نواجه في القرآن الكريـم... صورة أولئك الّذين يشعرون بالضّعف الّذي يدمّر
مواقفهم ويهزم قوّتهم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا
رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ
قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلً}[النساء: 77].
هؤلاء الذين يعرضون عضلاتهم ـ في البداية ـ حتى إذا وقفوا أمام التجربة، انهزموا من
مسؤوليّاتهم، وبدأوا يختلقون الأعذار، ويطلبون التّأجيل، وليست القصّة قصّة وقت
وأجل، بل هي فقدان الإيمان بالله، والخوف المدمّر من النّاس، حتى يهون عندهم سخط
الله أمام ذلك كلّه.
إنَّها صورة ضعف الموقف، كنتيجةٍ لضعف الإيمان.
إنَّ الفكرة القرآنيّة، في هذه الآيات كلّها، تصبّ في مجرى واحد، وهو ضرورة مواجهة
حرب الأعصاب، بالقوّة النفسيّة الداخليّة التي تواجه المواقف الصعبة بهدوء، لتخطط
له بثقة واطمئنان، من غير تشنّج أو انهيار، لأنَّ الهزيمة النفسية أمام حرب الأعصاب،
هي الميزان الدقيق لموضوع الهزيمة والنصر في أيّ معركة من معارك الحياة، لأنَّك
عندما تهزم عدوَّك من الداخل، أو يهزمك عدوّك من الداخل، فلا يبقى أمامك أو أمامه
لقضيّة إنهاء المعركة بالانتصار، إلّا تصفية الساحة من فلولها العاجزة من دون جهدٍ
أو تعب. ولهذا، نجد أنَّ المعركة النفسية في كلّ حرب، هي المعركة التي تقرّر مصير
الموقف في كلّ زمانٍ ومكان.
وقد علّمنا القرآن الكريـم الأسلوب العمليّ الّذي نواجه به حرب الأعصاب التي تتبع
أساليب السخرية بالعمل وبالعاملين في سبيل الله، فلا يضعفون أمامها، لأنَّهم يشعرون
بأنَّ موقفهم ليس في مستوى السخرية، بل كلّ ما هناك، أنَّهم يهدفون إلى إضعاف ثقتهم
بأنفسهم، وتحطيم قوّتهم الروحيّة، بتصوير القضيّة بالصورة المضحكة التي تبعث على
السّخرية والاستهزاء، لا المحاكمة والنّقد والمناقشة.
وفي ضوء هذا الوعي للهدف من هذا الأسلوب، ينطلق المؤمنون من مركز القوّة، لينقلوا
الأسلوب إلى المعسكر الآخر، فلا يقفون ليواجهوا السّخرية بنقد ودفاع، بل يقابلونها
بمثلها، فيواجهونها بسخرية مماثلة، تضحك منهم ومن عقائدهم الباطلة وعاداتهم
السّخيفة، وقيمهم التّافهة التي هي في مستوى السّخرية حقّاً.. وهذا هو ما تصوّره
الآية التي تتحدّث عن موقف النبيّ نوح، حينما بدأ بصنع الفلك بأمرٍ من الله، فقابله
قومه بالسّخرية لأنَّه يعرف عاقبة الموقف: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ
عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ
عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}[هود: 38- 39].
*من كتاب "الإسلام ومنطق القوَّة".