مختارات
04/09/2015

ماذا بقي لنا من السيّد فضل الله(رض)؟

ماذا بقي لنا من السيّد فضل الله(رض)؟

بعد خمس سنوات على الرَّحيل

 ماذا بقي لنا من السيِّد فضل الله(رض)؟!

قبل خمس سنواتٍ من الآن، كنَّا نظنّ في لحظة الرَّحيل أنَّ القلب في جسد السيِّد(رض) هو المتعَب، كنّا نخاف دائماً على هذا القلب من أن يتوقّف في أيّ لحظةٍ من لحظات جهاده ومعاناته، لكنَّ القلب كان آخر الأعضاء رحيلاً، حتّى قال لنا الطّبيب آنذاك: "لقد تبيَّن لنا أنَّ قلب السيِّد(رض) أقوى ما فيه"، ولكن ما لم نكن نتوقَّعه، هو أن يأتي الموت من الكبد؛ موضع السّموم الّتي ينفثها الجسد. ونحن في هذا الشَّهر المبارك، في ذكرى ولادة الإمام الحسن بن عليّ(ع)، وهو جدّ السيّد(رض)، الّذي كان في حياته يتجرّع السّموم والغصص ويتجرّع الآلام، وكان يستوعب جهل الجاهلين عليه، حتّى قال له أصحابه، ومنهم الخلّص: "السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين"، لأنّهم كانوا ينظرون إليه من زواياهم الضّيّقة، وكان الإمام الحسن(ع) يرصد الإسلام في مدى الزّمن كلّه، في اتّجاه أن يحفظه وأن يسلِّمه إلى الأجيال الآتية من بعده نقيّاً صفيّاً، كما بدأه رسول الله(ص).

الواحد من هؤلاء الكبار عندما يعيش هذا المستوى من جهل الجاهلين عليه، ومن ظلم الأقربين له، فإنَّه يعيش مراراتٍ وحسراتٍ وآلاماً وغصصاً قد لا يتحمَّلها الجسد، لأنّها ليست مرارات شخصيَّة. ومن هنا، فإنَّ الكبد الذي كان يتجرّع تلك السّموم في جسد السيّد(رض)، إنّما كان يتجرّع السّموم عن الأمَّة، لأنّه أراد أن يطهِّر فكر الأمّة، حتّى يبقى فكرها نقيّاً طاهراً، وأن يطهِّر روح الأمّة، حتّى تبقى روح الأمّة ساميةً محلّقةً في آفاق الله، وحتّى يطهّر نظرات الأمّة، كي لا تبقى تحدّق في صغائر الأمور وفي الهامشيّات، كان يريدها دائماً أن تحدِّق في البعيد، وأن تخترق نظراتها الآفاق اللامتناهية لتنظر إلى الماوراء، إلى اللاّزمان، إلى اللاّمكان، وإلى اللاّحدود، لترتبط بالله، ولتنهل من معين الله سبحانه وتعالى.

هذا المستوى من الجهاد لا بدَّ من أن يُتعب الجسد، ولذلك، ترحل أجساد القادة في هذه الأمَّة دون أن تتعب أرواحهم لحظةً أو مقدار شعرة في مسيرة جهادهم أو رسالتهم، ومن هنا، كان الرّساليّون دائماً أكبر من عصرهم الّذي يعيشون فيه. والقادة أيضاً هم الذين يقصر زمانهم عن أن يدركهم بكلّهم، لأنّ الإنسان المحدود ينظر دائماً من زاويته المحدودة. وبالتّالي، يرى من الكبير ومن العظيم المقدار والزّاوية التي يمكن أن يستوعبها نظرُه.

 من هنا، وجدنا أنَّ كثيرين رأوا السيّد(رض) من أبعاد مختلفة، كلٌّ نظر إلى السيّد من زاويته، بعضنا رأى السيِّد مجاهداً في ساحات المعركة في مواجهة الاحتلال وفي مقارعة الظّالمين، وبعضنا رأى السيِّد مفكّراً إسلاميّاً له آراءٌ طليعيّةٌ في بعض القضايا، وبعضنا رأى السيّد(رض) في فتاوى جديدة وآراءٍ عقائديّةٍ ناقدة، فاقتصر في السيّد(رض) على تلك الفتاوى وتلك الآراء، وبعضنا رأى سماحته الإنسان المحبّ الّذي ينبذ العنف، حتّى يكاد أن يعطي عدوّه إضمامة وردٍ وهو يصوّب إليه البندقيّة، والبعض لم يرَ في السيّد(رض) إلا نصيراً للمرأة أو للإنسان، من خلال فكر الإسلام. البعض رأى السيّد(رض) إنساناً يهوى الشّهرة من حيث إنّه يريد أن يخالف لِيُعرَف، والبعض رأى السيّد ضالاًّ ومضِلاًّ، والبعض رأى السيّد إرهابيّاً حتّى غادر السيّد(رض) الدّنيا وهو على لائحة إرهاب المستكبرين. والبعض أيضاً من الأعداء، رأى في السيّد(رض) أخطر مفكّرٍ إسلاميٍّ عليه، وهو كيان العدوّ.

وواحدة من مشاكلنا التي نعيشها ونعيش الغربة من خلالها في مجتمعاتنا، هي عندما يعرف أعداؤنا عظمةَ ما عندنا وحجم رموزنا وقادتنا، ونحن كنّا ـ وربّما لا نزال ـ قاصرين عن أن ندرك السيّد(رض)، لأنّه كان دائماً أوسع من عيوننا وزوايانا واهتماماتنا، وقد كان يتحرّك في مدًى أكبرَ من أزمنتنا التي نستغرق في الكثير من تفاصيلها.

هكذا هم الكبار! هكذا هم العظماء! يحتاجون دائماً إلى مسافةٍ تبتعد بها الأمّة عنهم لتعرف قدرهم، ولذلك، يجهل عليهم الجاهلون في أزمنتهم، ولا يفهمهم الكثيرون في حاضرهم، وقد تُقاس تلك المسافة بالسَّنوات، وربّما بالعقود، حتّى يبتعد الواحد منّا عن أولئك العظماء، ليدرك عندئذٍ حجمهم وموقعهم وعظمتهم.

 كلٌّ كان ينظر إلى السيِّد(رض) من زاويةٍ يعيشها في ذاته، وكان يُسقط ذاته عليه، لكنَّ السيِّد هو السيّد بكلّه؛ لا يدخل السيّد(رض) في زاوية أحد، ولا يتحرّك في هامشيّات أحد، ولا ينحبس في قمقم أحد، ولا يعيش على عصبيّة أحد. السيِّد(رض) عندما يُراد أن يُنظَر إليه، لا بدَّ من أن يُنظَر إليه بكلّه، وإذا أردنا أن نسأل أنفسنا بعد سنين خمس: ماذا بقي لنا من السيِّد فضل الله؟ فلا بدَّ لنا من أن نعرف قبل ذلك، "ماذا كان السيِّد فضل الله؟"، حتّى نعرف "ماذا بقي لنا من السيّد فضل الله!".

السّؤال ربّما قد يُغري الكثيرين بأفكارٍ وخيالاتٍ متعدِّدة، أيضاً كلٌّ من زاويته، لكن ما نريد أن نتوقَّف عنده في الحقيقة، هو محاولة أن نطلّ على ما صنعه هذا الإنسان في هذا الزّمن، وبالتّالي، أن نحدّد ما الذي بقي لنا، أو في الحقيقة، أن نحدِّد ما الّذي بقي علينا تجاه هذا الإنسان، وهل صنعنا شيئاً بعد أن مرّت سنواتٌ خمس؟ هل قصّرنا في زمانه ـ ولا شكّ في أنّنا قصّرنا ـ ؟ وهل ما زلنا نقصّر بعده بعد أن ابتعد به الزَّمن؟ وبدأنا نسمع من الأقربين ومن الأبعدين مدحاً من هنا، وكلاماً ربّما لم نكن نسمعه في زمانه عن السيّد(رض)؛ عن الفكر المتألّق، والإنسان المنفتح والمحبّ والحواريّ، والإنسان القويّ والوحدويّ والطّليعيّ، الذي يُطلق الإسلام في مدى الحضارة في مدى العالم، أصبحنا نسمع عن كثيرٍ من هذه المفردات. ولكن هل نعي فعلاً حجم ما كان السيّد عندنا وما هو عندنا الآن، أو أنّنا لا نزال فعلاً قاصرين ومقصّرين؟

بعض الَّذين اختصروا السيِّد(رض) بما اختصروه به، هم محقّون، والبعض الآخر سيجد أنّه محقٌّ من منظاره، لأنّه لا يعرف من الهدى إلا طرفاً، وبالتّالي، يرى في الكثير من أوجه الهدى أنّها ضلالات، وأنّها ربّما خروجٌ من دائرة الدّين أو من دائرة الالتزام.

إذا أردنا أن نفهم هذا السيّد(رض)، نحتاج إلى معرفة ما الّذي كان يحرّكه، لأنّ الأبعاد التي كان يتحرّك من خلالها هذا الإنسان الرّساليّ، كانت تجلّياتٍ لِما هو في داخل شخصيّته. حتّى نفهم هذا الإنسان، لا بدَّ من أن نفهم العناصر التي كانت تشكّل شخصيّته، والعناصر التي كانت تتحرّك في داخل عقله عندما يفكّر، وفي داخل قلبه عندما يحنو، وفي داخل روحه عندما تسمو، وفي داخل إرادته عندما تواجه الجبال ولا تزول، وفي داخل حركته عندما كانت تنطلق دائماً نحو الآفاق البعيدة... أن نفهم جوهر هذا الإنسان، لنفهم عندئذٍ ما الذي يبقى في مدى الزّمن، وما الذي يبقى علينا تجاه هذا الإنسان في مدى السّنين الآتية كلّها!

الفقيه المجدّد

نعم، كان السيّد(رض) فقيهاً مجدّداً، ولكنّ التّجديد ليس فتاوى، وليس رأياً فقهيّاً من هنا ورأياً فقهيّاً من هناك يراه النّاس جديداً، التّجديد هو منهجٌ في التّفكير، هو قواعد، هو عقلٌ يتحرّك بطريقةٍ مختلفةٍ عن كلّ ما هو سائد. العقل العاديّ التّقليديّ يفكّر بطريقةٍ ويستنتج، ولكنّ عقل السيّد(رض) بدأ يفكّر بطريقةٍ أخرى، فكّر في اللامفَكَّر فيه، وانطلق ليكتشف في الإسلام قواعد جديدة في التّفكير، وأراد أن يحرّك كثيراً من القواعد المعطَّلة في نمط التّفكير السّائد، لِيقول إنَّ هناك أبواباً من المعرفة وقواعد من العلم لا تزال بِكراً. أيّها الإنسان! إذا أردت أن تكون رائداً تجديديّاً، إذا أردت أن تكون فقيهاً ينطلق في الفقه في عمقه لا في سطحه، فإنّ عليك أن تطرق هذه الأبواب، وأن تنطلق من هذه القواعد وهذه الأسس.

 اليوم، نجد أنّ مدرسة السيّد(رض) هي السّائدة، وعناوينها هي البضاعة الرّائجة؛ يجد فيها الكثيرون أنفسهم مضطرّين لكي يلامسوا التجديد، ولو بطرف، حتى يكون لهم موقع في وجدان الناس. إذاً، السيّد فضل الله(رض) حاضر فقيهاً ومجدّداً، لأنّه يفرض نفسه مدرسةً ـ وليس شخصاً، وليس فتاوى ـ على السّاحة الإسلاميّة كلّها.

نعم، كان السيّد(رض) فقيهاً مجدّداً، لأنّه جدّد في منهج التّفكير الّذي ينتج جديداً حيثما حلّ، ولا ينطلق ـ كالكثيرين ـ ضمن الظّروف هنا وهناك، بحيث يكون مع الجديد جديداً، حتّى إذا مال الناس عن الجديد، رجع إلى القديم كمدرسةٍ تفرض نفسها على الإنسان في ظروفٍ أخرى.

السيّد مفكّراً

نعم، كان السيّد(رض) مفكّراً، والكثيرون ربّما التقى معهم السيّد(رض) في أفكاره عن الإنسان، عن المرأة، عن الحرّيّة، عن العلم، وعن كثيرٍ من الأمور التي تشغل بال الإنسان المعاصر؛ لكنّ هناك فرقاً بين أن تجدّد في الإسلام من خارجه، وأن تجدّد في الإسلام من داخله. هناك فرقٌ بين أن تسنتطق آيات الكتاب لتستخرج من مكنونها بقراءتك الجديدة، ونظرك الجديد، وخبرتك الجديدة، وبعمقك الّذي لامست فيه أبعاداً لم يلامسها فيه السّابقون، هناك فرقٌ بين أن تستنطق القرآن من خلال كلّ ذلك، وأن تحاول أن تقلّد الآخرين في ما وصلوا إليه، لتطلق فكرةً من هنا تحاول أن تخضع لها نصّاً أو تنتقيَ لها حديثاً أو روايةً أو بعض آيةٍ أو ما إلى ذلك.

نزل السيّد فضل الله(رض) إلى عمق القرآن الكريم فقرأه بكلّه؛ قرأه آيةً آية وكلمةً كلمة، استخرج من وراء الكلمات ومن وراء الآيات، وقارن كلّه بكلّه، حتّى استخرج منه فكر الإسلام في المرأة وفي قضايا الإنسان والحياة، فكان فكر السيّد(رض) في المرأة فكراً أصيلاً، ولذلك بقي ثابتاً وراسخاً وأصيلاً، وأصبح ثقافةً لدى مريديه.

انظروا إلى كلّ الذين تتلمذوا تحت منبره أو قرأوا كتبه، كيف أصبح الحوار عندهم ثقافة حياة، وجمعوا بين الالتزام في عمق أصالته والانفتاح في سعة آفاقه، وكيف واكبوا العصر من موقع هويّتهم الإسلاميّة، لا من خلال سقوطهم أمام الآخرين، وكيف أصبحوا ينظرون حقيقةً إلى المرأة، لأنّهم تثقَّفوا بفكر الإسلام عن المرأة، ولم يحاولوا أن يماشوا حركاتٍ نَسَوِيّةً من هنا وهناك لينطلقوا عبر الأصوات العالية، ليماشوا هذه في تطلّعاتها وهذا المطلب في أحقّيته، من دون قاعدة. نراهم انطلقوا من الجذر الإسلاميّ، فأصبحت نظرتهم إلى المرأة من عمق الإسلام، فكما ينظرون إلى الإنسان، وإلى عقيدتهم في مفرداتها، وإلى شريعتهم في عباداتها، أصبحوا ينظرون إلى المرأة في فكر الإسلام في أصالته، فتحوَّل السيّد(رض) مفكّراً، تحوَّل إلى مدرسةٍ ثقافيّةٍ تستمرّ في كلّ الذين ينهلون من علمه ويلتزمون خطّه الفكريّ والمعرفيّ.

السيّد إسلاميّاً وحدويّاً

نعم، كان السيّد(رض) إسلاميّاً، وعندما يبدأ الإنسان مسلماً، فلا يمكن أن ينتهي مذهبيّاً، وعندما ينطلق الإنسان ليتلمّس الإسلام في آيات القرآن، وفي حركة الرّسول، وفي خطّ الأئمّة من أهل البيت(ع)، لا يمكن لهذا الإنسان أن يتمذهب، ولا يمكن لهذا الإنسان أن يحجّم الإسلام بحجم العصبيّة، ولا يمكن لهذا الإنسان أن يختار الإسلام حيث الظّروف مؤاتية والهواء عليل، وعندما تبدأ المذهبيَّات والطّائفيّات والعصبيّات والحزبيّات والزّواريب الضيّقة والانفعاليّات تزحف إلى مجتمعاتنا، ينقلب على عقبيه ليتحوَّل إلى إنسان المذهب لا إنسان الإسلام.

بقي السيّد(رض) إسلاميّاً في أشدّ الحالات مذهبيّةً، وبقي ينادي بالوحدة الإسلاميّة في أشدّ الحالات قتلاً، وسفكاً للدّماء، وتدميراً، وتفجيراً للمساجد، وهتكاً للأعراض، ومصادرةً للمستقبل، من خلال الفتنة المذهبيَّة التي أرادت أن تأخذ واقعها من خلال واقع كلّ المسلمين.

بقي السيّد(رض) ينادي حتّى الرّمق الأخير، حتّى وهو على فراش الموت:" أنا كنت وحدويّاً منذ خمسين عاماً ولا أزال"، هذه كلمةٌ قالها وهو على فراش الموت. هذا الإنسان الّذي كان إسلاميّاً منذ أن بدأ ينفتح وعيه على هذه الدنيا حتّى انتقل عنها، ولذلك ثبتت رسالته في مدى الزّمن، وانطلقت على أجنحة الملائكة، ولم تتحرّك أفكاراً طائرةً في الهواء، لتجد من يتَّخذها مصلحةً سياسيّةً لينادي بالوحدة في ظرفٍ سياسيٍّ ملائم، ولينقلب على الوحدة في زمنٍ آخر ليس للوحدة فيه مجال ولا صوت، وإنما للمذهبيّة وللعصبيّة.

 كان السيّد(رض) يبذر في زمن الزّرع، ولذلك حصد ثقافة حوار، وثقافة محبّة، وثقافة تعاون، وثقافة انفتاحٍ على الآخر، بل إنَّ السيّد(رض) كان يقول: "إنّ الإنسان الّذي يريد أن ينتج فكره، لا بدَّ من أن ينتجه والآخر مستَبطَنٌ في داخل أفكاره، الإنسان الّذي يريد أن يختبر الحقيقة في إدراكه، لا يمكن أن يختبر الحقيقة إلا من خلال أن يختبرها مع آخر ينظر إلى الحقيقة من زاويته".

 كان السيّد(رض) مفكّراً إسلاميّاً فوق المذهبيَّة، ولكن هل استفادت منه المذهبيَّات؟ أو أنَّ بعضنا جهل عليه باسم المحافظة على المذهب، ولذلك، لم يتلمَّس عمق العظمة في المذهب، من حيث إنّه يمثِّل عمق الأصالة في الإسلام، وسجَّل الآخرون نقاطاً عليه أو من خلاله، كما كلّ التَّاريخ في كلِّ مساراته، كان بعضهم يسجِّل نقاطاً على البعض الآخر. البعض كان يقول إنَّ السيِّد(رض) خارج المذهب لأنّه يريد أن يجامل الآخرين من المذاهب الأخرى، والبعض الآخر من المذاهب الأخرى كان يقول: انظروا إلى السيِّد فضل الله كيف يناقش أفكار مذهبه الّذي هو على ضلال!

بقينا متحزّبين ولم يستفد السّنّة ولا الشّيعة من هذا الإنسان الّذي كان يتحرّك بمنهجيّةٍ إسلاميّةٍ في التّفكير، وليقول للحالات المذهبيّة كلّها: إذا أردتم أن تخرجوا من مذهبيّاتكم، فلا يمكن أن تخرجوا منها إلا بأن تفكّروا كإسلاميّين، أن تعودوا إلى أصالة الكتاب، وأن تعودوا إلى ما ثبت صحيحاً من السّنّة، لتقرأوا ذلك كلّه على وقع تجاربكم وعلى وقع خبراتكم، من خلال كلِّ ما عايشتموه في حياتكم من الفتن ومن الظّلمات وزمن الانتصارات والهزائم وما إلى ذلك. عليكم أن تنطلقوا إسلاميّين إذا أردتم أن تنطلقوا في أصالة الإسلام كما أراد الله سبحانه وتعالى، أمَّا أن تسجّلوا نقطةً من هنا على هذا بذاك، في رأيٍ يناقش فيه رأياً، فهذا ليس مجدياً، وإنما يعيد إنتاج العصبيّات الّتي تصدّ عن الحقّ.

كان السيّد(رض) يتحرّك بمنهجيّةٍ علميّةٍ، وينطلق ليقول: أيّها المسلمون، سواء كنتم أتباعاً لهذا المذهب أو لذاك، إنّ هناك خللاً في المنهج في التّفكير المذهبيّ، وقد خبرنا كلّ مشاكله طوال أربعة عشر قرناً من الزّمن. أيّها المذهبيّون، أيّها المتمذهبون، المخاطر آتيةٌ من أمامكم، والتحدّيات الآتية لم يسبق لها مثيلٌ في كلّ تاريخنا الذي عايشناه، غيّروا منهجيّة تفكيركم لتتغيّر نتائج سلوكيّاتكم، ولكنّ الكثيرين لم يدركوا حجم العظمة وحجم الرّيادة والطّليعيَّة في هذا الطّرح الرّساليّ، ولذا، بقوا قاصرين عن أن يدركوا كنهه وجوهره، ولذلك، نجني اليوم الكثير ممّا كان يحذِّرنا منه السيّد فضل الله(رض).

السيِّد مرجعاً

نعم، كان السيّد(رض) مرجعاً يُفتي النّاس ويقلّده النّاس، ولكنّ المرجعيّة لم تكن له موقعاً للزّهو ولا للخيلاء ولا للنّظر للنّاس في تعدادٍ يعدّ المقلِّدين والأتباع والهاتفين وما إلى ذلك، كان السيّد(رض) يؤمن بأنَّ المرجعيّة لا بدَّ من أن تخدم الدّعوة للإسلام، كان يؤمن بأنَّ المرجعيَّة هدفها الأسمى هو: "لأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك ممَّا طلعت عليه الشَّمس"، كان يؤمن أنَّ المرجعيَّة هي الّتي ينبغي أن تصبر نفسها، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف: 28] كان يؤمن بأنَّ المرجعيّة هي التي تدير مقدّرات النّاس من أجل خدمة النَّاس، كان يؤمن بأنّ المرجعيّة هي التي تمثّل عقل النّاس الذي يقودهم من الخلف، فيكون أوَّل الواصلين إلى الميدان وآخر المغادرين من الميدان، كان يؤمن بأنَّ المرجعيَّة هي التي ينبغي أن تنطلق بالإسلام عالميّاً، لِتوصل صوت الإسلام إلى العالَم في كلِّ تحدّيات الإسلام التي يواجهه بها الآخرون ممّن يكيدون له في فكره وعقيدته وشريعته وحركته في كلّ مسارات الحياة.

 كان يؤمن بأنَّ المرجعيَّة لا بدَّ من أن تتحرّك من خلال نموذج رسول الله(ص)، الذي كان يصلّي جماعةً بالنّاس، ويدعو مع النّاس لله سبحانه وتعالى، ويبتهل بين يديه، وينطلق في خطِّ المعركة مع النّاس والمجاهدين، ويحرّض المؤمنين على القتال، وينبّه هذا إلى مسألةٍ شرعيّةٍ هنا، وإلى قضيّةٍ إيمانيّةٍ هناك، وإلى فكرةٍ عقيديّةٍ هنالك، كان ينطلق بالمرجعيّة بهذا النَّموذج، ولذلك، أتعب السيّدُ المرجعُ مَنْ بعده، وأصبح نموذجه ضاغطاً على كلِّ ذلك الواقع. وإذا أردنا أن نفتِّش عن عمق المشكلة في نظرة النّاس إلى المرجعيَّة والتقليد، فعلينا أن ندرس هذا النَّموذج لِنعرف ماذا يريد النّاس من المرجعيّة، ولنحاول أن ننطلق في هذا الاتّجاه لنسدّ حاجات النّاس؛ لأنَّ "السّاحة لا تحتمل الفراغ"، فإذا لم يُملأ بالمناسب، فإنّ كثيراً من النَّماذج غير المناسبة قد تملأ فراغ النَّاس، ولذلك، نجد أنَّ النّاس تعيش قلق البحث عن النّموذج، وقد تقع فريسة أطماع كثيرين ممّن يعرفون من أين تؤكل الكتف، الّذين يرفعون لواء التَّجديد هنا وهناك، ولكنَّهم لا يحملون التّجديد في أعماقهم، ولذلك يمكن أن يجد النّاس فيهم شيئاً في الشَّكل يُحاكي ما يرغبونه في حركة المرجعيَّة والمرجع، لكنّ النّاس قد لا تجد في نهاية المطاف الكثير الكثير ممّا تسعى إليه.

السيّد مظلوماً

نعم، كان السيِّد(رض) مظلوماً وما زال. لم يكن السيِّد(رض) مظلوماً لشخصه أو لذاته، وإنّما كان مظلوماً لرسالته، لأنَّ السيّد(رض) كان رسالةً بكلّه، ظُلِم من الكثيرين الّذين لم يكونوا يعرفون معنى أن تكون رساليّاً، معنى أن لا تكون لديك حسابات ذاتيّة، وأن لا تسعى وراء المنافع والمصالح الشخصيّة وما إلى ذلك.. ظُلم السيِّد الرساليّ.. ولذا، إذا أخطأنا الطّريق، وحوّلنا ظُلامة السيِّد(رض) إلى ظلامة الشّخص، فنحن نظلمه مجدَّداً؛ لأنّنا نحوّل السيّد(رض) إلى حالةٍ عصبيَّة، ونحوّل السيّد إلى حالة ضدّية تواجه الآخرين بحسب نوازعهم الذاتية المريضة ربما والحاقدة.

السيّد(رض) لا يمكن أن يُنظَر إليه على أنّه شخصٌ ظُلِم، فيحاول الإنسان منّا أن يوزّع ولاءه للسيِّد عبر التّصويب على الآخرين.

السيّد(رض) كان مظلوماً رساليّاً، لأنّ حجمه كان أكبر من زمنه.. ولذلك، ربما يجد الإنسان العُذرَ لكثيرين، وليس لجميع الّذين ظلموه.. وربّما كان السيِّد(رض) أوّلَ من يدرك ذلك، ولذلك، كان دائماً يتجاوز عن الّذين يجهلون عليه، لأنّهم كانوا لا يدرون ما يفعلون، كما كان جدّه رسول الله(ص) يقول: "اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"، وإنما سيعلمون في المستقبل.

عندما يزول الغبار ينقشع السَّحاب

إنّ الكثيرين كانوا يظلمون الرّسالة في السيّد(رض)، وهذا الظّلم في الرّسالة هو أفحش الظّلم، وإذا لم نعِ هذه الوجهة بدقّتها، فإنّنا قد نظلم الكثير من الرّساليّين من جديد.. الظلم الّذي عاناه السيّد(رض) بقي منه شيء في هذا العصر، فقد كان يشعر بأنَّ أقسى ظلم يقع عليه هو أن يُمنَع الناس من أن يقرأوا كتبه، وأن يُحرَّم على الناس أن تلمس كتبه... ليس لزهوٍ ذاتيّ كان يعيشه، بل لأنّه كان يدرك أنَّ هذا الفكر هو القادر على أن يشكّل جسر العبور للمرحلة التي نعيش فيها الآن، وقد كان يستشرفها بعين الله... كان يريد من النَّاس أن تقرأه لتعرف كيف تحرّك فكر الإسلام في مواقع التَّطبيق بدقّة وبوعي.. هذا الظّلم الّذي لحق بالسيّد(رض) كان ظلم الرّسالة.. بقي شيء من ذلك في عصرنا الّذي نعيش فيه مع كلّ الأسف، وهي ظلامة الأقربين قبل الأبعدين.. هذه الظّلامة تشير إلى أنَّ الأمّة لا تزال في حالات متدنّية وبعيدة كلّ البعد عن الارتقاء إلى المعنى الحضاريّ لوجودها وموقع القيادات من مسيرتها الحضاريّة...

إنَّ ارتقاء الإنسان في هذه الحياة في ميزان الحضارة، لا يكون برفع لواءات وشعارات التَّجديد والحضارة والإنسانيَّة والحوار وما إلى ذلك، في الوقت الّذي يُحرج من أن يذكر رموز التّجديد ورموز الحوار ورموز الانفتاح.. ارتقاء الأمَّة يُقاس عندما لا تجهّل القياديّين، وعندما لا تتجاوز ذكرى الرياديّين الّذين يفتحون لها الآفاق.. لا لأنّنا أمَّة الشّخص، ولا لأنّنا نريد أن نحوّل الرّسالة إلى خطِّ البطل، ولكن لأنَّ الحياة والرسالة والتقدّم والحضارة والأفكار، لا يمكن أن تجد لها مجالاً من دون رموزها.. رموزها البشريّون هم الّذين يعطون الرسالة دفعاً.. ولذلك، أنزل الله سبحانه الكتب، وأرسل مع الكتب رُسُلاً، وقال إنَّ هؤلاء الرسل هم فلان وفلان وفلان... لم يُجهّل الرساليّين، ولم يُجهّل القادة... ولذلك، يبقى السيِّد(رض) مظلوماً ما دام الكثيرون يشعرون بالحرج من ذكر اسمه عندما يُذكر للتّجديد موقفٌ وقضية.. ويبقى السيّد(رض) مظلوماً عندما يبقى الكثيرون يسكتون عن أن يناقشوا أفكاره بعلم، وأن يناقشوا نظريّاته بمعرفة وبوعي، وربما أن يناقشوا أفكاره ليبنوا على ما يخالفها، لا مشكلة في ذلك، هذا كان يُفرح قلب السيِّد(رض).

يبقى السيّد مظلوماً في ذلك، لا لمسألةٍ شخصيَّةٍ في هوى الذِّكر الذّاتي والشّخصيّ، وإنّما لأنَّ هذا هو الطّريق الّذي يُفسح في المجال أمام ضرب مسيرة التَّجديد برمّـتها.. لو نظرنا إلى واقعنا الّذي نعيش فيه، فإنّنا نرى، بكلّ أسف، أنّ الذي كان يتحرّج من ذكر السيّد(رض) كمجدّد، لا ينبغي أن يستغرب أن يسمع كثيرين يتحدَّثون عن كثير من المجدّدين الذين لم يكن عليهم خلاف في الأمَّة، أصبحوا يتحدّثون عن السيّد الشَّهيد محمد باقر الصّدر(رض)  بأنَّ فكره التقاطيّ.. هؤلاء الّذين كانوا ينزلون البيانات في سبّ السيّد وشتمه ولعنه وتفسيقه وتضليله.. هؤلاء لم يكتفوا بالتّصويب على السيّد فضل الله كرمزٍ من رموز التجديد، وإنما بدأوا يدكّون مسيرة التّجديد كلّها، من خلال النيل من كلِّ رموزها.

الذي كان يمنع أفكار السيّد(رض) من أن تأخذ مجالها في النّقد العلميّ والحوار الموضوعيّ في الدّوائر الدينيّة والحوزات العلميّة، أصبح يجد أمامه كيف تُمنَع كتب الشّهيد الصّدر من أن تُدرَّس في قلب الحوزة، وكيف يمكن لكتب الشّهيد مطهّري أن تُمنع من أن تُقرأ وأن تُناقش وما إلى ذلك.. لماذا؟ لأنَّ السيّد(رض) كان الرمز الذي اتّكأ على كلّ مسيرة التّجديد السابقة عليه، وهَضَمَها وأعاد إنتاجها وأطلقها في مديات أوسع، حتى أصبح هذا الاسم "فضل الله" رمز التّجديد من حيث هو عنوان لكلّ المسيرة الّتي جمعت رموز التّجديد.. عندما تذكر فضلَ الله تذكر الصّدرَ، وعندما تذكر الصّدرَ تذكر مطهّري، وعندما تذكر مطهّري تذكر كاشفَ الغطاء، وعندما تذكر كلَّ هؤلاء، تذكر كلَّ الأعلام الّذين انطلقوا في خطّ التّاريخ، وربما طوى التّاريخ كثيراً من سيرهم، لأنه يريد أن يبقى متخلّفاً وتقليديّاً، ويبقى على ما وجد عليه آباءه الأوَّلين، على طريقة أولئك الّذين {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}[الزّخرف: 22].

السَّاحة لا تحتمل الفراغ.. كان السيِّد(رض) في آخر حياته يقول إنَّ مسيرة الوعي مستمرّة، وسيبقى الواعون في هذا الخطِّ ينالهم الكثيرُ من الألم، وينالهم الكثير من الجهل، وينالهم الكثير من النّبال والحراب.. لكن على مسيرة الوعي أن تصمد.. ولذلك نقول إنَّ أوّل خطوةٍ في مسيرة الوعي، أن ننطلق لنقدِّر كلَّ تاريخنا بكلِّ ما فيه، وأن نذكر رموزنا بكلِّ خير، لأنَّ تجهيل الفاعل دوماً ـ مع كلّ أسف ـ من كلّ رموز التجديد والفكر الطليعيّ والفكر الإنسانيّ والحضاريّ والحواريّ والانفتاحيّ وما إلى ذلك.. عندما نجهّل هؤلاء، فإنَّ كلّ واحد منّا حينها عليه أن يبدأ من الصّفر.. والّذي يبدأ من الصّفر لن يسعفه الزّمن... وعندما نجهِّل هؤلاء، فإنّنا نسمح لمسيرة التّجديد بأن تتشظَّى بأنصارها، من خلال شعورٍ بالحرمان لدى بعضهم، والعصبيّة للأشخاص لدى بعضٍ آخر، وكلّ ذلك يسمح لأعداء الوعي والتّجديد والوحدة.. بأن يطعنوا كلّ المجدّدين، وبأن يقتلوهم ماديّاً أو معنويّاً؛ لأنَّ الإنسان الذي لا يتحرَّك ضمن جذره الّذي أنتجه، فإنّه لن يكون له أيّ قوّة في مواجهة أيّ ريح قد تهزّه وقد تقلعه من أرضه..

أخيراً نقول:

إذا أردنا أن نستمرّ في مسيرة السيّد(رض)، لا بدَّ من أن لا نجتزئ السيّد، ولا بدَّ من أن نعرف مستوى وحجم هذا الإنسان الرساليّ الذي كان كلّه رسالة، وكان كلّه ينطلق ليجعل للرّسالة رساليّين في مدى الزّمن.. لا لينطلق النَّاس ليجمدوا عند شخصه أو عند ما أنتجه، بل ليهضموا ما أنتجه من خلال معرفتهم بالعقل الّذي كان يفكّر، ولينطلقوا مع ذلك العقل لينتجوا فكراً جديداً، لأنَّ الإسلام لا يمكن أن يبقى إلا وهو جديد في مدى الزّمن.. الذين يريدون أن يثبّتوا الإسلام عند فكرٍ معيّن إنما يحكمون على الإسلام بالموت، أو يدفعون كثيراً من أبناء المسلمين إلى الخروج من دائرة الإسلام.. السيِّد(رض) لا يُجزَّأ، السيِّد(رض) يُقَارَب علميّاً وحركيّاً بكلِّه، ويُتعامَل معه بكلِّه.. لا يمكن للإنسان أن يُنصف السيِّد ويتعامَل معه كمظلومٍ وينسى أنّه كان وحدويّاً، ولا يمكن لمن كان يتعامل مع السيِّد(رض) وحدويّاً أن ينسى أنّه كان ملتزماً... ولا يمكن للَّذي يتعامل مع السيِّد(رض) الّذي يثبت على الحقِّ إلا وأن يتحرّك مع السيّد(رض) الّذي يحنو على الإنسان الآخر، يحنو على الضَّعيف ويخدم الإنسان كلَّه، ويحاول أن يتحرَّك بكلِّ معنى الطّهارة وكلّ معنى القيم وكلّ معنى الإنسانيَّة في كلّ دروب الحياة..

ليس ما أقوله الآن هو كلّ السيِّد، ولكنّه بعضٌ منه، لأنّنا لا نزال قاصرين عن أن ندرك في أيِّ عصرٍ كنا نعيش، وأيّ شخصيّة كنّا نعايش، ولا يزال الكثيرون ربما لا يعيشون عمق المعرفة بما كان لديهم من كنوز، وهي لا تزال ـ بالمناسبة ـ بكراً.. لا يزال فكر السيّد(رض) المادّة الخام التي تحتاج إلى مَن يتحرَّك من خلال العمل فيها، ومن خلال معرفتها، ومن خلال نقدها، في أفقه العلمي الّذي يغني التجربة ويراكم عليها، لينطلق الإسلام جديداً في مدى المجدّدين، ورسالياً في حركة الرساليّين، وطليعياً في دروب كلّ الذين يحدّقون في الأفق البعيد..

رحم الله السيِّد... ونسأله تعالى كما رحمنا به، أن يرحم هذه الأمّة، وأن يمنَّ على هذه الأمَّة بأن تعرفه أكثر، وأن تنصفه أكثر، وأن تنطلق لتشكر الله على نعمة أن يكون بينها مثل هؤلاء الّذين جمعوا على محبّتهم القريبَ والبعيدَ، المنتمين وغير المنتمين، المسلمين وغير المسلمين، الدّينيّين وغير الدينيّين، حتى وجدنا أنَّ السيّد(رض) عندما رحل عن هذه الدّنيا، كان يغادر وهو يجمع خطوط البشرية كلّها في مديات تنوّعها، ليقول لنا بأنّي في هذا العمر الضّئيل في عدد سنواته، استطعت أن أخاطب كلّ هؤلاء، وأن أزرع في كلّ عقل بذرة، وأنا أحاول أن أقدِّم في الإسلام شيئاً لهؤلاء يشعرون معه بأنّه يمكن للإسلام أن يكون فيه شيء من الضّوء، قبل أن تأتي الأزمنة المظلمة لتجعل من كلّ هذا النّور الذي شعّ على البشرية مع مجيء رسول الله(ص)، ظلمات يركم بعضها بعضاً.

 نحتاج اليوم ـ بكلِّ وضوحٍ وبكلِّ قوّةٍ نقولها ـ إلى أن نعيد قراءة هذا الإنسان، لكي لا نظلم أنفسنا من جديد، ولا نظلم المرحلة التي نعيش فيها، ولا نظلم المستقبل الذي ينبغي أن يتحرّك من خلاله أولادنا، لينطلقوا من خلال الإسلام في أصالته، ومن خلال العصر الّذي يعيشون فيه تطبيق الإسلام في كلّ مفرداته.

أقول قولي هذا، وأستغفر لي ولكم، والحمد لله ربِّ العالمين.

بعد خمس سنوات على الرَّحيل

 ماذا بقي لنا من السيِّد فضل الله(رض)؟!

قبل خمس سنواتٍ من الآن، كنَّا نظنّ في لحظة الرَّحيل أنَّ القلب في جسد السيِّد(رض) هو المتعَب، كنّا نخاف دائماً على هذا القلب من أن يتوقّف في أيّ لحظةٍ من لحظات جهاده ومعاناته، لكنَّ القلب كان آخر الأعضاء رحيلاً، حتّى قال لنا الطّبيب آنذاك: "لقد تبيَّن لنا أنَّ قلب السيِّد(رض) أقوى ما فيه"، ولكن ما لم نكن نتوقَّعه، هو أن يأتي الموت من الكبد؛ موضع السّموم الّتي ينفثها الجسد. ونحن في هذا الشَّهر المبارك، في ذكرى ولادة الإمام الحسن بن عليّ(ع)، وهو جدّ السيّد(رض)، الّذي كان في حياته يتجرّع السّموم والغصص ويتجرّع الآلام، وكان يستوعب جهل الجاهلين عليه، حتّى قال له أصحابه، ومنهم الخلّص: "السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين"، لأنّهم كانوا ينظرون إليه من زواياهم الضّيّقة، وكان الإمام الحسن(ع) يرصد الإسلام في مدى الزّمن كلّه، في اتّجاه أن يحفظه وأن يسلِّمه إلى الأجيال الآتية من بعده نقيّاً صفيّاً، كما بدأه رسول الله(ص).

الواحد من هؤلاء الكبار عندما يعيش هذا المستوى من جهل الجاهلين عليه، ومن ظلم الأقربين له، فإنَّه يعيش مراراتٍ وحسراتٍ وآلاماً وغصصاً قد لا يتحمَّلها الجسد، لأنّها ليست مرارات شخصيَّة. ومن هنا، فإنَّ الكبد الذي كان يتجرّع تلك السّموم في جسد السيّد(رض)، إنّما كان يتجرّع السّموم عن الأمَّة، لأنّه أراد أن يطهِّر فكر الأمّة، حتّى يبقى فكرها نقيّاً طاهراً، وأن يطهِّر روح الأمّة، حتّى تبقى روح الأمّة ساميةً محلّقةً في آفاق الله، وحتّى يطهّر نظرات الأمّة، كي لا تبقى تحدّق في صغائر الأمور وفي الهامشيّات، كان يريدها دائماً أن تحدِّق في البعيد، وأن تخترق نظراتها الآفاق اللامتناهية لتنظر إلى الماوراء، إلى اللاّزمان، إلى اللاّمكان، وإلى اللاّحدود، لترتبط بالله، ولتنهل من معين الله سبحانه وتعالى.

هذا المستوى من الجهاد لا بدَّ من أن يُتعب الجسد، ولذلك، ترحل أجساد القادة في هذه الأمَّة دون أن تتعب أرواحهم لحظةً أو مقدار شعرة في مسيرة جهادهم أو رسالتهم، ومن هنا، كان الرّساليّون دائماً أكبر من عصرهم الّذي يعيشون فيه. والقادة أيضاً هم الذين يقصر زمانهم عن أن يدركهم بكلّهم، لأنّ الإنسان المحدود ينظر دائماً من زاويته المحدودة. وبالتّالي، يرى من الكبير ومن العظيم المقدار والزّاوية التي يمكن أن يستوعبها نظرُه.

 من هنا، وجدنا أنَّ كثيرين رأوا السيّد(رض) من أبعاد مختلفة، كلٌّ نظر إلى السيّد من زاويته، بعضنا رأى السيِّد مجاهداً في ساحات المعركة في مواجهة الاحتلال وفي مقارعة الظّالمين، وبعضنا رأى السيِّد مفكّراً إسلاميّاً له آراءٌ طليعيّةٌ في بعض القضايا، وبعضنا رأى السيّد(رض) في فتاوى جديدة وآراءٍ عقائديّةٍ ناقدة، فاقتصر في السيّد(رض) على تلك الفتاوى وتلك الآراء، وبعضنا رأى سماحته الإنسان المحبّ الّذي ينبذ العنف، حتّى يكاد أن يعطي عدوّه إضمامة وردٍ وهو يصوّب إليه البندقيّة، والبعض لم يرَ في السيّد(رض) إلا نصيراً للمرأة أو للإنسان، من خلال فكر الإسلام. البعض رأى السيّد(رض) إنساناً يهوى الشّهرة من حيث إنّه يريد أن يخالف لِيُعرَف، والبعض رأى السيّد ضالاًّ ومضِلاًّ، والبعض رأى السيّد إرهابيّاً حتّى غادر السيّد(رض) الدّنيا وهو على لائحة إرهاب المستكبرين. والبعض أيضاً من الأعداء، رأى في السيّد(رض) أخطر مفكّرٍ إسلاميٍّ عليه، وهو كيان العدوّ.

وواحدة من مشاكلنا التي نعيشها ونعيش الغربة من خلالها في مجتمعاتنا، هي عندما يعرف أعداؤنا عظمةَ ما عندنا وحجم رموزنا وقادتنا، ونحن كنّا ـ وربّما لا نزال ـ قاصرين عن أن ندرك السيّد(رض)، لأنّه كان دائماً أوسع من عيوننا وزوايانا واهتماماتنا، وقد كان يتحرّك في مدًى أكبرَ من أزمنتنا التي نستغرق في الكثير من تفاصيلها.

هكذا هم الكبار! هكذا هم العظماء! يحتاجون دائماً إلى مسافةٍ تبتعد بها الأمّة عنهم لتعرف قدرهم، ولذلك، يجهل عليهم الجاهلون في أزمنتهم، ولا يفهمهم الكثيرون في حاضرهم، وقد تُقاس تلك المسافة بالسَّنوات، وربّما بالعقود، حتّى يبتعد الواحد منّا عن أولئك العظماء، ليدرك عندئذٍ حجمهم وموقعهم وعظمتهم.

 كلٌّ كان ينظر إلى السيِّد(رض) من زاويةٍ يعيشها في ذاته، وكان يُسقط ذاته عليه، لكنَّ السيِّد هو السيّد بكلّه؛ لا يدخل السيّد(رض) في زاوية أحد، ولا يتحرّك في هامشيّات أحد، ولا ينحبس في قمقم أحد، ولا يعيش على عصبيّة أحد. السيِّد(رض) عندما يُراد أن يُنظَر إليه، لا بدَّ من أن يُنظَر إليه بكلّه، وإذا أردنا أن نسأل أنفسنا بعد سنين خمس: ماذا بقي لنا من السيِّد فضل الله؟ فلا بدَّ لنا من أن نعرف قبل ذلك، "ماذا كان السيِّد فضل الله؟"، حتّى نعرف "ماذا بقي لنا من السيّد فضل الله!".

السّؤال ربّما قد يُغري الكثيرين بأفكارٍ وخيالاتٍ متعدِّدة، أيضاً كلٌّ من زاويته، لكن ما نريد أن نتوقَّف عنده في الحقيقة، هو محاولة أن نطلّ على ما صنعه هذا الإنسان في هذا الزّمن، وبالتّالي، أن نحدّد ما الذي بقي لنا، أو في الحقيقة، أن نحدِّد ما الّذي بقي علينا تجاه هذا الإنسان، وهل صنعنا شيئاً بعد أن مرّت سنواتٌ خمس؟ هل قصّرنا في زمانه ـ ولا شكّ في أنّنا قصّرنا ـ ؟ وهل ما زلنا نقصّر بعده بعد أن ابتعد به الزَّمن؟ وبدأنا نسمع من الأقربين ومن الأبعدين مدحاً من هنا، وكلاماً ربّما لم نكن نسمعه في زمانه عن السيّد(رض)؛ عن الفكر المتألّق، والإنسان المنفتح والمحبّ والحواريّ، والإنسان القويّ والوحدويّ والطّليعيّ، الذي يُطلق الإسلام في مدى الحضارة في مدى العالم، أصبحنا نسمع عن كثيرٍ من هذه المفردات. ولكن هل نعي فعلاً حجم ما كان السيّد عندنا وما هو عندنا الآن، أو أنّنا لا نزال فعلاً قاصرين ومقصّرين؟

بعض الَّذين اختصروا السيِّد(رض) بما اختصروه به، هم محقّون، والبعض الآخر سيجد أنّه محقٌّ من منظاره، لأنّه لا يعرف من الهدى إلا طرفاً، وبالتّالي، يرى في الكثير من أوجه الهدى أنّها ضلالات، وأنّها ربّما خروجٌ من دائرة الدّين أو من دائرة الالتزام.

إذا أردنا أن نفهم هذا السيّد(رض)، نحتاج إلى معرفة ما الّذي كان يحرّكه، لأنّ الأبعاد التي كان يتحرّك من خلالها هذا الإنسان الرّساليّ، كانت تجلّياتٍ لِما هو في داخل شخصيّته. حتّى نفهم هذا الإنسان، لا بدَّ من أن نفهم العناصر التي كانت تشكّل شخصيّته، والعناصر التي كانت تتحرّك في داخل عقله عندما يفكّر، وفي داخل قلبه عندما يحنو، وفي داخل روحه عندما تسمو، وفي داخل إرادته عندما تواجه الجبال ولا تزول، وفي داخل حركته عندما كانت تنطلق دائماً نحو الآفاق البعيدة... أن نفهم جوهر هذا الإنسان، لنفهم عندئذٍ ما الذي يبقى في مدى الزّمن، وما الذي يبقى علينا تجاه هذا الإنسان في مدى السّنين الآتية كلّها!

الفقيه المجدّد

نعم، كان السيّد(رض) فقيهاً مجدّداً، ولكنّ التّجديد ليس فتاوى، وليس رأياً فقهيّاً من هنا ورأياً فقهيّاً من هناك يراه النّاس جديداً، التّجديد هو منهجٌ في التّفكير، هو قواعد، هو عقلٌ يتحرّك بطريقةٍ مختلفةٍ عن كلّ ما هو سائد. العقل العاديّ التّقليديّ يفكّر بطريقةٍ ويستنتج، ولكنّ عقل السيّد(رض) بدأ يفكّر بطريقةٍ أخرى، فكّر في اللامفَكَّر فيه، وانطلق ليكتشف في الإسلام قواعد جديدة في التّفكير، وأراد أن يحرّك كثيراً من القواعد المعطَّلة في نمط التّفكير السّائد، لِيقول إنَّ هناك أبواباً من المعرفة وقواعد من العلم لا تزال بِكراً. أيّها الإنسان! إذا أردت أن تكون رائداً تجديديّاً، إذا أردت أن تكون فقيهاً ينطلق في الفقه في عمقه لا في سطحه، فإنّ عليك أن تطرق هذه الأبواب، وأن تنطلق من هذه القواعد وهذه الأسس.

 اليوم، نجد أنّ مدرسة السيّد(رض) هي السّائدة، وعناوينها هي البضاعة الرّائجة؛ يجد فيها الكثيرون أنفسهم مضطرّين لكي يلامسوا التجديد، ولو بطرف، حتى يكون لهم موقع في وجدان الناس. إذاً، السيّد فضل الله(رض) حاضر فقيهاً ومجدّداً، لأنّه يفرض نفسه مدرسةً ـ وليس شخصاً، وليس فتاوى ـ على السّاحة الإسلاميّة كلّها.

نعم، كان السيّد(رض) فقيهاً مجدّداً، لأنّه جدّد في منهج التّفكير الّذي ينتج جديداً حيثما حلّ، ولا ينطلق ـ كالكثيرين ـ ضمن الظّروف هنا وهناك، بحيث يكون مع الجديد جديداً، حتّى إذا مال الناس عن الجديد، رجع إلى القديم كمدرسةٍ تفرض نفسها على الإنسان في ظروفٍ أخرى.

السيّد مفكّراً

نعم، كان السيّد(رض) مفكّراً، والكثيرون ربّما التقى معهم السيّد(رض) في أفكاره عن الإنسان، عن المرأة، عن الحرّيّة، عن العلم، وعن كثيرٍ من الأمور التي تشغل بال الإنسان المعاصر؛ لكنّ هناك فرقاً بين أن تجدّد في الإسلام من خارجه، وأن تجدّد في الإسلام من داخله. هناك فرقٌ بين أن تسنتطق آيات الكتاب لتستخرج من مكنونها بقراءتك الجديدة، ونظرك الجديد، وخبرتك الجديدة، وبعمقك الّذي لامست فيه أبعاداً لم يلامسها فيه السّابقون، هناك فرقٌ بين أن تستنطق القرآن من خلال كلّ ذلك، وأن تحاول أن تقلّد الآخرين في ما وصلوا إليه، لتطلق فكرةً من هنا تحاول أن تخضع لها نصّاً أو تنتقيَ لها حديثاً أو روايةً أو بعض آيةٍ أو ما إلى ذلك.

نزل السيّد فضل الله(رض) إلى عمق القرآن الكريم فقرأه بكلّه؛ قرأه آيةً آية وكلمةً كلمة، استخرج من وراء الكلمات ومن وراء الآيات، وقارن كلّه بكلّه، حتّى استخرج منه فكر الإسلام في المرأة وفي قضايا الإنسان والحياة، فكان فكر السيّد(رض) في المرأة فكراً أصيلاً، ولذلك بقي ثابتاً وراسخاً وأصيلاً، وأصبح ثقافةً لدى مريديه.

انظروا إلى كلّ الذين تتلمذوا تحت منبره أو قرأوا كتبه، كيف أصبح الحوار عندهم ثقافة حياة، وجمعوا بين الالتزام في عمق أصالته والانفتاح في سعة آفاقه، وكيف واكبوا العصر من موقع هويّتهم الإسلاميّة، لا من خلال سقوطهم أمام الآخرين، وكيف أصبحوا ينظرون حقيقةً إلى المرأة، لأنّهم تثقَّفوا بفكر الإسلام عن المرأة، ولم يحاولوا أن يماشوا حركاتٍ نَسَوِيّةً من هنا وهناك لينطلقوا عبر الأصوات العالية، ليماشوا هذه في تطلّعاتها وهذا المطلب في أحقّيته، من دون قاعدة. نراهم انطلقوا من الجذر الإسلاميّ، فأصبحت نظرتهم إلى المرأة من عمق الإسلام، فكما ينظرون إلى الإنسان، وإلى عقيدتهم في مفرداتها، وإلى شريعتهم في عباداتها، أصبحوا ينظرون إلى المرأة في فكر الإسلام في أصالته، فتحوَّل السيّد(رض) مفكّراً، تحوَّل إلى مدرسةٍ ثقافيّةٍ تستمرّ في كلّ الذين ينهلون من علمه ويلتزمون خطّه الفكريّ والمعرفيّ.

السيّد إسلاميّاً وحدويّاً

نعم، كان السيّد(رض) إسلاميّاً، وعندما يبدأ الإنسان مسلماً، فلا يمكن أن ينتهي مذهبيّاً، وعندما ينطلق الإنسان ليتلمّس الإسلام في آيات القرآن، وفي حركة الرّسول، وفي خطّ الأئمّة من أهل البيت(ع)، لا يمكن لهذا الإنسان أن يتمذهب، ولا يمكن لهذا الإنسان أن يحجّم الإسلام بحجم العصبيّة، ولا يمكن لهذا الإنسان أن يختار الإسلام حيث الظّروف مؤاتية والهواء عليل، وعندما تبدأ المذهبيَّات والطّائفيّات والعصبيّات والحزبيّات والزّواريب الضيّقة والانفعاليّات تزحف إلى مجتمعاتنا، ينقلب على عقبيه ليتحوَّل إلى إنسان المذهب لا إنسان الإسلام.

بقي السيّد(رض) إسلاميّاً في أشدّ الحالات مذهبيّةً، وبقي ينادي بالوحدة الإسلاميّة في أشدّ الحالات قتلاً، وسفكاً للدّماء، وتدميراً، وتفجيراً للمساجد، وهتكاً للأعراض، ومصادرةً للمستقبل، من خلال الفتنة المذهبيَّة التي أرادت أن تأخذ واقعها من خلال واقع كلّ المسلمين.

بقي السيّد(رض) ينادي حتّى الرّمق الأخير، حتّى وهو على فراش الموت:" أنا كنت وحدويّاً منذ خمسين عاماً ولا أزال"، هذه كلمةٌ قالها وهو على فراش الموت. هذا الإنسان الّذي كان إسلاميّاً منذ أن بدأ ينفتح وعيه على هذه الدنيا حتّى انتقل عنها، ولذلك ثبتت رسالته في مدى الزّمن، وانطلقت على أجنحة الملائكة، ولم تتحرّك أفكاراً طائرةً في الهواء، لتجد من يتَّخذها مصلحةً سياسيّةً لينادي بالوحدة في ظرفٍ سياسيٍّ ملائم، ولينقلب على الوحدة في زمنٍ آخر ليس للوحدة فيه مجال ولا صوت، وإنما للمذهبيّة وللعصبيّة.

 كان السيّد(رض) يبذر في زمن الزّرع، ولذلك حصد ثقافة حوار، وثقافة محبّة، وثقافة تعاون، وثقافة انفتاحٍ على الآخر، بل إنَّ السيّد(رض) كان يقول: "إنّ الإنسان الّذي يريد أن ينتج فكره، لا بدَّ من أن ينتجه والآخر مستَبطَنٌ في داخل أفكاره، الإنسان الّذي يريد أن يختبر الحقيقة في إدراكه، لا يمكن أن يختبر الحقيقة إلا من خلال أن يختبرها مع آخر ينظر إلى الحقيقة من زاويته".

 كان السيّد(رض) مفكّراً إسلاميّاً فوق المذهبيَّة، ولكن هل استفادت منه المذهبيَّات؟ أو أنَّ بعضنا جهل عليه باسم المحافظة على المذهب، ولذلك، لم يتلمَّس عمق العظمة في المذهب، من حيث إنّه يمثِّل عمق الأصالة في الإسلام، وسجَّل الآخرون نقاطاً عليه أو من خلاله، كما كلّ التَّاريخ في كلِّ مساراته، كان بعضهم يسجِّل نقاطاً على البعض الآخر. البعض كان يقول إنَّ السيِّد(رض) خارج المذهب لأنّه يريد أن يجامل الآخرين من المذاهب الأخرى، والبعض الآخر من المذاهب الأخرى كان يقول: انظروا إلى السيِّد فضل الله كيف يناقش أفكار مذهبه الّذي هو على ضلال!

بقينا متحزّبين ولم يستفد السّنّة ولا الشّيعة من هذا الإنسان الّذي كان يتحرّك بمنهجيّةٍ إسلاميّةٍ في التّفكير، وليقول للحالات المذهبيّة كلّها: إذا أردتم أن تخرجوا من مذهبيّاتكم، فلا يمكن أن تخرجوا منها إلا بأن تفكّروا كإسلاميّين، أن تعودوا إلى أصالة الكتاب، وأن تعودوا إلى ما ثبت صحيحاً من السّنّة، لتقرأوا ذلك كلّه على وقع تجاربكم وعلى وقع خبراتكم، من خلال كلِّ ما عايشتموه في حياتكم من الفتن ومن الظّلمات وزمن الانتصارات والهزائم وما إلى ذلك. عليكم أن تنطلقوا إسلاميّين إذا أردتم أن تنطلقوا في أصالة الإسلام كما أراد الله سبحانه وتعالى، أمَّا أن تسجّلوا نقطةً من هنا على هذا بذاك، في رأيٍ يناقش فيه رأياً، فهذا ليس مجدياً، وإنما يعيد إنتاج العصبيّات الّتي تصدّ عن الحقّ.

كان السيّد(رض) يتحرّك بمنهجيّةٍ علميّةٍ، وينطلق ليقول: أيّها المسلمون، سواء كنتم أتباعاً لهذا المذهب أو لذاك، إنّ هناك خللاً في المنهج في التّفكير المذهبيّ، وقد خبرنا كلّ مشاكله طوال أربعة عشر قرناً من الزّمن. أيّها المذهبيّون، أيّها المتمذهبون، المخاطر آتيةٌ من أمامكم، والتحدّيات الآتية لم يسبق لها مثيلٌ في كلّ تاريخنا الذي عايشناه، غيّروا منهجيّة تفكيركم لتتغيّر نتائج سلوكيّاتكم، ولكنّ الكثيرين لم يدركوا حجم العظمة وحجم الرّيادة والطّليعيَّة في هذا الطّرح الرّساليّ، ولذا، بقوا قاصرين عن أن يدركوا كنهه وجوهره، ولذلك، نجني اليوم الكثير ممّا كان يحذِّرنا منه السيّد فضل الله(رض).

السيِّد مرجعاً

نعم، كان السيّد(رض) مرجعاً يُفتي النّاس ويقلّده النّاس، ولكنّ المرجعيّة لم تكن له موقعاً للزّهو ولا للخيلاء ولا للنّظر للنّاس في تعدادٍ يعدّ المقلِّدين والأتباع والهاتفين وما إلى ذلك، كان السيّد(رض) يؤمن بأنَّ المرجعيّة لا بدَّ من أن تخدم الدّعوة للإسلام، كان يؤمن بأنَّ المرجعيَّة هدفها الأسمى هو: "لأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك ممَّا طلعت عليه الشَّمس"، كان يؤمن أنَّ المرجعيَّة هي الّتي ينبغي أن تصبر نفسها، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف: 28] كان يؤمن بأنَّ المرجعيّة هي التي تدير مقدّرات النّاس من أجل خدمة النَّاس، كان يؤمن بأنّ المرجعيّة هي التي تمثّل عقل النّاس الذي يقودهم من الخلف، فيكون أوَّل الواصلين إلى الميدان وآخر المغادرين من الميدان، كان يؤمن بأنَّ المرجعيَّة هي التي ينبغي أن تنطلق بالإسلام عالميّاً، لِتوصل صوت الإسلام إلى العالَم في كلِّ تحدّيات الإسلام التي يواجهه بها الآخرون ممّن يكيدون له في فكره وعقيدته وشريعته وحركته في كلّ مسارات الحياة.

 كان يؤمن بأنَّ المرجعيَّة لا بدَّ من أن تتحرّك من خلال نموذج رسول الله(ص)، الذي كان يصلّي جماعةً بالنّاس، ويدعو مع النّاس لله سبحانه وتعالى، ويبتهل بين يديه، وينطلق في خطِّ المعركة مع النّاس والمجاهدين، ويحرّض المؤمنين على القتال، وينبّه هذا إلى مسألةٍ شرعيّةٍ هنا، وإلى قضيّةٍ إيمانيّةٍ هناك، وإلى فكرةٍ عقيديّةٍ هنالك، كان ينطلق بالمرجعيّة بهذا النَّموذج، ولذلك، أتعب السيّدُ المرجعُ مَنْ بعده، وأصبح نموذجه ضاغطاً على كلِّ ذلك الواقع. وإذا أردنا أن نفتِّش عن عمق المشكلة في نظرة النّاس إلى المرجعيَّة والتقليد، فعلينا أن ندرس هذا النَّموذج لِنعرف ماذا يريد النّاس من المرجعيّة، ولنحاول أن ننطلق في هذا الاتّجاه لنسدّ حاجات النّاس؛ لأنَّ "السّاحة لا تحتمل الفراغ"، فإذا لم يُملأ بالمناسب، فإنّ كثيراً من النَّماذج غير المناسبة قد تملأ فراغ النَّاس، ولذلك، نجد أنَّ النّاس تعيش قلق البحث عن النّموذج، وقد تقع فريسة أطماع كثيرين ممّن يعرفون من أين تؤكل الكتف، الّذين يرفعون لواء التَّجديد هنا وهناك، ولكنَّهم لا يحملون التّجديد في أعماقهم، ولذلك يمكن أن يجد النّاس فيهم شيئاً في الشَّكل يُحاكي ما يرغبونه في حركة المرجعيَّة والمرجع، لكنّ النّاس قد لا تجد في نهاية المطاف الكثير الكثير ممّا تسعى إليه.

السيّد مظلوماً

نعم، كان السيِّد(رض) مظلوماً وما زال. لم يكن السيِّد(رض) مظلوماً لشخصه أو لذاته، وإنّما كان مظلوماً لرسالته، لأنَّ السيّد(رض) كان رسالةً بكلّه، ظُلِم من الكثيرين الّذين لم يكونوا يعرفون معنى أن تكون رساليّاً، معنى أن لا تكون لديك حسابات ذاتيّة، وأن لا تسعى وراء المنافع والمصالح الشخصيّة وما إلى ذلك.. ظُلم السيِّد الرساليّ.. ولذا، إذا أخطأنا الطّريق، وحوّلنا ظُلامة السيِّد(رض) إلى ظلامة الشّخص، فنحن نظلمه مجدَّداً؛ لأنّنا نحوّل السيّد(رض) إلى حالةٍ عصبيَّة، ونحوّل السيّد إلى حالة ضدّية تواجه الآخرين بحسب نوازعهم الذاتية المريضة ربما والحاقدة.

السيّد(رض) لا يمكن أن يُنظَر إليه على أنّه شخصٌ ظُلِم، فيحاول الإنسان منّا أن يوزّع ولاءه للسيِّد عبر التّصويب على الآخرين.

السيّد(رض) كان مظلوماً رساليّاً، لأنّ حجمه كان أكبر من زمنه.. ولذلك، ربما يجد الإنسان العُذرَ لكثيرين، وليس لجميع الّذين ظلموه.. وربّما كان السيِّد(رض) أوّلَ من يدرك ذلك، ولذلك، كان دائماً يتجاوز عن الّذين يجهلون عليه، لأنّهم كانوا لا يدرون ما يفعلون، كما كان جدّه رسول الله(ص) يقول: "اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"، وإنما سيعلمون في المستقبل.

عندما يزول الغبار ينقشع السَّحاب

إنّ الكثيرين كانوا يظلمون الرّسالة في السيّد(رض)، وهذا الظّلم في الرّسالة هو أفحش الظّلم، وإذا لم نعِ هذه الوجهة بدقّتها، فإنّنا قد نظلم الكثير من الرّساليّين من جديد.. الظلم الّذي عاناه السيّد(رض) بقي منه شيء في هذا العصر، فقد كان يشعر بأنَّ أقسى ظلم يقع عليه هو أن يُمنَع الناس من أن يقرأوا كتبه، وأن يُحرَّم على الناس أن تلمس كتبه... ليس لزهوٍ ذاتيّ كان يعيشه، بل لأنّه كان يدرك أنَّ هذا الفكر هو القادر على أن يشكّل جسر العبور للمرحلة التي نعيش فيها الآن، وقد كان يستشرفها بعين الله... كان يريد من النَّاس أن تقرأه لتعرف كيف تحرّك فكر الإسلام في مواقع التَّطبيق بدقّة وبوعي.. هذا الظّلم الّذي لحق بالسيّد(رض) كان ظلم الرّسالة.. بقي شيء من ذلك في عصرنا الّذي نعيش فيه مع كلّ الأسف، وهي ظلامة الأقربين قبل الأبعدين.. هذه الظّلامة تشير إلى أنَّ الأمّة لا تزال في حالات متدنّية وبعيدة كلّ البعد عن الارتقاء إلى المعنى الحضاريّ لوجودها وموقع القيادات من مسيرتها الحضاريّة...

إنَّ ارتقاء الإنسان في هذه الحياة في ميزان الحضارة، لا يكون برفع لواءات وشعارات التَّجديد والحضارة والإنسانيَّة والحوار وما إلى ذلك، في الوقت الّذي يُحرج من أن يذكر رموز التّجديد ورموز الحوار ورموز الانفتاح.. ارتقاء الأمَّة يُقاس عندما لا تجهّل القياديّين، وعندما لا تتجاوز ذكرى الرياديّين الّذين يفتحون لها الآفاق.. لا لأنّنا أمَّة الشّخص، ولا لأنّنا نريد أن نحوّل الرّسالة إلى خطِّ البطل، ولكن لأنَّ الحياة والرسالة والتقدّم والحضارة والأفكار، لا يمكن أن تجد لها مجالاً من دون رموزها.. رموزها البشريّون هم الّذين يعطون الرسالة دفعاً.. ولذلك، أنزل الله سبحانه الكتب، وأرسل مع الكتب رُسُلاً، وقال إنَّ هؤلاء الرسل هم فلان وفلان وفلان... لم يُجهّل الرساليّين، ولم يُجهّل القادة... ولذلك، يبقى السيِّد(رض) مظلوماً ما دام الكثيرون يشعرون بالحرج من ذكر اسمه عندما يُذكر للتّجديد موقفٌ وقضية.. ويبقى السيّد(رض) مظلوماً عندما يبقى الكثيرون يسكتون عن أن يناقشوا أفكاره بعلم، وأن يناقشوا نظريّاته بمعرفة وبوعي، وربما أن يناقشوا أفكاره ليبنوا على ما يخالفها، لا مشكلة في ذلك، هذا كان يُفرح قلب السيِّد(رض).

يبقى السيّد مظلوماً في ذلك، لا لمسألةٍ شخصيَّةٍ في هوى الذِّكر الذّاتي والشّخصيّ، وإنّما لأنَّ هذا هو الطّريق الّذي يُفسح في المجال أمام ضرب مسيرة التَّجديد برمّـتها.. لو نظرنا إلى واقعنا الّذي نعيش فيه، فإنّنا نرى، بكلّ أسف، أنّ الذي كان يتحرّج من ذكر السيّد(رض) كمجدّد، لا ينبغي أن يستغرب أن يسمع كثيرين يتحدَّثون عن كثير من المجدّدين الذين لم يكن عليهم خلاف في الأمَّة، أصبحوا يتحدّثون عن السيّد الشَّهيد محمد باقر الصّدر(رض)  بأنَّ فكره التقاطيّ.. هؤلاء الّذين كانوا ينزلون البيانات في سبّ السيّد وشتمه ولعنه وتفسيقه وتضليله.. هؤلاء لم يكتفوا بالتّصويب على السيّد فضل الله كرمزٍ من رموز التجديد، وإنما بدأوا يدكّون مسيرة التّجديد كلّها، من خلال النيل من كلِّ رموزها.

الذي كان يمنع أفكار السيّد(رض) من أن تأخذ مجالها في النّقد العلميّ والحوار الموضوعيّ في الدّوائر الدينيّة والحوزات العلميّة، أصبح يجد أمامه كيف تُمنَع كتب الشّهيد الصّدر من أن تُدرَّس في قلب الحوزة، وكيف يمكن لكتب الشّهيد مطهّري أن تُمنع من أن تُقرأ وأن تُناقش وما إلى ذلك.. لماذا؟ لأنَّ السيّد(رض) كان الرمز الذي اتّكأ على كلّ مسيرة التّجديد السابقة عليه، وهَضَمَها وأعاد إنتاجها وأطلقها في مديات أوسع، حتى أصبح هذا الاسم "فضل الله" رمز التّجديد من حيث هو عنوان لكلّ المسيرة الّتي جمعت رموز التّجديد.. عندما تذكر فضلَ الله تذكر الصّدرَ، وعندما تذكر الصّدرَ تذكر مطهّري، وعندما تذكر مطهّري تذكر كاشفَ الغطاء، وعندما تذكر كلَّ هؤلاء، تذكر كلَّ الأعلام الّذين انطلقوا في خطّ التّاريخ، وربما طوى التّاريخ كثيراً من سيرهم، لأنه يريد أن يبقى متخلّفاً وتقليديّاً، ويبقى على ما وجد عليه آباءه الأوَّلين، على طريقة أولئك الّذين {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}[الزّخرف: 22].

السَّاحة لا تحتمل الفراغ.. كان السيِّد(رض) في آخر حياته يقول إنَّ مسيرة الوعي مستمرّة، وسيبقى الواعون في هذا الخطِّ ينالهم الكثيرُ من الألم، وينالهم الكثير من الجهل، وينالهم الكثير من النّبال والحراب.. لكن على مسيرة الوعي أن تصمد.. ولذلك نقول إنَّ أوّل خطوةٍ في مسيرة الوعي، أن ننطلق لنقدِّر كلَّ تاريخنا بكلِّ ما فيه، وأن نذكر رموزنا بكلِّ خير، لأنَّ تجهيل الفاعل دوماً ـ مع كلّ أسف ـ من كلّ رموز التجديد والفكر الطليعيّ والفكر الإنسانيّ والحضاريّ والحواريّ والانفتاحيّ وما إلى ذلك.. عندما نجهّل هؤلاء، فإنَّ كلّ واحد منّا حينها عليه أن يبدأ من الصّفر.. والّذي يبدأ من الصّفر لن يسعفه الزّمن... وعندما نجهِّل هؤلاء، فإنّنا نسمح لمسيرة التّجديد بأن تتشظَّى بأنصارها، من خلال شعورٍ بالحرمان لدى بعضهم، والعصبيّة للأشخاص لدى بعضٍ آخر، وكلّ ذلك يسمح لأعداء الوعي والتّجديد والوحدة.. بأن يطعنوا كلّ المجدّدين، وبأن يقتلوهم ماديّاً أو معنويّاً؛ لأنَّ الإنسان الذي لا يتحرَّك ضمن جذره الّذي أنتجه، فإنّه لن يكون له أيّ قوّة في مواجهة أيّ ريح قد تهزّه وقد تقلعه من أرضه..

أخيراً نقول:

إذا أردنا أن نستمرّ في مسيرة السيّد(رض)، لا بدَّ من أن لا نجتزئ السيّد، ولا بدَّ من أن نعرف مستوى وحجم هذا الإنسان الرساليّ الذي كان كلّه رسالة، وكان كلّه ينطلق ليجعل للرّسالة رساليّين في مدى الزّمن.. لا لينطلق النَّاس ليجمدوا عند شخصه أو عند ما أنتجه، بل ليهضموا ما أنتجه من خلال معرفتهم بالعقل الّذي كان يفكّر، ولينطلقوا مع ذلك العقل لينتجوا فكراً جديداً، لأنَّ الإسلام لا يمكن أن يبقى إلا وهو جديد في مدى الزّمن.. الذين يريدون أن يثبّتوا الإسلام عند فكرٍ معيّن إنما يحكمون على الإسلام بالموت، أو يدفعون كثيراً من أبناء المسلمين إلى الخروج من دائرة الإسلام.. السيِّد(رض) لا يُجزَّأ، السيِّد(رض) يُقَارَب علميّاً وحركيّاً بكلِّه، ويُتعامَل معه بكلِّه.. لا يمكن للإنسان أن يُنصف السيِّد ويتعامَل معه كمظلومٍ وينسى أنّه كان وحدويّاً، ولا يمكن لمن كان يتعامل مع السيِّد(رض) وحدويّاً أن ينسى أنّه كان ملتزماً... ولا يمكن للَّذي يتعامل مع السيِّد(رض) الّذي يثبت على الحقِّ إلا وأن يتحرّك مع السيّد(رض) الّذي يحنو على الإنسان الآخر، يحنو على الضَّعيف ويخدم الإنسان كلَّه، ويحاول أن يتحرَّك بكلِّ معنى الطّهارة وكلّ معنى القيم وكلّ معنى الإنسانيَّة في كلّ دروب الحياة..

ليس ما أقوله الآن هو كلّ السيِّد، ولكنّه بعضٌ منه، لأنّنا لا نزال قاصرين عن أن ندرك في أيِّ عصرٍ كنا نعيش، وأيّ شخصيّة كنّا نعايش، ولا يزال الكثيرون ربما لا يعيشون عمق المعرفة بما كان لديهم من كنوز، وهي لا تزال ـ بالمناسبة ـ بكراً.. لا يزال فكر السيّد(رض) المادّة الخام التي تحتاج إلى مَن يتحرَّك من خلال العمل فيها، ومن خلال معرفتها، ومن خلال نقدها، في أفقه العلمي الّذي يغني التجربة ويراكم عليها، لينطلق الإسلام جديداً في مدى المجدّدين، ورسالياً في حركة الرساليّين، وطليعياً في دروب كلّ الذين يحدّقون في الأفق البعيد..

رحم الله السيِّد... ونسأله تعالى كما رحمنا به، أن يرحم هذه الأمّة، وأن يمنَّ على هذه الأمَّة بأن تعرفه أكثر، وأن تنصفه أكثر، وأن تنطلق لتشكر الله على نعمة أن يكون بينها مثل هؤلاء الّذين جمعوا على محبّتهم القريبَ والبعيدَ، المنتمين وغير المنتمين، المسلمين وغير المسلمين، الدّينيّين وغير الدينيّين، حتى وجدنا أنَّ السيّد(رض) عندما رحل عن هذه الدّنيا، كان يغادر وهو يجمع خطوط البشرية كلّها في مديات تنوّعها، ليقول لنا بأنّي في هذا العمر الضّئيل في عدد سنواته، استطعت أن أخاطب كلّ هؤلاء، وأن أزرع في كلّ عقل بذرة، وأنا أحاول أن أقدِّم في الإسلام شيئاً لهؤلاء يشعرون معه بأنّه يمكن للإسلام أن يكون فيه شيء من الضّوء، قبل أن تأتي الأزمنة المظلمة لتجعل من كلّ هذا النّور الذي شعّ على البشرية مع مجيء رسول الله(ص)، ظلمات يركم بعضها بعضاً.

 نحتاج اليوم ـ بكلِّ وضوحٍ وبكلِّ قوّةٍ نقولها ـ إلى أن نعيد قراءة هذا الإنسان، لكي لا نظلم أنفسنا من جديد، ولا نظلم المرحلة التي نعيش فيها، ولا نظلم المستقبل الذي ينبغي أن يتحرّك من خلاله أولادنا، لينطلقوا من خلال الإسلام في أصالته، ومن خلال العصر الّذي يعيشون فيه تطبيق الإسلام في كلّ مفرداته.

أقول قولي هذا، وأستغفر لي ولكم، والحمد لله ربِّ العالمين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية