الهجرة النَّبويَّة: المعاناةُ في خطِّ ولادةِ الإسلام

الهجرة النَّبويَّة: المعاناةُ في خطِّ ولادةِ الإسلام
عدد الصفحات:
0
عدد الأجزاء:
0
السعر:
0.00

يقول الله سبحانه وتعالى وهو يحدّثنا عن الظّروف الَّتي أحاطت بالنّبيّ (ص) في هجرته من مكَّة إلى المدينة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: 30].
بداية الدّعوة
لقد بعث الله رسوله بالرّسالة في مكَّة، وأراد له أن يبلّغ الدَّعوة من دون أن يدخل في صراع مسلَّح مع المشركين، لأنَّ المسألة كانت أن يُدخِلَ الفكرة في عقولهم، وأن يربح قلوبهم، فإذا دخل في صراع مسلَّح، والقوَّةُ ليست معه، فسيفقد النَّاسُ الأجواء الَّتي يستطيعون من خلالها أن يستمعوا بوعي ليتفهَّموا الدّين الجديد.
ثمَّ كانت المسألة أنَّ مكَّة كانت ملتقى العرب في الحجّ، فالحجّ كان هو العبادة الّتي سار عليها النَّاس منذ عهد إبراهيم، حتَّى إنَّ المشركين كانوا لا يتركون الحجّ، فكان الحجّ هو الملتقى، وكانت مواسم مكَّة هي العاصمة التجاريَّة للمنطقة، فكانت ملتقى كلّ للنّاس من النَّاحية الاقتصاديَّة، لكلّ من يحتاج إلى البضائع وما إلى ذلك.
وكانت مكَّة العاصمة الثَّقافيَّة، لأنَّه كان هناك موسم يسمَّى سوق عكاظ، وكان الشّعراء والأدباء يأتون من سائر أنحاء الجزيرة العربيَّة من أجل يقرأوا قصائدهم وخطاباتهم وما إلى ذلك.
لذلك، كان موقع مكَّة هو الموقع المميَّز الّذي يمكن للدَّعوة فيه أن تنتشر إلى كلّ أطراف الجزيرة العربيَّة، من دون أن يضطرّ النّبيّ للقيام بأيّ رحلة إلى هذا البلد أو ذاك البلد، لأنَّ كبارهم وتجَّارهم وأدباءهم كانوا يأتون إلى مكّة ليحصلوا على ما يريدون.
لذلك، كانت الخطَّة أن يبقى النَّبيّ (ص) مدّةً في مكَّة، من أجل أن ينشر الدَّعوة أوَّلاً، ومن أجل أن يؤمّن مجموعة من المؤمنين في داخل مكَّة، تكون نواة المجتمع الأوَّل، ليربّيهم ويرسلهم بعد ذلك إلى البلدان، ثمّ ليبحث عن بلد في المنطقة يكون مركز الدَّعوة ومركز القوَّة، عندما يضطرّ للهجرة من مكَّة.
وهكذا استطاع النَّبيّ (ص) أن يختار يثرب مكاناً لدعوته، وهي الَّتي تسمَّى المدينة أيضاً، فقد دخلها الإسلام، وكثر فيها، وجاء المسلمون إلى النبيّ (ص)، وبايعوه بيعة أولى وثانية، بحيث إنهم أعطوه العهد على حمايته مما يحمون به أنفسهم وأهليهم.
وكان المسلمون يُضطَهَدون، وكانوا يُقتلون، كما حدث لياسر وزوجته سميَّة، وكانوا يعذَّبون، حتى إنَّهم كانوا يوضعون في حرارة الشَّمس على الصّخور، ومنهم بلال الحبشي الَّذي كان يعذَّب، ويقول: أحد أحد.
وهكذا كانوا يأتون إلى النَّبيّ (ص) ويطلبون منه أن يكون هناك مواجهة مع الَّذين يضطهدونهم، ولكنَّ النّبيَّ كان يقول لهم: لم أؤمَر بقتال، حتَّى إذا ضاق ببعضهم الأمر، قال لهم: هاجِروا إلى الحبشة. وهاجَروا إليها ليجدوا فيها الأمن والسَّلام.
التّآمر على النَّبيّ
ورأت قريش أنَّ قوَّة النّبيّ كبرت في مكَّة، وقد بدأت تنفذ إلى المناطق، وعرفوا أنَّ المدينة أصبحت مركز قوَّة مستقبليّاً للنّبيّ، ومن خلال هذا الواقع الجديد، خافوا أن يملك النَّبيّ قوّة كبرى، وأن يتمدَّد في المناطق، ليصبحوا في موقع الضّعف، وليكون النَّبيّ في موقع القوَّة، فتآمروا فيما بينهم، وقُدّمَت اقتراحات ثلاثة في النَّدوة الَّتي عقدوها في المكان الَّذي يلتقون فيه. قال بعضهم إنَّ الحلّ أن نقيّده إلى جمل، ثمَّ نطلقه في الصَّحراء ليموت عطشاً وجوعاً، ورُدَّ على هذه الاقتراح بأنَّ من الممكن أن يلحق به أصحابه فيطلقوه، قالوا إذاً نحبسه، ولكنَّهم وجدوا في هذا الاقتراح بعض نقاط الضّعف أيضاً، قالوا إذاً نقتله. قالوا: إنَّنا اذا قتلناه، فسوف يقف بنو هاشم بوحي العصبيَّة العائليّة، ليواجهوا عائلة القاتل.
وبرز هناك اقتراح لحلِّ هذه المشكلة، وهو أن يتمَّ اختيار عشرة شباب من عشر عوائل من عوائل قريش، ثمّ يهجموا على النَّبيّ وهو في مرقده بسيوفهم في وقت واحد، فلا يُعرَف مَنْ قتله، فيضيع دمه في قبائل قريش، فلا يستطيع بنو هاشم أن يواجهوا عشائر قريش كلّها. وثُبِّتَ هذا الاقتراح، واتَّفقوا على أن يكون سرّيّاً إلى أن تتحقَّق خطَّة التَّنفيذ.
فأنزل الله على رسوله هذه الآية: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ – يحبسوك - أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ – يدبّرون بخفاء - وَيَمْكُرُ اللَّهُ – يدبّر الله - وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، يعني خير المدبّرين بخفاء، لأنَّ المكر ليس كلمة سيّئة، إنما يعني الخطَّة الخفيَّة، فإذا كانت الخطَّة الخفيَّة خيراً، كانت كلمة المكر تعطي معنى الخير، وإذا كانت الخطَّة الخفيَّة شرّاً، كانت تعطي معنى الشّرّ. ولذلك الكلمة ليست سيّئة حتّى يشكل عليها بأنّه كيف ينسب الله المكر إلى نفسه.
قرار الهجرة.. وتضحية عليّ
وأمر الله نبيَّه بأن يحضّر لعمليَّة الهجرة، لأنَّ المسألة وصلت إلى النّقطة الحاسمة، فلا يمكن للنّبيّ أن يبقى في مكَّة، لأنَّ حياته أصبحت في خطر، وأمره بأن يهاجر ليلاً، وأن يبيت عليّ (ع) على فراشه حتَّى يغطّي انسحاب النّبيّ (ص)، وكان عليّ في ذلك الوقت في سنّ الثَّانية والعشرين أو الثَّالثة والعشرين.
وهنا نعرف قيمة إيمان عليّ، وقيمة تضحيته، وقيمة وعيه لحركة الإسلام. فالإمام (ع) لم يقل للنَّبيّ (ص)، كما جاء في السّيرة، إنَّي أخاف الخطر على نفسي وأنا أبيت على فراشك، وهناك عشرة سيوف مسلطة فوق رأسي تنتظر طلوع الفجر لتهجم عليَّ، وأنا شابّ في مقتبل العمر. لم يسأل رسول الله، كما تقول كتب السيرة، أنَّه هل يسلم من هذه المسألة أو لا يسلم، فقد كان كلّ اهتمامه منصبّاً على سلامة رسول الله (ص)، لأنَّه كان يرى أنَّ الرّسالة كلّها قائمة بوجود رسول الله (ص)، ولذلك، فإذا أصاب رسول الله (ص) أيّ أذى، فمعناه أنَّ الرّسالة سوف تتأذَّى، وهو المؤمن برسول الله وبالإسلام، ولذلك كان كلّ فكر عليّ (ع)، هل يسلم رسول الله ليسلم الإسلام بسلامته..
وهذا درس نريد للشَّباب أن يتعلَّموه، عندما يواجهون المواقف الَّتي يتعرَّض فيها الإسلام للخطر، من خلالِ تعرُّضِ القياداتِ الإسلاميَّةِ الصَّالحة للخطر، أو لأيّ شيء من الأشياء التي تمنع استمرارهم في المسيرة.
قال له: "أوتسلم يا رسول الله؟"، فهذا ما أهتمّ به. قال (ص): نعم. فاستبشر عليٌّ، وانفرجت أسارير وجهه، وكأنّي به يقول: لا أبالي، أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ، ما دام الإسلام يسلم بسلامتك.
وبدأ النَّبيّ (ص) الهجرة، وبات عليّ (ع) على فراش رسول الله، وهناك رواية تقول إنَّ الله سبحانه وتعالى قال لجبرائيل وميكائيل: "إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمَّد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوّه".
وانطلق النَّبيّ (ص) بكلّ قوَّة، ووصل إلى الغار الَّذي توارى في داخله، واكتشفت قريش في الصَّباح أنَّه ليس موجوداً في المنزل، وأنَّ النَّائم هو عليّ، فجاءت بالَّذين يقتفون الأثر، وساروا حتَّى وصلوا إلى فم الغار، ولكنَّ الله كان قد هيّأ الأمر لحماية رسوله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وكان الله أرسل عنكبوتاً ينشر كلَّ خيوطه على فم الغار كما لو كان هناك منذ وقت بعيد، وكانت هناك حمامتان أرسلهما الله أيضاً وباضتا على فم الغار، ما يوحي إلى النَّاظر أنَّه لا يمكن أن يكون قد دخل الغار، فلو كان دخل الغار لتمزَّقت خيوط العنكبوت، وانكسرت هاتان البيضتان. وبدأوا يتنازعون في الأمر، فمنهم من يقول إنَّه في داخل الغار، وآخر يقول: لو كان في الداخل لكُسِرَت البيضتان، ولتمزَّقت خيوط العنكبوت.
وفي هذا الجوّ، كان الرَّجل الَّذي صاحَبِ رسول الله يعيش القلق، وقد حدَّثنا الله عن تجربة النَّبيّ (ص) في هذه المسألة في القرآن، وعرَّفنا كيف كان الرّسول يشعر بالقوَّة، ولا يشعر بالخوف ولا بالحزن، لأنَّه يؤمن بأنَّ الله معه، تماماً كما لو كان الله معه في المكان نفسه بشكل حسّيّ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ – الطّمأنينة النّفسيّة - عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا – من الملائكة - وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى - ونجحت الخطّة، فلم يستطيعوا أن ينفّذوا خطَّتهم في اغتيال رسول الله، وبقيت دائماً - وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 40].
التَّخطيط للدَّولة
وهكذا وصل رسول الله (ص) إلى يثرب، وبقي على مشارفها ينتظر مجيء عليّ (ع) الَّذي تركه في مكَّة ليؤدّي أمانات الرّسول (ص) الَّتي كانت عنده، وليأتي بعياله (ص)، واستُقبِل رسول الله استقبالاً كبيراً، وكانت النّساء ينشدن الأنشودة المعروفة: طلع البدر علينا من ثنيَّات الوداع.
وبدأ بالهجرة عهد جديد، وارتأى المسلمون أن يؤرّخوا تاريخهم بالهجرة، لأنَّ الهجرة هي الَّتي نقلت موقع الإسلام من حالة الضّعف إلى حالة القوَّة، وهي التَّي حركت الإسلام في اتجاه تغيير الواقع على أساس تغيير النّظام، بعد أن انطلقت الدَّعوى من خلال تغيير الأفكار.
هنا، في هذه المسألة، عندما بدأت مسألة الهجرة، أراد النَّبيّ لكلّ المؤمنين أن يهاجروا من مكّة، ولم يسمح للمؤمنين بالبقاء فيها، لأنَّه كان يريد أن يجمع كلّ القوى والخبرات في المدينة، حتَّى يقوم كلّ واحد منهم بدوره وخبرته في تنظيم الدولة الجديدة وتقويتها، ومواجهة كلّ الأعداء والتحدّيات، فقد أراد النَّبيّ (ص) أن يجمع كلَّ المسلمين في منطقة واحدة، لأنَّ المرحلة في ذلك الوقت، كانت مرحلة العمل من أجل تثبيت مركزيَّة الإسلام، ومن أجل مواجهة كلّ القوى التي تتحدَّى الإسلام وتريد أن تضعفه.
ولذلك، نلاحظ أنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل على النّبيَّ (ص) ما يؤكّد هذه الفكرة: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ - هم الَّذين يمثّلون المجتمع المتماسك - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ}[الأنفال: 72]، وهم الأشخاص الَّذين ظلّوا في مكَّة ولم يهاجروا، حرصاً على أموالهم وبعض مصالحهم، فهؤلاء ليس بينهم وبين المسلمين ولاية، يعني أنَّ المسلمين لا ينصرونهم، لأنَّهم خالفوا التَّكليف، وهو أن يأتوا إلى المدينة ليشاركوا المسلمين في القوَّة في هذا المجال، ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا - فهم مؤمنون، ولكنّهم - وَلَمْ يُهَاجِرُوا – فهذه الفئة - مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ}.
ولذلك، بدأت الهجرة ممن بقي في المدينة للالتحاق بالنَّبيّ (ص)، والمشاركة في إقامة الدَّولة الجديدة، وفي الدّفاع عن هذا النّظام الإسلاميّ الجديد.
هجرة المؤمنات
حتَّى إنَّنا رأينا أنّ المؤمنات كنّ أيضاً يهاجرن، وهذا تاريخ للمرأة المسلمة في القوَّة الَّتي تملكها وتتحدَّى بها كلَّ الواقع الفاسد لتلتحق بالمسلمين. ونحن نعرف أنّ ظروف المرأة تختلف عن ظروف الرَّجل، فالمرأة الَّتي لديها زوج، من الصَّعب عليها أن تفارق زوجها، والَّتي لديها أولاد، من الصَّعب أن تفارق أولادها، والمرأة الَّتي هي في داخل الواقع العائليّ الأبويّ، من الصَّعب أيضاً أن تفارق أباها وأمَّها وعائلتها، وهذا شيء طبيعيّ، ونحن نعرف هذا الأمر من واقعنا، فحركة المرأة تعتبر أكثر تعقيداً من حركة الرَّجل. ولهذا، نحن نعرف أنَّ عظمة المؤمنات المهاجرات اللَّاتي قطعْن أكثر من 500 كلم وحدهنّ فيما هي المسافة بين مكَّة والمدينة، من دون أن يكون لهنَّ مرافق، لأنَّهنَّ شعرن بأنهنَّ سوف يُضطهَدْن من قبل أزواجهنَّ الَّذين كانوا كافرين، وآبائهنّ وأبنائهنّ، ليفتنوهنّ عن دينهنّ.
ولذلك وصلن إلى المدينة، وكانت هناك معاهدة بين النّبيّ (ص) وبين قريش في صلح الحديبية، أنّ الَّذي يأتي من مكّة إلى النَّبيّ، فعلى النَّبيّ أن يرجعه إلى مكَّة، والَّذي يهرب من المدينة إلى مكّة، ليس من حقّ النّبيّ أن يطالب به قريشاً. ولذلك اعترض بعض المسلمين على هذه المعاهدة، واعتبروها غير متكافئة.
لذلك، عندما جاءت المؤمنات إلى المدينة، مهاجراتٍ وفارَّاتٍ بدينهنَّ، جاء أزواجهنَّ وأهلهنَّ ومندوب قريش في المعاهدة إلى النَّبيّ (ص)، وطلبوا منه أن ينفّذ المعاهدة، لأنَّهنَّ جئن من مكَّة وعليه أن يرجعهنّ إليها. ولكنّ النَّبيّ (ص) في كلّ مشكلة من المشاكل الّتي كانت تواجهه آنذاك، كان ينتظر أمر الله سبحانه، لأنَّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النَّجم: 3-4]، ولأنَّه {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]. فالنبيّ لم يكن يتحرَّك بقراره الشَّخصيّ، وإنّما بما يوحي إليه الله أو يلهمه إيّاه. لذلك، عندما كانت تحدث بعض المشاكل بين المسلمين، كان النَّبيّ يقول: "أنتظر أمر ربّي".
ونزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ - لأنَّ الله فصل بين المؤمنين والكافرين، فلا يجوز في تلك الحالة أن تبقى المؤمنة مع الكافر - وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا}[الممتحنة: 10]، يعني ردّوا لهم ما دفعوه من مهر لزوجاتهم.
عند ذلك، قال لهم النَّبيّ أنا ألتزم بالمعاهدة، إلَّا أن ينهاني الله عن ذلك، فأنا لا أمثّل نفسي، وإنما أمثّل رسالة الله. صحيح أنَّ هناك معاهدة، ولكن إنّما تنفَّذ فيما يرضي الله، فأمّا وقد نزل أمر الله، فأمره أكبر منّي ومنكم. وبقيت المؤمنات في المدينة.
موقع المهاجرين والأنصار
وأعطى الإسلام المهاجرين من الرّجال والنّساء، كما أعطى الأنصار الَّذين استقبلوهم، أعطاهم الموقع الكبير.
ومن الآيات الَّتي وردت فيهم: {وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ ٱلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النّحل: 42 - 42]. ثمَّ في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النّحل: 110]، {وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ}[الأنفال: 74- 75].
مسؤوليَّة الأجيال
إنّنا عندما نستذكر الهجرة في ذكرى رأس السَّنة الهجريَّة، فإنَّنا نريد أن نستذكر كلَّ هذه المعاناة الَّتي عاناها رسول الله (ص) من قبل الهجرة ومن بعدها في سبيل الإسلام، وهذه المعاناة، وهذه القوَّة، وهذا الجهاد، وهذا الصَّبر الَّذي مارسه المجاهدون المهاجرون والَّذين آووا ونصروا.
إنَّنا نريد، أيُّها الأحبَّة، في ذكرى الهجرة، أن نسترجع هذا التَّاريخ من أجل أن نصنع تاريخاً جديداً للإسلام، يرتكز على أساس الإيمان العميق، وعلى أساس القوَّة، وعلى أساس الانفتاح على مواجهة كلّ التَّحدّيات الَّتي تصيب الإسلام والمسلمين. فلكلّ عصر مسؤوليَّته، ولكلّ جيل مسؤوليَّته، وإذا كانت الطَّليعة الأولى من المسلمين من صحابة الرَّسول، ومن أهل بيته، وقفوا مثل هذا الموقف الصَّلب القويّ المتحرّك المجاهد المتحدّي والّذي يردّ التَّحدّي، فعلينا أن نقف هذا الموقف بكلّ قوَّة، من أجل أن تكون كلمة الَّذين كفروا السفلى، وأن تبقى كلمة الله هي العليا. هذا هو سرّ الاحتفال بالهجرة.
ويبقى هناك حديث نعيشه: ما نظرة الإسلام إلى الهجرة؟ فما نتحدَّث عنه هو تاريخ هجرة المسلمين من مكَّة إلى المدينة، ونحن قد نعيش الحاجة إلى الهجرة من بلادنا إلى بلاد أخرى، فماذا يكون حكم الهجرة؟ ما الحلال منها وما الحرام؟ كيف نحرّك قضيَّة الهجرة من أجل الإسلام، والهجرة من أجل العلم، ومن أجل طلب العيش الكريم، الهجرة من أجل الابتعاد عن ظلم الظَّالمين؟ هذا ما نرجو أن نتحدّث عنه غداً، إن شاء الله.
 
*خطبة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 06/05/1997م.
يقول الله سبحانه وتعالى وهو يحدّثنا عن الظّروف الَّتي أحاطت بالنّبيّ (ص) في هجرته من مكَّة إلى المدينة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: 30].
بداية الدّعوة
لقد بعث الله رسوله بالرّسالة في مكَّة، وأراد له أن يبلّغ الدَّعوة من دون أن يدخل في صراع مسلَّح مع المشركين، لأنَّ المسألة كانت أن يُدخِلَ الفكرة في عقولهم، وأن يربح قلوبهم، فإذا دخل في صراع مسلَّح، والقوَّةُ ليست معه، فسيفقد النَّاسُ الأجواء الَّتي يستطيعون من خلالها أن يستمعوا بوعي ليتفهَّموا الدّين الجديد.
ثمَّ كانت المسألة أنَّ مكَّة كانت ملتقى العرب في الحجّ، فالحجّ كان هو العبادة الّتي سار عليها النَّاس منذ عهد إبراهيم، حتَّى إنَّ المشركين كانوا لا يتركون الحجّ، فكان الحجّ هو الملتقى، وكانت مواسم مكَّة هي العاصمة التجاريَّة للمنطقة، فكانت ملتقى كلّ للنّاس من النَّاحية الاقتصاديَّة، لكلّ من يحتاج إلى البضائع وما إلى ذلك.
وكانت مكَّة العاصمة الثَّقافيَّة، لأنَّه كان هناك موسم يسمَّى سوق عكاظ، وكان الشّعراء والأدباء يأتون من سائر أنحاء الجزيرة العربيَّة من أجل يقرأوا قصائدهم وخطاباتهم وما إلى ذلك.
لذلك، كان موقع مكَّة هو الموقع المميَّز الّذي يمكن للدَّعوة فيه أن تنتشر إلى كلّ أطراف الجزيرة العربيَّة، من دون أن يضطرّ النّبيّ للقيام بأيّ رحلة إلى هذا البلد أو ذاك البلد، لأنَّ كبارهم وتجَّارهم وأدباءهم كانوا يأتون إلى مكّة ليحصلوا على ما يريدون.
لذلك، كانت الخطَّة أن يبقى النَّبيّ (ص) مدّةً في مكَّة، من أجل أن ينشر الدَّعوة أوَّلاً، ومن أجل أن يؤمّن مجموعة من المؤمنين في داخل مكَّة، تكون نواة المجتمع الأوَّل، ليربّيهم ويرسلهم بعد ذلك إلى البلدان، ثمّ ليبحث عن بلد في المنطقة يكون مركز الدَّعوة ومركز القوَّة، عندما يضطرّ للهجرة من مكَّة.
وهكذا استطاع النَّبيّ (ص) أن يختار يثرب مكاناً لدعوته، وهي الَّتي تسمَّى المدينة أيضاً، فقد دخلها الإسلام، وكثر فيها، وجاء المسلمون إلى النبيّ (ص)، وبايعوه بيعة أولى وثانية، بحيث إنهم أعطوه العهد على حمايته مما يحمون به أنفسهم وأهليهم.
وكان المسلمون يُضطَهَدون، وكانوا يُقتلون، كما حدث لياسر وزوجته سميَّة، وكانوا يعذَّبون، حتى إنَّهم كانوا يوضعون في حرارة الشَّمس على الصّخور، ومنهم بلال الحبشي الَّذي كان يعذَّب، ويقول: أحد أحد.
وهكذا كانوا يأتون إلى النَّبيّ (ص) ويطلبون منه أن يكون هناك مواجهة مع الَّذين يضطهدونهم، ولكنَّ النّبيَّ كان يقول لهم: لم أؤمَر بقتال، حتَّى إذا ضاق ببعضهم الأمر، قال لهم: هاجِروا إلى الحبشة. وهاجَروا إليها ليجدوا فيها الأمن والسَّلام.
التّآمر على النَّبيّ
ورأت قريش أنَّ قوَّة النّبيّ كبرت في مكَّة، وقد بدأت تنفذ إلى المناطق، وعرفوا أنَّ المدينة أصبحت مركز قوَّة مستقبليّاً للنّبيّ، ومن خلال هذا الواقع الجديد، خافوا أن يملك النَّبيّ قوّة كبرى، وأن يتمدَّد في المناطق، ليصبحوا في موقع الضّعف، وليكون النَّبيّ في موقع القوَّة، فتآمروا فيما بينهم، وقُدّمَت اقتراحات ثلاثة في النَّدوة الَّتي عقدوها في المكان الَّذي يلتقون فيه. قال بعضهم إنَّ الحلّ أن نقيّده إلى جمل، ثمَّ نطلقه في الصَّحراء ليموت عطشاً وجوعاً، ورُدَّ على هذه الاقتراح بأنَّ من الممكن أن يلحق به أصحابه فيطلقوه، قالوا إذاً نحبسه، ولكنَّهم وجدوا في هذا الاقتراح بعض نقاط الضّعف أيضاً، قالوا إذاً نقتله. قالوا: إنَّنا اذا قتلناه، فسوف يقف بنو هاشم بوحي العصبيَّة العائليّة، ليواجهوا عائلة القاتل.
وبرز هناك اقتراح لحلِّ هذه المشكلة، وهو أن يتمَّ اختيار عشرة شباب من عشر عوائل من عوائل قريش، ثمّ يهجموا على النَّبيّ وهو في مرقده بسيوفهم في وقت واحد، فلا يُعرَف مَنْ قتله، فيضيع دمه في قبائل قريش، فلا يستطيع بنو هاشم أن يواجهوا عشائر قريش كلّها. وثُبِّتَ هذا الاقتراح، واتَّفقوا على أن يكون سرّيّاً إلى أن تتحقَّق خطَّة التَّنفيذ.
فأنزل الله على رسوله هذه الآية: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ – يحبسوك - أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ – يدبّرون بخفاء - وَيَمْكُرُ اللَّهُ – يدبّر الله - وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، يعني خير المدبّرين بخفاء، لأنَّ المكر ليس كلمة سيّئة، إنما يعني الخطَّة الخفيَّة، فإذا كانت الخطَّة الخفيَّة خيراً، كانت كلمة المكر تعطي معنى الخير، وإذا كانت الخطَّة الخفيَّة شرّاً، كانت تعطي معنى الشّرّ. ولذلك الكلمة ليست سيّئة حتّى يشكل عليها بأنّه كيف ينسب الله المكر إلى نفسه.
قرار الهجرة.. وتضحية عليّ
وأمر الله نبيَّه بأن يحضّر لعمليَّة الهجرة، لأنَّ المسألة وصلت إلى النّقطة الحاسمة، فلا يمكن للنّبيّ أن يبقى في مكَّة، لأنَّ حياته أصبحت في خطر، وأمره بأن يهاجر ليلاً، وأن يبيت عليّ (ع) على فراشه حتَّى يغطّي انسحاب النّبيّ (ص)، وكان عليّ في ذلك الوقت في سنّ الثَّانية والعشرين أو الثَّالثة والعشرين.
وهنا نعرف قيمة إيمان عليّ، وقيمة تضحيته، وقيمة وعيه لحركة الإسلام. فالإمام (ع) لم يقل للنَّبيّ (ص)، كما جاء في السّيرة، إنَّي أخاف الخطر على نفسي وأنا أبيت على فراشك، وهناك عشرة سيوف مسلطة فوق رأسي تنتظر طلوع الفجر لتهجم عليَّ، وأنا شابّ في مقتبل العمر. لم يسأل رسول الله، كما تقول كتب السيرة، أنَّه هل يسلم من هذه المسألة أو لا يسلم، فقد كان كلّ اهتمامه منصبّاً على سلامة رسول الله (ص)، لأنَّه كان يرى أنَّ الرّسالة كلّها قائمة بوجود رسول الله (ص)، ولذلك، فإذا أصاب رسول الله (ص) أيّ أذى، فمعناه أنَّ الرّسالة سوف تتأذَّى، وهو المؤمن برسول الله وبالإسلام، ولذلك كان كلّ فكر عليّ (ع)، هل يسلم رسول الله ليسلم الإسلام بسلامته..
وهذا درس نريد للشَّباب أن يتعلَّموه، عندما يواجهون المواقف الَّتي يتعرَّض فيها الإسلام للخطر، من خلالِ تعرُّضِ القياداتِ الإسلاميَّةِ الصَّالحة للخطر، أو لأيّ شيء من الأشياء التي تمنع استمرارهم في المسيرة.
قال له: "أوتسلم يا رسول الله؟"، فهذا ما أهتمّ به. قال (ص): نعم. فاستبشر عليٌّ، وانفرجت أسارير وجهه، وكأنّي به يقول: لا أبالي، أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ، ما دام الإسلام يسلم بسلامتك.
وبدأ النَّبيّ (ص) الهجرة، وبات عليّ (ع) على فراش رسول الله، وهناك رواية تقول إنَّ الله سبحانه وتعالى قال لجبرائيل وميكائيل: "إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمَّد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوّه".
وانطلق النَّبيّ (ص) بكلّ قوَّة، ووصل إلى الغار الَّذي توارى في داخله، واكتشفت قريش في الصَّباح أنَّه ليس موجوداً في المنزل، وأنَّ النَّائم هو عليّ، فجاءت بالَّذين يقتفون الأثر، وساروا حتَّى وصلوا إلى فم الغار، ولكنَّ الله كان قد هيّأ الأمر لحماية رسوله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وكان الله أرسل عنكبوتاً ينشر كلَّ خيوطه على فم الغار كما لو كان هناك منذ وقت بعيد، وكانت هناك حمامتان أرسلهما الله أيضاً وباضتا على فم الغار، ما يوحي إلى النَّاظر أنَّه لا يمكن أن يكون قد دخل الغار، فلو كان دخل الغار لتمزَّقت خيوط العنكبوت، وانكسرت هاتان البيضتان. وبدأوا يتنازعون في الأمر، فمنهم من يقول إنَّه في داخل الغار، وآخر يقول: لو كان في الداخل لكُسِرَت البيضتان، ولتمزَّقت خيوط العنكبوت.
وفي هذا الجوّ، كان الرَّجل الَّذي صاحَبِ رسول الله يعيش القلق، وقد حدَّثنا الله عن تجربة النَّبيّ (ص) في هذه المسألة في القرآن، وعرَّفنا كيف كان الرّسول يشعر بالقوَّة، ولا يشعر بالخوف ولا بالحزن، لأنَّه يؤمن بأنَّ الله معه، تماماً كما لو كان الله معه في المكان نفسه بشكل حسّيّ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ – الطّمأنينة النّفسيّة - عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا – من الملائكة - وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى - ونجحت الخطّة، فلم يستطيعوا أن ينفّذوا خطَّتهم في اغتيال رسول الله، وبقيت دائماً - وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 40].
التَّخطيط للدَّولة
وهكذا وصل رسول الله (ص) إلى يثرب، وبقي على مشارفها ينتظر مجيء عليّ (ع) الَّذي تركه في مكَّة ليؤدّي أمانات الرّسول (ص) الَّتي كانت عنده، وليأتي بعياله (ص)، واستُقبِل رسول الله استقبالاً كبيراً، وكانت النّساء ينشدن الأنشودة المعروفة: طلع البدر علينا من ثنيَّات الوداع.
وبدأ بالهجرة عهد جديد، وارتأى المسلمون أن يؤرّخوا تاريخهم بالهجرة، لأنَّ الهجرة هي الَّتي نقلت موقع الإسلام من حالة الضّعف إلى حالة القوَّة، وهي التَّي حركت الإسلام في اتجاه تغيير الواقع على أساس تغيير النّظام، بعد أن انطلقت الدَّعوى من خلال تغيير الأفكار.
هنا، في هذه المسألة، عندما بدأت مسألة الهجرة، أراد النَّبيّ لكلّ المؤمنين أن يهاجروا من مكّة، ولم يسمح للمؤمنين بالبقاء فيها، لأنَّه كان يريد أن يجمع كلّ القوى والخبرات في المدينة، حتَّى يقوم كلّ واحد منهم بدوره وخبرته في تنظيم الدولة الجديدة وتقويتها، ومواجهة كلّ الأعداء والتحدّيات، فقد أراد النَّبيّ (ص) أن يجمع كلَّ المسلمين في منطقة واحدة، لأنَّ المرحلة في ذلك الوقت، كانت مرحلة العمل من أجل تثبيت مركزيَّة الإسلام، ومن أجل مواجهة كلّ القوى التي تتحدَّى الإسلام وتريد أن تضعفه.
ولذلك، نلاحظ أنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل على النّبيَّ (ص) ما يؤكّد هذه الفكرة: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ - هم الَّذين يمثّلون المجتمع المتماسك - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ}[الأنفال: 72]، وهم الأشخاص الَّذين ظلّوا في مكَّة ولم يهاجروا، حرصاً على أموالهم وبعض مصالحهم، فهؤلاء ليس بينهم وبين المسلمين ولاية، يعني أنَّ المسلمين لا ينصرونهم، لأنَّهم خالفوا التَّكليف، وهو أن يأتوا إلى المدينة ليشاركوا المسلمين في القوَّة في هذا المجال، ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا - فهم مؤمنون، ولكنّهم - وَلَمْ يُهَاجِرُوا – فهذه الفئة - مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ}.
ولذلك، بدأت الهجرة ممن بقي في المدينة للالتحاق بالنَّبيّ (ص)، والمشاركة في إقامة الدَّولة الجديدة، وفي الدّفاع عن هذا النّظام الإسلاميّ الجديد.
هجرة المؤمنات
حتَّى إنَّنا رأينا أنّ المؤمنات كنّ أيضاً يهاجرن، وهذا تاريخ للمرأة المسلمة في القوَّة الَّتي تملكها وتتحدَّى بها كلَّ الواقع الفاسد لتلتحق بالمسلمين. ونحن نعرف أنّ ظروف المرأة تختلف عن ظروف الرَّجل، فالمرأة الَّتي لديها زوج، من الصَّعب عليها أن تفارق زوجها، والَّتي لديها أولاد، من الصَّعب أن تفارق أولادها، والمرأة الَّتي هي في داخل الواقع العائليّ الأبويّ، من الصَّعب أيضاً أن تفارق أباها وأمَّها وعائلتها، وهذا شيء طبيعيّ، ونحن نعرف هذا الأمر من واقعنا، فحركة المرأة تعتبر أكثر تعقيداً من حركة الرَّجل. ولهذا، نحن نعرف أنَّ عظمة المؤمنات المهاجرات اللَّاتي قطعْن أكثر من 500 كلم وحدهنّ فيما هي المسافة بين مكَّة والمدينة، من دون أن يكون لهنَّ مرافق، لأنَّهنَّ شعرن بأنهنَّ سوف يُضطهَدْن من قبل أزواجهنَّ الَّذين كانوا كافرين، وآبائهنّ وأبنائهنّ، ليفتنوهنّ عن دينهنّ.
ولذلك وصلن إلى المدينة، وكانت هناك معاهدة بين النّبيّ (ص) وبين قريش في صلح الحديبية، أنّ الَّذي يأتي من مكّة إلى النَّبيّ، فعلى النَّبيّ أن يرجعه إلى مكَّة، والَّذي يهرب من المدينة إلى مكّة، ليس من حقّ النّبيّ أن يطالب به قريشاً. ولذلك اعترض بعض المسلمين على هذه المعاهدة، واعتبروها غير متكافئة.
لذلك، عندما جاءت المؤمنات إلى المدينة، مهاجراتٍ وفارَّاتٍ بدينهنَّ، جاء أزواجهنَّ وأهلهنَّ ومندوب قريش في المعاهدة إلى النَّبيّ (ص)، وطلبوا منه أن ينفّذ المعاهدة، لأنَّهنَّ جئن من مكَّة وعليه أن يرجعهنّ إليها. ولكنّ النَّبيّ (ص) في كلّ مشكلة من المشاكل الّتي كانت تواجهه آنذاك، كان ينتظر أمر الله سبحانه، لأنَّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النَّجم: 3-4]، ولأنَّه {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]. فالنبيّ لم يكن يتحرَّك بقراره الشَّخصيّ، وإنّما بما يوحي إليه الله أو يلهمه إيّاه. لذلك، عندما كانت تحدث بعض المشاكل بين المسلمين، كان النَّبيّ يقول: "أنتظر أمر ربّي".
ونزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ - لأنَّ الله فصل بين المؤمنين والكافرين، فلا يجوز في تلك الحالة أن تبقى المؤمنة مع الكافر - وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا}[الممتحنة: 10]، يعني ردّوا لهم ما دفعوه من مهر لزوجاتهم.
عند ذلك، قال لهم النَّبيّ أنا ألتزم بالمعاهدة، إلَّا أن ينهاني الله عن ذلك، فأنا لا أمثّل نفسي، وإنما أمثّل رسالة الله. صحيح أنَّ هناك معاهدة، ولكن إنّما تنفَّذ فيما يرضي الله، فأمّا وقد نزل أمر الله، فأمره أكبر منّي ومنكم. وبقيت المؤمنات في المدينة.
موقع المهاجرين والأنصار
وأعطى الإسلام المهاجرين من الرّجال والنّساء، كما أعطى الأنصار الَّذين استقبلوهم، أعطاهم الموقع الكبير.
ومن الآيات الَّتي وردت فيهم: {وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ ٱلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النّحل: 42 - 42]. ثمَّ في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النّحل: 110]، {وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ}[الأنفال: 74- 75].
مسؤوليَّة الأجيال
إنّنا عندما نستذكر الهجرة في ذكرى رأس السَّنة الهجريَّة، فإنَّنا نريد أن نستذكر كلَّ هذه المعاناة الَّتي عاناها رسول الله (ص) من قبل الهجرة ومن بعدها في سبيل الإسلام، وهذه المعاناة، وهذه القوَّة، وهذا الجهاد، وهذا الصَّبر الَّذي مارسه المجاهدون المهاجرون والَّذين آووا ونصروا.
إنَّنا نريد، أيُّها الأحبَّة، في ذكرى الهجرة، أن نسترجع هذا التَّاريخ من أجل أن نصنع تاريخاً جديداً للإسلام، يرتكز على أساس الإيمان العميق، وعلى أساس القوَّة، وعلى أساس الانفتاح على مواجهة كلّ التَّحدّيات الَّتي تصيب الإسلام والمسلمين. فلكلّ عصر مسؤوليَّته، ولكلّ جيل مسؤوليَّته، وإذا كانت الطَّليعة الأولى من المسلمين من صحابة الرَّسول، ومن أهل بيته، وقفوا مثل هذا الموقف الصَّلب القويّ المتحرّك المجاهد المتحدّي والّذي يردّ التَّحدّي، فعلينا أن نقف هذا الموقف بكلّ قوَّة، من أجل أن تكون كلمة الَّذين كفروا السفلى، وأن تبقى كلمة الله هي العليا. هذا هو سرّ الاحتفال بالهجرة.
ويبقى هناك حديث نعيشه: ما نظرة الإسلام إلى الهجرة؟ فما نتحدَّث عنه هو تاريخ هجرة المسلمين من مكَّة إلى المدينة، ونحن قد نعيش الحاجة إلى الهجرة من بلادنا إلى بلاد أخرى، فماذا يكون حكم الهجرة؟ ما الحلال منها وما الحرام؟ كيف نحرّك قضيَّة الهجرة من أجل الإسلام، والهجرة من أجل العلم، ومن أجل طلب العيش الكريم، الهجرة من أجل الابتعاد عن ظلم الظَّالمين؟ هذا ما نرجو أن نتحدّث عنه غداً، إن شاء الله.
 
*خطبة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 06/05/1997م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية