مختارات
11/08/2015

العقل والتّعدّد الدّينيّ

العقل والتّعدّد الدّينيّ

في ذكرى العلامة الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله، نستذكر كبارنا ونحن نغرق في وحول صغائرنا، ونبحث عن فكرة اليد الممدودة لإخراجنا من جهالاتنا، في الوقت الَّذي تطبق علينا هذه الجهالات من كلِّ حدبٍ وصوب، وتخنق أنفاسنا.

نسينا أنَّ الكون بلا حدود، ونسينا أنَّ الله علَّم آدم الأسماء كلَّها، أي أنَّ الله أعطى الإنسان مفاتيح المعرفة كلّها، وأنّه دعاه ليتفكَّر في نفسه وفي الكون.. وأنَّ معنى ذلك، أنَّ على الإنسان أن يذهب إلى اللامحدود بعقله وفكره، بحثاً عن المعرفة، واستجلاءً للحقيقة، غير أنَّنا بدلاً من ذلك، استسهلنا عمليَّة اجترار ما تركه السّابقون، من دون أن نراعي حقائق العصر الَّذي نحن فيه، ومن دون أن نتوقَّف أمام ما يمليه علينا من متغيّرات، ومن دون أن نتصدَّى لما نواجهه من تحدّيات في ذاتنا وفي مجتمعاتنا وفي عالمنا الأوسع.

لقد ضيَّقنا الشَّريعة بما رحبت، واستسهلنا عمليَّة تفصيل المفاهيم ـ وحتى القيم ـ على قياس مصالحنا وأحقادنا، فخرجنا، بجهالةٍ منّا، من رحمة الله الواسعة، وهبطنا إلى الدّرك الأسفل من الجحود والنّكران والتعصّب، حيث الظّلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الواحد منّا يده تقطع، واذا رفع صوته يخنق، حتى الـ"لا" في التشهّد تمنع.

في حديثٍ قدسيّ، إنَّ الله "لا يقبل صلاة عبدٍ، ولا صومه، ولا حجَّه، ولا عمرته، ولا صدقته، ولا جهاده، ولا شيئاً ممّا يقول من أنواع البرّ، إذا لم يكن يعقل". ومن مآثر الإمام عليّ (رضي الله عنه وكرّم وجهه)، قوله: "ربّ مَن أعطيته العقل فماذا حرمته؟ ومن حرمته العقل فماذا أعطيته؟".

إنَّ جماعةً حُرمت من نعمة العقل، ورغم ذلك، تولي نفسها سلطة الحلّ والعقد، ليس غريباً أن تحلّل حراماً وأن تحرّم حلالاً، وليس غريباً أن تكفِّر مؤمناً، وأن ترسي قواعد فكرها على أباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.

في الأساس، إنَّ الحريَّة كالكرامة، هي عطاءٌ من الله للإنسان، وما أعطاه الله لا يحجبه إنسان، والمبدأ الَّذي شاءه الله وقدَّره لتنظيم الحياة الإنسانيَّة، هو مبدأ الحريَّة، مصحوباً بمبدأ المحاسبة، والمبدآن لا يقومان إلا على العقل، فلا حريَّة من دون مسؤوليَّة، ولا مسؤوليَّة من دون محاسبة، والعقل الّذي يباهي الله في خلقه، هو الضَّابط لممارسة الحريَّة، وهو الأساس لتحديد مسؤوليَّة الاختيار الحرّ، ومن ثمّ للمحاسبة على السّلوك الحرّ. وما كان الاختلاف بين النّاس إلا نتيجة لتعدّد خياراتهم، ولتعدّد الرّؤى والاجتهادات الّتي تقودهم إليها عقولهم؛ وما كان لهذا التعدّد أن يكون من دون العقل، الَّذي يتمتَّع بالقدرة على التَّمييز والإبداع، وعلى الاختيار الحرّ.

لم يقل القرآن الكريم: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتتوحَّدوا" في عقيدةٍ واحدة، أو تحت مظلَّة إيمانٍ واحد، وفي إطار اجتهادٍ فقهيٍّ واحد، ولكنّه قال: "لتعارفوا"، أي لتستخدموا العقل في إقامة علاقاتكم على قاعدة ما بينكم من اختلاف ومن تباين، سواء في العقيدة، أو في الاجتهاد حول تفاصيل العقيدة؛ فالمعرفة المتبادلة تقود إلى التفهّم المتبادل، فالتّفاهم المتبادل، فالاحترام المتبادل، وكلّها أمور تقوم على العقل. ويوم الحساب يحكم الله بين النّاس فيما كانوا فيه يختلفون، أي أنَّ الحساب على التّباين مؤجَّلٌ إلى اليوم الآخر، ومتروكٌ لله وحده، وبالتّالي، ليس من حقّ أيّ كان، أو أيّ جهةٍ كانت، البحث في ضمير الآخر، فالحكمة الإلهيَّة كما حدّدها القرآن الكريم تقول: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود: 118، 119].

وهذا يعني أنَّ مشيئة الله هي أن لا يكون النَّاس أمّةً واحدة، بل أمماً وشعوباً، ويعني أيضاً أنّه حتى في الأمّة الواحدة، سيظلّ النّاس مختلفين، ولذلك خلقهم، أي من أجل أن يكونوا أمماً وشعوباً مختلفة، ولكنّها مدعوّة إلى التّعارف.. بفعل العقل.

من هنا، يمكن فهم رسالة العلاّمة الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله(يرحمه الله) ودوره، فقد كان مجتهداً ومجدِّداً، على قاعدة الاحتكام إلى العقل، وليس الاستسلام إلى الموروث الفقهيّ، من دون أن يعني ذلك التخلّي عن هذا الموروث، أو إهماله، أو التَّقليل من أهميّته، فقد مدَّ جسراً حديثاً بين الفكر والاجتهاد، وجمع بين الفقه المتخصِّص والثّقافة العامَّة، واستطاع بذلك مقاربة الهدف الأسمى.

كان يعمل على تقريب المضمون الإسلاميِّ إلى الوجدان الإسلاميّ العام، وعلى ترتيب مفرداته، لتركيز القاعدة الفكريَّة الواحدة في عالم القرن الواحد والعشرين. كان هدفه أن لا يكون هناك عدّة إسلامات، بل إسلام واحد لا تختلف عناوينه في خطوط الفكر والواقع، إلا ببعض التّفاصيل الّتي لا تمسّ الخطَّ العام، وقد اعتمد في ذلك على إعادة قراءة النّصوص والاجتهادات بعقلٍ منفتح، مستلهماً من التراث الفقهيِّ الغنيِّ طرقاً ومسالك تقود إلى الهدف الأسمى الَّذي ينشده.

لقد كان يردِّد دائماً أنَّه لا يكفي أن يصل الإنسان إلى الحقيقة من خلال تجربته الذّاتيّة، لأنّ من الممكن أن يكتشف شيئاً آخر في التّجربة الثقافيَّة المشتركة في ساحة الحوار، حيث تتمازج الأفكار وتتلاقح، ذلك أنَّ الحوار في فهمنا هو فنّ البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر، والآخر لا يكون إلا مختلفاً .

ولعلَّ من أهمِّ إشراقاته الفكريّة، نظريّته التي تقوم على أساس "أنَّ الخطّ المذهبيّ يمثّل وجهة نظر في فهم الإسلام في تجربته الثقافيّة"، وكان يرى أنَّ ذلك لا يمنع من أن تتبدَّل وجهة النّظر في الاتجاه الآخر، فذلك هو الَّذي يجعل الإنسان أكثر قدرةً على فهم حقيقة انتمائه، الَّذي يكون ناشئاً من واقعٍ وراثيّ، أو من عاطفةٍ خاصَّة، أو من تأثيرٍ اجتماعيٍّ تقليديّ، ما قد يؤثّر في التزامه الثقافيّ به، ويمكن أن يمتدَّ ذلك إلى الاختلافات الاجتهاديَّة في داخل المذهب الواحد.

وكان يرى كذلك، أنَّ "هذه الروح الموضوعيَّة، قد تتيح للإنسان الفرصة للاختيار الذّاتيّ في التزاماته الكلاميّة أو التاريخيَّة أو الفقهيَّة". واضح من هذا الكلام للسيِّد، أنّه استوحى ذلك من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، فإذا كان هذا النصّ القرآنيّ يعكس أدب الحوار النبويّ مع غير المؤمنين الرّافضين للنّبي (عليه السلام) ولرسالته ولدعوته، فحريّ أن يشكِّل أساساً لأدب الحوار مع أتباع النّبيّ والمؤمنين به وبرسالته، وكذلك مع أهل الكتاب من المؤمنين بالله وبوحدانيَّته .

كان العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله داعياً إلى الوحدة الإسلاميَّة في زمن بداية المرحلة الجديدة من مراحل التمزّق الإسلاميّ، ولذلك كان حريصاً على طمأنة الخائفين على انتماءاتهم المذهبيَّة أو على مواقعهم الاجتهاديَّة، مبيِّناً أنَّ الوحدة الإسلاميَّة لا تعني التخلّي عن المذهبيَّة، بل إنّها تعني أن يلتقي المسلمون على الخطوط العقيديَّة والشرعيَّة للإسلام، ومن ثمّ ليتحاوروا فيها على قاعدة: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول}[النّساء: 59].

كان يحاول فكَّ الارتباط بين الاختلافات المذهبيَّة والخلافات السياسيَّة، وكان يسعى إلى توظيف الوحدة الإيمانيَّة بين المسلمين جسراً للتَّقريب بينهم، وأساساً من أسس الوحدة الوطنيَّة مع المسيحيّين؛ شركائهم في الوطن.

ولأنَّ الحاجة إلى مثل هذا المسعى اليوم، أكثر إلحاحاً من أيِّ وقت، فإنّنا نفتقده ونستذكره وننبش في تراثه، لعلَّنا نجد فيه قبساً من نور المعرفة يهدينا إلى ما هو أقوم.

نعرف جيِّداً القاعدة القرآنيَّة الّتي تقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[القصص: 56]، أي من يريد أن يهتدي، ونعرف جيِّداً أيضاً أنَّه بالعقول الّتي هي في الرّؤوس، وليس بقطع الرّؤوس وما فيها، يمكن الاهتداء إلى الصِّراط المستقيم.. صراط الَّذين أنعم الله عليهم باتّباع سبيله، سبيل احترام كرامة الإنسان واحترام حقِّه في الاختلاف والاختيار، غير المغضوب عليهم، الَّذين خرجوا على الدِّين بإلحادهم وكفرهم، ولا الضّالّين، الّذين خرجوا من الدّين بتطرّفهم وغلوّهم.

نستذكر السيِّد محمد حسين فضل الله اليوم، لنؤكِّد أنَّ الدّين واحد والشّرائع مختلفة؛ أنَّ الإسلام واحد والمذاهب متعدِّدة؛ أنَّه لا اختلاف الشَّرائع ولا تعدّد المذاهب، يعطي أيّاً منها حقّاً مطلقاً في احتكار الحقيقة، فالله واحد، وإن تعدَّدت التّعابير الإيمانيَّة، والإسلام واحد، وإن تعدَّدت الاجتهادات المذهبيَّة، ولولا العقل، مصدر الاختلافات، ما كان كلّ هذا التعدّد، ولولا الله خالق كلّ شيء، ما كان العقل في الأساس.           

  الإثنين 10 آب 2015، المصدر: جريدة المستقبل اللّبنانيّة

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

في ذكرى العلامة الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله، نستذكر كبارنا ونحن نغرق في وحول صغائرنا، ونبحث عن فكرة اليد الممدودة لإخراجنا من جهالاتنا، في الوقت الَّذي تطبق علينا هذه الجهالات من كلِّ حدبٍ وصوب، وتخنق أنفاسنا.

نسينا أنَّ الكون بلا حدود، ونسينا أنَّ الله علَّم آدم الأسماء كلَّها، أي أنَّ الله أعطى الإنسان مفاتيح المعرفة كلّها، وأنّه دعاه ليتفكَّر في نفسه وفي الكون.. وأنَّ معنى ذلك، أنَّ على الإنسان أن يذهب إلى اللامحدود بعقله وفكره، بحثاً عن المعرفة، واستجلاءً للحقيقة، غير أنَّنا بدلاً من ذلك، استسهلنا عمليَّة اجترار ما تركه السّابقون، من دون أن نراعي حقائق العصر الَّذي نحن فيه، ومن دون أن نتوقَّف أمام ما يمليه علينا من متغيّرات، ومن دون أن نتصدَّى لما نواجهه من تحدّيات في ذاتنا وفي مجتمعاتنا وفي عالمنا الأوسع.

لقد ضيَّقنا الشَّريعة بما رحبت، واستسهلنا عمليَّة تفصيل المفاهيم ـ وحتى القيم ـ على قياس مصالحنا وأحقادنا، فخرجنا، بجهالةٍ منّا، من رحمة الله الواسعة، وهبطنا إلى الدّرك الأسفل من الجحود والنّكران والتعصّب، حيث الظّلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الواحد منّا يده تقطع، واذا رفع صوته يخنق، حتى الـ"لا" في التشهّد تمنع.

في حديثٍ قدسيّ، إنَّ الله "لا يقبل صلاة عبدٍ، ولا صومه، ولا حجَّه، ولا عمرته، ولا صدقته، ولا جهاده، ولا شيئاً ممّا يقول من أنواع البرّ، إذا لم يكن يعقل". ومن مآثر الإمام عليّ (رضي الله عنه وكرّم وجهه)، قوله: "ربّ مَن أعطيته العقل فماذا حرمته؟ ومن حرمته العقل فماذا أعطيته؟".

إنَّ جماعةً حُرمت من نعمة العقل، ورغم ذلك، تولي نفسها سلطة الحلّ والعقد، ليس غريباً أن تحلّل حراماً وأن تحرّم حلالاً، وليس غريباً أن تكفِّر مؤمناً، وأن ترسي قواعد فكرها على أباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.

في الأساس، إنَّ الحريَّة كالكرامة، هي عطاءٌ من الله للإنسان، وما أعطاه الله لا يحجبه إنسان، والمبدأ الَّذي شاءه الله وقدَّره لتنظيم الحياة الإنسانيَّة، هو مبدأ الحريَّة، مصحوباً بمبدأ المحاسبة، والمبدآن لا يقومان إلا على العقل، فلا حريَّة من دون مسؤوليَّة، ولا مسؤوليَّة من دون محاسبة، والعقل الّذي يباهي الله في خلقه، هو الضَّابط لممارسة الحريَّة، وهو الأساس لتحديد مسؤوليَّة الاختيار الحرّ، ومن ثمّ للمحاسبة على السّلوك الحرّ. وما كان الاختلاف بين النّاس إلا نتيجة لتعدّد خياراتهم، ولتعدّد الرّؤى والاجتهادات الّتي تقودهم إليها عقولهم؛ وما كان لهذا التعدّد أن يكون من دون العقل، الَّذي يتمتَّع بالقدرة على التَّمييز والإبداع، وعلى الاختيار الحرّ.

لم يقل القرآن الكريم: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتتوحَّدوا" في عقيدةٍ واحدة، أو تحت مظلَّة إيمانٍ واحد، وفي إطار اجتهادٍ فقهيٍّ واحد، ولكنّه قال: "لتعارفوا"، أي لتستخدموا العقل في إقامة علاقاتكم على قاعدة ما بينكم من اختلاف ومن تباين، سواء في العقيدة، أو في الاجتهاد حول تفاصيل العقيدة؛ فالمعرفة المتبادلة تقود إلى التفهّم المتبادل، فالتّفاهم المتبادل، فالاحترام المتبادل، وكلّها أمور تقوم على العقل. ويوم الحساب يحكم الله بين النّاس فيما كانوا فيه يختلفون، أي أنَّ الحساب على التّباين مؤجَّلٌ إلى اليوم الآخر، ومتروكٌ لله وحده، وبالتّالي، ليس من حقّ أيّ كان، أو أيّ جهةٍ كانت، البحث في ضمير الآخر، فالحكمة الإلهيَّة كما حدّدها القرآن الكريم تقول: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود: 118، 119].

وهذا يعني أنَّ مشيئة الله هي أن لا يكون النَّاس أمّةً واحدة، بل أمماً وشعوباً، ويعني أيضاً أنّه حتى في الأمّة الواحدة، سيظلّ النّاس مختلفين، ولذلك خلقهم، أي من أجل أن يكونوا أمماً وشعوباً مختلفة، ولكنّها مدعوّة إلى التّعارف.. بفعل العقل.

من هنا، يمكن فهم رسالة العلاّمة الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله(يرحمه الله) ودوره، فقد كان مجتهداً ومجدِّداً، على قاعدة الاحتكام إلى العقل، وليس الاستسلام إلى الموروث الفقهيّ، من دون أن يعني ذلك التخلّي عن هذا الموروث، أو إهماله، أو التَّقليل من أهميّته، فقد مدَّ جسراً حديثاً بين الفكر والاجتهاد، وجمع بين الفقه المتخصِّص والثّقافة العامَّة، واستطاع بذلك مقاربة الهدف الأسمى.

كان يعمل على تقريب المضمون الإسلاميِّ إلى الوجدان الإسلاميّ العام، وعلى ترتيب مفرداته، لتركيز القاعدة الفكريَّة الواحدة في عالم القرن الواحد والعشرين. كان هدفه أن لا يكون هناك عدّة إسلامات، بل إسلام واحد لا تختلف عناوينه في خطوط الفكر والواقع، إلا ببعض التّفاصيل الّتي لا تمسّ الخطَّ العام، وقد اعتمد في ذلك على إعادة قراءة النّصوص والاجتهادات بعقلٍ منفتح، مستلهماً من التراث الفقهيِّ الغنيِّ طرقاً ومسالك تقود إلى الهدف الأسمى الَّذي ينشده.

لقد كان يردِّد دائماً أنَّه لا يكفي أن يصل الإنسان إلى الحقيقة من خلال تجربته الذّاتيّة، لأنّ من الممكن أن يكتشف شيئاً آخر في التّجربة الثقافيَّة المشتركة في ساحة الحوار، حيث تتمازج الأفكار وتتلاقح، ذلك أنَّ الحوار في فهمنا هو فنّ البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر، والآخر لا يكون إلا مختلفاً .

ولعلَّ من أهمِّ إشراقاته الفكريّة، نظريّته التي تقوم على أساس "أنَّ الخطّ المذهبيّ يمثّل وجهة نظر في فهم الإسلام في تجربته الثقافيّة"، وكان يرى أنَّ ذلك لا يمنع من أن تتبدَّل وجهة النّظر في الاتجاه الآخر، فذلك هو الَّذي يجعل الإنسان أكثر قدرةً على فهم حقيقة انتمائه، الَّذي يكون ناشئاً من واقعٍ وراثيّ، أو من عاطفةٍ خاصَّة، أو من تأثيرٍ اجتماعيٍّ تقليديّ، ما قد يؤثّر في التزامه الثقافيّ به، ويمكن أن يمتدَّ ذلك إلى الاختلافات الاجتهاديَّة في داخل المذهب الواحد.

وكان يرى كذلك، أنَّ "هذه الروح الموضوعيَّة، قد تتيح للإنسان الفرصة للاختيار الذّاتيّ في التزاماته الكلاميّة أو التاريخيَّة أو الفقهيَّة". واضح من هذا الكلام للسيِّد، أنّه استوحى ذلك من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، فإذا كان هذا النصّ القرآنيّ يعكس أدب الحوار النبويّ مع غير المؤمنين الرّافضين للنّبي (عليه السلام) ولرسالته ولدعوته، فحريّ أن يشكِّل أساساً لأدب الحوار مع أتباع النّبيّ والمؤمنين به وبرسالته، وكذلك مع أهل الكتاب من المؤمنين بالله وبوحدانيَّته .

كان العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله داعياً إلى الوحدة الإسلاميَّة في زمن بداية المرحلة الجديدة من مراحل التمزّق الإسلاميّ، ولذلك كان حريصاً على طمأنة الخائفين على انتماءاتهم المذهبيَّة أو على مواقعهم الاجتهاديَّة، مبيِّناً أنَّ الوحدة الإسلاميَّة لا تعني التخلّي عن المذهبيَّة، بل إنّها تعني أن يلتقي المسلمون على الخطوط العقيديَّة والشرعيَّة للإسلام، ومن ثمّ ليتحاوروا فيها على قاعدة: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول}[النّساء: 59].

كان يحاول فكَّ الارتباط بين الاختلافات المذهبيَّة والخلافات السياسيَّة، وكان يسعى إلى توظيف الوحدة الإيمانيَّة بين المسلمين جسراً للتَّقريب بينهم، وأساساً من أسس الوحدة الوطنيَّة مع المسيحيّين؛ شركائهم في الوطن.

ولأنَّ الحاجة إلى مثل هذا المسعى اليوم، أكثر إلحاحاً من أيِّ وقت، فإنّنا نفتقده ونستذكره وننبش في تراثه، لعلَّنا نجد فيه قبساً من نور المعرفة يهدينا إلى ما هو أقوم.

نعرف جيِّداً القاعدة القرآنيَّة الّتي تقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[القصص: 56]، أي من يريد أن يهتدي، ونعرف جيِّداً أيضاً أنَّه بالعقول الّتي هي في الرّؤوس، وليس بقطع الرّؤوس وما فيها، يمكن الاهتداء إلى الصِّراط المستقيم.. صراط الَّذين أنعم الله عليهم باتّباع سبيله، سبيل احترام كرامة الإنسان واحترام حقِّه في الاختلاف والاختيار، غير المغضوب عليهم، الَّذين خرجوا على الدِّين بإلحادهم وكفرهم، ولا الضّالّين، الّذين خرجوا من الدّين بتطرّفهم وغلوّهم.

نستذكر السيِّد محمد حسين فضل الله اليوم، لنؤكِّد أنَّ الدّين واحد والشّرائع مختلفة؛ أنَّ الإسلام واحد والمذاهب متعدِّدة؛ أنَّه لا اختلاف الشَّرائع ولا تعدّد المذاهب، يعطي أيّاً منها حقّاً مطلقاً في احتكار الحقيقة، فالله واحد، وإن تعدَّدت التّعابير الإيمانيَّة، والإسلام واحد، وإن تعدَّدت الاجتهادات المذهبيَّة، ولولا العقل، مصدر الاختلافات، ما كان كلّ هذا التعدّد، ولولا الله خالق كلّ شيء، ما كان العقل في الأساس.           

  الإثنين 10 آب 2015، المصدر: جريدة المستقبل اللّبنانيّة

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية