أهميَّة مواقع التَّواصل الاجتماعي، أنّها فتحت أمام النَّاس مساحةً كبيرةً وممتدّةً من مساحات التَّعبير والانعتاق من أسر القوقعة على الذَّات والمحيط الضيِّق والمحدود. لقد بات بإمكان أيٍّ كان أن يعبِّر على الملأ الواسع عن أفكاره وآرائه وهواياته وتمنّياته وأهوائه وأحلامه... وأن يحصل على الكثير من الأصدقاء والمعجبين بما يقول ويكتب..
لا شيء ـ إجمالاً ـ يحجب عنَّا حقَّ الإفصاح عمَّا نريد.. إنّها الحريَّة الّتي هبَّت علينا مع تطوّر هذه الوسائل، ومع كسر الشّعوب ـ العربيَّة بشكلٍ خاصّ ـ حاجز الخوف من السّلطان والسّلطة ـ فانطلق صوتها يصدح في السَّاحات، ومنها الافتراضيَّة، ولربّما دفعها إلى الانطلاق الحرّ ـ عموماً ـ شعورُها بالإحاطة من أصدقاء افتراضيّين وحقيقيّين، قد يهبّون لنجدتها إذا استجدَّ الخطر وحضر، أو إحساسها بأنّها مكشوفة على الملأ، ولن يستطيع أحدٌ قمعها أو خنقها في عتمة ليلٍ دون أن يكون هناك صدى لما يحصل...
إذاً نحن أمام تمظهرٍ جديدٍ للحريَّة.. لقد بات بإمكان أيٍّ كان أن يكون له صوت، وأن يسمع العالم صوته، أن يدلي بدلوه؛ فينظِّر في السياسة، أو يبدي رأيه في حراكٍ أو ثورةٍ أو وضعٍ اجتماعيٍّ أو فكرة، أو أيِّ شيءٍ آخر... ليس المهمّ مدى ثقافة الفرد حتّى يكون له الحقّ في التَّعبير، يمكن لأيٍّ كان أن يكون له تعبيره المتناسب مع ثقافته ـ أو لا ثقافته ـ يمكن له أن يفصح عمَّا يجول في ذهنه، وفي قلبه.. إنّها الحريَّة الافتراضيَّة الّتي عمَّت بخيرها الجميع!
ولكن جولة كافية على مواقع التَّواصل، ونظرة متمعِّنة إلى طبيعة النِّقاشات والتَّعليقات بين المتابعين، وفي أيِّ مجالٍ كان، تجعلنا نقف أمام ظاهرةٍ منتشرةٍ تكشف الكثير من العيوب المخيفة والخطرة في آن؛ تجعلنا نصل ـ احتمالاً ـ إلى أنَّ الحريَّة ثقافة لا نزال نجهل حروفها ومفرداتها، وأنَّ المساحة الواسعة للتَّعبير أمامنا، ما هي إلا مساحةٌ لإبراز ما في داخلنا من رفضٍ للآخر، وإقصاءٍ له، وتغييبٍ لصوته، وتمجيدٍ لعنصريَّاتنا وعصبيَّاتنا وعشائريّتنا وجاهليّتنا... والوسيلة؟ كلّ ما نصل إليه وما نحفظه من كلمات السّباب والشَّتائم والفحش اللّفظيّ والعنف الفكريّ ضدّ الآخر، وصولاً إلى لغة التَّهديد...
يكفي أن ينطلق رأيٌ ـ دينيّ، سياسيّ، فكريّ... ـ بما لا يعجب المتابعين، حتّى ترى سيلاً من الشَّتائم وفحش القول والاتّهامات وعبارات المسخ والتَّقليل من الشَّأن ينهال على صاحبه، بدلاً من الردِّ عليه بالمنطق والعقل ومقارعة الفكر بالفكر، والحجَّة بالحجَّة.. ويتَّسع نطاق المعمعة المقيتة، حتّى تصير تبحث في قلب العتمة عن رأيٍ حكيمٍ وعاقل، فتكاد لا تجد أبداً.
إنَّ ما يحصل أمرٌ مخيف، لأنَّه يكشف لنا العيب المقيم فينا والَّذي يأبى مغادرتنا، عيب التَّمترس خلف ما ندَّعيه من قناعاتٍ تجعلنا نمقت كلَّ ما هو غريبٌ عنها.. أليس هناك احتمالات منطقيَّة وعقلانيَّة في أن نكون على خطأ؟ وإذا كنّا على صواب، فلماذا يصيبنا الجنون ونلجأ إلى أساليب العاجزين في الرّدّ والمواجهة؟ أم أنّها الخشية من أن يعرّينا الآخر، فنضبط متلبّسين بالهشاشة والضَّعف والتصحّر؟ ما الضَّير في أن نستمع إلى الآخر وأن نحاوره وأن تكون الحقيقة هي الهدف لنا، نعمل على الوصول إليها أينما كانت؟ إنَّ الخوف الأكبر هو أن نبقى مشوَّهين بعنادنا وادّعاءاتنا وتصلّبنا، وأن يمرَّ العمر دون أن نحظى بشرف أن نكون متمدّنين ومتحضّرين وإنسانيّين قبل أيّ شيء.. شرف أن نكون من المنتمين حقَّاً إلى فئة الأحرار الّذين يتمتَّعون بنعمة الحريَّة.
ما الَّذي ينقصنا حقّاً؟ كفانا غباءً.. كفانا تحجّراً.. كفانا مسخاً لأنفسنا ولإنسانيَّتنا.. ولننطلق لنحصِّن أنفسنا بالمعرفة والعلم، وبالقناعات المبنيَّة على أساسٍ فكريٍّ متين، قناعاتٍ لا تهتزّ عند أوَّل هبوب ريح.. لنعمل على أن لا نكون ضعفاء نخاف من رأيٍ أو نظريَّةٍ أو مذهبٍ أو طائفةٍ أو أيِّ فكرٍ مختلف...
أليس كلُّ ما نشهده اليوم من استباحةٍ للدِّماء، واستسهالٍ للقتل، وممارسةٍ للعنف، هو وليد هذه الثَّقافة المضطربة؟
إنَّ واجبنا الإنسانيَّ أوَّلاً، هو أن نعمل على تفكيك هذه الثَّقافة القائمة على الإقصاء والعنف الفكريّ تجاه الآخر، وأن نبدأ بالعمل على تركيب ثقافةٍ جديدةٍ تكون أولى لبناتها وأساس منظومتها الاعتراف به وقبوله كمختلف، أن نقتنع بإرادتنا وطوعاً، أنَّ في الاختلاف غنى وثراءً.. أن نتدرَّب على أن نرى الجمال في الآخر الّذي لا يشبهنا، وألا نرى في اختلافه القبح...
إنَّها مسؤوليَّتنا جميعاً؛ مسؤوليَّة تبدأ من الجذور التّربويَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والأسريَّة... وهي تحتاج إلى إرادةٍ أوَّلاً، وإلى جهودٍ جبَّارةٍ ثانياً، تبدأ بتغيير الثَّقافة السَّائدة الّتي تقدِّس حتّى ما لا قداسة له، وبتعزيز ثقافة الاختلاف واعتباره الأصل في نهضة المجتمعات ورقيّها.. عندئذٍ فقط يمكن أن نصير أحراراً، وبغير ذلك، لا شيء مضمون إلاّ الفوضى والصِّراع والعنف...
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.