يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ* فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان: 9-11].
في هذه الآية حديث عن الّذين يستغرقون في عتوّهم وجهلهم، ويستسلمون لعنادهم وتكبّرهم أمام البيان والحجّة والدّعوة إلى أن يكونوا المنفتحين على ما في رسالة السّماء من خير لهم في دنياهم وآخرتهم.
وبدل أن يتحمّلوا المسؤوليّة ويقوموا بدورهم وواجباتهم في إصلاح أنفسهم والمجتمع من حولهم، إذا هم ينغمسون في العبثيَّة واللَّهو، ولا يلتفتون إلى أنّ مصيراً سيّئاً بانتظارهم، وعقاباً أليماً لهم على غيّهم وتماديهم في الغفلة والضَّلالة.
إنّ من أهمّ ما يتميّز به المؤمن، أنه يتحمّل مسؤوليّة البحث والمعرفة النّافعة، فينطلق بعيداً من اللعب والعبثية، باحثاً في الحياة عن كلّ ما يصلحها ويصلح أمر دينه ودنياه.
إنّ المؤمن لا يعيش اللامبالاة، فتتحوّل الحياة عنده كما عند غيره مساحه لانتهاز الفرصه للإمعان أكثر في الأهواء والنزوات مهما كان شكلها، بل الحياة ممرّ لآخرته، يزرع فيها كلّ موقف حقّ وكلّ شعور بارّ.
ونبدأ مع معاني هذه الآية، حيث يقول العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض):
"إنهم لا يوقنون، لأنهم لا يعيشون مسؤوليّة المعرفة الجديّة التي هي السّبيل إلى اليقين {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}، فليس هذا الشكّ الذي يتردّد في صدورهم ويتجمّد في عقولهم هو شكّ الباحثين عن الحقيقة، الّذين يرسمون علامات الاستفهام ويلاحقون الاحتمالات الطائرة أمامها، بل هو شكّ من يلعبون بالأفكار، فيواجهونها مواجهة العبث واللامبالاة، ولا يتوقّفون أمام دقائقها، ولا ينفتحون على حقائقها، ويلعبون بالكلمات التي يحرّكونها في مواقع اللّهو واللّعب، فلا يدقّقون في مضمون ما يسمعونه من نداء الرّسالات، أو ما يتكلّمون به في مواجهة الرّسل.
وماذا تنتظر من هؤلاء الذين لا يقفون أمام الحجّة، ولا ينطلقون منها {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}، انتظر اليوم الذي يمتلئ الجوّ فيه دخاناً، وذلك بسبب المجاعة التي يتحوّل فيها الإحساس بالجوع إلى حالةٍ يبصر فيها الإنسان الفضاء كما لو كان مملوءاً بالدّخان ـ كما في بعض التفاسير ـ أو بسبب الدّخان الحقيقي الذي يأتي قبيل حدوث السّاعة ـ كما في بعض آخر ـ. وربما كان الوجه الثّاني أقرب إلى سياق الآية ومفرداتها، لأنها تتحدّث عن دخان آتٍ من جانب السّماء، كحقيقةٍ ملموسةٍ، لا كحالةٍ وهميَّةٍ تخيّلها للإنسان إحساساته الأليمة.
ولكننا نجد ما يؤيّد التفسير الأوّل، الذي تدعمه بعض الروايات التي تتحدّث عن مجاعةٍ ابتليَ بها أهل مكة، فإنهم لما أصرّوا على كفرهم وأذاهم للنبيّ (ص) والمؤمنين به، دعا عليهم النبيّ (ص) «فقال: اللّهمّ سنين كسني يوسف، فأجدبت الأرض، فأصابت قريشاً المجاعة، وكان الرّجل لما به من الجوع، يرى بينه وبين السماء كالدخان، وأكلوا الميتة والعظام، وجاءوا إلى النبيّ (ص) وقالوا: يا محمّد، جئت تأمر بصلة الرّحم، وقومك قد هلكوا، فسأل الله تعالى لهم بالخصب والسّعة، فكشف عنهم، ثم عادوا إلى الكفر». {يَغْشَى النَّاسَ} ويخيّم عليهم ويحيط بهم، {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} يرونه قادماً إليهم، فلا يملكون الخلاص منه بقدرتهم الذاتيّة، فيلجأون إلى الله". [تفسير من وحي القرآن].
وفي معنى هذه الآيات، يقول العلامة الشيخ محمد جواد مغنيّة (ره): "﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾: وكلمة (يلعبون) تومئ إلى أنَّ من يدَّعي الإيمان بالله، ويتّكل على من سواه، فهو غير واثق من خالقه، تمامًا كمن يلهو بشيء وهو على علم بأنّه لا يجدي نفعًا.
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ﴾: استعصت قريش على رسول الله (ص) وبالغت في إيذائه، فدعا عليهم وقال: اللّهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فاستجاب سبحانه، وقطع عنهم المطر، وأصابهم الجهد والجوع، وكان أحدهم لما به من الجوع، يرى بينه وبين السّماء كالدّخان، وإلى هذا تشير الآية...". [التفسير المبين].
المؤمنون يعلمون تمام العلم أنّ اللّهو لا نتيجة منه سوى الابتعاد عن رضا الله تعالى، لذا هم يتصرّفون بكلّ حكمة ومسؤوليّة، ودائماً هم حاضرون في ساحات التحدّي والعطاء والبرّ والخير، فيواجهون كلّ فساد وظلم وضلال، ويدافعون عن المستضعفين والمحرومين، ويحفظون حدود الله وحقوق عباده.
إنّ الحياة مليئة بأشكال اللّهو والعبثيّة، فلا بدّ من حماية أجيالنا من كلّ ذلك، وتوعيتهم قدر المستطاع من خطورة الانغماس في الأهواء، فهناك مصير وحساب.