفتيات،  كنّ مارّات في المكان، وأبدين ملاحظاتٍ على لباسهنّ، حيث قلن لهنّ: "لم يحن بعد وقت ارتداء ثياب البحر"، فحصلت مشادّة بينهنّ، تحوَّلت إلى معركةٍ اشتركت فيها المجموعتان، ونالت فتيات من الفريقين لكمات وعضّات وشدّ شعر، في حين أوقفت الشّرطة المراهقات، وحوَّلتهنّ إلى المحاكمة بتهمة العنف. هذا على الأقلّ ما جاء في الرّواية الرسميّة لتقريرٍ للشّرطة الفرنسيّة..

هكذا جرت الأمور على أرض الواقع، أمّا تداولها في الإعلام، فقد كان مختلفاً بشكلٍ كبير، حيث تحوَّلت القصَّة من شجارٍ بين فتيات، إلى تهجّمٍ من فتياتٍ مسلماتٍ على فتياتٍ فرنسيّات يتشمَّسن في الحديقة العامّة، حيث أردن فرض منظومتهنّ الأخلاقيَّة عليهنّ! وهكذا أخذ الموضوع بعداً آخر، فتدخّل فيه عدد كبير من السياسيّين من الأحزاب المختلفة، وخصوصاً اليمينيَّة، والجبهة الوطنيَّة الّتي تمثّل اليمين المتطرّف، وارتفعت الشِّعارات: "يريدون فرض نمط حياتهم علينا"، و"الشَّريعة وبوليس الأخلاق بيننا"، وكلّ ما يعزِّز الخوف والهلع من المسلمين، وينضح بالعنصريّة تجاههم.. وكذلك كان تعاطي وسائل الإعلام مخالفاً لأبسط الأصول والقواعد المهنيّة الّتي يفترض أن تحكم عمل الصّحافة.

وقد تعاظم استغلال الموضوع إلى درجةٍ ارتفعت بعض الأصوات تتحدَّث عن وصول "البوليس الدّيني" إلى أرض فرنسا، كما قيل في تغريداتٍ على وسائل التَّواصل الاجتماعي، التي ضجَّت بالتَّعليقات على الحادثة الّتي شغلت الرّأي العامّ لأيّام.

بعد التَّدقيق في المعطيات، يتبيَّن أنَّ الفتيات المُهاجمات لسن محجّبات أصلاً، ولكنّهن من "أصول إسلاميَّة"، وهن "مندمجات" في المجتمع الفرنسيّ، وبعيدات عن التطرّف الدّينيّ، حتى إنّهن يرتدين ثياب البحر أيضاً، ولم يكن لتعليقهنّ أيّ بعد دينيّ... لكنَّ التّحريض الكثيف، وتعاطي وسائل الإعلام، وموجة الإسلاموفوبيا المزدهرة في أوروبّا عموماً، وفرنسا خصوصاً، حوَّلت هذه الحادثة البسيطة الَّتي قد تحصل في أيِّ مكان، أو في أيِّ مدينة، إلى موضوعٍ يثير الرأي العام، ويستنفر السياسيّين ووسائل الإعلام.

بعد كلّ ذلك، هل ينفع التغاضي عن موجة "الإسلاموفوبيا" التي تجتاح فرنسا؟ وهل ينفع الحديث عن "رقيّ" النّموذج العلمانيّ الفرنسيّ وصلاحيَّته؟ وألا يعبّر الاستغلال السّياسيّ المتطرّف للموضوع عن الإفلاس الفكريّ والسّياسيّ، وعن موجة العداء للإسلام الّتي تحوَّلت إلى رهابٍ يساهم في زيادة التطرّف، ويبيّن أنَّ فرنسا ليست بخير، وأنَّ نموذجها الدّيمقراطيّ هشّ إلى درجةٍ تجعل من تعارك فتيات، قضيّة حرب حضارات، لمجرّد أنّ أصولهنّ عربيّة أو إسلاميّة؟ وبعد ذلك، كيف يمكن لفرنسا أن تعطي الدّروس في العلمانيّة والمساواة ومحاربة التَّمييز، بينما هي نفسها لا تلتزم بها؟

في فرنسا، بات "التّطرّف العلمانيّ" أداةً لتغذية "التطرّف الإسلاميّ"، وسقطت مرّة جديدة ادّعاءات لطالما سمعناها عن الحريّات ومحاربة التَّمييز والعلمانيّة وحقوق الإنسان.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

تقدِّم فرنسا نفسها على أنَّها نموذجٌ مثاليّ للعلمانيَّة، ولفصل الدّين عن الدّولة، وتعتبر أنَّ نظامها يحقّق السَّلام الاجتماعيّ والمساواة بين المواطنين، حيث إنّها تزعم استلهام الشّعارات الّتي رفعتها الثورة الفرنسيّة، لتجعل من نفسها حاميةً للحريّة والعدالة والمساواة، ورافعةً للواء حقوق الإنسان على المستوى العالميّ.

لكن رغم هذه الصّورة المثاليَّة الّتي تجهد في تقديمها عن نفسها، فإنَّ الواقع يفرز مشاهد أخرى، فإذا كانت التّجربة الفرنسيّة هي بمثابة المثال والنَّموذج العلمانيّ، فبماذا نفسّر ما يحفل به المجتمع الفرنسيّ من توتّر، يظهر بين فينةٍ وأخرى، من خلال التَّمييز على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ والإعلاميّ، الّذي يتمّ التَّعاطي به مع المنحدرين من أصولٍ أخرى، أو المرتبطين بثقافاتٍ مغايرة، بشكلٍ يبرز عمق الأزمة في المجتمع الفرنسيّ على مستوى تقبّل الآخر، والاعتراف بثقافته المغايرة، والقدرة على استيعابه ودمجه في المجتمع الفرنسيّ، دون تمييزٍ في المعاملة، ودون اضطهادٍ بسبب أصوله أو ديانته.

فبعد فترةٍ من قضيّة الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو، وما أثارته من اضطرابٍ في المجتمع الفرنسيّ، برزت قبل أيّام قضيَّة جديدة تفاعلت بشكلٍ كبيرٍ في الصّحافة والإعلام، وشغلت الرّأي العام، حيث حصلت مشاجرة بين ثلاث فتيات يرتدين ثياب البحر، ويقمن بحمّام شمس في حديقة عامّة في مدينة رينس، وبين مجموعةٍ أخرى من الفتيات،  كنّ مارّات في المكان، وأبدين ملاحظاتٍ على لباسهنّ، حيث قلن لهنّ: "لم يحن بعد وقت ارتداء ثياب البحر"، فحصلت مشادّة بينهنّ، تحوَّلت إلى معركةٍ اشتركت فيها المجموعتان، ونالت فتيات من الفريقين لكمات وعضّات وشدّ شعر، في حين أوقفت الشّرطة المراهقات، وحوَّلتهنّ إلى المحاكمة بتهمة العنف. هذا على الأقلّ ما جاء في الرّواية الرسميّة لتقريرٍ للشّرطة الفرنسيّة..

هكذا جرت الأمور على أرض الواقع، أمّا تداولها في الإعلام، فقد كان مختلفاً بشكلٍ كبير، حيث تحوَّلت القصَّة من شجارٍ بين فتيات، إلى تهجّمٍ من فتياتٍ مسلماتٍ على فتياتٍ فرنسيّات يتشمَّسن في الحديقة العامّة، حيث أردن فرض منظومتهنّ الأخلاقيَّة عليهنّ! وهكذا أخذ الموضوع بعداً آخر، فتدخّل فيه عدد كبير من السياسيّين من الأحزاب المختلفة، وخصوصاً اليمينيَّة، والجبهة الوطنيَّة الّتي تمثّل اليمين المتطرّف، وارتفعت الشِّعارات: "يريدون فرض نمط حياتهم علينا"، و"الشَّريعة وبوليس الأخلاق بيننا"، وكلّ ما يعزِّز الخوف والهلع من المسلمين، وينضح بالعنصريّة تجاههم.. وكذلك كان تعاطي وسائل الإعلام مخالفاً لأبسط الأصول والقواعد المهنيّة الّتي يفترض أن تحكم عمل الصّحافة.

وقد تعاظم استغلال الموضوع إلى درجةٍ ارتفعت بعض الأصوات تتحدَّث عن وصول "البوليس الدّيني" إلى أرض فرنسا، كما قيل في تغريداتٍ على وسائل التَّواصل الاجتماعي، التي ضجَّت بالتَّعليقات على الحادثة الّتي شغلت الرّأي العامّ لأيّام.

بعد التَّدقيق في المعطيات، يتبيَّن أنَّ الفتيات المُهاجمات لسن محجّبات أصلاً، ولكنّهن من "أصول إسلاميَّة"، وهن "مندمجات" في المجتمع الفرنسيّ، وبعيدات عن التطرّف الدّينيّ، حتى إنّهن يرتدين ثياب البحر أيضاً، ولم يكن لتعليقهنّ أيّ بعد دينيّ... لكنَّ التّحريض الكثيف، وتعاطي وسائل الإعلام، وموجة الإسلاموفوبيا المزدهرة في أوروبّا عموماً، وفرنسا خصوصاً، حوَّلت هذه الحادثة البسيطة الَّتي قد تحصل في أيِّ مكان، أو في أيِّ مدينة، إلى موضوعٍ يثير الرأي العام، ويستنفر السياسيّين ووسائل الإعلام.

بعد كلّ ذلك، هل ينفع التغاضي عن موجة "الإسلاموفوبيا" التي تجتاح فرنسا؟ وهل ينفع الحديث عن "رقيّ" النّموذج العلمانيّ الفرنسيّ وصلاحيَّته؟ وألا يعبّر الاستغلال السّياسيّ المتطرّف للموضوع عن الإفلاس الفكريّ والسّياسيّ، وعن موجة العداء للإسلام الّتي تحوَّلت إلى رهابٍ يساهم في زيادة التطرّف، ويبيّن أنَّ فرنسا ليست بخير، وأنَّ نموذجها الدّيمقراطيّ هشّ إلى درجةٍ تجعل من تعارك فتيات، قضيّة حرب حضارات، لمجرّد أنّ أصولهنّ عربيّة أو إسلاميّة؟ وبعد ذلك، كيف يمكن لفرنسا أن تعطي الدّروس في العلمانيّة والمساواة ومحاربة التَّمييز، بينما هي نفسها لا تلتزم بها؟

في فرنسا، بات "التّطرّف العلمانيّ" أداةً لتغذية "التطرّف الإسلاميّ"، وسقطت مرّة جديدة ادّعاءات لطالما سمعناها عن الحريّات ومحاربة التَّمييز والعلمانيّة وحقوق الإنسان.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية